فقال الشيخ في حماسة: نعم يا ولدي. القلب الذي يحس أن الحياة لا تستحق شيئا إذا لم تكن في ظل الكرامة والحرية، والذي يؤمن بأن الحياة تكون دنسة كريهة في ظل العبودية، والذي يمتلئ اعتقادا أن الذي خلق الإنسان يغضب عندما يراه لا يسمو إلى إنسانيته.
ثم رفع بصره إلى سيف باسما، وكان الفتى يعلق بصره في وجهه مستغرقا.
ومضى الشيخ قائلا: انظر إلى الشرق يا سيف، ولا تضيع ما خرجنا من أجله، هذه هي الشمس المشرقة التي غابت تحت الأفق بالأمس.
وكانت شطآن الوادي تتفتح للصباح وتتضح فيها الحدود بين الماء والمروج الخضراء. وخرجت الطيور إلى غصونها، ورف النسيم على الصحراء الصامتة. وسارا يصعدان حينا ويهبطان حينا نحو القصر في صمت، وكان في الفناء جمع كبير من الوفود، فاتجه سيف إليهم بقلب يفيض أملا، إنهم قومه الذين يستطيع أن يصيح فيهم بقلب مؤمن وجنان قوي ، وأن يرى معهم شروق الحياة مرة أخرى على اليمن السعيدة.
ومر به اليوم وصدر بعده من الليل، لم يحس ضيقا ولم يفتر نشاطه، حتى خلا إلى نفسه مرة أخرى في الليل، وكان القمر الناقص يرمق النجوم فاترا، والهواء البارد يحمل أريج الزهر من الوادي. وعاد إلى سبحه في أصداء أحاديث الوفود المثرثرة، وكان طلل المعبد يبرق له في شمس الصباح، وصوت الشيخ يرن في سمعه يقول له: «إن موكب الشمس مشرقة أعظم بهاء من موكبها غاربة»، وخيل إليه أن الصوت الذي كان يهتف به قائلا: «ألست تطلب ملكا؟» قد صار عاليا يشبه هدير الرياح في كهف ينور. أحقا يقتحم المعامع التي تذيقه لسع الأفاعي والعقارب، وتطعمه العظام والدماء، وتجعله يقتل أول من يلقاه وإن كان أخاه؟ وأين إذن خيلاء؟ أين الآفاق العلى التي يسمو إليها إذا استمع إلى نجواها؟ أهذا بعض الثمن الذي تتقاضاه الأقدار إذا شاء أن يسير بقومه نحو الشروق؟ وخيل إليه أن الفضاء الأغبش الذي يترامى تحت عينيه قد امتلأ عظاما رميما تسيل من بينها الدماء الحمراء. وقام مسرعا من مجلسه يهرب من المنظر المرعب، يلتمس السلام في صورة خيلاء، ويستعيد أحاديثها إلى جانب الوعاء المرمري.
وعزم على أن يجعل الليلة خاتمة تردده، وأن يعود من الغد إلى صنعاء ليلقى خيلاء، ويتم معها حديثه الذي لم يبلغ بعد منه المدى. سيذهب إليها فاتحا لها ذراعيه مؤثرا معها السلام والأمن، مؤثرا إياها على كل المطامح التافهة التي أخذت تراوده عن سعادته، وسيخرج بها من غمدان إلى قصر جده، ويصد عنه تلك الجموع التي تريد أن تلوي به إلى تيه بعيد الأغوار معقد الشعاب. ولما واتاه النوم بعد حين ألم به طيف خيلاء، وكانت باهرة الحسن، لم يرها يوما في مثل ذلك البهاء. ولكنها كانت دامعة العين، تمد إليه يديها في ضراعة كأنها تعاتبه على هجرانه. وقال لها: فديتك يا خيلاء، لم تبكين؟
فقالت تعتذر: أكنا نسير في صحراء؟ أكنا نتجه إلى سراب؟
فناداها في لهفة: لم تتكلمين هكذا ؟ ما تلك الصحراء التي تذكرينها؟ وما ذلك السراب؟ كأنك تنطقين ببعض ما كنت أنطق به في سورة جنوني ويأسي. تعالي نذهب معا إلى حيث نجد السعادة، فليس هناك صحراء ولا سراب، هناك سلام وحقيقة. ألا تعرفين أنني وجدت قومك وقومي؟ فلنذهب إليهم ولننس كل شيء هنا.
وذهب إليها ليضمها بين ذراعيه، ولكنها لم تكن سوى خيال فاختفت عنه، وهو يفتح عينيه ويحس في قلبه حسرة وضيقا، وكان قلبه يخفق تأثرا وقطرات من الدمع تبلل عينيه، وكان القمر الناقص ما زال يخوض في السحب هابطا في السماء نحو الغرب، شاحب اللون مثل طعين منهزم يتوارى في جثث القتلى، مثل أبيه. وقام من مرقده يحاول أن يعيد إلى نفسه هدوءها، ولكن الحلم كان في نفسه كالحقيقة.
وطلع عليه الفجر مثل الطفولة البريئة تطلع على الشيخ الفاني، فتبعث إلى قلبه شيئا من الدفء والبهجة، وبدأ الطير يتناجى ويسبح بتحية الإشراق، ثم تزايد النور شيئا بعد شيء حتى لمعت من الأفق خيوط ذهبية تصبغ السحب. إنه موكب الشمس المشرقة مرة أخرى. ثم سمع صوت طارق يدق باب مخدعه، فأجفل وداخله شعور غامض بأنه أمر خطير: ورأى أمامه الشيخ أبا عاصم، وكانت نظراته تنم عن حديث.
Unknown page