وبدأ الشاعر ليلة من الليالي ينشد قصة سيف بن ذي يزن عندما طلبنا ذلك إليه، لنملأ نفوسنا بصورة من ذكرى المجاهد العربي القديم، فأودع الشيخ النحيل إنشاده كل حرارة قلبه المشتعل، وكان يترجم في أنغامه وألفاظه ما في قلوبنا من نبضات حية. كان يعرض الصور علينا ويسوق الحوادث في بيانه كأنها قطع من الحياة التي تضطرب فينا، وكان يتحدث على ألسنة الأشخاص كأنها نفوس جاءت معنا لتشاركنا، وكان يلقي علينا أسجاعه في أمواج من النغم تتلاحق وتتداخل مطربة مشجية، فيها تقاذف الحياة بالأحياء، وفيها طعوم الآلام المرة والآمال العذبة، وفيها نشوة الحب وجراح المعارك. وقال في أول إنشاده: «هل الحياة إلا صور متجددة تتجسد في جيل بعد جيل في شخوص شتى، وإن كانت حقيقتها واحدة؟»
وكان في إنشاده يشخص ببصره فوق رءوس الجمع، كأنه لا يرى أمامه شيئا سوى الصور التي يراها وحده سابحة في عالم غير منظور. وكنا نستمع إليه في صمت ونكاد نعلق أنفاسنا في صدورنا. ولو استطعت أن أعيد كلماته ولفتاته، وأن أثبت قصته كما قالها حرفا حرفا وإشارة إشارة، لما استطعت أن أبين أصداء إيقاعه ولا حركات الأفئدة التي كانت تصغي إليه. وأنى للألفاظ أن تحمل فوق طاقتها أو أن تبعث من المشاعر ما لا تستطيعه بطبيعتها؟ وهل الألفاظ سوى أداة صنعتها الإنسانية من مادتها وأبدعتها من فطرتها؟ ما كان لألفاظنا المحدودة أن تسمو إلى غير أفقها ولا أن تصور ما يدق عن بيانها. ليست هذه الألفاظ سوى أستار نسجها الإنسان بيديه لكي يسدلها على مكنون ضميره؛ لترمز إلى ما وراءها إذا عجز اللسان عن الإفضاء بمعناه. وما كان لها أن تصور رؤى شاعر يسبح وحده في عالمه إلا كما تدل الرموز الغامضة على الأقداس الخفية. فحسبي إذن أن أردد هنا ما وعته ذاكرتي من تلك الأناشيد التي كانت دماؤنا تتدفق مع أصدائها، وأن أقنع بما يتهيأ لي من لفظي وبياني مع الاعتراف بالقصور، وشتان بين الصادح والحاكي، وبين الأصيل والدخيل.
وكان أول نشيده يشبه أن يكون اعتذارا، وإن كان يخفي في ثناياه أقوى معاني الاعتداد بكبرياء نفس طليقة. قال: «أيها السادة الكرام، إليكم قصة صاغها الزمان من أحداثه وأنشدتها الليالي في نغمها الصامت، قد طالما صاحب الزمان الأحياء كما يصاحبنا اليوم، وطالما عابث الناس كما يعابثنا في الأصباح والأماسي.
وهو يدور بالبشر في حركته الأبدية، لا يفرق بين قديم وحديث، ولا يميز بين قوم وقوم. له حكمته الصارمة، لا يحابي ولا يعادي فيها، ولا يعرف الأشخاص ولا الأمم ولا العقائد ولا ألوان الشعوب. وهو لا يعبأ بما كانت الحياة تكسوهم به من مظاهر تعارف الناس عليها فيما بينهم، من ملوك وسوقة، وعظماء وصغار، وعلية وسفلة، بل يناديهم جميعا بأسمائهم مجردة ويعرفهم بحقائقهم مكشوفة. يصف الجميع بأوصافهم الصادقة، ولكنه لا يتهم ولا يمدح، هو هادئ هدوء الأبدية، عادل عدل الأزلية، صارم نافذ، ولكنه لا يعرف رحمة ولا قسوة. وهو يضم الذين عاشرهم بالأمس إلى أولئك الذي مضى بهم من قرون، يودعهم جميعا في رحبة واحدة؛ لأنهم أخذوا فرصتهم في الحياة ومضوا عنها، ولا سبيل لأحد منهم إلى معاودة الكرة فيما كان.
هو يعاشر هذه البشرية ويشهد حركتها ويعرف دخائلها وكوامن أسرارها، ويرى كل جيل وهو يستقبل الحياة، ثم يراه وهو يودعها، ولا يمل أن يستعيد المنظر المعاد مرة بعد أخرى. كل فرد يستقبل حياته جديدة ويحس حرارتها، ويذوق منها سعادتها أو شقاوتها. يحمله الشباب حينا في فلكه المذهب، وينساق به حينا مع تياره الدافق، ويحسب أنه يجرب ما لم يجرب أحد من قبله، ويدرك ما لا يدركه أحد غيره، يذوق الحب فيحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قط على قلب، وأن الأودية الغامضة ذات الألوان الزرقاء الرفيقة لم تكشف أستارها لأحد قبل أن تتكشف تحت عينيه المسحورتين. وهو يقارف حالات الحياة من سلام واضطراب، وسعد وشقاء، وخوف وأمن، فيظن أنه أول من ذاق حلو الحياة ومرها. ولكن الزمان يرمقه باسما وينادي بصوت خفي قائلا: «هكذا كانوا دائما.»
وما نحن أيها السادة في حياتنا سوى بعض مشاهد هذا الزمان القديم الجديد، نحس ما أحس من كانوا قبلنا، ونجرب على الأرض في مغامرتنا مثل ما جربوا، فلسنا سوى قصص معادة فيما نشهد من مباهج الحياة أو مآسيها. فإذا سمعتم أيها السادة قصتي فطربتم أو جزعتم، ووثبت هممكم أو خشعت، فإنما هي هزات قلوب بشرية ترى صورتها في مرآة، فاستمعوا أيها السادة إلى أنشودتي، فهي قصة كل منكم؛ لأنها لمحة من المغامرة الإنسانية الكبرى، مغامرتها القديمة الجديدة في حياتها على الأرض منذ خلق الله الإنسان. والبشر يتلاقون ويتفرقون، وقد ينقطع ما بينهم أبد الدهر، فلا يذكر أحدهم الآخر إلا أن تسنح ذكرى عابرة عقيم في لحظة من اللحظات، ثم تمضي كما يومض البرق ويخلف وراءه الظلام، وقد تتعقد الأمور وتتلاقى خطوط سير البشر، فتصبح للناس قصة يتناقلها بعضهم من بعض ويستوحون منها الحكمة.
وهذه القصص التي تخلفها الأجيال وراءها هي أثمن ما فيها؛ لأنها تراث الإنسانية الأكبر، فيها صور خالدة من حالات النفس التي أبدع الله نشأتها. وهذه الصور قد تختلف في ملامحها وفي ألوانها، وقد تتعدد بيئاتها وتتباين أزياؤها وطرائق تفكيرها، قد تكون في الجبل، أو السهل، وفي الغابة أو الصحراء أو في المدينة المزدحمة، وقد تتجلى في معابد الأوثان أو مساجد الوحدانية، ولكنها في جوهرها واحدة خالدة.
استمعوا أيها السادة إلى قصتي وإلى أنغام ربابتي، لا، بل إنني وأنا أنشد لكم أستمع إليها معكم. ولقد سرت في أنحاء المدينة كل حياتي، وعرفت أركانها، وغشيت نواديها، وسمعت منشديها، فأنا أعلم أين تقع قصتي، وأيان يبلغ إنشادي. أعرف أن الآخرين قد يكونون أعلى صوتا، وقد تكون حلقاتهم أكثر من حلقتي عددا، ولكني لست أبالي ما يقولون عن أنفسهم ولا ما يقول الناس عنهم، فإني أعرف أنهم محجوبون عن عالمي الذي أستمد منه صوري وأستوحيه ألحاني. ولست أكذبكم في قولي أنني أكثركم طربا وأشدكم نشوة في هذه الساعات التي أنشد لكم فيها، ففيها أحس وجودي وأتمتع بحريتي وأبلغ حقيقة إنسانيتي. وكلما أخذتني النشوة وجدت أنني أسمو إلى آفاق علا، يحيط بي فيها السلام وترف من حولي السعادة. وعند ذاك يتضاءل في قلبي كل ما يحسبه الناس في الحياة عظيما، ويضعف عندي كل ما كنت أظنه قويا من إغرائها ومن فتنتها، فلا المجد يستهويني ولا الغنى يغريني، ولا شيء من مادة الأرض تثقل وجودي. فأنا هناك في عالم ليس فيه إلا صور شفافة تسبح سبح الأرواح في دعة واطمئنان ورضى وسعادة، وقد تجردت من أستارها وجهرت بحقيقتها. فأنا أعرفها وهي تعرفني، وآنس إليها وتأنس إلي، لا تخفى عني خافية من ضمائرها ولا أسر عنها سرا من ضميري. نتعبد جميعا في محرابنا العلوي بعيدين عن الغرور والرياء، فما دمت هناك مع تلك الأرواح أجدني ساميا فوق صغائر الأماني وتوافه الشجون، التي تلعب بألباب البشر وتسخر من عقولهم كما يسخر السراب من عقل السارب الظمآن إذ يهيم على وجهه في الصحراء.
هنالك أستطيع أن ألمح معنى الجمال الصادق والحب الصافي، وأن أخلو إلى الحقيقة خاشعا عابدا مخلصا، لا ترهبني عنها خشية ولا تطمعني عندها مثوبة؛ لأنها هي الأفق الأجدر بأن يكون غاية الغايات. قد أجد الجمال في الزهرة الضئيلة بين رمال الصحراء، كما أجده في الراعية الفقيرة في أسمالها البالية، كما أجده في العذراء الطاهرة التي تمد يدها إلى جريح تواسيه. وإذا كانت جنة عدن هي جزاء الصالحين على ما قدموا من الصالحات، فإن أعلى طبقاتها تنتظر الذين كانوا يقدمون الحسنة ولا يطمعون في الثواب. فالحسنة في ذاتها جمال، وفي جمالها وحده جزاؤها. الحب جميل، والرحمة جميلة، والإيثار والصدق والجود كلها جميلة، تذوق النفوس الصادقة جمالها وتتملى بلذتها، ولا تبغي من ورائها ثوابا.
هناك أيها السادة في هذا العالم المستور أجد جزائي وثوابي، لا أبالي شيئا مما يتطاحن عليه الناس من الأدعياء. فأنا حر سعيد ما دمت أنشد وأستمع إلى نغم ربابتي، فإذا أمسكت صحوت من أحلامي وهربت مني صوري وعدت إلى عالم الأحياء، أعيش منهم قريبا وإن كنت بينهم غريبا. سأنشد لكم وأنشد ليلة بعد ليلة، ولكم أن ترضوا إذا أرضاكم ما يصدر عني، ولكم أن تنكروا كما شئتم إن بدا لكم من ذلك ما لا يروقكم. لكم أن تصفقوا استحسانا، أو تظهروا استهجانكم بغير مداراة! فهذا حق لكم. أما أنا فما أقصد إلا أن أظهر ما عندي مما يهتز له فؤادي، وما أودعته ثمرة حياتي، وأسلت فيه عصارة روحي، فإذا وقع عندكم موقعه عندي زادت بذلك سعادتي، وإلا فلست أسألكم شيئا إلا أن تشعروا في قلوبكم الرحمة، فالرحمة أعظم ما يعطي إنسان وأثمن ما ينال إنسان.»
Unknown page