ولما عاد فرديناند إلى نابولي كان أول عمل قام به أن اضطهد الذين ساعدوه على العودة إلى عرشه، فتولى وزيره «كانوزا» رعاية الكلديراري - الجمعية المخاصمة للأحرار - وقد بلغ اضطهادها إياهم درجة حملت النمسة رغبة منها في الاحتفاظ بحكومة متساهلة على الإيعاز إلى فرديناند بأن يحل تلك الجمعية، وانتشر الكاربوناري في جميع أنحاء إيطالية الجنوبية، ومما ساعد على إيجاد أنصار لها من مختلف الأحزاب تعاليمها الدموقراطية الاشتراكية ونزعتها المسيحية، وقد اتخذ أعضاء الكاربوناري لهم مثلا أعلى، وكان زعماؤهم ينشدون بعث الهيئة الاجتماعية بعثا جديدا، وبث مذاهب الاشتراكية جامعين بين التصوف المسيحي وبين فلسفة القرن الثامن عشر، فادعوا بأن المسيح كان أول ضحية من ضحايا الطغاة، وكانت شارة الصليب تتوج مجالس الكاربوناري، وكانوا خاضعين للأوامر الدينية وللبابا.
ولاح لهم في وقت ما أن يقيموا كنيسة كاثوليكية مجددة يتولون هم قيادتها، وكانت تعاليم منهجهم تتطلب منهم التخلق بالأخلاق الشديدة الصلبة، حتى إذا صدر من عضو ما أعمال تخالف الأخلاق أو تخل بالشرف عوقب عقابا صارما، وعليه، فإنه لا يجوز لأي شخص أن ينتمي إلى الجمعية إذا كان سيئ السمعة، وكان من الصعب معرفة اتجاههم السياسي، على أنه لا شك في إخلاصهم للحرية وكرههم الشديد للاستبداد، ويلوح من شرح آراء زعمائهم أنهم كانوا يرمون إلى الجمع بين الإمبراطورية الرومانية، وشبه الاشتراكية الدموقراطية التي بشر بها جان جاك روسو، فتراهم يحلمون تارة باتحاد إيطالي برئاسة البابا ويتوقون تارة أخرى إلى الوحدة الإيطالية، على أن تكون روما عاصمة لها.
وكان يدير هذه التشكيلات المتنوعة محفل أعلى اتخذ روما قاعدة له، وكان لهذه التشكيلات هيئات عدلية تفرض عقوباتها التي تصل إلى حد الموت أحيانا، وكانت قوانينها المستقلة وعقوباتها الصارمة أدعى إلى ثقة الشعب واحترامه من قوانين الحكومة التي لا تحكم إلا بالظلم والاستبداد، فانتشر «الكاربوناريون» من نابولي إلى الشمال وأخذ هؤلاء بالاشتراك مع فرسان جلفي وأعضاء حزب أدلفي
Adelfi
في بيمونته وبارمه وحزب الاتحاد اللمباردي يدبرون المؤامرة الكبيرة التي هيأت ثورة 1820-1821، ولقد تجلت بوادر هذه الحالة الروحية الجديدة لأول مرة في لمبارديه في مظهر اجتماعي وأدبي، فقد أخذ استياء الشعب يزداد في الإيالات الخاضعة للنمسة، ولكنه لم يتعد المظهر السلبي، واقتصر العمل على الحزب المؤلف من الأشراف والبورجوازيين لا سيما في ميلانو وفي «برسيه»، وكان «كنفالونييري
Canfalonieri » رئيس هذا الحزب يجتمع بأحرار فرنسة وإنجلترة، وتسربت الآداب الرومانتيكية في إيطالية فأسس الحزب مجموعة «كونجلياتورة
Congliatora » بإدارة الشاعر المحبوب «سيلفيو بليكو»، ثم اندفع الحزب بعد ذلك إلى المؤامرة حتى نضجت واختمرت في الجنوب لا سيما في نابولي؛ لأن حكم فرديناند فيها كان فاسدا استبداديا، ومع أن القوانين فيها قد اقتبست أحكامها من المجلة الإفرنسية، إلا أنها كانت تنفذ تنفيذا لا يتفق والنصوص، وكان الناس لا يعتمدون على الحكومة ولا يثقون بها، وشجعهم على ذلك أن فرديناند كثيرا ما كان ينقض وعوده، ثم بدأ القرويون يتذمرون من ظلم الأشراف، وقد أهين الشرف القومي ببقاء جيش الاحتلال النمسوي في البلد إلى تاريخ 1817، وغدا القضاء ألعوبة بيد الأغنياء، وزاد تذمر الناس واستياؤهم بما أصاب الناس من فقر، وأدى السلم إلى فتح أبواب إيطالية أمام التجارة الأوروبية، فزاحمت البضائع الأجنبية المصنوعات الوطنية فضعفت صناعة الأقطان والمشروبات، فضلا عما أصاب تجارة الحبوب والزيت من الكساد جراء تدخل الحكومة، وانتشر القحط وعمت الأمراض في البلاد، وأخذ الناس يلعنون الحكومة ويصبون عليها غضبهم.
وطبيعي وقد بلغت الحال إلى ما وصفنا بسبب ضعف الحكومة وفسادها مما أدى إلى استياء الناس وتذمرهم؛ أن تنشط المؤامرات، وأن يوشك الكاربوناريون أن يسيطروا على البلاد؛ إذ أخذ المستاءون على اختلاف طبقاتهم ينضمون إليهم، وكان أفراد الجيش من أول المنضمين إلى الكاربوناري لحرمانهم من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، ولما شاهدوه من محاباة للمنفيين الذين عادوا إليه، وانضم إليهم القضاة مكرهين وبذلك أخذ عدد المنتمين إلى جمعية الكاربوناري يزداد يوما فيوما إلى أن بلغ عشرات الألوف ، حتى إن قوة المليشيا في الإيالات التي يبلغ عددها خمسين ألفا أصبحت في قبضة الكاربوناري، وقوة المليشيا هذه قد نظمها ضابط كالابري يدعى «جيجليلمو ببه»
Guiglieimo Pepe
بغية قمع الشقاوة، وبما أنه كان عضوا في جمعية الكاربوناري فقد استعد لاستخدام هذه القوة في الأغراض السياسية التي تعمل الجمعية في سبيلها.
Unknown page