وقد طلب ريكاسولي إلى كافور بأن يكف عن سياسته المترددة، وأن يفسح للملك المجال ليتزعم الحركة بشجاعة، بيد أن المصاعب كانت ترى أكثر مما تصورها ريكاسولي، وكانت خطة كافور في السياسة الخارجية أن لا يقطع الحبل ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكان يحسب لخطر هجوم النمسويين حسابا عظيما ويخشى ألا تستطيع إيطالية وحدها الوقوف بوجهه، من أجل ذلك كانت فكرة الاحتفاظ بعطف الإمبراطور عاملا أساسيا في سياسته الخارجية.
وأوشك فرانسوا ملك نابولي بعد موقعة باليرمو أن يقطع أمله في التغلب على قوات غاريبالدي فالتمس من نابليون بأن ينقذ عرشه المترجرج بالتوسط بينه وبين الثوار، ولكن الإمبراطور رفض التوسط ما لم تنل الجزيرة استقلالها التام، وأن يحكمها أحد أمراء آل بوربون، وأن يمنح الدستور النابولي ويتحالف مع بيمونته .
وكان الشرط الأخير الذي أصر عليه الإمبراطور أقسى الشروط على فرانسوا؛ لأنه هو الذي أقام الدنيا وأقعدها لتضرب بيمونته في الروماني، وبذل جهودا جبارة ليتجنب ذلك الشرط الذي يحمله على الخضوع لخصمه البغيض، وقد يزجه في حرب مع النمسة، وحيث إن وزراءه فقدوا كل شجاعتهم فقد أشاروا عليه بعد قليل من التردد بالموافقة على طلبات الإمبراطور، وقد وافق عليها طالبا تبديل الاستقلال التام في الجزيرة بالحكم الذاتي.
وضغط الإمبراطور على كافور لقبول الشروط، وسعى لإقناع الحكومة الإنجليزية بإقرار هذه التسوية مقترحا عليها عقد هدنة، وإرسال الأسطول إلى مضيق مسينة لمنع قوات كافور من عبوره، ولما كان الرأي العام في بيمونته يعارض في شدة فكرة محالفة نابولي فإن كافور قرر إحباط المفاوضات، إلا أنه لم يشأ أن يرفض جهرا وصايا الإمبراطور.
وفي اليوم الذي أبدى ميله بقبول فكرة الحلف مع نابولي كان يود لو أن غاريبالدي اجتاز المضيق؛ لذلك وضع شروطا كان يعلم أن فرنسوا لن يقبلها، ولما طلب الإمبراطور إلى الملك أن يبذل نفوذه لمنع غاريبالدي من الحركة وافق كافور على أن يكتب الملك للدكتاتور كتابا في هذا المعنى على أن لا يقوم فرنسوا بأي عمل لاسترداد صقلية، وقد أصر على هذا الشرط لأنه كان يعلم بأن إنجلترة تعطف عليه.
أما فرنسوا فسرعان ما تخلى عن بطولته لحماية ممتلكات البابا وعرض على بيمونته تجزئة تلك الممتلكات بينه وبين بيمونته، فلم يسع كافور بعد ذلك أن يؤجل إرسال الكتاب، وحمل الملك على الكتابة إلى غاريبالدي في 22 تموز يدعوه إلى التخلي عن نياته بشأن نابولي إذا أراد فرنسوا أن يترك صقلية حرة، وكتب الكتاب في أسلوب يحمل غاريبالدي على رفض الطلب حتما، كما أن كافور أفهم غاريبالدي بأنه يتلقى رفض طلب الملك بالترحيب.
وقد رفض رسل مقترحات الإمبراطور؛ لارتيابه من نياته بشأن ساردينيه، وأيقن نابليون بأن انهيار آل بوربون أصبح أمرا لا بد منه، وأرسل الأمير نابولي كتابا سريا إلى غاريبالدي يذكر له فيه أن الإمبراطور يوصيه بأن يتحدى السياسة بالأمر الواقع وهكذا نجح كافور في سياسته، فغاريبالدي سيرفض حتما تلبية أوامر الملك، ولن يقوم الفرنسيون بأي عمل ليحولوا دون عبور المضيق، ولما كان كافور لا يزال يشك في إخلاص غاريبالدي للملكية ويخشى أنه إذا ما نجح في مشروعه أن يخضع لإيحاءات الدموقراطيين المتطرفين، وأن يمتنع من سماع وصايا الحكومة البيمونتية وحينئذ تسوء الأمور في الجنوب كما ساءت في صقلية، وقد تؤدي إلى انشقاق بين الشمال والجنوب وربما ينتهي إلى قيام الملكية في الشمال والجمهورية في الجنوب، فقد فكر في اجتناب ذلك كله لو استطاع أن يسبق غاريبالدي في العمل بحمل أهل نابولي على الثورة، وإعلان رضائهم بالانضمام قبل أن يصل الدكتاتور إليهم، وإذا ما ثار النابليون من أنفسهم فإن كافور يستطيع ساعتئذ أن يسوغ تدخله أمام الدول ولا حاجة إذن لمفاوضة آل بوربون.
وكان قوي الأمل بأن تلبى الدعوة، وما أسرع ما نهض الحزب البيمونتي من خموده وأظهر نشاطه وقوته، ولما أعلن فرنسوا الدستور في 25 حزيران ملبيا دعوة الإمبراطور قابل الناس هذه المنحة بالاستخفاف، وكانوا يعلمون بأنه هذه هي المرة الخامسة يمنح فيها آل بوربون الدستور، وأخذت «لجنة النظام» التي تألفت في نهاية 1859 لتأمين الضبط بين الجماعات القومية المختلفة تتراسل مع لافارينا وبرتاني، وكان كافور يعتمد كثيرا على المتآمرين الموجودين في مركز الحكومة نفسها، وكان بعض الموظفين يخونون الدولة سرا لمصلحة الجمعية القومية، حتى إن «نوزيانته» أحد القواد الذين يثق بهم فرنسوا كل الثقة وعد كافور بأن يحرض القطعات على مخالفة أوامر آل بوربون، ثم إن عم الملك دوق سيراكوزة اشترك مع نوزيانته هذا في المؤامرة، وكان «ليبوريو رومانو» وزير الداخلية من أخطر المتآمرين؛ إذ كان المسيطر الحقيقي على المدينة بعد أن نظم حرسا قوميا فيها واتصل بجمعية كامورا، وكانت هذه الجمعية بعد أن خدمت الاستبداد لمصالح خاصة عادت فباعت نفسها لمعاضدة الثوار، واستطاع رومانو هذا بحركة جريئة أن يبدل الشرطة برجال الكارا مورا.
وما إن فشلت المفاوضات بشأن الحلف حتى أوعز كافور في 3 تموز إلى ممثل بيمونته في نابولي «فيلا مارينا» بالاتصال مع المتآمرين، وفي اليوم ذاته أمر الأميرال برسانو بالسفر إلى نابولي بقسم من أسطوله وإنزال شحنة من البنادق خلسة بالاتفاق مع رومانو، وبينما كانت لجنة النظام تهيئ ثورة شعبية برعاية رومانو كان نوزيانته يحوك الدسائس في الجيش بنشاط، ولكن المتآمرين أخبروا في 23 آب كافور بأن مساعيهم في كسب الجيش قد حبطت وأن العصيان في العاصمة أمر مشكوك فيه، ولكن الإيالات أخذت تتململ وأرسلت بعض البنادق البيمونتية إلى باسيلكانة، وأعلنت «كورليتو» الثورة في 16 آب، وفي اليوم الثالث نصبت بوتنزه قاعدة الإيالة حكومة مؤقتة باسم فيكتور عمانوئيل وغاريبالدي، وما إن أبحر غاريبالدي المضيق حتى امتدت الثورة إلى «آبولي» في الشرق و«ساليرنه» في الغرب، وقبل أن يجتاز كلبريه أضاع آل بوربون ملكهم واجتمع عشرة آلاف متطوع تحت السلاح.
ولكن نابولي ظلت هادئة واشتد الشقاق في لجنة النظام بين المعتدلين والديموقراطيين حتى أدى إلى فقدان التعاون النزيه، الأمر الذي شل جهود اللجنة، وبينما كان أصحاب كافور يريدون طرد فرنسوا توا والاستيلاء على الحكم باسم فيكتور عمانوئيل كان العنصر الديموقراطي المتطرف قد انشق وألف لجنة عمل بتحريض مازيني، واستهدفت توقيف الحركة إلى حين وصول غاريبالدي، لينال غاريبالدي وحده شرف طرد آل بوربون، ولتصبح الحكومة في قبضة يدهم.
Unknown page