وكانت وزارة تورينو إذ ذاك فاقدة الشجاعة تعوزها العقيدة والجرأة، قد ارتضت أن تتخلى عن الأهداف التي جاهد الشعب لبلوغها، وحدت الدويلات الأربع صفوفها حالا للدفاع عن نفسها، ولا سيما لأن جنود البابا كانوا على أهبة اجتياز الروماني من حين لآخر، وكان محتملا أن يعاونهم مدد من نابولي وإسبانية كما أن دوق مودينه قد يستطيع التقدم من فنيسيه ثم يجتاز نهر بو ويهدد فلورنسة، وكان ثمانية آلاف من المتطوعين في لاكاثوليكة على حدود أوميريه.
وقد استبقى لافارينا بالاتفاق مع ريكاسولي القوات الطوسكانية التي عادت من ميدان القتال لتقوم بحراسة خط بو، وبإيعاز من دازجيلو دعا إلى إقامة حلف عسكري بين الدويلات الأربع، وتجنيد جيش لا تقل قوته عن خمسة وعشرين ألفا، وقد تم التحالف بين مودينه وطوسكانه والروماني ثم انضم إلى هذا الحلف أخيرا بارمه، وأوفدت حكومة تورينو - بعد تردد طويل - الجنرال «فانتي» أقدر قادة بيمونته لتنظيم جيش الحلف وجعلت غاريبالدي معاونا له، وبذلك أصبحت إيطالية الوسطى في مأمن من الاستيلاء عليها، ورأى نابليون استحالة عودة الأمور إلى حالتها السابقة من دون استخدام السلاح، كما أدرك أن طوسكانه نفسها لا ترغب في عودة الدوق الكبير إليها.
وقد رفض الإمبراطور في أول الأمر كل تدخل أجنبي في شئون إيطالية، وفرح جدا بالحصول على حجة تساعده على التخلص من الوعد الذي أعطاه للنمسة، وارتأى عقد مؤتمر من الدول المعظمة فيحتمي وراء حكمه ويتخلص من عهوده المتناقضة، واستند إلى احتجاج رسل الشديد، وأعلن أنه لا يوافق على تدخل النمسة في شئون طوسكانه والروماني.
وترك في لمبارديه خمسين ألفا من جنوده وأيقن أن التهديد يكفي لإيقاف النمسة عند حدها. وبعد أن اطمأنت حكومات الوسط إلى نيات الإمبراطور شعرت بأن الثبات والشجاعة وحدهما الكفيلان ببلوغ آمالهما، وما دام الإمبراطور يرفض أن يحميها وما دامت بمعزل عن تدخل النمسة؛ فإنها أصبحت قابضة على مصيرها بيدها، وقررت قبل ذلك دعوة المجالس التمثيلية في كل من الدويلات، وجرى انتخاب عام لهذه المجالس، فاز الأحرار فيها في جميع الأنحاء وقد قررت هذه المجالس - بالإجماع - سقوط الحكومات القديمة وإلحاق الدويلات الجديدة بمملكة فيكتور عمانوئيل. وأمام هذا الإجماع الرائع تلاشت النعرات الحزبية، وأظهرت إيطالية الوسطى من التساند ما جلب إعجاب أوروبا.
فلم يبق الآن أن نرقب ما تتخذه حكومة بيمونته من إجراءات وتدابير، وكان معلوما أن وزارة رتازي لم تؤلف إلا لمدة مؤقتة ريثما يعود كافور للحكم، وكانت مهمة هذه الوزارة احترام أحكام معاهدة فيلافرنكة والأخذ بتعليمات الإمبراطور إلى حد ما، ومهما كانت الفكرة البيمونتية الضيقة الحدود فإن رئيسها رتازي لم يكن يخلو من بعض إيمان بالوحدة، فلم يكن في مقدور هذه الوزارة أن تتخلى تماما عن القوميين.
وكان الملك لا يزال على اتصال ودي بغاريبالدي مما دل على أنه يرغب في استخدامه عند الملمات، ويظهر أن مخاوفه بشأن ممتلكات البابا قد زالت حين لمس شدة الشعور الساخط الذي ولدته معاهدة فيلافرنكة، أما وزراؤه فكانوا لا يعبئون بلعنات البابا وإنما كانوا لا يجرءون على إغضاب الإمبراطور، ويدركون صعوبة التخلص من هذا الحليف الإفرنسي الذي غل إرادتهم والذي سيطالب في حالة انضمام إيطالية الوسطى إلى بيمونته بصافويه تعويضا له، يتهدد بيمونته ويجعلها وجها لوجه أمام النمسة إذا ما غضب الإمبراطور وسحب جنوده وجماعته وفسح المجال لتدخل النمسة، ومع أن رتازي كان راضيا بالتخلي عن صافويه إذا استطاع إنقاذ نيس، إلا أن زملاؤه لم يجرءوا على الاضطلاع بهذا العبء ومواجهة ما سيولده من التذمر العام إذ هم ضحوا بمهد الأسرة المالكة وبوطن غاريبالدي، وقد رفضوا في أول الأمر الموافقة على مبدأ الاتحاد آملين أن يظفروا بموافقة الدول الأوروبية في المؤتمر المنوي عقده على قرار الدويلات بشأن الانضمام إلى بيمونته، وقبل أن تصل وفود الدويلات الأربع إلى تورينو رأى الوزراء أن يجسوا نبض نابليون.
وكانت سياسية الإمبراطور تقضي بمعارضة بيمونته في ضم الروماني وطوسكانه إليها لا خوفا من استياء الكاثوليك الإفرنسيين فحسب، وإنما كانت سياسة فرنسة التقليدية تعارض تأسيس مملكة إيطالية قوية كي لا تنضم يوما ما إلى حلف ضد فرنسة، وكان الإمبراطور في الوقت ذاته يأمل في إقناع البابا بيوس بمنح الحكم الذاتي إلى الروماني على أن يحتفظ البابا بسيادته عليها وبذلك يرضي القوميين.
ثم إنه كان يعارض - كل المعارضة - في إلحاق طوسكانه ببيمونته؛ لعلمه بأن اتساع مملكة فيكتور عمانوئيل إلى ما وراء جبال الأبنين سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى وحدة إيطالية، وبذلك تتعقد القضية الرومانية وتزداد خطورة، على أن سير الأمور كان يتوقف إلى حدبعيد على موقف إنجلترة وعلى تصرف وتدبير الطليان أنفسهم.
وقد تمسك الإمبراطور الآن بمشروعه الاتحادي لدفع احتمال الوحدة والانضمام، ولما وردت إليه رسالة تورينو تستفتيه رأيه في الانضمام؛ عارض المشروع فورا، فلما جاء وفد طوسكانه في 3 أيلول إلى بيمونته قررت الحكومة عدم الموافقة على الانضمام، وطلبت إلى الملك أن يتهرب في جوابه، غير أن الملك في محادثة خصوصية مع الوفود شجعهم على المضي في طريقهم كأنما الوحدة أمر لا ريب فيه.
الفصل الثامن والعشرون
Unknown page