شهق الفتى من جرأة العرض المتهورة، وقال: «لا، لا، شكرا لك.»
وصاحت السيدة بارتليت قائلة: «ما هذا؟» صحيح أنها كانت منهمكة في الحديث بطلاقة وبلا انقطاع مع البروفيسور، لكن يقظتها الأمومية لم تغف قط، فضلا عن أن تنام «سيجار؟! مستحيل! سأقول ذلك في حق زوجي وابني: إنهما - أيا كان ما اقترفاه من أفعال أخرى - لم يدخنا قط، ولم يقربا قطرة خمر منذ أن عرفتهما، وبمشيئة الرب، لن يفعلا ذلك أبدا.»
قال ييتس مفتقرا إلى اللباقة على غير عادته: «أوه، أظنه لن يؤذيهما.» فسقط عدة درجات في نظر مضيفته.
صاحت السيدة بارتليت بسخط: «يؤذيهما؟ أظنه لن يحظى بفرصة لذلك.» ثم التفتت إلى البروفيسور، الذي كان مستمعا جيدا ينصت لها بتوقير واحترام، ولم يكن لديه الكثير ليقوله عن نفسه. كانت تهتز برفق إلى الأمام والخلف وهي تتكلم.
كان زوجها يجلس صامتا بعبوس وجمود، في وضعية أشبه بأبي الهول لم تعط أي مؤشر خارجي لما يخالجه من انزعاج وقلق. فقد كان يراوده فكر كئيب بأن حظه كان سيكون عثرا جدا لو أنه قابل السيدة بارتليت فجأة في شوارع فورت إيري في إحدى تلك المرات النادرة التي كان يستمتع فيها بالملذات المحرمة لوقت قصير. كان يحمل أشد النذر شؤما بشأن ما يخبئه له المستقبل. ففي بعض الأحيان، حين كان بعض الجيران أو الزبائن «يدعونه لتناول شيء في القرية، وكان يشعر بأنه تناول أقصى قدر من الويسكي يمكن للقرنفل أن يواري رائحته، كان يأخذ سيجارا بخمسة سنتات بدلا من تناول شراب. لم يكن يحب تدخينه على نحو خاص، ولكن كان في سيره في الشارع حاملا سيجارا مشتعلا بين أسنانه تهور ممزوج باللامبالاة والاستهتار، وكان في ذلك إغراء ملحوظ له نظرا لما يحمله من خطورة واضحة. كان يشعر في تلك الأوقات بأنه يواكب الحياة العصرية، وأنه من الجيد أن نساءنا لا يعرفن كل الخبث الموجود في هذه الدنيا. لم يكن يخشى أن يشي به أي جار إلى زوجته؛ إذ كانت توجد أعماق لا يستطيع أي امرؤ إقناع السيدة بارتليت بأن زوجها يمكن أن ينزل إليها. لكنه فكر مذعورا في مجموعة من الظروف التي قد تتآزر وتجلب زوجته إلى البلدة بغير علمه في يوم يكون فيه منغمسا في إحدى تلك الملذات. تخيل، برعدة سرت في جسده، أن يقابلها بغتة على رصيف المشاة الخشبي المتقلقل في فورت إيري وهو يدخن سيجارا. وحين راوده هذا الكابوس، عزم على ألا يلمس سيجارا مرة أخرى، لكنه كان يدرك جيدا أن أصلب العزائم تتلاشى إذا انتشى الرجل بكأسين أو ثلاث من الخمر.
حين استأنفت السيدة بارتليت حوارها مع البروفيسور، نظر ييتس إلى هيرام الابن وغمز له. فتورد وجه الشاب في سرور تحت تأثير الشمول الذي اتسمت به هذه الغمزة. فقد أدخلته إلى هالة الإثم الجذابة التي كانت تغلف شخصية هذا النيويوركي المبهرة. بدا كأنها تقول: «لا بأس، لكننا رجلان عركتهما الحياة. نحن أدرى.»
لم تكن عبادة الفتى هيرام للإلهة النيكوتين قد وصلت قط إلى حد تدخين سيجار. بل كان يدخن غليونا خلسة في ركن منعزل خلف مخزن الغلال في الأيام التي يكون فيها والده بعيدا عن البيت. كان يخشى والده ووالدته كليهما؛ لذا كان في موقف أشد إحراجا بكثير من هيرام العجوز نفسه. كان قد تدرج في عشقه للتبغ بالبدء بتدخين سجائر القصب المصنوعة من التنورات التحتية النافخة التي لم تعد تستعمل. فقد كانت تنورات الكرينولين رائجة في هذا الزمن، حتى في الريف، وكانت بعض الشرائط الطولية المصنوعة من قشور عيدان القصب تستخدم قبل ظهور تلك الهياكل المعدنية النافخة للفساتين. كانت تنورة نافخة واحدة، من تلك التنورات التي لم تعد تنفع للتزين، تكفي لإمداد رفقة من الصبية بالبهجة ومواد التدخين طوال شهر كامل. صحيح أن دخان القصب كان يجعل اللسان محمرا ومتألما بعض الشيء، لكن لذة الخبث والفسق كانت أشد من أن تقاوم. بدت غمزة ييتس اعترافا بالفتى هيرام رفيقا جديرا بتقديم البخور في معبد الإلهة نيكوتين، وصار الفتى صديقا حميما لييتس منذ اللحظة التي تدلى فيها جفن الأخير.
بعدما أزيلت الأغراض المتعلقة بالشاي، لم يعد ييتس يلمح الفتاة عبر الباب المفتوح. نهض من مقعده المتواضع، وسار نحو البوابة على مهل واضعا يديه في جيبيه. تذكر أنه كان قد نسي شيئا ما، وظل يعتصر دماغه ليعرف ما هو. حدق إلى الطريق ناحية بيت آل هوارد، ما أعاد إلى ذاكرته، بطبيعة الحال، لقاءه بالفتاة الشابة على الطريق. شعر بوخزة انزعاج في تلك الخاطرة حين تذكر الإنجازات التي نسبتها السيدة بارتليت إلى الفتاة. تذكر نبرته المتعالية في حواره معها، وتذكر قلقه بشأن الجرة. الجرة! هذا ما كان ناسيا إياه. ألقى نظرة خاطفة على هيرام العجوز، ولاحظ أن المزارع كان ينظر إليه بشيء أشبه بالتأنيب في عينيه. فحرك يتس رأسه حركة طفيفة تكاد تكون غير ملحوظة نحو مخزن الحبوب، ونزلت عينا المزارع إلى أرض الشرفة. فسار الشاب بلا مبالاة متجاوزا حد المنزل الخلفي.
قال المزارع وهو يهم بالنهوض: «أظنني يجب أن أذهب للاعتناء بالحصانين.»
قاطعه ابنه قائلا: «الحصانان على ما يرام يا أبي. لقد اعتنيت بهما.» لكن العجوز أسكته بنظرة عابسة، ومشى متسكعا إلى أن انعطف وراء زاوية المنزل. كانت السيدة بارتليت منهمكة جدا في حوارها مع البروفيسور؛ حتى إنها لم تلحظ ذلك. فلم تكن تقابل مستمعا مصغيا جدا كهذا كل يوم.
Unknown page