الفصل العاشر
عمل الأفراد في الإصلاح
رأينا من قبل أن الطريقة الفعالة الوحيدة لتنفيذ الإصلاح الاجتماعي الشامل هي طريقة اللين وعدم العنف؛ لأن العنف لا يؤدي إلا إلى نتائجه، ومحاولة فرض الإصلاح بالوسائل العنيفة مقضي عليها - ولا محالة - بالفشل الذريع. ولا تنجح وسائل العنف إلا إذا أعقبتها الأعمال التي ترمي إلى نشر العدالة بين الناس؛ فالحكمة إذا تقضي علينا باستخدام الوسائل اللينة كي لا يفشل الإصلاح الذي ننشده.
ولا تنجح وسائل اللين إلا إن كان أكثر الناس مؤيدا للإصلاح غير معارض له. أما إن كانت الأغلبية لا توافق على الإصلاح المقصود، أو إن وقفت منه موقف الحياد، فإن كل محاولة لفرضه لا بد أن تبوء بالفشل. وقد حاول بعض الملوك في التاريخ القديم أن يصلحوا رعيتهم في نواح مختلفة، ولكن الرعية كانت جامدة لا تريد الإصلاح، ففشلوا فيما حاولوا. ومن هؤلاء الملوك أخناتون الذي أراد أن يفرض على شعبه إصلاحا دينيا، فثار الشعب في وجهه.
أما في البلاد الانتخابية التي يحكمها رجال اعتلوا مناصب الحكم برضى الشعب، فإن الحكومة قلما تحاول إدخال إصلاح طريف لا يقبله الجمهور. في مثل هذه البلاد تسير حركة الإصلاح في محيط الدائرة إلى مركزها، أي إن الأفراد المستقلين أو الجماعات تصوغ فكرة الإصلاح، ثم تذيعها بين الناس، وبعدما يسيغها الجمهور يأخذ بها رجال الحكم ويدخلونها في تشريع المجتمع.
وقد رأينا أن الحرب في العالم الحديث هي العقبة الكئود أمام كل إصلاح منشود؛ ولذا فالإصلاح الأساسي الذي لا بد منه هو إصلاح في السياسة الحاضرة للأمم من حيث علاقة إحداها بالأخرى. إن جميع الأمم في العصر الحاضر تسير سياستها الخارجية على المبادئ الحربية، إما في ضجيج أو في هدوء. ولا تستثنى من ذلك الدول التي تسمي نفسها ديمقراطية أو مسالمة؛ ولذا فليس من المحتمل أن يتم أي إصلاح في هذا السبيل على أيدي أصحاب النفوذ السياسي في هذه الأيام، ومن ثم ترى أن حركة الإصلاح ينبغي أن تبدأ من الأفراد المستقلين. ومن واجب هذه الفئة من الناس أن تقنع الأكثرية بأن سياسة السلم خير من سياسة الحرب، فإن نجحت هذه الفئة في مهمتها أمكن تغيير تلك السياسة الحربية القومية التي تجعل نشوب حرب أخرى أمرا قريب الاحتمال، والتي تقف عقبة في سبيل كل إصلاح.
ولرب معترض يقول إن أكثر الرجال والنساء في جميع أنحاء العالم يحبون السلام؛ ولذا فليس ثمة حاجة بالأفراد المستقلين إلى القيام بدعاية في سبيل السلام. وردا على هذا الزعم أقول: «إن جميع الناس يرغبون في السلام، ولكن قل منهم من يرغب في وسائله.» أجل إن أكثر الناخبين في مختلف البلاد يحبون السلام، ولكن قل منهم من يحب أن يدفع ثمن السلام، وثمنه في هذه الأيام نزع السلاح من جانب أمة واحدة دون الأمم الأخرى إن اقتضت الضرورة ذلك، والتنازل عن الإمبراطوريات العريضة والتخلي عن سياسة القومية الاقتصادية، والعزم في كل الظروف على استخدام وسائل اللين وعدم العنف، والتدريب المنظم على هذه الوسائل، فكم ممن يزعمون أنهم من محبي السلام في العالم يقبلون هذه الشروط التي لا محيص عنها إن كنا نريد للعالم سلاما ووفاقا؟ إنهم نفر قليل؛ ومن ثم كان من واجب الأفراد المستقلين أن يقنعوا مواطنيهم بأن الوسائل التي تؤدي إلى السلام ليست مرغوبة لما تؤدي إليه من غايات طيبة فحسب، وإنما هي كذلك مرغوبة في حد ذاتها لأنها تدريب للناس على «التحرر» من القيود.
ويستطيع الفرد أن يعمل وحده أو منضما إلى غيره ممن يشاطره الرأي والعقيدة، وليس عمل الفرد الواحد إلا مقدمة لعمل الأفراد متعاونين. ويستطيع المصلح الفرد أن يأتي بنظرية جديدة، أو أن يوضح عقيدة قديمة. يستطيع أن ينشر الدعاية لرأي طريف من بنات أفكاره، أو لرأي نادى به غيره من قبل. وهو يستطيع ذلك إما عن طريق الكتابة أو الخطابة. ولكني أقول ثانية إن عمل الفرد تمهيدي لعمل الأفراد متعاونين. وعلى الجماعة المتعاونة أن تطبق على نفسها - وعلى غيرها إن استطاعت - النظريات الصحيحة لترقية الفرد والمجموع، عليهم أن يكونوا نماذج حية للإنسان الكامل الذي يصوره لنا الأنبياء والمصلحون.
وقد نشأت أمثال هذه الجماعات المتعاونة في كل عصر وكل بلد، وحاولت أن تشق لنفسها في الحياة طريقا أرقى من الطرق التي يسلكها معاصروهم. وقد لعبت هذه الجماعات في التاريخ دورا هاما، ولها في حفظ المدنية فضل كبير. وستلعب - فيما أعتقد - مثل هذا الدور في المستقبل. ولننظر الآن بإيجاز في الدروس التي نستمدها من تاريخها.
إن أول شرط لنجاح هذه الجماعة أن يعتنق أفرادها جميعا فلسفة واحدة للحياة، وأن تصح منهم العزائم على المساهمة في العمل الذي تأسست من أجله الجماعة. وقد تحقق هذا الشرط في مناسبات عديدة وفي فترات طويلة من تاريخ الرهبانية المسيحية والبوذية، ولكنه لم يتحقق في كثير من الجماعات السياسية والدينية التي تأسست في أمريكا في القرن التاسع عشر.
Unknown page