وعلى ضوء هذه الحقيقة الكبرى نستطيع أن نفهم الكثير مما كتبه ولي الدين نثرا وشعرا في محاربة التعصب الديني، والدعوة إلى التسامح، ومناصرة كافة قضايا التحرر التي كان يحاربها رجال الدين، والواقعون تحت سلطانهم باسم الدين، إن حقا وإن باطلا، مثل قضية تحرير المرأة، وقضية التوفيق بين الدين والعلم، كما كان يناصر الداعين لمثل هذه القضايا ويتحمس لهم وفي مقدمتهم قاسم أمين ومحمد عبده.
أما عن حرية الفكر فله عنها مقال في «الصحائف السود» بنفس العنوان (ص93)، يستهله بقوله: «نحس بآلام بين أحناء الضلوع، فنكتمها صبرا، ونسكت عليها خيفة، لو كان هذا الصبر في موضع يحمل فيه لنطق من جوانبه الثناء، ولكنه قصارى نفوس جبنت ونصيرها الحق، وأقصرت وشأوها بعيد.
تغلبت سورة الجدل على سورة الدليل، وبات كلام الإنصاف والصمت أحب منه إلى الناس، ألا قاتل الله اللجاج، لا العقل أغنى في الغلبة على سلطانه، ولا الهمم مضت في التغلب على فجاجه، كلما جهر بالحكمة ناطق تألبت عليه عصب الغرور، فسدوا بأيديهم فمه، يا ليتهم يجعلون أصابعهم في آذانهم تصامما، أو يلفتون وجوههم إلى ورائهم إعراضا، ذلك إذن يهون.
يحجهم الصواب فلا يلبثون أن يقبلوا عليه، غير أنهم يعتدون فلا يدعون مكلمهم يكلمهم، فكيف يجري فيهم نصح الناصحين.
إنما يقبل القول بعد سماعه ويرد بعد سماعه، وهذا البلد يتعجل أهله الحكم، سواء عليهم أصابوا أم أخطئوا، يريدون وليس الذي يريدونه صوابا، ولكنهم يحاولون أن يجعلوه صوابا، هذا محال، حقائق الأشياء لا يدخلها تغير، ومن لم يكن معه الهدى، عليه أن يكون مع الهدى إذا رام رشدا.
قلت في إحدى الصحائف السود التي تقدمت كلاما على الأضاحي، فهاج قلوبا استوطنها التعصب، وهاج على أهل الشر من المخضرمين، عفا الله عنهم ماذا يبتغون؟ طوت الأيام برد الشباب، وأنالتنا من التجارب ما لا مندوحة فيها لجهل، إن يستطيلوا فقد استطال أسلافهم من قبل، أنا ابن عصر عيت فيه الألسن وأفصحت بعبرها الأيام، ولي بمحمد عبده وقاسم أمين أسوة حسنة.
على أنني لا أعجب من أهل القدم والمنتحلين صيغة الدين، وإنما أعجب من قوم لبوسهم لبوس أهل التمدن، ومآكلهم مآكلهم يطاف عليهم بالآنية والجام، في مجالس كأنها ديباجات الآفاق، ثم يصبحون فيقارعون الناس بالدين، يرموننا بالكفر والمروق والزندقة ليثيروا علينا أشياعهم، وما نبالي نحن من أشياعهم، يغالبون بالدين كلما تساقطت حججهم، وبه يحاربون كلما أجفلت نعائمهم ... أنتم أعداؤنا اليوم، وأبناؤكم أنصارنا غدا، لن نشكوكم وحدنا، بل سوف نشكوكم ومعنا أعقابكم، ولنعمت الشهود يومئذ يقولون آباؤنا كذبوا وهؤلاء صدقوا.»
وأما عن الدين وقداسته، فله فيه (في التجاريب ص26) رأي صريح، يقول فيه: «الأديان مناهج للناس إلى ما يستطاع من الكمال، فإذا هي تجاوزت ذلك وأضحت سلعا يتجرون بها كان شرها أكثر من خيرها، وإن من أشد ما ينزل بالحر أن يبلى بقوم لا تسمو مداركهم إلى مقاصده، فيتعسفوا في تأويلها الشبهات، حتى إذا أعيتهم المناظرة وأعيتهم الحجج عمدوا إلى الفساد، فاستثاروا العامة إلى الوقيعة، وفزعوا إلى الختل والغدر، وأكبر من هذا أن تكون الحكومة عونا للمفسد على المصلح، لا اعتقادا بإيمانه ولا إعجابا برأيه، بل تحببا إليه وإقرارا بالعجز عن إخضاعه وتقويمه.»
وهو يتحدى الرأي العام عند مقتل بطرس غالي فيرثيه شعرا، وينشر في المقطم مقالا بعنوان «بطرس غالي في موكبه الأخير» (الصحائف السود ص101)، يستهله بقوله: «مشى بعاصمة مصر يوم الثلاثاء 22 فبراير سنة 1910 مشهد لم تشهد مثله، ذاك مشهد بطرس غالي العظيم من كرسي الرياسة إلى مضجع الأبد؛ لله درك من ظاعن ... قال النعاة: قتل أحد الباغين بطرس باشا غالي. قلت: لقد قتل مصر.» وهو يدافع عن الوزير الذي أثارت تصرفاته سخط الوطنيين بقوله: «ماذا جنى هذا الفقيد المظلوم، صاح أكثرهم مذكرا بحادث دنشواي، وتشدق آخرون باتفاق إنجلترا ومصر على السودان، وشكا غيرهم من قانون المطبوعات، وهل كان لهذا الوزير هذا القدر من النفوذ بالإرادة والخيار في الفعل؟ ومن أهاج أهل دنشواي ومن أتى بقانون المطبوعات : سائلوا تلك الجرائد التي تود أن توقع البلد في الهلاك، عسى أن توافيكم بجواب سديد.» ثم يضيف : «الأقباط هم أولو مصر قبل كل مصري، ما زال الجور يتصيدهم حتى قلوا عددا، ووفرتم وخسروا، وكسبتم ثم من الله بعدله، فقالوا نحن إخوان، أفلا تريدون أن تكونوا لهم إخوانا؟ فما لهذه البراثن إذن داميات؟»
وهو عندما يضطهد جميل صدقي الزهاوي لحرية فكره، ويتهم بالكفر والزندقة، يجرد قلمه للدفاع عنه ودعوة الأدباء إلى مناصرته في مقالين حارين نجدهما في «التجاريب» تحت عنوان «التعصب يخرج الحرية من ديارها، هلموا إلى نجدتها يا أحرار» (ص19-28)، و«الأحرار وأعداؤهم» (ص29-39)، وقد بدأ المقال الأول بقصيدته التي مطلعها:
Unknown page