د في الضمائر والصدور ... إلخ (ص49).
وكل ذلك لا يروق رجلا عنيفا صارما لا يقول الشعر؛ لأن من واجبه أن يقوله، وأن يراعي اللياقة، ويرضي كافة الجهات، بل يقول الشعر لينفس عن مكنون صدره، ولا يضمن شعره إلا الحق الذي يؤمن به، والقول الذي يشفي نفسه مما بها، ولو أغضب من أغضب، وأرضى من أرضى.
وبالرغم من بغض ولي الدين لعبد الحميد، ولكل حاكم تركي مستبد ظالم، فإنه كان يتعصب للعثمانيين كما يتعصب للعرب، حتى لنراه يثور؛ إذ يطالع في جريدة المقطم مقالات لكاتب اسمه عزت الجندي، وفيه يحمل على الأتراك ونكبتهم للبلاد العربية، فيرد عليه في مقال ينشره في المقطم تحت عنوان «الشقاق»، يبدؤه بالبيتين العربيين القديمين:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
ثم يقول: «شهد الله وكل عثماني حر يكون قد قرأ لي شيئا أني لا أتعصب للدين، ولا للجنس، أنا تركي، وأبغض عباد الله إلي تركي يعتدي، أحب العناصر العثمانية كلها، وآخذ بناصر المستضعف منها، ثم أحب العرب حبا خالط الروح، وجرى مجرى الدم من العروق، وأنا عربي الأدب والقلم، عربي النزعة، ومن أبغض العرب فأنا مبغضه، أولئك إخواني الذين أغنيهم فيطربون، وأحدثهم فيقبلون علي بالسمع، غير أني لا أكذبهم، إني كذلك لا أحب من يسب الترك، ولا من يكون لهم عدوا، وكذلك العرب لا يحبون من لا يحب إخوانهم، وإذا جرى بين العرب والترك شر أكون يومئذ بمعزل عن كليهما، داعيا عليهما بالفشل جميعا.» ثم يندد بروح الخصومة بين العرب والأتراك، ويدعو إلى التآخي بينهم.
والواقع أن العصر الذي عاش فيه ولي الدين يكن كان عصرا شديد التذبذب بين الاتجاهات المختلفة، وكان من الشاق أن يتبين المرء السبيل السوي، بل لقد كنا نرى كبار المفكرين والأدباء والسياسيين يتأرجحون بين اتجاه وآخر من الاتجاهات المتضاربة المتعادية، التي كانت تستغلها قوى الاحتلال والتعصب العنصري الديني، بحيث لا يسهل علينا اليوم أن نحكم على هذا الرجل أو ذاك بالوطنية، أو الخيانة ، وبالخير، أو الشر؛ لمناصرته هؤلاء ، أو أولئك، ولاستعانته بهذا الفريق، أو ذاك؛ لمناصرة فكرته، وإن كنا بالرغم من كل ذلك لا نستطيع إلا أن نأسف للظروف التي تآمرت، فساقت ولي الدين إلى المعسكر الإنجليزي يتقي به استبداد الأتراك، مما أساء إلى سمعته، وحد من المجد الأدبي الذي يستحقه ككاتب جيد وشاعر كبير، ورجل حر عزيز النفس، لا يهادن ولا يتملق، ولا يسخر قلمه ومواهبه لأعراض الحياة الفانية.
معالم حياته1
Unknown page