ثم بدا لي في هذه الليلة أن أبي لا يسره في قبره أن تعيش مهجتي بلا لوعة، ومقلتي بلا دمعة، وكان يرحمه الله جذوة من الوجدان.
وعدت إلى الظلام أستلهمه وأستوحيه فلم أجد من أحاوره غير الرجل الحزين الذي اسمه أحمد أحمد حسن الزيات.
صديقي!
هل تذكر فكاهتك الطريفة إذ تحدث إخوانك أنك عرفتني أول مرة عن طريق البوليس؟ هل تذكر أن البوليس دعاك مرة إلى زيارة المحافظ فتوجست خيفة، ثم رأيت أن الخطب هين لأنك دعيت لتتسلم رسالة من الشيخ زكي مبارك الذي اعتقلته السلطة العسكرية أيام الثورة المصرية؟
ألا فلتعلم أن الحظ قضى عليك ألا تتلقى مني رسالة إلا في ظروف تحيط بها شبهات، فإن كانت الرسالة الأولى في عهد ثورة فهذه أيضا في عهد ثورة، وربما كانت هذه أعنف، وأفظع لأنها تحدثك عن صديق حزين يناضل الأرق والسهاد في ليلة عيد.
صديقي!
لا تعجب من رجل يضنيه الحزن والابتئاس مع أنه ينهض بأثقل الأعباء، فدنيا القلب غير دنيا العقل، والشواغل الجسام لا تلهي الرجل عما يساوره من لواذع الإحساس، وأنا رجل يؤمن بأن القلب أدق ميزانا من العقل، وكيف لا يكون كذلك وهو يأخذ هدايته من الفطرة، على حين لا يهتدي العقل إلا بالبراهين، وهي في الأغلب تقوم على مقدمات لا تخلو من تضليل.
صديقي!
هذه الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وستقرأ هذه الرسالة فتذكر أنك أرقت في ليلة العيد بلا سبب معروف، فلتفهم حين تقرأ هذه الرسالة أن ذلك الأرق إنما كان هدية أرسلها إليك الغريب في بغداد، الغريب الذي يوحي الحزن إلى أشقياء الغرباء.
والآن أطفئ المصباح لأعانق الظلام في المدينة السحرية التي شقى بلياليها ملايين الرجال فلا أرى غير بصيص ضئيل لمصباح أقامته الحكومة على شاطئ دجلة، فأفهم أنني أخاطب الأموات؛ لأن مصابيح الحكومة لا تدل على شيء، ولا يهتدي بها غير لصوص الجيوب.
Unknown page