قد يعتقد الكثيرون أنني عندما أكتب عن أبي أو أتحدث عنه، إنما أكتب ما أكتب وأقول ما أقول متأثرا بما بين البنوة والأبوة من صلات، ولكنني في الواقع إذا كتبت اليوم عن أبي فإنما اكتب عن صدق، فأنا الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يتحدث عن الدكتور زكي مبارك كرجل من رجال التربية والتعليم.
نشأ أبي نشأة ريفية في وسط عائلة قوية الجانب، لا تعرف غير القوة والجبروت، فاكتسب صلابة الرأي، وقوة الإرادة، وبعد النظر، وسلامة الذوق ... ثم تحول إلى المدنية الحديثة في إبان شبابه، فلم يتأثر إلا بأصولها الحقيقية، فجمع مع سلامة العقل، سلامة الجسم، وقوة الروح، وصفاء الضمير، فكان لذلك أثر كبير في تربيته وتعليمه، وقد راضنا أبي على القوة، فنشأنا بفضل الله أقوياء، وقد كتب عن ذلك يقول:
1 «أترونني أبكي على أطفالي؟ هيهات! لقد ورثتهم خير ميراث حين ربيتهم على العنف والقسوة، وحين أفهمتهم أن العالم لا يسعد فيه غير الأقوياء، فإن تسلحوا بالقوة فقد انتفعوا بما ورثتهم، وإن استسلموا للضعف فعليهم ألف لعنة، وأنا منهم بريء.
وقد عودت أطفالي أكل اللحم في كل يوم لينشئوا على قسوة الحيوان المفترس، فإن لانت نفوسهم بعد ذلك فعلى أنفسهم جنوا، وللضعيف الضيم والهوان.
وقد نشأت في قوم أقوياء، وكان أبي أشجع رجل رأته عيني، وكان أجدادي وأعمامي من نماذج القوة والبطش، ولم يكن فيهم رجل مظلوم، وإنما كانوا دائما ظالمين، فإن شاء أبنائي أن يكونوا لأبيهم وأجدادهم وأعمامهم، فالدنيا أمامهم واسعة الأرجاء، وإن ضعفوا فليذهبوا غير مأسوف عليهم ... وفيهم بحمد الله فتيان يقرءون هذا الكلام، فليعرفوا أن أباهم عاش عزيز الجانب لأنه كان قوي النفس، وليتذكروا أنا أباهم لن يموت يوم يموت إلا وهو أشجع الرجال».
وقد يدهش الكثيرون إذا عرفوا أن أبي مع قوته وجبروته رجل كله كتلة من الإخلاص والوفاء والكرم، فطالما ظللنا بسحائب العطف وسقانا أكواب الشهد وغمرنا بكرمه وحنانه، وأقسم صادقا أن أبي لم يجرح إحساسي مرة واحدة في حياتي وإن كنت مخطئا؛ بل كان يعاملنا معاملة تدل على حسن التصرف وبعد النظر، فهو يدفعنا إلى بحر الحياة لنجرب حلوها ومرها، ثم يراقب أعمالنا عن بعد، فإن أخطأ أحدنا أعاده إلى الصواب بكل شفقة ورأفة قائلا: «أنا لا أرضى لكم بغير التفوق المطلق؛ لأن الرجل والمتسط لا يستطيع العيش في العصر الحديث»، وكان لهذه التربية أثرها في أنفسنا، فأنا لا أذكر يوما عبث فيه أخي الصغير في حضرة أبي مع أن أبي يعامله معاملة كلها عطف وحب وإخلاص، ويخيل إلي أن هذه الطريقة من طرق التربية تبعث في نفس الطفل أصدق آيات الإخلاص والولاء لأبيه، وأروع صور الوفاء لوالديه، وتعوده الاعتماد على النفس والشعور بالشخصية.
وقد راضنا أبي كذلك على العمل وهو رجل عمل بمعنى الكلمة فقد يقضي في أيام فراغه وفي إجازات الصيف ثلاثة أيام متواصلة لا يغادر خلالها مكتبه؛ بل يظل ساهرا ليصل الليل بالنهار في العمل والتحصيل، ولعل القارئ يوافقني على ذلك إذا اطلع على كتاب النثر الفني، ورجل هذه أخلاقه يبعث في روح أولاده حب المثابرة والكفاح بكل تأكيد. وكان من جراء ذلك أن ورثت عنه هذه العادة، فلا أكون مبالغا إذا قلت إنني كنت في التعليم الثانوي أقوم بجانب دراستي المدرسية بالكتابة في الصحف، ودراسة الهندسة اللاسلكية والكهربائية والميكانيكية بجانب الشعر والقصص والموسيقى.
وقد عودنا أبي الصبر ومواجهة الحقائق، فهو رجل قلما ييأس، وإنما يواجه الحقائق بالحقائق فلا أنسى مطلقا مساء يوم وفاة جدي رحمه الله فقد عاد أبي من سنتريس في مساء ذلك اليوم يحمل إلينا الخبر المشئوم ويبدي أسفه بقوة جبارة تغلب بها على حزن نفسه، وكبت بها عواطفه.
وقد سافر أبي إلى العراق ولا أنسى ساعة وداعه، فقد وقفت أبكي كالطفل بينما راح هو يبتسم.
وبعد فهذه صورة سريعة صادقة عن أبي رجل التربية، فإليه وحده أبعث بأصدق تحية، وإليه أرفع آيات الحب والإخلاص.
Unknown page