وكان المستر كلدن كهلا في الخمسين من العمر، وهو جميل الوجه، طويل القامة، أحمر اللون، أشقر الشعر، متقد العينين بالذكاء الأميركي المعروف، وفي كل حركة من حركاته وكل كلمة من كلماته شيء يدل على النشاط والحدة.
أما زوجته فقد كانت في نحو الثلاثين من العمر، وكانت بيضاء الوجه كالثلج المعمم قمم لبنان، سوداء الشعر والعينين، رشيقة القوام كغصن البان، خفيفة الحركة فوق جوادها الرشيق كأنها غزال على غزال.
فكان هذا الزوج وزوجته يمثلان ضربي الحسن في العالم: الحسن الأميركي الأشقر والحسن الشرقي الجامع بين اللون الأبيض الناصع واللون الأسود الفاحم.
والغريب أن ابنتيهما جاءتا واحدة على شكل أمها وواحدة على شكل أبيها، وكانت إحداهما في التاسعة من العمر والأخرى في السابعة، وكانتا ثابتتين على ظهر جواديهما ثبات الفوارس، ولا عجب في ذلك؛ لأنهما ربيتا تربية أميركية.
ولما حاذى الركب دير حنطورة كان المستر كلدن في حديث مع امرأته، وقد تنحى عنه وكيل أشغاله، وكان يقول لها: لماذا تكرهين بيروت يا إميليا إلى هذا الحد؟ حقا إنني صرت أخجل من قومي فيها لعدم استقبالنا إياهم. فأجابت زوجته والحزن باد في وجهها: حقا إنني ندمت يا جورج على سياحتنا هذه. فقهقه المستر كلدن وقال: كيف تندمين الآن بعد أن بكيت سنتين على هذه الزيارة، وفي كل يوم كنت تتنهدين وتقولين: هل أرى بلادي مرة قبل أن أموت؟ فقالت إميليا والدموع في عينيها: لا تمزح يا صديقي في مسألة كهذه المسألة؛ فإن قلبي في غاية الألم. نعم كنت أشتاق في بلادنا إلى البلاد التي ربيت فيها، ولكني أول ما وصلت إليها تغير قلبي فعلمت حينئذ أنه قد كتب لي التعاسة على هذه الأرض؛ فإنني إذا أقمت في بلادنا أميركا شعرت أنني غريبة فيها، وإذا جئت بلادي الأصلية شعرت أيضا أنني غريبة، فشأني شأن طائر نسفت الزوابع عشه واستأصلت الشجرة التي كان يأوي إليها، فلم يبق له أمل في الراحة وإن وجد عشا أحسن من عشه الأول، وشجرة أفضل من شجرته الأولى، وليس معنى كلامي هذا أنني غير راضية بحالتي الحاضرة، فإنني من فضلك ونعمتك في ألف فضل وألف نعمة، ولكن ماضي شديد الضغط على نفسي.
وهنا انحدرت الدموع من عيني إميليا، فصاحت بها ابنتها الأولى: عدنا إلى البكاء يا ماما، إذا لم تسكتي فإنني أبكي أيضا. وقال لها زوجها: الحق أقول لك يا عزيزتي، إنني لا أعرف سببا لهذا الحزن واليأس، فإنك تعلمين أننا صنعنا كل ما في إمكاننا فلم نعثر على أثر لأبيك، وقد عرضت عليك ألف مرة أن ننتقم من أعدائه فكان جوابك: ما الفائدة من الانتقام؟
فهنا أغرقت إميليا في البكاء وقالت: نعم، ما الفائدة من الانتقام؟ فإنه لا يرد لي أبي، ولو عثرت على أبي فربما كنت طاوعتك على الانتقام إرضاء له؛ لأنه تعذب كثيرا في أثناء حياته، ومن العدل أن يعذب معذبوه، وإن كنت لا أحب عدلا كهذا العدل، ولكن ماذا كان جواب الباحثين عنه في جبهات البرازيل؟
قال: لم يجدوا له أثرا، وأنت تعلمين أنني نشرت منشورا في جميع أقطار الأرض في الشام ومصر وأوروبا وآسيا وأفريقيا، ووعدت بدفع مائتي ألف ريال جائزة للذي يجد (الخواجه متى حاروم) ويدلنا عليه، وها قد مر على هذا المنشور سنوات، وألوف من الناس يبحثون عبثا؛ طمعا في الجائزة، فاعتقدي يا حبيبتي بعد الآن أن أباك الكريم قد توفي إلى رحمة الله وسبقنا إلى الآخرة؛ لأنه من المحال أن يكون حيا ولا نعثر عليه بعد هذا التفتيش، ولا تنسي أننا كلنا ضيوف في هذه الأرض، وأن وطننا الحقيقي فوق، فتعزي ولا تحزني حزن الذين لا رجاء لهم.
فأطرقت إميليا برهة تبكي بسكوت، ثم قالت: ليس بكائي للموت، بل بكائي للغلطة العظيمة التي ارتكبتها، وهذا ما يعذبني ويضغط على نفسي وضميري؛ فإنني تركت أبي في أشد الأوقات عليه، حين تخلت عنه الأرض والسماء، وابتعد عنه الأقربون والأبعدون، فكنت أقساهم عليه وأجحدهم لجميله؛ لأنني كنت أقربهم إليه، وإنني أخشى أن يكون قد مات في الشيخوخة والضعف والفقر والوحدة وهو يلعنني.
فهنا رام كلدن أن يصرف فكر زوجته عن هذه التذكارات المحزنة، فقال ضاحكا: أما أنا فلا أعتبر سفرك من بلادك إلى أميركا غلطة يا إميليا؛ لأنني لولا هذا السفر لما التقيت بك واقتنصتك، فأنا أشكرك لتلك الحدة التي حملتك على السفر، ولا يزال يحلو لي أن أتذكر معك اليوم الذي لقيتك فيه في واشنطن.
Unknown page