47

لما غادر كلود الطاحونة متوجها إلى المنزل، شعر أنه عثر على شيء قد يساعده في فصل الصيف. يا لها من فرصة رائعة أن يعرج على إنيد ويتحدثا بمفردهما من دون أن يقاطعهما أحد؛ من دون أن يرى وجه والدتها، الذي تضع عليه دائما المساحيق، ينظر إليه من خلف ستارة منسدلة! كانت السيدة رويس تبدو دائما كبيرة في السن، حتى منذ وقت طويل عندما كانت تأتي إلى الكنيسة مع بنتيها الصغيرتين؛ لقد كانت امرأة نحيلة تلبس حذاء صغيرا بكعب عال وقبعة كبيرة بريش مائل لأسفل، وكان فستانها الأسود مرصعا بالخرز الطويل والكهرمان الأسود الذي يعطي لمعانا ويحدث صوتا؛ مما يجعلها تبدو صلبة من الخارج مثل الحشرة.

كان عليه أن يساعد إنيد على الخروج والاختلاط أكثر بالآخرين. لقد كانت تقضي وقتا طويلا مع أمها، ومع أفكارها الخاصة. الزهور والبعثات الخارجية؛ حديقتها ومملكة الصين العظيمة، كان هناك شيء غير عادي ومثير في اهتماماتها. وشيء رائع للغاية أيضا. يجب أن تكون المرأة متدينة؛ الإيمان كان العطر الطبيعي لعقلها. وكلما زاد عدم معقولية ما تؤمن به، زادت حلاوة الإيمان. لقد كان يعتبر قصة قصيدة «الفردوس المفقود» أسطورة مثل ملحمة «الأوديسة»، ولكن عندما تقرؤها والدته عليه بصوت عال، لم يكن يعتبرها جميلة فحسب، بل حقيقية أيضا. المرأة التي ليس لها أفكار مقدسة عن الأشياء الغامضة البعيدة ستصبح مملة وعادية مثل الرجل.

3

في الأسابيع القليلة التالية، كثرت زيارات كلود بالسيارة إلى منزل الطاحونة في الأمسيات الجميلة كي يصطحب معه إنيد إلى فرانكفورت لمشاهدة عرض سينمائي أو الذهاب إلى مدينة مجاورة. الميزة في هذا الشكل من الرفقة أنه كان لا يضع ضغطا كبيرا على قدرات المرء في الكلام. يمكن أن تظل إنيد صامتة على نحو مثير للإعجاب، ولا تتحرج أبدا من الصمت أو الكلام. لقد كانت هادئة وواثقة من نفسها طوال الوقت، وكان هذا أحد أسباب مهارتها في قيادة السيارات؛ لقد كانت أفضل كثيرا من كلود في الحقيقة.

لما تقابلا بعد الكنيسة في أحد أيام الأحد، أخبرت كلود أنها تريد الذهاب إلى هاستنجز للتسوق، ورتبا بحيث يأخذها يوم الثلاثاء في سيارة والده الكبيرة. كانت تلك المدينة تبعد مسافة سبعين ميلا تقريبا جهة الشمال الشرقي، ومن فرانكفورت، كانت هذه الرحلة غير مريحة في حالة استخدام القطار .

في صباح يوم الثلاثاء، وصل كلود إلى منزل الطاحونة قبيل سطوع الشمس فوق الحقول الرطبة. وجد إنيد تنتظره في الرواق الأمامي لابسة معطفا ثقيلا قصيرا فوق رداء ربيعي. ركضت إلى البوابة وانسلت وجلست على المقعد بجانبه. «صباح الخير يا كلود. لم يستيقظ أحد. سيكون يوما رائعا، أليس كذلك؟» «بلى. إن الطقس أدفأ قليلا بالنسبة إلى هذا الوقت من العام. لن تحتاجي إلى هذا المعطف مدة طويلة.»

وجدا الطرق فارغة في الساعة الأولى. جميع الحقول كانت رمادية من الندى، وكانت تنزل أشعة الشمس المبكرة فوق كل شيء بسطوع شفاف لنار أضرمت لتوها. وبينما كانت السيارة تقطع الأميال من دون ضوضاء، كان عمق السماء وزرقتها يزيدان، وتتفتح الأزهار على جانبي الطريق وسط الحشائش التي يعلوها الندى. والآن، أصبح هناك أناس وخيول على كل تل. وبعد مدة وجيزة، بدآ يمران بأطفال في طريقهم إلى المدرسة، توقفوا ولوحوا بصناديق طعامهم اللامعة تجاه المسافرين. وصلا إلى هاستنجز بحلول الساعة العاشرة.

بينما كانت إنيد تتسوق، اشترى كلود حذاء أبيض وسروالا من القطن المتين. شعر أنه مهتم بملابس الصيف أكثر من المعتاد. تقابلا في الفندق من أجل الغداء؛ إذ كانا جائعين بشدة، وارتضيا بما أنجزاه في الصباح. لما جلس كلود في صالة الطعام وإنيد في المقعد المقابل، جال في خاطره أنهما كانا لا يشبهان بأي حال من الأحوال فتى وفتاة أتيا من القرية إلى المدينة، بل شخصين محنكين يتجولان بسيارتهما.

بينما كانا في انتظار طبق التحلية، سألته: «هل ستأتي في زيارة معي بعد العشاء؟» «هل إلى أحد أعرفه؟» «بالتأكيد. القس ويلدون موجود في المدينة. انتهت زياراته وأخشى أن يسافر، ولكنه سيمكث بضعة أيام مع السيدة جليسون. أحضرت معي بعض خطابات كاري كي يقرأها.»

امتعض وجه كلود. وقال بحزم: «لن يسر لرؤيتي. لم نكن على وفاق البتة في المدرسة. لعلمك، إنه معلم تقليدي غير بارع.»

Unknown page