كان غاضبا بشدة من جلاديس لدرجة أنه لم يودعها. اغتاظ من كل كلمة قالتها في تلك الجولة. إن كانت تنوي الزواج من بايليس، فلا بد أن تنفض عنها هذا التظاهر بالحرية والاستقلال. وإن كانت لا تنوي الزواج منه، فلماذا تقبل المجاملات منه، وتتركه يعتاد على الذهاب إلى منزلها، ويضع علبة الحلوى الخاصة به على الطاولة، مثلما يفعل كل أهل فرانكفورت عندما يحاولون التودد لشخص ما؟ بالتأكيد لم تستطع أن تقنع نفسها بأنها تحب مجتمعه!
لما كانا زميلين في مدرسة فرانكفورت الثانوية، كانت جلاديس بمنزلة مرآة لمظهر كلود الجمالي. لم تجر العادة أن يتحلى أي فتى بالنظافة الشديدة والاهتمام البالغ بملبسهم وأسلوبهم. ولكن إذا اختار فتاة لا تشوبها شائبة في هذه النواحي، وكان يحضر دروس اللغة اللاتينية والأنشطة المعملية معها، فكل عوامل الجذب الشخصية فيها تحسب له. بدا أن جلاديس كانت تقدر الشرف الذي منحه لها كلود، وما كانت هي السبب بالكامل في أن تلبس تلك الفساتين الجميلة المكوية المخيطة من الموسلين عندما كانا يذهبان في رحلات استكشافية عن النباتات.
في طريق العودة من هذه الجولة التعيسة بمركبة الجليد، قال كلود لنفسه إنه فيما يتعلق بجلاديس يستطيع أن يعتقد أنه تعرض «للخداع» طوال الوقت. لقد صدق مشاعرها الراقية؛ صدقها ضمنيا. لكنه بات الآن يعلم أنها ليست لديها مشاعر راقية يمكن أن تخفيها إن كان هناك ما يمكن أن تجنيه من ذلك. وحتى بينما كان يقول في نفسه هذه الأشياء مرارا وتكرارا، ظلت فكرته القديمة الكامنة في أعماق عقله عن جلاديس راسخة لا تتغير. ولكن ذلك ما زاد مشاعره إلا تألما. لقد بلغ جرحه مبلغا عميقا؛ ولسبب ما، يحب الشاب أن يشعر أنه تعرض للخيانة عندما يجرحه أحد.
الكتاب الثاني
إنيد
1
في عصر أحد أيام ذلك الربيع، كان كلود يجلس على مجموعة درجات السلم الطويلة المصنوعة من الجرانيت التي تؤدي إلى مبنى المجلس التشريعي في دنفر. كان يلقي نظرة على بقايا ساكني الجروف الموجودة في هذا المبنى؛ وعندما خرج تحت أشعة الشمس، اخترقت الرائحة الخافتة للحشائش الحديثة الجز أنفه وأقنعته بالبقاء. تلك كانت المرة الأولى التي يجز فيها عاملو البستان الحشائش في تلك الأرض. كانت جميع المروج على التل لامعة بزهور النرجس البري والزنابق. هب ريح خفيف ودافئ فوق الحشائش وجفف قطرات المياه. هطلت أمطار في وقت العصر، وكانت لا تزال السماء زرقاء وتلوح بالأمطار التي تحملها السحب السريعة الحركة.
غاب كلود عن المنزل منذ ما يقرب من شهر. أرسله والده كي يزور رالف والمزرعة الجديدة، وانطلق من هناك إلى مدينتي كولورادو سبرينجز وترينيداد. استمتع بالسفر؛ ولما عاد الآن إلى دنفر شعر بالوحدة التي عادة ما تغمر أبناء الريف عندما يكونون في المدينة؛ الشعور بأنهم لا علاقة لهم بأي شيء يدور حولهم، بأنهم غير مهمين لأي شخص. تجول في أنحاء كولورادو سبرينجز وهو يأمل لو كان يعرف بعض هؤلاء الناس الذين كانوا يخرجون من المنازل ويدخلون إليها؛ لو كان بإمكانه التحدث إلى بعض هؤلاء الفتيات الجميلات اللاتي يراهن يقدن سياراتهن ويجبن الشوارع؛ إذ كان يتمنى لو يبادلهن بعض الكلمات فقط. وبينما كان يتمشى في التلال في صباح أحد الأيام، مرت بجواره فتاة ثم أبطأت سيارتها، وسألته إن كان بإمكانها أن توصله إلى أي مكان. كان كلود سيعتقد أنها ليست أبدا من نوع الفتيات الذي يمكن أن تتوقف لتقله معها، ولكنها فعلت ذلك وتحدثت معه بود طوال طريق العودة إلى المدينة. استغرقت الرحلة عشرين دقيقة أو نحو ذلك، ولكن كان هذا أفضل ما حدث له في تلك الرحلة. عندما سألته عن المكان الذي سينزل فيه، قال إنه أنتلرز، وتوردت وجنتاه بشدة لدرجة أن الفتاة لا بد أنها عرفت من فورها أنه لم يكن يقيم هناك.
تساءل في عصر هذا اليوم عن عدد الشباب المحبطين الذين جلسوا هنا على أعتاب مبنى المجلس التشريعي، وراقبوا الشمس وهي تغرب خلف الجبال. دائما ما كان الجميع يقولون إنه لشيء جميل أن تكون في مرحلة الشباب، ولكنه كان شيئا مؤلما أيضا. لم يعتقد أن الأشخاص الأكبر سنا مروا قط بمثل هذا البؤس الذي مر به. في ذلك المكان وتحت أشعة الشمس الذهبية، كانت كتل الجبال تنقسم إلى أربع سلاسل جبلية منفصلة؛ وكلما غاصت الشمس، علت قمم الجبال في الأفق، الواحدة تلو الأخرى. كان مشهدا بهيا لم يزد الألم في صدره إلا حدة. سأل نفسه متوسلا الحصول على إجابة عن المشكلة التي يعاني منها. لا بد له من الإجابة على هذا قبل أن يعود إلى المنزل.
كان تمثال كيت كارسون وهو يمتطي صهوة حصانه الموجود في وسط الميدان يشير تجاه الغرب، ولكن اندثر تماما ذلك المعنى عن الغرب. كانت لا تزال هناك أمريكا الجنوبية؛ على الأرجح كان يستطيع أن يعثر على شيء أسفل برزخ بنما. هنا، كانت السماء أشبه بغطاء يغلق على الأرض؛ ربما كان بإمكان والدته رؤية قديسين وشهداء من ورائه.
Unknown page