35

قال معترضا: «ليس لدي ملابس خروج أخرى غير التي أرتديها في يوم الأحد.» «حسنا، يقول كلود إنه سيخرج إن اضطر أحد إلى الخروج. أظن أن عليك تغيير ملابسك على الفور يا دان، وإلا ستنام من غير عشاء.» ضحكت بهدوء من الحزن الذي بدا على وجهه وهو ينسل بعيدا.

همست ماهيلي قائلة: «سيدة ويلر، هلا أنزل إلى القبو وأحضر لهما بعض الفراولة المحفوظة الجميلة؟ السيد كلود يحبها مع البسكويت الساخن. لم يعد يأكل العسل لأنه سئم منه.» «حسن جدا. سأحضر قهوة حلوة ومركزة؛ فتلك القهوة ستبهجه أكثر من أي شيء.»

نزل كلود وهو يشعر بأنه نظيف ودافئ وجائع. وبينما كان يفتح باب السلم، اشتم رائحة القهوة ولحم الخنزير المقلي؛ ولما فتحت ماهيلي الفرن، اندفعت منه الرائحة الدافئة للبسكويت البني مع الدخان. بددت هذه الروائح جميعها، بعض الشيء، حزن دان لما عاد في حذاء يوم الأحد الخاص به الذي كان يصدر صريرا، ومعطف طويل الذيل وواسع. لم يلزمه ارتداء المعطف، ولكنه ارتداه انتقاما.

في أثناء العشاء، أخبرتهما السيدة ويلر مرة أخرى كيف أنه لم تكن هناك طرق أو سياجات في غرب فرانكفورت في بداية زواجها. وحكت أنها، في إحدى ليالي الشتاء، جلست على سطح أول مخبأ لهما طوال الليل تقريبا، وهي تمسك مصباحا معلقا في عمود كي ترشد السيد ويلر إلى المنزل في عاصفة ثلجية مثل تلك.

بينما كانت ماهيلي تتحرك بالقرب من الموقد، راقبت الجالسين على الطاولة. وأحبت أن ترى الرجلين وهما يملآن بطنيهما بالطعام - على الرغم من أنها كانت لا تعد دان رجلا بأي حال من الأحوال - وركزت انتباهها كي تتأكد من أن السيدة ويلر لم تغفل عن الأكل؛ إذ إنها كانت معتادة على ذلك وقتما تتذكر الأشياء التي حدثت منذ وقت طويل. كانت ماهيلي في حالة مزاجية سعيدة؛ لأن توقعاتها بشأن الأحوال الجوية تحققت؛ فبالأمس فقط أخبرت السيدة ويلر أن الثلج سيهطل؛ لأنها رأت طيور الثلج. كانت تعتبر العشاء ذا أهمية غير عادية عندما ترى كلود يرتدي «بنطاله المخملي»، كما تطلق على سرواله البني المصنوع من القماش المضلع.

بعد العشاء، استلقى كلود على الأريكة في غرفة الجلوس، وجلست والدته تقرأ عليه بصوت عال من رواية «البيت الموحش»؛ حيث إنها من الروايات المفضلة لديها. كان جو البائس يقترب من نهايته لما انتصب كلود فجأة جالسا. «أمي، أعتقد أنني أشعر بالنعاس بشدة. سأخلد إلى النوم. هل تعتقدين أن الثلوج لا تزال تهطل بشدة؟»

نهض وذهب كي ينظر للخارج، ولكن النوافذ الغربية كانت مغطاة بشدة بالثلوج لدرجة أنه كان لا يرى ما خلفها. لم يستطع أن يرى شيئا للحظة حتى من النافذة الجنوبية، ولكن لا بد أن ماهيلي حملت مصباحها أمام نافذة المطبخ بالأسفل؛ إذ أضاء من فوره شعاعا أصفر عريضا في الهواء الخانق، وعبره كانت تسير بسرعة ملايين ندف الثلج مثل الجيوش في حركة بلا توقف، وأخذت تتجمع قدر إمكانها من دون أن تشكل كتلة صلبة. ضرب كلود عضادة النافذة المجمدة بقبضته، ورفع الإطار السفلي، وأخرج رأسه وحاول النظر إلى الخارج في الليل المدلهم. كان هناك نوع من الجلال في عاصفة بهذا الحجم؛ إذ تعطي المرء شعورا باللانهاية. بدا أن الجزيئات البيضاء التي لا حصر لها، والتي كانت تعبر أشعة ضوء المصباح لها هدف محدد؛ وهو التحرك السريع إلى نهاية محددة. نقاء خافت، مثل رائحة عطر تدغدغ أحاسيس الإنسان، كان ينبعث منها وهي تتجمع حول رأسه وكتفيه. ولما نظرت والدته من تحت ذراعه المرفوعة، حاولت بصعوبة النظر وسط تلك الحركة الحاشدة، وتمتمت بصوت هادئ ومرتعش قائلة: «أكثر فأكثر، أخذ يزيد تجمد سطح البحيرة والنهر؛ وأكثر فأكثر، أخذ سمك الثلج على كافة الأنحاء.»

18

كانت غرفة نوم كلود تواجه جهة الشرق. في صباح اليوم التالي، عندما نظر من نوافذه، لم ير إلا قمم أشجار الأرز في الساحة الأمامية. ارتدى ملابسه على عجل وجرى إلى النافذة الغربية في نهاية الصالة؛ لقد اختفى نهير لافلي كريك والوادي العميق الذي يتدفق فيه وكأنهما لم يكونا موجودين. تحولت المراعي الوعرة إلى واد منبسط، باستثناء الروابي والتلال التي أصبحت تشبه أكوام القش، حيث كان ينجرف الثلج فوق أحد الأعمدة أو أجمات الأشجار.

على سلم المطبخ، قابلته ماهيلي في حالة انفعال كبير. «ليرحمنا الرب يا سيد كلود، لا أستطيع فتح باب العواصف. الثلج يحيط بنا ويمنعنا من الخروج من المنزل.» بدت كأنها امرأة متشردة إذ كانت سترتها مرقعة برقع ذات ألوان كثيرة، وعلى رأسها وشاح خفيف أسود قديم، تتدلى منه خيوط على وجهها وكأنها خصلات شعر جامحة. كانت تحتفظ بهذا الزي للمناسبات المأساوية؛ كانت ترتديه عندما تتجمد أنابيب المياه وتنفجر، أو عندما تغمر عواصف الربيع المحاصيل وتغرق أفراخها.

Unknown page