24

قام متنهدا وبدأ تجليد أوراق بحثه التاريخي. ولما نظر من النافذة، قرر أن يذهب إلى المدينة مشيا ومعه بحثه الذي يجب تسليمه اليوم؛ كان الجو لطيفا لدرجة تصعب معه الجلوس والتعرض للاهتزاز في عربة ترام. الحقيقة هي أنه رغب في إطالة الاحتفاظ ببحثه أطول مدة ممكنة.

مضى في طريقه، الذي يمكن تسميته بصعوبة شارعا؛ إذ يمر من وسط أرض البراري المفتوحة حيث تزهر ثمار البرقوق. مشى كلود بوتيرة أبطأ من المعتاد، واندفعت قبعته المصنوعة من القش إلى خلف رأسه، وامتلأ وجهه بوهج الشمس. شعر جسده بأنه خفيف وسط الريح المعطر، واستمع على نحو ناعس إلى زقزقة عصافير القنبر على الأعشاب الجافة وسيقان دوار الشمس. في هذا الفصل، تكاد ألحانها توجع سامعها من عذوبتها الشديدة. كان يتذكر أحيانا هذه المسيرة بعد ذلك بمدة طويلة؛ فهو لم ينسها على الرغم من أنه لم يكن يعرف السبب في ذلك.

لما وصل إلى الجامعة، ذهب مباشرة إلى قسم التاريخ الأوروبي كي يترك بحثه على طاولة طويلة كانت توجد عليها كومة من الأبحاث الأخرى. خشي فعل ذلك بشدة، وسعد لما دخل ووجد الأستاذ يخرج من مكتبه الخاص ويأخذ بحثه المجلد في يديه، ويومئ له بود. «هل هذا بحثك؟ أوه نعم، جان دارك. إجراءات المحاكمة. لقد نسيت. إنه موضوع مثير للاهتمام، أليس كذلك؟» فتح الغلاف وتصفح الصفحات. «أظن أنك برأتها بناء على الوقائع؟»

توردت وجنتا كلود. «نعم يا سيدي.» «والآن، قد تحتاج إلى قراءة ما قاله عنها ميشليه. توجد ترجمة قديمة لعمله في المكتبة. هل استمتعت بالبحث؟» «استمتعت كثيرا.» تمنى كلود من أعماقه لو أسعفه الكلام. «لقد تعلمت الكثير والكثير من هذا البرنامج الدراسي، بوجه عام، أليس كذلك؟ سأحرص على أن أرى ما ستفعله في العام القادم. سررت ببحثك كثيرا.» عاد الأستاذ إلى غرفته، وسر كلود لما رآه يأخذ بحثه معه ولم يتركه على الطاولة مع الأبحاث الأخرى.

12

في الآونة ما بين الحصاد وتجهيز الدريس في ذلك الصيف، ذهب السيد ويلر ورالف إلى دنفر بالسيارة الكبيرة، وتركا كلود ودان من أجل زراعة الذرة. ولما عادا، قال السيد ويلر إن لديه سرا. وبعد عدة أيام من التكتم التي لزم فيها غرفة الجلوس يكتب خطابات، وكان يرمي فيها بكلمات وغمزات غامضة إلى رالف على الطاولة، أعلن عن مشروع أطاح بكل خطط كلود وأهدافه.

في رحلة العودة من دنفر، عرج السيد ويلر إلى مقاطعة يوكا بولاية كولورادو كي يزور صديقا قديما يعاني من بعض المشكلات. كان توم ويستد من أهل ولاية مين، ومن بلدة السيد ويلر. فقد الرجل زوجته منذ عدة سنوات. وتدهورت صحته، وقال الأطباء في دنفر إنه يجب أن يتقاعد عن العمل ويعيش في مكان على ارتفاع منخفض. أراد أن يعود إلى ولاية مين ويعيش بين أحبائه، ولكنه كان لديه يأس وخوف شديدان من أن تسوء حالته لدرجة جعلته لم يسع حتى لبيع مزرعته وماشيته. استطاع السيد ويلر أن يساعد صديقه، وفي الوقت نفسه عقد صفقة أعمال جيدة لنفسه. إنه كان يمتلك مزرعة في ولاية مين - وهي نصيبه من إرث والده - وظل يؤجرها سنوات مقابل أجرة زهيدة لا تكاد تزيد على تكاليف صيانتها. نقل السيد ويلر ملكية هذه الأرض للرجل مع أخذ قرض عقاري قابل للتحويل إلى طرف ثالث، وحصل في المقابل على مزرعة ويستد الرائعة التي تروى على نحو جيد. دفع له مبلغا جيدا مقابل الماشية، ووعد بأخذ الرجل المريض إلى مين مرة أخرى والحرص على استقراره هناك. شرح السيد ويلر كل هذه الأمور لعائلته عندما دعاهم إلى غرفة المعيشة في ليلة شديدة الحرارة بعد العشاء. نادرا ما تشغل السيدة ويلر بالها بشئون أعمال زوجها، ولكنها سألت غير مبالية عن سبب شراء المزيد من الأراضي، وهم يمتلكون بالفعل مساحات كبيرة ولا يستطيعون حتى زراعة نصفها.

رد السيد ويلر دون غضب: «شأنك شأن كل النساء يا إيفانجلين، شأنك شأن كل النساء!» كان يجلس في الوهج الكامل للمصباح الأسيتيليني وطوق عنق قميصه مفتوح، وياقته وربطة عنقه بجانبه على الطاولة، ويهوي على نفسه بمروحة من سعف النخل. «ربما ستسألينني أيضا لماذا أسعى إلى كسب مزيد من المال ما دمت لم أنفق كل ما لدي.»

قال إنه ينوي أن يترك مزرعة كولورادو تحت إمرة رالف و«يعطي الفتى بعض المسئوليات». رالف كان سيساعده رئيس العمال الذي يعمل لدى ويستد؛ حيث إن له باعا كبيرا في أعمال خدمة الماشية، وأبدى موافقته على البقاء في العمل مع صاحب المزرعة الجديد. طمأن السيد ويلر زوجته بأنه لم يستغل ظروف ويستد البائسة؛ الأشجار في مزرعة مين تستحق بالفعل مبلغا كبيرا، ولكن لأن والده كان دائما يتفاخر بشدة بأشجار الصنوبر الكبيرة الخاصة به، فإنه - على حد قوله - لم يشعر قط بالرغبة في العبث بتلك الأشجار وإتلافها. والآن، كان يقايض مزرعة قديمة خصبة لم تكن تدر أي ربح بمزرعة من عشب الجراما من المفترض أن تدر ربحا لا يقل عن عشرة أو اثني عشر ألف دولار في سنوات الرعي الجيدة، ولا تتسبب في خسائر كبيرة في سنوات الرعي السيئة. توقع أن يقضي نصف وقته في تلك المزرعة مع رالف. ثم علق بمرح: «عندما أكون هناك، فلن تكون هناك أعمال كثيرة أمامك أنت وماهيلي. ويمكنكما تكريس وقتكما للتطريز، إن جاز القول.»

تمتمت السيدة ويلر وهي لا تزال في الظلام قائلة: «إذا كان رالف سيعيش في كولورادو وأنت لن تكون هنا نصف الوقت، فلا أعلم ماذا سيحل بذلك المكان.»

Unknown page