كانت الغيرة من رشاد رشدي وتلاميذه قد بلغت أوجها في تلك الأيام، وكانت لجنة القراءة بالمسرح القومي قد حاولت إعاقة رشدي عن تقديم المسرحية في أكتوبر 1963م بأن قررت رفضها، فلما اعترض رشدي قائلا إن اللجنة لم تقرأها - وكان هذا هو الواقع - أصدر الدكتور علي الراعي قرارا بإحضار المؤلف لقراءتها على اللجنة. وكان علي الراعي قد فرض اسمه على الساحة الأدبية عن طريق نشر ملخصات للمسرحيات العالمية في المجلات - مثل مجلة الإذاعة - مثلما فعل لويس عوض من قبله في صحيفة «الشعب» التي توقفت، وكانت اللجنة تضم بعض الفنانين إلى جانب محمد مندور ومحمد القصاص، وقد عقدت أولى جلسات القراءة في أول نوفمبر، وكان أحمد حمروش (مدير المسرح) يبتدع حيلا لتشتيت انتباه اللجنة أثناء القراءة؛ إذ كان الكاتب يعتبر ممثلا لليمين وجميع من عداه ممثلا لليسار، وكان بعض الأعضاء ينهضون للخروج ثم يعودون أثناء القراءة، مما أدى إلى فشل الجلسة واعتراض رشاد رشدي وانسحابه.
ولم يكن أمام رشاد رشدي سوى التظلم إلى الوزير الذي شكل لجنة أخرى تضم ممثلين لتيارات أخرى من بينها اليسار «المتعاطف» مع رشدي، فأجازت اللجنة النص، وكلف المسرح سعد أردش بإخراجها. ولا أدري مدى تواطؤ إدارة المسرح مع القيادة اليسارية لإفشال العرض، ولكن البروفات كانت كثيرا ما تتوقف، أو كان الممثلون ينسحبون دون إنذار، ولكن البروفات اكتملت على أي حال وعرضت المسرحية في إبريل 1964م، في الوقت الذي عرضت فيه «البر الغربي» في مسرح الحكيم. وكانت التعليمات لدى كتاب صحيفة «الجمهورية» - وهي صحيفة الثورة الرسمية - تقضي بمهاجمة رشاد رشدي، وفعلا بدأت المقالات تنشر لمهاجمة العرض، رغم روحه «التقدمية» المتفائلة، بسبب التقعر في فن الكتابة المسرحية، ولكن الهجوم الأكبر كان على مسرحية «البر الغربي» التي شاع في الوسط الفني أنها ضد الحكومة، بل ضد رأس النظام؛ فهي متشائمة، وهي تصور الناس تصويرا أبعد ما يكون عن الواقع لأن الشعب في عرف الاشتراكية لا بد أن يكون عبقريا متفتح الذهن؛ ومن ثم فإن الزعيم الذي يختاره الشعب لا بد أن يكون كذلك! وتزعم حملة الهجوم على محمد عناني (وقيل لي إن الهجوم كان موجها في الواقع ضد رشاد رشدي) كاتب صغير اسمه جلال السيد (رحمه الله) ورهط من زملائه، وكان أهم ما يقال هو كيف نصور الشعب الذي يضحي بأرواحه في حرب اليمن في هذه الصورة المؤسفة؛ صورة الغارق في الأوهام والخرافات، صورة من يخلق البطل الضد حتى يجني على نفسه؟
وكتب محمود أمين العالم مقالا طويلا استغرق صفحة كاملة في الجمهورية يقارن بين المسرحية ذات الرؤية المشرقة والبناء المتقعر «رحلة خارج السور» والمسرحية ذات الرؤية القاتمة والبناء المحكم «البر الغربي». ولكن ذلك كله لم يمنع الجمهور من التدفق لمشاهدة العرضين، وكان المعجبون بالبر الغربي ينتحون بي جانبا ليهمسوا لي: كيف نفذت من الرقابة! وهمس لي جلال العشري (رحمه الله): لقد دخلت التاريخ من باب المسرح! وقابلني جلال كشك عند سلم دار روز اليوسف وقال لي: لقد أحسنت اختيار الأسمار المستعارة، فجمعة هو جمال عبد الناصر، وقورة هو عبد الحكيم عامر، وعبيط القرية هو من سيخلف عبد الناصر في رئاسة الجمهورية! وأصابني الرعب والهلع، خصوصا عندما كتب يوسف الحطاب، المخرج الإذاعي تقريرا (أو بلاغا) إلى مدير الإذاعة، وبلاغا إلى رئاسة الجمهورية، يتهم المؤلف فيه بمعارضة النظام. ولم يكن عقاب معارضة النظام إلا العزل السياسي والاضطهاد؛ أي «خراب البيت»، وكان لي فيما حدث للويس عوض، وللدكتور عبد العزيز كامل (الذي كان وزيرا للأوقاف ذات يوم - رحمه الله) وللطفي الخولي؛ خير درس وعبرة! كان جهاز المخابرات - كلما حدث شيء في البلد - يستدعي عبد العزيز كامل (اليمين) ولطفي الخولي (اليسار) ويودعان في الحجز التحفظي فترة حتى تهدأ الأمور! كانت هناك قوائم بمن يعارضون النظام ولو في تفاصيل صغيرة، وكانت القوائم جاهزة، وويل لمن يوضع اسمه في القائمة! ولا أتحدث فقط عن منع المعارضين من السفر، أو عن منعهم من شغل مناصب في الدولة، وبدأ جو «الخوف» الذي صوره نجيب محفوظ يسيطر على الجميع.
وأمر مدير الإذاعة بتشكيل لجنة من الرقيب الأعلى مصطفى درويش ومن زوجته سنية ماهر وبعض أعوانهما لمشاهدة المسرحية، كما طلب النص ليقرأه بنفسه، وسهرنا ذات ليلة في منزل رشاد رشدي - سمير سرحان وأنا فقط - نبحث أسلوب الرد على تهمة المعارضة، ومن ثم كتبت مقالا طويلا ذهبت به إلى «الجمهورية» حيث وجدت رجاء النقاش (صديقي القديم) في انتظاري، فاصطحبني إلى مكتب سعد الدين وهبة، حيث جلست فقال لي سعد مباشرة: «إيه يا عناني؟ انت موش حاسس بالجو؟ المسرحية «ممتازة جدا» (وهذا ما قاله بالحرف الواحد - لأنني عجبت كيف يترجم التعبير إلى الإنجليزية) لكن ماحدش يعمل كده في الجو ده!» وقرأ رجاء النقاش الرد، ودفع به إلى المطبعة ، وفي المساء علمنا أن أمين حماد مدير الإذاعة «أفرج» عن النص، ولكن لجنة الرقابة كانت في انتظاري عند بداية العرض.
كانت سنية ماهر هي صديقتي القديمة في قسم الأخبار بالإذاعة، ومن ثم رحبت بها باعتبارها «معرفة» قديمة، وطلبت المرطبات، وكانت هي وزوجها مشغولين بمناقشة المستقبل الفني لأحد الطلبة (ابنها أو ابن أختها) فتعمدت إثارة موضوع «المستقبل الفني» أثناء العرض بحيث كان انتباه الرقابة غير مركز، أو بحيث يتشتت كلما تركز، وكان الرقباء الصغار يسجلون أي كلمة تقول «البلد الزفت دي» أو توحي بالغضب من أحوال «البلد»! وفي النهاية قالت سنية: هذه مسرحية عن الخط! وقال مصطفى درويش، تأييدا لها: إنها تدعو لمحاربة الجريمة في الريف! وقال الرقيب الصغير: إنها مليئة بكلمات لا بد من شطبها! فقلت للجميع: لقد وافق مدير الإذاعة على النص، بشرط شطب هذه الكلمات. وكانت النتيجة هي البراءة! وودعت اللجنة وداعا حارا، وقالت لي سنية: لا بد أن يصورها التلفزيون ويذيعها حتى يشجع أهل الريف على محاربة البلطجية!
ورأى رشاد رشدي أن الندوات التي كانت تعقد في مسرح الحكيم لمناقشة المسرحيات، وكانت المجلة (المسرح) تنشر ملخصات لها، لا بد أن تناقش هذه المسرحية تأكيدا لحكم البراءة، وفعلا، أتى النقاد وناقشوها، فسمعت عجبا! لقد فسر البعض كلمة البر الغربي بأنه «الغرب» الرأسمالي؛ لأنني أقول على لسان أحد الشخصيات «البر الغربي فيه متعلمين»! ومن ثم انقض على المسرحية بسبب هجومها المزعوم على البر الشرقي باعتباره دولة الكتلة الشرقية! وسجلنا ما دار في الندوة ونشرناه حتى لا تتبقى في أذهان أحد أي شكوك، ولكن محمود جمعة، المدير الإداري للمسرح، ذكر لي بعد يومين، أنه استقبل زائرا من رئاسة الجمهورية يسأل عن مسرحية «البر الغربي» التي قيل إنها تعارض النظام! وقال لي جمعة إنه أنكر أي معارضة وشرح للزائر أنها تدور في الريف عن جرائم الخط، بل وأطلع الزائر على النص، فاقتنع وطلب نسخة، وانصرف، وأغلق ملف القضية.
كانت الندوات التي تعقد في المسرح تجري بانتظام في إطار نشاط ناد جديد أنشأه رشاد رشدي، وأسماه نادي المسرح، وكلف الدكتور لويس مرقص، رئيس قسم اللغة الإنجليزية بآداب عين شمس، بالإشراف عليه. وقرر الدكتور مرقص إعداد حفل مسرحي كبير يتضمن فقرات من مسرحيات شيكسبير بالإنجليزية، وفقرات منها بالعربية؛ ليعرض يوم 23 أبريل يوم ميلاد شيكسبير، بمناسبة مرور 400 سنة على مولده. وشارك في العرض طلبة قسم اللغة الإنجليزية في آداب القاهرة بصفة خاصة، وأصبحوا يترددون على المسرح بانتظام، وكانوا جميعا بطبيعة الحال، من الهواة، وإن كان بعضهم قد احترف التمثيل فيما بعد مثل نادية النقراشي وتهاني راشد. وتولى إعداد الحفل فنيا فنان تشكيلي موهوب هو الدكتور رمزي مصطفى، كان يقول إنه يدين لمسرحية «الفراشة» (رشاد رشدي) بإنقاذه من زيجة مدمرة؛ أي من قوة جمال المرأة التي تطفئ شعلة الفن في الفنان. وقد عرفت القصة الحقيقية فيما بعد، ولا شك أن رشاد رشدي كان يعرفها؛ لأنه سجلها في قصة قصيرة بعنوان «عذاب الجسم وعذاب الروح» (في مجموعة «عربة الحريم»). ولكنني لا أرى ما يدعو إلى سردها هنا.
أما المخرج الذي تولى إعداد المشاهد الشيكسبيرية التي قدمت بالإنجليزية فكان فنانا مسرحيا من طراز خاص هو الدكتور عزيز سليمان! كان رجلا فذا بمعنى الكلمة؛ فهو مؤمن بالمسرح إيمانا لا يتأتى إلا للذين ولدوا وترعرعوا في بلاد المسرح، في حين أن مصر لم تكن قد تنبهت إلى فن المسرح إلا بعد وقت طويل! وكان في الخمسينيات يقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لطلبة كلية التجارة، فإذا به يلهب خيالهم بفن المسرح، ويشكل من بينهم فريقا للتمثيل «حصد» به جميع جوائز المسابقات المسرحية الجامعية، وأصبح رمزا للفن الخلاق الذي ارتبط وما يزال بقسم اللغة الإنجليزية. وكان أحد زملائي من مدرسة الأورمان، وهو نبيل مجدي الذي التحق بكلية التجارة وصار يقوم بأهم الأدوار في مسرحيات عزيز سليمان، يصفه بأنه عبقري مجنون! ومصدر التسمية هو شطحات الخيال التي لم يكن الطلبة اعتادوها في المسرحيات المدرسية المقررة (مثل مسرحية «كفاح الشعب» من تأليف أنور فتح الله)، وأي خروج عن المألوف في بلادنا جنون!
وقام الدكتور عزيز سليمان باختيار مشاهد عسيرة الأداء، وتولى إعدادها وإخراجها بنفسه، معتمدا على طلبة القسم، بينما استعان رمزي مصطفى ببعض طلبة وخريجي معهد الفنون المسرحية، ومن أهمهم هناء عبد الفتاح (الدكتور) وماجدة علي وسعيد طرابيك، وهكذا عمل الجميع في تناسق ما يزال قائما بين قسم اللغة الإنجليزية وأكاديمية الفنون حتى الآن.
استعان رمزي مصطفى في تقديم مقتطفاته بالعربية من «حلم ليلة صيف» بالترجمة التي نشرتها مجلة المسرح، وهي باكورة ترجماتي الشيكسبيرية وإزاء إعجاب الجميع بسلاسة الترجمة وسيولة النص، اقتنع رشاد رشدي بأن جزالة أسلوبي بالعربية لا تمثل عائقا، فسمح لي بترجمة «روميو وجوليت» حتى تنشر في العام التالي. كما شارك في التمثيل بعض الطلبة الذين أصبح لهم شأن مرموق في الحياة العامة فيما بعد؛ مثل محمد سلماوي في دور عطيل، ونهاد صليحة التي مثلت بالإنجليزية دور ديزديمونا في مسرحية «عطيل» وبالعربية دور هيرميا في مسرحية «حلم ليلة صيف».
Unknown page