فالزهر يخفي شوكه
والعطر قد يخفي الفساد
والأرقم الفتان يك
من في التلال وفي الوهاد
والضب ينذر بالردى
ويبثه في كل واد
والنار قد تشتد وق
دتها لتنذر بالرماد!
ولم أكتب من هذه الأبيات شيئا حتى عدت إلى المنزل فسجلتها، وحاولت الزيادة فلم أستطع؛ فكأنما مرت اللحظة بكل ما فيها، ولم أتنبه إلى أنني لم أضع قافية للشطر الأول إلا عندما قابلت صديقي صلاح عيد (الدكتور الآن) الذي كان في قسم اللغة العربية، فأشار إلى ضرورة إبدال الزهر بالورد، وحذف البيت الذي يتضمن خطر «الضب»، أو تغيير الضب إلى «الناب» (أي ناب الثعبان) وقال إن اللام الملحقة بآخر فعل في القصيدة لا معنى لها (لتنذر)، وربما كانت الفاء أقوى تعبيرا! ولكنني كنت قد قررت أن ألقي بالأبيات في غياهب النسيان؛ إذ كنت كلما نظرت فيها وجدت تناقضات في الصور تمنع من إبراز صورة موحدة؛ فالبيت الأول يوحي بالغيث، ولا شك أن صورة «جادك الغيث إذا الغيث همى» تكمن وراءه، وبعد ذلك تصبح صورة الزمان صورة وحش كاسر، ومن خلفها ما أبدعه المتنبي: «إذا رأيت نيوب الليل بارزة»، وإن كانت «الثنايا» مستوحاة من أحمد شوقي: «واستخبروا الراح هل مست ثناياها»، ثم يتحول الجو إلى صحو! والصور التالية تزيد الطين بلة! ومن ثم قررت أن تكون تلك الأبيات هي آخر عهدي بالشعر العمودي! باستثناء «الإخوانيات»، وما جرى مجراها من هذا النظم، ودفعني الغرور أو رفض التسليم بالعجز إلى تصور أن الشكل نفسه هو سبب التمزق، لا أي ضعف في إحكام الصنعة، وقرأت مقدمة ديوان «نداء القمم» للدكتور يوسف خليف فعرفت أن بيني وبين إحكام الصنعة المنشود أميالا طويلة، وسألت الدكتور حسين نصار عن مشكلة القافية الموحدة، فقال لي إنني لا يجب أن أقلق لأن هذه مشكلة يواجهها الجميع، والشاعر المتميز هو من تزيد ذخيرته اللفظية عن حاجات القافية، فيستطيع «الاختيار» دون أن تفرض القافية الواحدة عليه كلمات بعينها، وذلك ما لم أكن أستطيع أن أزعمه لنفسي أبدا!
وعندما قرأت كتاب «لانجبوم» واسمه «شعر التجربة»، بعد ذلك بعدة سنوات في إنجلترا، أدركت حقيقة عدم رضائي عن الأبيات! إنها جميعا مستقاة من مصادر أدبية قديمة، ومن لغة القدماء، وصورها لا علاقة لها بالتجربة الخاصة التي كنت أواجهها، على عكس «عروس الليل» أو المقطوعات القصيرة التي كنت أكتبها من حين لآخر، ولا يجمع بينها مشهد تجربة واحد، فوحدة المشهد تملي وحدة الصور، وليس معنى الوحدة هو أن تكون الصور متماثلة، بل أن تكون متسقة ومتجانسة! وناقشت موضوع التجانس مع هدى حبيشة (الدكتورة فيما بعد)، فدلتني على كتاب عن الأنماط الفطرية، (أو النماذج القديمة، النماذج العليا) في الشعر، من تأليف أستاذة اسمها «مود بودكين»، فقرأته (بعد ذلك بنحو عام أثناء دراستي للماجستير)، واكتشفت أن نظرية عالم النفس الأشهر «كارل جوستاف يونج» من وراء هذا الكتاب، وموجزها أن الإنسان يولد بوعي إنساني مشترك بأشياء معينة وبمعاني تلك الأشياء، ومنها النار والماء والهواء والدم وصور الثعبان والصحراء والبحر والدائرة والمثلث وما إلى ذلك؛ فهي فطرية، وهي قديمة، وهي نماذج أو صور أو رموز، يتفق عليها البشر مهما اختلفت لغاتهم وثقافاتهم. وقد طبقت الدراسة هذه النظرية على الشعر؛ تأكيدا لما زعمه يونج من وجود «وعي جماعي» بشري، ومستوى باطني لا يعيه الإنسان كل الوعي، يتضمن هذه النماذج الفطرية، يمكن وصفه «باللاوعي الجماعي»، وتخرج الباحثة من تطبيقاتها على الشعر بأن الشاعر الناجح هو الذي يستطيع إجراء المقابلات الناجحة بين هذه النماذج الفطرية وبين أحداث حياة الإنسان بدلالاتها «العارضة» المتغيرة غير ذات المعاني الفطرية!
Unknown page