هل مر عام؟ قيل ذاك ومثله كرت سنون!
أو مر حول من ربيع العمر أم هذي ظنون؟
دعني إذن أقضي الليالي في انتشاء وقصوف
فإذا أنا في حفلة فيها من المتع القطوف
فيها نديمي الراح والأقداح والحب العطوف
وإذا المزاهر دندنت وأنا وأصحابي نطوف!
كانت قصيدة طويلة، وكنت قد تجرأت على البحور فقمت بتغيير البحر فيما بين الفقرات، وغيرت القافية أيضا، وأحسست أنني كنت ثائرا لا يعرف بعد أن قام بالثورة أين الطريق! وكنت أفرج همي في تعلم العود، وعثرت على نوتة موسيقية لمقطوعة «حبي» لعبد الوهاب مكتوبة من سلم «دو ماجير»، وفيها نغمة «فا دييز»، ولكن النوتة تنبه إلى تحويلها إلى «ناتوريل» (أي عادية) في كل مرة! وذهبت إلى كمال عبد الرحمن وعزفتها على البيانو، فكانت رائعة، ولكنني عندما حاولتها على العود لم أفلح، ولم أعرف إلا بعد سنوات طويلة أن المقام ليس كما كتب في النوتة، وأن نغمة «مي» هي في الواقع نصف بيمول (أي تتضمن ربع النغمة أو ثلاثة أرباع النغمة) مما يجعله مقاما شرقيا!
وفي عطلة نصف العام ذهبت مع المدرسة في الرحلة السنوية التي كانت تنظمها الوزارة إلى الأقصر وأسوان، وكانت حلما آخر من أحلام تلك الأيام؛ إذ ركبنا القطار من «باب الحديد» في الساعة السابعة والنصف مساء، وتحرك في الثامنة، ووصلنا إلى الأقصر في الخامسة من صباح اليوم التالي بعد أن قضينا ليلة من التهريج والغناء والرقص لم أشهد لها مثيلا ولم أكن أتصور أنها يمكن أن تحدث، فأخرج الطلبة ما في جعبتهم من البذاءات، وتباروا في إلقاء النكات الفاحشة، وكان يغلبني النعاس أحيانا فأجد من يوقظني بعنف لكي أشترك في مسابقة أو مباراة لفظية. وعندما وصلنا قال لنا المدرس إن برنامج الصباح غير محدد، فانطلقت وحدي بعد أن وضعت الحقيبة في مبنى المخيم، وذهبت إلى أحد المقاهي لأتناول طعام الإفطار، فجاءني بائع تحف وتماثيل، وباعني تمثالا زعم أنه فرعوني بقرش ونصف، فاشتريته، وبعد الطعام اكتشفت سرقته!
وعندما عدت إلى المخيم، وهو مبنى ضخم، وجدت نصحي بقطر يعزف موسيقى «موكب النور» لعبد الوهاب على الأكورديون! كان عزفه رائعا والموسيقى شجية، وحديقة المخيم بديعة، وسرعان ما عاد الأولاد الذين لا يتعبون أبدا إلى تقديم الاسكتشات الضاحكة بقيادة عادل مجدي، ثم لعب الكرة حتى الظهيرة، وبعد الغداء بدأ برنامج الرحلة.
ما كان أبعدنا عن رشيد! وما كان أكثر اختلاف ما كنا فيه عن أقاصيص سالمة وزبقة وسمونة! ولكنني كنت أتطلع إلى النيل وأسأل متى تصل مياهه إلى المصب؟ هذه هي جنادل أسوان التي يسمونها الشلالات، وهذه هي صفحة النيل المنبسطة، وها هو الماء الذي يأتي على موعد، وعادت إلى وجداني أنغام السنباطي وقصيدة شوقي:
Unknown page