كان معظم الطلبة قد هجروا المعهد باستثناء الشيخ أحمد البحة طبعا، وشخص آخر اسمه نجاح كان مصدر تسلية دائمة، ومعينا لا ينضب من القصص والحكايات. كان يقف في الشباك ليغازل الفتيات، وكنت أرقبه دون أن تراني الفتاة، وكان يتكلم وهي تسمع دون استجابة، ولكن دون أن تغلق النافذة، وكان ذا أسلوب ساحر في الحديث، وكثيرا ما كان يقنع الفتاة بأن تغير ملبسها أو أسلوب تصفيف شعرها بينما تتظاهر هي بعدم الاكتراث، سمعته مرة يقول «الورد عايز يتسقي وإلا دبل! وإن كان يصوم يبقى ينظر للقلل! النظرة تكسي الوردة حمرة من خجل! واللي حب الورد ما يعوز العسل!» ولاحظت أن كلامه منظوم مقفى، فقلت له إن هذا الغزل سيفسد صيامه، فقال لي بثقة «قول دا رب الكون بيجزي ع العمل!» وكان الزملاء يضحكون منه ولا يعترضون، وقد اشتهر بإفلاسه الدائم، حتى إن لصا اقتحم عليه مسكنه ذات يوم، فأمسك به نجاح وأصر على عدم إخلاء سبيله حتى أخذ منه عشرة قروش كانت نصف ما يملك!
الغزل لا يفسد الصيام؟ إنه على الأقل ليس حراما! وحادثت الشيخ أحمد البحة في الموضوع، فقال لي: «سيبك منه! أصله ولد ضايع!» ولكن منظر الفتيات وهن يستمعن إلى الغزل دون أن تبدو على وجوههن آثار الغضب، ظل يتملكني بعد أن عدت إلى رشيد، وظللت أعجب لماذا لم يتلق نجاح الشتم أو التوبيخ، وذهبت للسيد بلال فقال لي ألا تعرف أن البنت تحب أن تسمع الغزل؟ وحدثني عن مغامراته في حي رأس التين بالإسكندرية، إذ كان للأسرة مسكن هناك، مؤكدا أن بنات بحري كلهن يحببن الغزل واللهو، وقص علي قصة أو قصتين ألهبتا خيالي، فعدت إلى الشعراء أقرأ، وجعلت أسأل نفسي عن شعر الغزل الذي يبدأ به الشعراء قصائدهم: هل هو صادق؟ وما أثر الصدق في الشعر؟ فأنا أعرف أن أعذب الشعر أكذبه!
ومع بداية العام الدراسي حدث ما لم يكن في الحسبان. كان المنزل الذي يقابل منزلنا تقريبا (واسمه منزل الصفواني) قد تحول إلى مدرسة ابتدائية (6-10 سنوات) وجاءت بعض المدرسات للعمل في المدرسة. لم يكن المنزل يقابل منزلنا تماما. فأمام منزلنا أرض فضاء كنا نسميها الخرابة، وإلى يمينها منزل «السحت»، وإلى يسارها هذه المدرسة. وكانت المدرسات يقمن في المدرسة، في الدور الرابع، المقابل للدور الأخير في منزلنا العتيق الذي كنت قد جعلته مرسما ومكتبة وصومعة شعر. أنا أعرف الآن أن كل ما كنت أكتبه لا يمثل قيمة أدبية (وقطعا لا يصلح للنشر)، ولكنه كان يستغرق مني وقتا طويلا في كتابته وتنسيقه! كانت المشكلة، كما أعرفها الآن، هي افتقاري إلى الأفكار! وكنت أعجب من أين يأتي الشعراء بأفكارهم وصورهم! بل إن الأوزان كانت كثيرا ما تختلط علي، فأبدأ القصيدة من بحر أخرج منه إلى بحر آخر، فألوم نفسي وأتهم أذني وأفقد الأمل، وأحسست أنني يجب أن أقلع عن هذه العادة وأن أجعل همي في الدراسة، مع أن كتب المدرسة لا تستهويني لأنني قد التحقت بشعبة العلوم؛ إذ لم يكن بالمدرسة غيرها، وبدأ الإحساس بالضياع.
كان وجود «المدرسات» وهن فتيات في مقتبل العمر يضنيني كأنما هو حمل ثقيل لا أقوى على حمله، وكنت أتمثل قول بشارة الخوري:
أيها الخافق المعذب يا قل
ب نزحت الدموع من مقلتيا
أفحتم علي إرسال دمعي
كلما لاح بارق في محيا؟
كان العذاب شديدا، ولم أكن أدري له سببا، وكان أحيانا ما يشتد ولا أجد مخرجا ولا تعزية لا في الرسم ولا في الشعر، فأسير وحدي ساعات طويلة ثم أعود كئيبا لا أقبل حديثا ولا قراءة. وأخيرا اهتديت إلى النقود التي ادخرتها لي والدتي فسحبت منها مبلغا شاركت به بعض الأصدقاء في شراء كرة قدم كبيرة (كفر) وصرت أقضي ساعات العصر كلها في اللعب فأعود منهكا وأنام.
لم أكن أعرف أن والدتي تدرك تماما ما أمر به، وأن رسوبي محتوم، بل إن المدرسين أنفسهم لم يعودوا يهتمون بي كسابق عهدهم، وكان صديقي أحمد قادوم يأتي أحيانا للاستذكار معي فيعجب من إهمالي، وأنا الذي أتمتع بسمعة لا مثيل لها في الجد والاجتهاد. وكانت والدتي تدبر سرا للانتقال إلى القاهرة لإلحاقي بالشعبة الأدبية، على أن يلتحق والدي بالعمل مع خالي في مكتب القاهرة للشركة، ويلتحق أخواي بنفس المدرسة، واختارت الأورمان النموذجية، وطلبت من خالي الدكتور محمد علي بدر الدين الذي كان قد عمل مديرا للقصر العيني بعد أن أصبح وكيلا لوزارة الصحة ونال رتبة البكوية، أن يتوسط لنا في هذا ففعل، بينما تمر أيام عام 1954م الأولى وأنا شارد اللب حزين لا أعرف لحزني سببا. وعندما دار الزمان وقرأت نقد كولريدج لمسرحية شكسبير «روميو وجوليت» فهمت تماما ما يعنيه كولريدج من أن حزن روميو هو حزن المحب الذي لا يعشق شخصا بعينه، بل يعشق الحب، وفي هذا ما فيه من حب النفس (حسبما يقول كولريدج)؛ مما يعمي البصر ويشل الفكر.
Unknown page