فنظرت في نظرة المتضرع، كأنها تؤمل أن تجد فرجا لكربها في رأيي، وقالت: كيف؟
فقلت: إنك يا سيدتي حاولت الانتحار لكي تهربي من مصيبة أو أزمة أو شقاء، وصرت تستصعبين أن تعودي لقومك وأهلك. - نعم، فقد اشتدت أزمتي بعد أن حلت أنت دون انتحاري. - لا أنكر ذلك، وأشعر باشتداد أزمتك. فأنت قد فارقت أهلك خلسة لكي تنتحري، فاعتبري أن الانتحار قد تم وأنك غرقت، ولم تعودي أنت فلانة بنت فلان، بل أنت شخص آخر. أنكري شخصيتك القديمة وانتحلي شخصية جديدة، كما فعلت صديقتي التي حملني جفاؤها على الانتحار.
فأمسكت عنان نفسها وكفت عن البكاء، وقالت كأنها ترعوي: لكن الذين يعرفونني إذا رأوني. - تقدرين أن تعيشي في جهة لا يعرفك فيها أحد. وتغيرين كل شيء في أزيائك. اجعلي النقاب كثيفا قليلا، شعرك فاتح فأكثري سواده أو اجعليه ذهبيا. على أنك لا تضطرين أن تفعلي شيئا من كل هذا إذا عشت بعيدة عن قومك.
وكانت تسمع الكلام مفكرة كأن الفكرة وجدت في ضميرها اقتناعا. ثم قالت: ولكن أهلي يظلون يبحثون عني؛ لأنهم لا يجدون لي جثة لكي يقتنعوا أني انتحرت.
فقلت: أوهو ... هذه مسألة بسيطة جدا جدا. ندعهم يعثرون عند الصخور على ملابسك وعلى السلسلة والحديد المثقل لبدنك. وإذا وجدوا الملابس ممزقة قالوا أن حوتا أخذ جثتها وأكلها وبقيت بقايا ملابسها.
فقالت على الفور: فكرة حسنة، ولكن ... وتوقفت عن الكلام، فاستأنفت أنا قائلا: إذن في منتصف الليل آخذ ملابسك وأمزقها بعض التمزيق، والسلسلة والحديد وأبعثرها كلها في البحر على بعد من تلك الصخور. من تاريخ الغد تصبحين في يقين ذويك ومعارفك فريسة الجنيات وروحك في الأبدية. وأما أنت كما أراك الآن فتصبحين شخصا جديدا باسم جديد وحياة جديدة. وتعودين إلى الحياة البشرية حرة تفعلين ما تشائين. فقد تجدين السعادة التي تنشدينها. لماذا تموتين مجانا بلا ثمن وليس من يحسب هذه التضحية لك؟
ففكرت هنية ثم قالت: ويحك يا هذا! إنك تقترح علي مشروعا هائلا يحتاج إلى عصب أقوى من أعصابي، بل إلى قلب أقوى من قلبي.
فبادرتها بالرد حالا قائلا: لا تنسي يا سيدتي أني وضعت نفسي تحت سلطانك بلا مكافأة ولا تمنين. فما يحتاجه مشروعك هذا من الأعمال الرجلية أسر بأن أعمله ولا أقبل أي ثمن له. فلك أن تختاري المنزل الذي تريدينه وأنا أقوم بجميع النفقات.
فصاحت: يستحيل. يستحيل. لا أسكن مع رجل ولا مع أحد قط. - حلمك يا سيدتي. لست أقول: إنك تسكنين معي أو مع غيري. تسكنين وحدك وتنفقين من يدك.
فقالت: شكرا لهذه العواطف، ولكني لا أدري لماذا تفعل هذه المكرمة مجانا؟ - لست أفعلها مجانا يا سيدتي. إن لذتي بمجرد فعلها وحده خير مكافأة لي.
Unknown page