فسكت الغازي هنيهة، ثم قال محاولا الملاطفة: ولكني أود أن تعلم أن اعترافك بكل شيء ينجيك من العقاب.
فضحك الجاني بالرغم من كابوس جنايته على نفسه، وقال: إن الإنسان يادولة الباشا يختار من الويلين أخفهما. إن قضاءك مهما كان عنيفا فهو أسهل عندي من هذا التحقيق الذي لا يجديك نفعا. لقد شهدت الجناية وها الجاني أمامك. والحمد لله أن القدر كتب لك حياة طويلة سعيدة، فتمتع بها، وعاقب غريمك العقوبة التي يستحقها، ولا تضيع وقتك فيما لا فائدة منه.
فاستغرب الغازي أمره كل الاستغراب، ولا سيما إذ جعل يملك روعه كلما تقدم في الكلام. وقال له: أين تقطن؟ - لست من أزمير. - أين بلدك؟ - لا أقول. - ما هو عملك؟ - لا أقول.
وفتشه الغازي تفتيشا دقيقا، فما وجد معه ورقا ولا أداة ولا شيئا يدل على هويته، سوى بعض نقود ورقية قليلة في جيبه. فسأله: هل لك أهل هنا؟ - لا أقول. - عجبا عنادك يا هذا! - ما أنا العنيد يا سيدي الباشا، بل أنت العنيد. إن معرفة أصلي وفصلي لا تفيدك شيئا، ولا هما ذوا علاقة بالجناية. - أود أن أعرف من هم شركاؤك في المكيدة، فأعفو عنك. - لا أطمع بالعفو. فثق أنه لا شريك لي فيها. أنا مستقل بها كل الاستقلال. - عجبا! تقول إن العقاب أهون ويلا عليك من الإقرار، كأن لك شركاء يتهددونك بالتعذيب إذا أقررت عنهم.
فضحك الجاني وقال: كلا. كلا ياسيدي، كلا. ليس لي شركاء ولا تعذيب شركاء أهون ويل علي، ولست هاربا من التعذيب ولا من القتل.
فتحير الغازي في أمر هذا الجاني الغريب وقال: هل لك من ثأر علي؟ قل فأنصفك. - كلا، كلا يا سيدي. ليس في نفسي شيء ضدك البتة، ولا أنا ممن احتكوا بك. - إذا لم يكن أحد قد حرضك، فلماذا قصدت أن تقتلني؟ - الحمد لله أنك سلمت يا مولاي وأنا فشلت. فماذا يهمك بعد؟ - هذا كلام فارغ. قذفت القنبلة علي لكي تهلكني، فإذا لم تفصح عن سبب تعمدك قتلي فلا بد أن يكون لك شركاء، فيجب أن تقول عنهم. - أقسم لك بأعز عزيز عندي أنه ليس لي شركاء ولا أنا عضو في جمعية سرية. - من هو أعز عزيز عندك؟ - هذا سر من أسراري يا سيدي. - إذن أنت عضو في مؤامرة. فإذا لم تقل كل ما تعرفه أعذبك تعذيبا. - لا بأس يا سيدي. التعذيب يبلغني إلى النتيجة التي أسعى إليها. - ما هي النتيجة التي تسعى إليها؟ - هي أن أموت. لم أستطع أن أنتحر فارتكبت هذا الوزر لكي يحكم علي بالموت. - عجبا! ألا تريد أن تموت ما لم تقتل شخصا آخر؟ إن هذا لجنون.
ثم استدعى الحارس وأمره أن يأخذ الجاني إلى السجن ويبقى فيه حتى يطلبه.
وأوفد مندوبا يمنع الجرائد أن تشير أقل إشارة إلى الحادث. وأبلغ الخبر تلغرافيا إلى عصمت باشا، وقال له: «إني أبشرك أن المؤامرة وجدت وأسباب الخلع والإلغاء تهيأت. ولا ينقصنا إلا كلاب لاستخراج الأسرار من دماغ هذا الجاني. فتعال جرب دهائك فيه.»
الفصل الثامن
رسالة من عالم الأرواح
Unknown page