فنظرت فيه متنهدة، ثم قال متلجلجة في الكلام: لله منك شريرا. ليتك تفرغ إحدى رصاصاتك في صدري الآن فكنت تنقذني من موقفي الحرج. ويحك! هل كنت تنوي أن تقتل أبي بمسدسك؟ - لو عصى أمري ليتمتك اليوم. ولولا وجودك هنا لنقص الأمراء أميرا الآن. - ويحك من سفاك! - وويح أبيك من بذيء! من يستطيع أن يحتمل قباحة لسانه غير فتى عاشق بنته. ما خطر لي أن يكون متغطرسا إلى هذا الحد. ما خطر لي أن يبلغ منه الغرور هذا المبلغ. لسوف أريه مقام الأمراء. - ويلاه. أما كان عندك علم أنه آت لزيارتك؟ - بل علمت وعينت له هذا الميعاد. - ولماذا لم تقل لي؟ - لم أشأ أن أقول لك؛ لأني خفت أن أجفلك أو أن تعودي على أعقابك، وأستغرب كيف أنك عرفت بزيارات الأمراء لي ولم تعرفي بموعد زيارة أبيك. - عرفت أن نامقا كان يقنع أبي أن يزورك. ولكن ما خطر لي أن تكون الزيارة عاجلة هكذا. وما جئت إليك إلا لأمهد طريق السلم لهذه الزيارة. فسبق السيف العذل. يالله من مشاكسة الأقدار! - أي نعم، إن هذه المشاكسة قطعت كل أمل بالصلح بيني وبين أبيك. - بربك يا أمل الدين ... - لا تستغيثي. لقد قضي الأمر ونفد الصبر. وسيرى هؤلاء الأمراء الذين ربوا على أن يعدوا الرعية كلها عبيدا لهم أن لفظ الإمارة سيرادف لفظ التشرد. ويحهم من نقمتي، ويلهم من غضبي!
فقالت نميقة: رحمة يا أمل الدين، لا توسع الخرق. - كيف لا أوسعه يا مجنونة بعد كل صبري واحتمالي وطول أناتي، وتأكيدي لأبيك أني لست كاتب الخطاب ولا مصطنع الصورة. خرج وهو لا يعتذر حتى ولا عدل اعتقاده، ولا قال كلمة تشم منها رائحة التصديق لكلامي. فكيف يمكن أن نتفق بعد؟ وهل تريدين عاشقا لا يتأثر من إهانة ولا يحس بتحقير؟ لا لا، لا أطيق. لا أحتمل. قطعت جهيزة قول كل خطيب. لقد أعلنت الحرب بيني وبين أبيك، فالويل للمغلوب!
فجزعت نميقة كل الجزع إذ رأت رجاء باشا أو أمل الدين يزداد هياجا، وقالت: ليتك أخبرت نامق بك حين كلمك عن إزماع أبي لزيارتك أنك أمل الدين رغبت الذي كان سكرتيرا، وأنك قد ترقيت، حتى لا يفاجأ أبي بأمر ليس في حسبانه. - كنت أظن أنه متى حضر إلى منزلي وشهد حالتي يكون ألين عريكة، فأصلح ذات البين بيني وبينه. فخاب ظني، وإذا به قد ازداد شكاسة وغطرسة وكبرياء وغرورا. - لعل له عذرا. - ربما كان الخطاب والصورة يوجدان له عذرا، فلو كنت أعلم من افتعل الخطاب واصطنع الصورة! - ماذا كنت تفعل به؟ - أهدر دمه هدرا. - إذن لك أن تفعل الآن وتخلصني من موقفي الحرج.
فحملق فيها رجاء باشا وقال: ويحك! ماذا تعنين؟ هل أنت ...؟ - نعم، أنا اصطنعت الصورة وافتعلت الخطاب وأرسلتهما إلى البرنس عثمان، عسى أن يعدل عن الزواج بي. وكدت أنجح، لولا أن أبوي كلفا نامق بك أن يصلح الأمر مع البرنس عثمان. وقد أصلحه. وهم يصرون الآن على كتابة كتاب الزواج في الأسبوع التالي. فهل تسلم بذلك؟ - لا تخرجي من هنا بعد الآن، في هذه الساعة أستدعي المأذون ليكتب كتاب زواجنا. - هذا يستحيل يا أمل الدين. إني أميرة، ولا أريد أن أتزوج إلا كأميرة. - وأنا يستحيل أن آخذك من بيت أبويك. إذا كنت تريدين زوجا بلا كرامة فابحثي عن غيري.
فقالت متنهدة: لا نعدم وسيلة لإصلاح الأمر بينك وبين أبي. - أقول لك: هذا مستحيل، ومستحيل. لقد صممت على الحرب، وسأضرب الأمراء كلهم ضربة قاضية. سترين. وسترين أن ما يقوله رجاء مفعول لا محالة. إن رجاء اليوم ليس أمل الدين من قبل. ما غيرت اسمي إلا لأني غيرت فعلي. سترين الأمراء يترامون لدي مسترحمين. - بربك يا أمل الدين. دبر أمري بلا هوان ولا فضيحة. - لقد دبرته. لا تخرجين من منزل رجاء باشا زعيم الأمراء. فهل تريدين شرفا أعظم من هذا؟ إذن سأريك عرش آل عثمان في قبضة يدي. - دعني من كل هذا التهويل إذا كنت لا تتفق معي ... - يستحيل يا نميقة. يستحيل. - ويستحيل أن آخذ البرنس عثمان. إذن آخذ من يأخذه الجميع بلا استثناء. وداعا يا أمل الدين.
فنهضت نميقة تريد الخروج. فأمسك رجاء باشا بيدها، وقال: لن تخرجي من هنا إلا وقد صرت زوجتي. - يستحيل. وداعا أبديا. - بالقوة أبقيك. - لا أريد. يستحيل. لا تستطيع. - إنك لعنيدة. بنت أمك. - إني لكذلك. وأنت أعند. دعني الآن، لقد آذن الوقت بالعودة إلى المنزل. - إذن نلتقي في أول فرصة. - هيهات!
وخرجت كالعصفور أفلت من قفص، وبقي رجاء يفكر في حوادث النهار.
الفصل السادس
عواطف وأفكار في عالم الخفيات والأسرار
هنا نرانا مضطرين أن نعود بالقارئ برهة قصيرة إلى أنقرة؛ تقريرا لحادث حدث شديد العلاقة بهذا التاريخ الخاص. وقد غير مجرى الحوادث تغييرا جوهريا.
Unknown page