ولقد فرح التميميون بذلك، وساروا عليه حتى بعد أن عادوا إلى الإسلام من جديد. •••
ومن ثم أن هؤلاء التائبين ليس لهم عقيدة جدية يدافعون عنها، فلا غرو إذا قهرهم رجل كأبي بكر وثيق الإيمان قوي الإرادة صلب العزيمة، لا يعرف هوادة - في إرغام أنوفهم - ولا رحمة!
ولو شاء أبو بكر أن يهادنهم لتنازل لهم عن قليل من مطالبه، فكسب بذلك مساعدة كثير من القبائل - أو ضمن حيادهم على الأقل - فقد وعدوه بالمواظبة على إقامة الصلاة المفروضة عليهم؛ على شريطة أن يعفيهم من إيتاء الزكاة، ونصحه أعيان المسلمين أن يقبل ذلك منهم، فرفض رأيهم بإباء شديد، وقال لهم:
35 «إن الإسلام قانون واحد لا يتجزأ، وليس لأحد أن يأخذ ببعضه ويرفض البعض الآخر».
وقد كان هذا الإصرار الحازم، وذلك الحقد الشديد على أهل الردة سببا في منحه قوة أكبر مما نتصور. •••
ولم يكد ينتهي من إخضاع القبائل المجاورة له حتى بدأ يهاجمه «طليحة» الذي كان بطلا من قبل، وقد جاء يدعي النبوة كغيره ثم يجبن عن دخول المعركة؛ فيرقب الحرب - وهو بعيد عن الميدان - مدثرا في عباءته كأنما يؤمل أن ينزل وحي من السماء، أو تحدث معجزة خارقة، وقد ترقب ذلك زمنا طويلا ثم وقعت المعجزة؛ إذ بدأت تنهزم قبيلته أشنع انهزام، وحينئذ صاح في جنده: «احتذوا حذوي إن استطعتم.» ثم امتطى جواده، وأطلق له العنان، وأمعن في فراره. •••
وكانت تلك المعركة التي اصطلاها المسلمون، معركة مروعة هائلة، وفي الحق أن الدماء التي أريقت في هذه الحرب كانت أكثر مما أريق في تلك الحروب الطاحنة التي نشبت فيما بعد بين المسلمين والفرس، ثم بين المسلمين، والإمبراطورية الرومانية، وقد اقترف العرب من الفظائع في هذه الحرب «حرب الردة» شنعا لم يعرفها الإسلام قط، فكانوا إذا انهزم العدو تعقبوه ونكلوا به؛ لأن الردة جزاؤها القتل، لا هوادة في ذلك ولا رحمة، وقد بعث أبو بكر إلى خالد يأمره بقوله: «عليك بإبادة الكفرة بالحديد والنار، ولا تأخذنك فيهم رحمة قط!» •••
ولقد انهزم أصحاب مسيلمة - وكان عددهم زهاء عشرة آلاف مقاتل - ومزقهم المسلمون شر ممزق، وغرقت بلاد العرب كلها في الدماء!
ولكن الإسلام قد خرج من تلك المعارك - الناشبة في كل مكان - مؤيدا منصورا، ودان به العرب بعد ذلك - طوعا أو كرها - فقد أقنعهم خذلانهم بوجوب الاعتراف بالدين الإسلامي؛ إن لم يكن اعتراف المستيقن المؤمن، فاعتراف الخائف الذي يعرف قوة هذا الدين العظيمة التي لا تجدي معها أية مقاومة. (13) بعد النصر
ولم يكد يتم انتصار أبي بكر حتى وجه هؤلاء البدو الظامئين إلى الدماء، إلي مهاجمة فارس والإمبراطورية الرومانية ، وهذا العمل عند من ينظر إلى ظواهر الأمور وحدها جرأة وتهور، ولكنه - على الحقيقة - رزانة وتعقل.
Unknown page