فلم يكن من مشاهير أهل هذا الزمان من يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقيدة، وأشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه، ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي - رحمه الله - المغرب، أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد - من سفك الدم واستئصال المال - إلى من وجد عنده شيء منها.
6
أ.ه. •••
نكتفي الآن بسرد تلك القطعة في هذه الإلمامة الموجزة، من غير أن نعلق عليها بشيء من عندنا، ففيها وحدها تتبينون صورة واضحة للحال الدينية في عصر من عصور الدولة.
شيء من الآثار الفعلية للعقيدة الدينية
ولا يفوتنا بعد كل ما ذكرناه أن نبين لحضراتكم أثرا فعليا واضحا من آثار تمكن العقيدة في نفوس أصحابها، متى وجدت محركا قادرا على تصريفها، واستفزاز العاطفة الدينية فيها، فإن إلقاء نظرة سريعة على قصيدة أبي إسحق الفقيه، ورؤية أثرها العظيم الذي أحدثته في نفوس الجمهور، ليكفي وحده في إثبات ذلك، وأنكم لترون فيها مبلغ التحمس الديني العظيم، وكيف أنها كانت السبب في القضاء على ما يربو على أربعة آلاف يهودي، ونهب أموالهم، وتدمير منازلهم، وكانت السبب في حدوث تلك المذبحة الهائلة في القرن الخامس الهجري سنة 459م.
وقد دعا صاحبها إلى قولها أن يوسف بن نغزلة اليهودي الوزير
7
وشى بأبي إسحق قائل هذه القصيدة؛ فأقصاه السلطان عن بلاده - قالوا - وكان ذلك الوزير قد تعرض لتسفيه بعض الآراء الدينية الإسلامية، وكان عظيم الخطر واسع النفوذ، فوجد أبو إسحق من ذلك حافزا إلى إنشاء تلك القصيدة البليغة التي سنتلو على حضراتكم أحسن ما فيها، والتي دفعه إلى قولها غيظه من عدوه - ذلك الوزير الخطير - فملأها تحريضا وأفعمها حججا وبراهين، أفلح في التأثير بها على العامة، وحملهم على إنفاذ رغباته، وما زال يتفنن في ضروب الاحتثاث والتهييج حتى اشتعل الجمهور الساذج حماسة، وهجم على ذلك الوزير فقتله في قصر السلطان نفسه. وليس من شك في أن أبا إسحق بذل كل مواهبه في الضرب على النغمة الدينية، وإظهار التفجع الشديد على ما انتاب الدين من التهاون به، وعرف كيف يوالي فيها اطراد الأدلة واتساقها، وتدفق المعاني وغزارتها مع دقة عجيبة في التعبير عن أغراضه وخوالجه بكلام فخم يتطاير حماسة ويتأجج نارا، وشعر صارخ:
خارج من قلب قائله
Unknown page