وإنه الخطر المحدق بي هو الذي جعل الجمع يحتشد ويكثر عندما يراني موثقا مغلولا أقفز من القنطرة إلى النهر، وخطر هذه اللعبة أيضا في أن هلاكي محتمل جدا إذا لم تتح لي فرصة النجاة منها، والعودة إلى سطح الماء ثانية وأنا حي.
وأذكر في ذات يوم من أيام الشتاء في بطرسبرج أنني آثرت في نفوس المتفرجين انزعاجا حقيقيا، وسببت لهم جلبا وصياحا ورعبا.
وذلك أنني أغللت وقيدت كما هي العادة، ثم ربطت إلى جذع بالحبال والسلاسل، وألقيت في فرجة كبيرة قطعوها من مياه النهر المتجمد في ذلك الحين لهذا الغرض، ولما أراد البوليس التدخل لم نمهله ريثما يمنعنا، بل أسرعت بإلقاء نفسي في الماء قبل أن يقوم بعمل أي شيء ليحول بيني وبين ذلك، وهنا بدأ الجزء المروع من هذا الفصل؛ فإني بعد أن حللت وثاقي - دون عناء - حاولت الصعود إلى سطح الماء؛ فوجدتني قد أخطأت تلك الفرجة التي ألقوني فيها، ورأيت أن سمك الثلج فوقي يبلغ سبع بوصات، وأيقنت حينئذ أني لا محالة هالك، ولكن إيماني بالنجاة من هذا المأزق طمأنني قليلا، ولم أشأ أن أستسلم للهلاك دون أن أبذل كل ما لدي من القوة في مقاومته، فقربت أنفي من الجليد - بقدر استطاعتي - لأتنسم الهواء، وذكرت أني قرأت عن رجل نجا من مثل هذا المأزق بأن واصل السباحة على شكل دائرة ضيقة تزيد اتساعها شيئا فشيئا في كل مرة عن الأخرى، ففعلت ذلك وانتهيت أخيرا إلى الفرجة التي ألقوني فيها، وظهرت على وجه الماء ثانية بعد أن مكثت تحته ثلاث دقائق.
وكان جسمي كالكتلة من الثلج، لشدة ما احتملته من البرد القارس، ولم أتمكن طبعا من إخفاء ضعفي على المسرح، ولكني لم أعبأ بذلك؛ فقد كنت في شغل عن ذلك بما رأيته من ابتهاج بسلامتي من ذلك الهلاك، وشكرت - كل الشكر - الله على ذلك.
ولا أنسى ما حدث في «ملبورن» بأستراليا؛ فقد كان أغرب وأعجب ما لاقيته في جميع أطوار حياتي، ولقد جاء ستون ألف شخص وراقبوني وأنا أغطس في الماء - في ذلك اليوم - موثقا إلى جذع شجرة، وشخصت إلي كل عين حين ألقيت نفسي في الماء، ولم يلبث الناس أن رأوا على سطح الماء جسما طافيا لا حراك به ولا حياة؛ فتبادر إلى أذهانهم أن ذلك هو جسمي، وقد أخبرني مساعدي بعد ذلك أن انزعاجهم كان شديدا، وأن الرعب والخوف قد وصلا بنفوس الحاضرين إلى حد لا يمكن وصفه. وقد أسرع إلى انتشال هذا الجسم سبعة قوارب، وعلا الصياح والجلبة والصخب، وإذا بي قد ظهرت بغتة على وجه الماء، وليس بيني وبين ذلك الجسم إلا بضع خطوات، ويا لهول ما رأيت! أؤكد للقارئ أن انزعاج الحاضرين حين رأوا ذلك الجسم الهامد الذي حسبوه جسمي هو انزعاج - على ما وصل إليه من الشدة - لا يمكن أن يقاس إلى انزعاجي واضطرابي اللذين وصلا إلى حد أن أفقداني صوابي فيه، ولم تمر علي لحظة، أو لحظتان حتى فقدت الحركة، وكان الحاضرون أيضا يصخبون ويصرخون كما يفعل المجانين، وأسرع إلي رجالي فجذبوني إلى السفينة، وأنا مهما عشت ومرت بي عجائب ومروعات فلن أنسى فداحة ذلك الخطب الذي حدث لي يومئذ.
ويسألني الكثيرون من أصدقائي عن أحب الألعاب والحيل التي آتيها، وأنا أجيبهم على ذلك السؤال بأن جميعها حبيب إلي بلا ريب وإلا لما أتيتها، ولكن لعل ما أفرده بأعظم الحب والشغف الشديد هو هروبي من السجون التي يعتقد الناس اعتقادا جازما أن الهرب منها محال.
وقد دعيت منذ بضع سنوات إلى الهروب من الحجرة نمرة 2 الخاصة بالمحكوم عليهم بالإعدام في سجن «فدرال» بواشنطون، وهي الغرفة التي سجن فيها قاتل الرئيس «جارفيلد»، وقد راهنني الضباط على الفرار منها، ولم أجد صعوبة في ذلك، فخرجت منها توا، ولكن عن لي أن أتفكه بإتيان بعض الطرف، فذهبت إلى بقية الغرف الأخرى، وتمكنت من فتحها، ووضعت كل سجين في غرفة الآخر.
وكنت مجردا من ملابسي حتى لا يتبادر إلى ذهن بعض المرتابين أنني أخفي معي بعض العدد والآلات لتساعدني على النجاة، فلما رآني السجناء على هذه الحال حسبوا أن الشيطان أو أحد أقربائه قد حضر إليهم، فارتعدت فرائصهم من الرعب ، ولبوا أمري على الفور، وكم سخرت بهم حين أتى السجانون لرؤية مسجونيهم، وتبادر إلى أذهانهم أنهم هربوا من السجن، ولم تهدأ ثائرتهم إلا بعد أن ذكرت لهم الحقيقة.
وتقابلت مع اسكتلندي في إنجلترا ذات يوم، وقد أفلح في الفوز علي بحيلة لم أفطن لها بعد، وهي تدل على ذكائه ومكره؛ فقد راهنني على أن أخرج من حجرة مغلقة، وحين وضعني فيها قال لي ساخرا: «لا أحسب أنك قادر على الخروج من هذه الغرفة في هذه المرة!» فأجبته أنا أيضا بابتسامة الهازئ الواثق من نفسه، وشرعت في فتح القفل دائبا نحو ساعتين دون أن أصل إلى أية نتيجة مجدية، ولا أحسب أنني في نهايتهما قاربت فتحه أكثر مما كنت عند وقت دخولي الغرفة مباشرة!
ولكني لم أيأس، بل واصلت العمل حتى غلبني الإعياء على أمري أخيرا، فاستندت إلى الباب لأستريح قليلا، وإذا بذلك الاسكتلندي الماكر قد وقف أمامي فجأة وقال إنه لم يغلق الباب بالمفتاح - كما هي العادة - لعلمه أن أول ما أسعى إليه هو محاولة فتح الباب، وقد أصاب الحقيقة، فإنني لو كنت عالجت الباب نفسه - دون أن أهتم بمعالجة القفل - لخرجت في طرفة عين. •••
Unknown page