صلى الله عليه وسلم : ألا ترى يا رسول الله إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد؟ فيقول له النبي: «أتأكل الرطب وأنت رمد؟!» فيقول صهيب وهو يمعن في الأكل: إنما آكله بشق عيني الذي لم يرمد؛ فيبتسم رسول الله ويضحك القوم.
ويمضي صهيب في أكل غير رفيق، حتى إذا أرضى حاجته إلى الطعام جعل يعاتب أبا بكر، فيقول: وعدتني الصحبة ثم تركتني. ثم يعاتب النبي فيقول: ووعدتني يا رسول الله الصحبة ثم تركتني، والله ما خلصت إليك حتى اشتريت نفسي من قريش بمالي أجمع، وما تركت مكة إلا بمد من دقيق عجنته بالأبواء وعشت عليه حتى انتهيت إليك. فيجيبه رسول الله: «ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع!» وينزل الله هذه الآية الكريمة:
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد ، وقد أوجز صهيب قصة هذا البيع الرابح.
وقد كان من أخلاق المسلمين الصادقين ألا يتكبروا ولا يمنوا بإسلامهم، وقد ثابت قريش بعض الشيء إلى نفسها بعد أن فاتها محمد وأبو بكر، وجعلت تتتبع من بقي من أصحاب محمد، تحبسهم عن الهجرة، وتمسكهم في العذاب، وتفتنهم في دينهم، وتصدهم عن سبيل الله، وكان صهيب من الذين حبستهم قريش، يقول له أبو جهل وقد ورم أنفه وذهب به الغيظ كل مذهب: أتيتنا صعلوكا حقيرا لا تملك من الدنيا شيئا، فأثريت عندنا وأصبحت ذا مال، ثم أنت تريد أن تفوتنا بمالك ونفسك إلى محمد وأصحابه؛ قال صهيب: فإن خليت بينكم وبين مالي أتخلون بيني وبين ما أريد من الهجرة؟ قالوا: نعم. وقال أبو جهل: هيهات! إن حاجتنا إلى مالك ليست أقل من حاجتنا إلى نفسك، فلنمسكنك في العذاب حتى نأخذ مالك، ثم نأتي على نفسك، أو تعود من ديننا إلى ما كنت عليه.
قال صهيب وفي صوته حزن مر: لو عاش عبد الله بن جدعان لما بلغت مني ما ترى.
قال أبو جهل: سنلحقك بعبد الله بن جدعان فاشكنا إليه إن شئت، ألستم تزعمون أن الناس يحيون حياة ثانية بعد حياتهم هذه الأولى؟! فالق عبد الله بن جدعان هناك إن شئت فاشكنا إليه.
قال صهيب: هيهات! لن ألقاه، قد وعدني رسول الله الجنة، وهو في النار.
قال أبو جهل، وقد استأثر به الغيظ فسطا على صهيب وضرب في وجهه ضربا عنيفا: ألا تسمعون يا معشر تيم؟! إن سيدكم عبد الله بن جدعان في النار، وإن عبده هذا الرومي سيصير إلى الجنة! ما رأيت كاليوم حمقا ولا خرقا.
ولبث صهيب في حبسه أياما لا يرزق من الطعام إلا ما يعصمه من الموت، ولكن الإسلام كان في ذلك الوقت قد فشا في أحرار مكة ورقيقها، فيحتال بعض أولئك وهؤلاء، وإذا صهيب قد انسل من محبسه، وركب راحلته، وأخذ طريقه إلى المدينة.
وعلمت قريش بأن صهيبا قد انسل من محبسه ، وبأنه يوشك أن يفوتها، فترسل في أثره الخيل، ويدرك القوم صهيبا، ولم يمض في طريقه إلا قليلا، فلما رآهم قد أقبلوا، وعلم أنهم يوشكون أن يأخذوه، وأن يردوه إلى الفتنة والعذاب، وقف لهم، ونثر ما في كنانته من السهام، وقال لهم في صوت الحازم المصمم: علمتم يا معشر قريش أني من أرماكم رجلا، وإنكم والله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل ما بين يدي من سهم، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه شيء في يدي، فاختاروا بين الموت وبين مالي أدلكم عليه، فتأخذونه وتخلون بيني وبين الطريق.
Unknown page