قال أبو جهل لسمية وقد بلغ منه الغيظ أقصاه: لتذكرن آلهتنا بخير ولتذكرن محمدا بسوء أو لتموتن، تعلمي أنك لن تري مساء هذا اليوم إلا أن تكفري بمحمد وربه.
قالت سمية بصوت هادئ متقطع قليلا: بؤسا لك ولآلهتك! وهل شيء أحب إلي من الموت الذي يريحني من النظر إلى وجهك هذا القبيح؟!
هنالك تضاحك عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأخرج الحنق أبا جهل عن طوره فجعل يضرب في بطن سمية برجله وهي تقول له في صوتها الهادئ المتقطع: بؤسا لك ولآلهتك! ويجن جنون أبي جهل، فيطعن سمية بحربة كانت في يده، فتشهق شهقة خفيفة ثم تكون أول شهيد في الإسلام.
يقول ياسر: قتلتها يا عدو الله؟! بؤسا لك ولآلهتك! ويقول عمار: قتلتها يا عدو الله! بؤسا لك ولآلهتك! ليمتلئ قلبك غيظا وحنقا! فإن رسول الله قد ضرب لها موعدا في الجنة.
قال ياسر: أشهد أن وعد الله حق.
ولكن أبا جهل لم يمهله، وإنما يضرب في بطنه برجله فيشهق ياسر شهقة، ثم يصبح ثاني شهيد في الإسلام.
قال عتبة وشيبة ابنا ربيعة: ألم تحكمنا إن لم تبلغ من ياسر وامرأته شيئا؟ فسكت أبو جهل، وقال الملأ من قريش: بلى! نحن على ذلك شهداء. قال عتبة: فينبغي أن تطلق هذا الرجل وأن تخلي بينه وبين الحرية ليواري أبويه.
وراح أبو جهل من يومه ذاك إلى أهله مغيظا محنقا منكسر النفس، لا يدري أغاظه أن أفلت منه هذان الشهيدان دون أن يبلغ منهما ما أحب، أم غاظه أن صبرهما وثباتهما وإقدامهما على الموت في غير جزع ولا هلع ولا اضطراب إنما هو انتصار لمحمد ودينه الجديد على قريش ودينها القديم، فأصحاب محمد يموتون في سبيله وفي سبيل دينه، وضعفاء قريش وأشرافها وأحلافها يسعون إلى محمد فيؤمنون له، يستخفي بذلك أكثرهم ويعلن ذلك أقلهم، ولكنهم يسعون إليه ويؤمنون له على كل حال، وهؤلاء المستضعفون وهؤلاء الرقيق الذين كانوا يؤمنون لأشراف قريش بالسيادة ويدينون لهم بالطاعة ويرهبونهم غائبين وشاهدين، قد أخذوا يتمردون عليهم ويثورون بهم وينكرون سيادتهم وسلطانهم، يبادونهم بذلك أحيانا، ويخفون ذلك عليهم أحيانا أخرى، فإذا أخذت منهم قريش هذا الحر أو ذاك الرقيق لم يهابا ولم يرهبا ولم يذعنا ولم يستكينا، وإنما استقبلا العذاب والفتنة وقلوبهما راضية، ونفوسهما مطمئنة، وعلى ثغريهما ابتسامات تحفظ وتملأ النفوس حنقا.
235
أغاظ أبا جهل هذا كله، أم غاظه أن محمدا يسمع ويرى ويعلم من أنباء الفتنة والعذاب ما تعلمه قريش كلها، فلا يهاب ولا يرهب ولا يترك شيئا مما هو فيه من نشر دينه الجديد والدعوة إليه، ثم هو لا يكتفي بذلك وإنما يخرج مع بعض أصحابه فيواسي من يعذبون من أتباعه بما يقول له من هذا الكلام الذي يلتهمونه التهاما، والذي يزيدهم على الفتنة والمحنة صبرا وتثبيتا، وأي سخر من قريش أشد من هذا السخر؟! وأي استفزاز لقريش أشد من هذا الاستفزاز؟! وأي ازدراء لسلطانها أشد من هذا الازدراء؟! وأي استهزاء بالملأ
Unknown page