وأقبل مقبل فزعم أن حائطا سقط على عمار فمات، فقال النبي : لم يمت عمار. ثم لقي عمارا، فقال له: «ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.» وملأت هذه الكلمة قلب عمار يقينا وثقة وحرصا على أن يعمل صالحا ما وسعه العمل، وعلى أن يجتنب الفتنة ما وسعه اجتنابها، وكان يطيل الصمت ولا يتكلم إلا حين لا يكون من الكلام بد، وكان كثيرا ما يقطع صمته بهذه الكلمات: عائذ بالله من فتنة! ثم يعود إلى صمته العميق.
وأقبل خالد بن الوليد ذات يوم بعد أن أسلم، فكان بينه وبين عمار شيء من خصومة، فأغلظ خالد لعمار في القول - وكأنه ذكر سمية التي كانت أمة لعمه أبي حذيفة، وياسر الذي كان حليفا لعمه أبي حذيفة، وكأنه ذكر عمارا بأنه عتيق عمه أبي حذيفة، وكانت في خالد بقية من كبرياء مخزوم، وكان فيه فضل من صلف
260
قريش - فجاء عمار إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
يشكو خالدا، وأقبل خالد أثناء ذلك فجعل يقول لعمار وعمار ساكت والنبي مطرق، ثم رفع النبي رأسه وقال في صوته الوادع العذب الذي ينفذ إلى القلوب: «من عادى عمارا فقد عاداني.» فخرج عمار كأرضى ما يخرج الناس، وخرج خالد مهموما مغتما كئيب النفس، فلم يسترح حتى أرضى عمارا، ووثق بأنه عفا له عما أسلف إليه من سوء.
21
عادت العرب إلى كفرها بعد وفاة النبي، وجد أبو بكر وجد معه الأنصار والمهاجرون في ردهم إلى الإسلام طائعين أو كارهين، وخرج خالد بن الوليد بجيش أبي بكر إلى اليمامة يقاتل مسيلمة، ويرد بني حنيفة إلى الإسلام. والتقى المسلمون وأهل الردة، فكانت بينهم موقعة من أشد ما عرف المسلمون من المواقع، وكان في الجيش أربعة نفر كلهم شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله: عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وابنه قديما ومولاه حديثا سالم بن سالم، وأخو امرأته عبد الله بن سهيل بن عمرو. وقد انكشف المسلمون وكادت الدائرة تدور عليهم، ولكن الناس يرون هؤلاء النفر قد ثبتوا في أماكنهم لا يريمون. فأما سالم فجعل يصيح بالناس: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله! ثم احتفر حفرة فأثبت فيها قدميه، وصنع أبو حذيفة وعبد الله بن سهيل صنيعه فاستشهدوا جميعا في أماكنهم.
وأما عمار فقد رآه الناس قائما على صخرة وقد قطعت أذنه فهي تتذبذب، وهو يصيح بالمسلمين: إلي أيها المسلمون أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟! وما زال بهم يدعوهم وقد ثبت على صخرته لا يزول حتى ثاب إليه المسلمون، وأنزل الله عليهم نصره.
ويبلغ أبا بكر موت سالم، فيدفع تراثه إلى صاحبة ولائه ثبيتة، فترده وتقول: سيبته لله عز وجل. فإذا ولي عمر الخلافة دفع تراث سالم مرة أخرى إلى ثبيتة صاحبة ولائه، فترده وتقول: سيبته لله عز وجل. ويضعه عمر في بيت المال.
Unknown page