ولم يمض وقت طويل حتى صارت الملكة تعتمد عليه في كل المسائل وتعمل برأيه في حل المشاكل حتى لما توفاه الله قالت: إنني سأشرع الآن في حكمي من جديد. قال المستر غرافل سكرتير المجلس الخاص: إن اللقب كان للملكة، وأما إدارة شئون المملكة فكانت بيد زوجها. وقال دزرائيلي لسفير سكسونيا لما توفي البرنس ألبرت: «قد دفنا الآن ملكنا، فإن هذا الأمير الألماني حكم إنكلترا إحدى وعشرين سنة، وكان في حكمه أحكم من كل ملك من ملوكنا، ولقد كان وزيرا للملكة كل مدة حياته معها، ولو بقي حيا إلى بعد وفاة فريق من وزرائنا المحنكين لنلنا به فوائد الحكومة المستقلة المضمونة بكل الضمانات الدستورية، أما نحن الأحداث الذي يحق لنا الانتظام في مجلس الوزراء فكل واحد منا يعترف للبرنس ألبرت بالفضل والتقدم، ولا نعلم ما يأتي به الغد، ونحن من اليوم سائرون في ليل بهيم يحيط بنا الظلام من كل ناحية.» وقال المسيو دورين ده ليس السياسي الفرنسوي: «إن الحكومة الإنكليزية لم تقلد البرنس ألبرت منصبا سياسيا، ولكنه ساس بفضائله الشخصية والعمومية، بمحبته لكل ما هو صالح بفعله السامي ومعارفه الواسعة، وفضائله الشخصية رفعت له عرشا لا ينازعه فيه أحد، عرشا في مملكة العلم والصناعة لا تصل إليه اضطرابات السياسة.» وقال غيره من مشاهير الكتاب: إن البرنس ألبرت كان يعرف أحوال البلاد والزمان، فترك مشاغل الأحزاب السياسية للذين يسرون بها، ووقف نفسه على ما هو أسمى منها على المطالب العلمية والمنافع العمومية؛ حيث لا ينازعه أحد في سلطته، فخسر عرشا ماديا ليقيم لنفسه عرشا عقليا أدبيا. وسنأتي على طرف من أعماله فيما يلي من الفصول عن سيرة الملكة وأحوال البلاد في أيامها.
الفصل الثامن
حياة الملكة العائلية
كانت الملكة فكتوريا تكتب كل ما يجري لها يوما بعد يوم حسب العادة الجارية عند كثيرين من الأوروبيين، ولم تكن تقتصر على سرد الحوادث مجردة بل كانت تعقب عليها بما يبدو لها من الآراء، وكانت تطالع الجرائد وتقرأ فيها الخطب والمناظرات التي تتلى في مجلس النواب والأعيان وتكتب خلاصتها، واقتطفت من ذلك كتابا نشرته سنة 1868 وضمنته كثيرا من حوادث حياتها بين سنة 1848 وسنة 1861، ثم أتبعته بكتاب آخر سنة 1883 نهجت فيه منهج الأول وجعلته تتمة له. وألف السر ثيودور مارتن كتابا كبيرا بإرشادها في ترجمة زوجها البرنس ألبرت وهو في خمسة مجلدات، وكانت النساء المنتظمات في خدمتها يكتبن في يومياتهن ما يرينه ويسمعنه منها وما يشاهدنه في قصورها، وكثيرا ما كن يصفن ذلك فيما يكتبن به إلى أهلهن، وعليه فالمواد كثيرة لوصف حياتها كامرأة وزوجة ووالدة، وكثيرة أيضا لوصفها كملكة مما هو مشاهد من الارتقاء العظيم في ممالكها، ومما كتبه كبار المؤرخين عن ملكها، وهي في كل حال من هذه الأحوال قد بلغت غاية ما يطلب من نوع الإنسان من الكمال.
والحياة سهول وحزون وصفاء وكدر، والحكيم من لم تأخذه هزة الطرب إذا صفت له ولا أبطرته النعمة إذا جاءته، ومن يتحمل الأكدار بالصبر الجميل ويتعظ بها ويتعلم منها الإشفاق على المبتلين، ولقد أحسن من قال:
ألا إنما الدنيا كظل غمامة
إذا ما رجاها المستظل اضمحلت
فلا تك مفراحا إذا هي أقبلت
ولا تك محزانا إذا هي ولت
وما الملوك بمعزل عما ينال أبناء نوعهم من ضروب السراء والضراء، وما هم بالنسبة إليها إلا على ما فيهم من الأمزجة وما أدبوا به من مهذبات الأخلاق ومثقفات العقول.
Unknown page