وقد اتبع «الإسكندر» السياسة نفسها في فتوحه لأرض الرافدين، حيث كانت حروبه مكرسة في المقام الأول لنظام «داريوس» الفارسي، ونجح مرة أخرى في الوصول إلى اتفاق مع الكهان، إذ ألبسوه على شاطئ الفرات تاج الإمبراطورية ذا القرنين، تاج شرعية الملك والخير والخصب والبركة، ورمز الألوهية والحكم بحق السماء، وذلك التاج لم تزل اللوحات تصوره فوق رأس الإله «حداد»، أو «أدد»، والبروق والصواعق تنبعث من قرونه.
99
وبالمقارنة يمكن ملاحظة أوجه شبه كثيرة بين واقع الحقيقة التاريخية عن «الإسكندر المقدوني»، وبين ما ورد في كتبنا التراثية، وبين ما نعلمه عن ميثولوجيا المنطقة وتراثها القديم، فالإسكندر تاريخيا هو باني الإسكندرية، لكنه مع الوقت تحول في كتاب «إكمال الدين» إلى رجل من أهل الإسكندرية يقال له «إسكندر»، وخلط نتيجة ذلك بين كونه مصريا أو يونانيا. أما «الرازي» ومن ضرب في دربه، فكانوا أكثر الرواة قربا من الواقع، عندما أكدوا أن «ذا القرنين» هو باني الإسكندرية، وأن اسمه «إسكندر ابن قليقوس، أو فليقوس، أو فيليش كما عند النيسابوري».
ومسألة تلقيبه بذي القرنين لأنه أمسك بقرني الشمس، فتذكرنا بالشمس المصرية ذات القرنين، وما سجلته كتب الأخبار عن كونه حمل اسم «هرمز»، فلعلنا لم ننس بعد أن «هرمز» كان إله الخير في الديانة الزرادشتية، وأنه كان يلبس تاجا ذا قرنين، ومسألة تسخير السحاب له يحمله حيث شاء، فلا شك أنها تستدعي فورا آلهة الخصب «حداد» و«بعل» و«أدونيس» راكبي الغيوم أو السحب، والإشارة التراثية إلى أن أبا ذي القرنين كان ملاكا وأمه آدمية، تذكرنا بالقصة التي نسجها كهان مصر، ليتيسر للإسكندر مشروعية حكمها، والتي تقول: إن الإله «آمون» قد خالط أمه «أوليمباس» وأنجب منها «إسكندر»، الذي كان في الحقيقة ابن «آمون» وليس ابن «فيليب»، وربما كان ذلك بدوره عاملا أكد مصريته.
وبالمطابقة نجد لبس «الإسكندر» لتاج الملوكية الشرقي «ذي القرنين »، واحدا من التعليلات التراثية للقبه، وهو ما حدث في الواقع التاريخي، كما نجد لما جاء في الرواية التراثية عن حج «ذي القرنين» ماشيا إلى الكعبة المكية، حيث تلقاه «إبراهيم عليه السلام»، صدى في حج «الإسكندر» إلى كعبة «آمون» حيث تلقاه كبير الكهنة، والفارق الزمني بين عهد النبي «إبراهيم» وعهد «الإسكندر»، يضع الرواية التراثية موضع الروايات التلفيقية، والإسرائيليات فيها أوضح من الحاجة لبيان، فما أرجع زمان «ذي القرنين» أو «الإسكندر» إلى زمن النبي «إبراهيم»، إلا ليحكم في بئر سبع، في الرواية التوراتية المشهورة عن خلاف إبراهيم (عليه السلام) مع «أبيمالك» الفلسطيني، وكيف انتهى الأمر إلى تمكين «إبراهيم» وذريته من بئر سبع. وهو الأمر الذي يضعه الصهاينة ضمن حيثياتهم لامتلاك أرض فلسطين. وجاء إخباريونا عافاهم الله ليرجعوا بذي القرنين إلى عهد «إبراهيم عليه السلام» ليحكم للنسل العبراني بالحق في الأرض الفلسطينية.
ومن جهة أخرى نجد للأصل التاريخي أثره في الرواية التراثية، فكما ذهب «الإسكندر» إلى ما كان يعتقده المصريون مغربا للشمس، ذهب «ذو القرنين» في الرواية التراثية إلى مغرب الشمس، حيث وجدها تغرب في عين حمئة، وهو اعتقاد المصري القديم نفسه، بل إن المصورات الباقية لمركب الشمس هابطا نحو المغرب، يكاد يشبه الرواية التراثية في أن الشمس تجرها الملائكة كالمركب نحو المغرب.
ومسألة القرون أو تاج آلهة الصواعق الزراعية، قد تخلفت بدورها في الرواية التراثية، حيث قالت: إنه كان يزأر كالأسد المغضب، فتنبعث من قرنيه رعود وبروق وصواعق، ولا ننسى أن لقب الإله حين يرسل رعوده هو «رمان» أي يزأر. كذلك مسألة عين الحياة لها في الواقع جذور، حيث وصل «الإسكندر» إلى بحيرة «آمون»، بل إن مسألة الثلاثمائة وستين عينا التي طلب «ذو القرنين» من أصحابه غسل أسماكهم فيها، ليست سوى صدى للتقسيم المصري القديم لأيام السنة إلى ثلاثمائة وستين يوما، إضافة إلى خمسة أيام للنسيء سميت بأسماء أعضاء أسرة «أوزير» رب الخلود.
ومن جهة أخرى يمكننا أن نجد صدى آخر لطلب الخلود في الملحمة الرافدية «جلجامش» الذي ذهب يسعى طلبا للخلود ، ممثلا في نبتة تنمو في بلاد غريبة، سافر إليها أصقاعا وزمانا إلى أن وصل إليها، لكن «الحية» سرقت منه النبتة في بركة نزلها ليستحم، وهو ما يكاد يطابقه ما جاء عن نزول «الخضر» إلى البركة وهروب السمكة منه، لكن الذي خسر الخلود هو ذو القرنين. بينما شرب «الخضر» من ماء الخلود، فكان هو صاحب العين؛ لذلك هو حي غائب. وقد أفصحت ملحمة «جلجامش» عن اعتقاد رافدي استمر زمنا طويلا سجلته عقائده، وهو أن الآلهة احتفظت بالخلود وحرمت منه الإنسان، والحية سارقة النبتة الخالدة هي كما علمنا رمز الأنثى «حية، حواء، حيا المرأة أو فرجها مفرز المواليد ورمز النبات»، والنبات في الملحمة رمز الخلود، والنبات يموت ويحيا في دورة دائمة أبدا كل عام، أما الإنسان، إن مات فلا عودة، فقط آلهة الخضرة هي التي تمتلك ذلك الاقتدار، وهو ما أورد التراث صداه ممثلا في الشخصية التراثية المسماة بالخضر وارتباط اسمه بالخضرة، وكان إذا جلس على اليبس اخضر، وإذا جلس على صوف الخروف ذي القرنين تحول إلى خضرة زاهية،
100
كما أوردت كتبنا التراثية!
Unknown page