الإهداء
مطالعات حرة في كتابات غير مصادرة
تأسيس
قراءة سريعة في موضوع الإله النقيض
زهرة للحب، زهرة للحرب
أضحية للذكر، قربان للأنثى ومدخل إلى جذور الدين الاجتماعية
القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث
نماذج من الأساطير التوراتية ومدخل إلى فهم دورها التاريخي
الملوك الأربعة
النسخ في الوحي
قائمة مصادر استشهادات البحث
الإهداء
مطالعات حرة في كتابات غير مصادرة
تأسيس
قراءة سريعة في موضوع الإله النقيض
زهرة للحب، زهرة للحرب
أضحية للذكر، قربان للأنثى ومدخل إلى جذور الدين الاجتماعية
القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث
نماذج من الأساطير التوراتية ومدخل إلى فهم دورها التاريخي
الملوك الأربعة
النسخ في الوحي
قائمة مصادر استشهادات البحث
الأسطورة والتراث
الأسطورة والتراث
تأليف
سيد القمني
الإهداء
لأنهم لم يضجروا يوما ولم يتأففوا مرة ولم يشكوا أبدا، رغم أني أخذت حقهم في وقتي وأعطيته لمطالعاتي وأبحاثي؛ ولأني اقتطعت من قوتهم ومتعهم البسيطة لأستكمل مصادري وأوراقي؛ لأنهم آمنوا أن قبضهم على الجمر هو إسهامهم من أجل الحلم الآتي؛ لهذا فهم وحدهم الأحق بكل ما أنجزت داخل غرفتي الصغيرة المغلقة، عندما كانوا يتحركون على أناملهم ويتحدثون همسا ويتشففون لقائي إبان خروجي النادر والمنهك إليهم ... فلهم أنا وما كتبت وما بقي من عمري حبا وكرامة.
إلى محمود وإيزيس وسلوى ونفرتي فلذات كبدي
مطالعات حرة في كتابات غير مصادرة
يؤذن في مالطة
وبخصوص المهمة الأساسية لوزارة الأوقاف ... هل الإيمان متعلق بفخامة البناء؟ وهل هو متوقف على كون الرخام مستوردا من إيطاليا، في بلد يشكو من قلة المساكن، بل يعيش أزمة سكنية؟ ليس من العدل والرحمة أن ينشط بناء الجوامع والكنائس الفخمة في حين يعيش أبناء الله في مساكن ضيقة غير صحية وغالية الإيجار، بما لا يتناسب مع دخولهم، فالمؤمن يستطيع أن يصلي أينما شاء، هذا إذا غضضنا النظر عن كون المساجد والجوامع الموجودة كافية.
بوعلي ياسين
يعرف مقام الكلام
وأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي
ولا أنثر الدر الثمين على الغنم
فمن منح الجهال علما أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
الإمام الشافعي
يغامر
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
المتنبي
يتزندق
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل
وترزق مجنونا وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ
رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
أبو العلاء المعري
يلقي بيديه إلى التهلكة
لما جهلت من الطبيعة أمرها
وأقمت نفسك في مقام معلل
أثبت ربا تبتغي حلا به
للمشكلات، فكان أكبر مشكل
الزهاوي
يقرر فقط
إن أول خطأ عام يجب الانتباه إليه والتخلص منه هو القول إن الجنس البشري يتألف من كتلة عظيمة من المتدينين، وقلة من الملحدين الشاذين غريبي الأطوار ... وإن مسألة كون المؤمن أكثر سعادة من الشاك، ليست أصدق من حقيقة كون السكران أكثر سعادة من الصاحي.
برناردشو
يصرح فقط
كيف تقوم للنظام قائمة في دولة بلا دين؟
نابليون
يفسر الحكمة «هذا من فعل الله» ليس تفسيرا لظاهرة ما، إنما هو اعتراف بأنه ليس لدينا تفسير لهذه الظاهرة، وأحيانا يؤدي هذا الموقف - وهذا هو الأخطر - إلى عدم بذل الجهد العلمي المطلوب لمحاولة إيجاد تفسير معقول.
وضاح نصر
يلحد
قال تعالى في وصف الجنة:
وأنهار من لبن لم يتغير طعمه (محمد: 15) ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع، وذكر العسل، ولا يطلب صرفا، والزنجبيل، وليس من لذيذ إلا شربه، والسندس يفترش ولا يلبس، وكذلك الإستبرق وهو الغليظ من الديباج، ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل، صار كعروس الأكراد والنبط.
ابن الراوندي
يعقب على الملحد
نسطر افتخارنا وإعجابنا بهذه المدنية الإسلامية السمحة، التي كانت تأذن لأمثال صاحبنا ابن الراوندي بهذا الاجتراء على عقائدها، وبهذا التهجم والتنقص من تفكيرها ودينها، وهي ساكنة هادئة تؤلف الكتب ردا عليه، ودحضا لما انهال به عليها من حامي اللطمات، وإن تاريخ المدنيات القديمة لا يروي لنا سيرة أي جريء متهور بلغ به تهوره إلى الحد الذي بلغ بصاحبنا.
سليم خياطة
يحزن على لافوازيه ولا يحزن على الجماهير
أما لافوازيه الشهير أبو علم الكيمياء على مر العصور، وأحد الأركان الرئيسية في الحضارة البشرية، فقد سقط رأسه أيضا تحت المقصلة؛ لأن الجمهورية ليست في حاجة إلى علماء، كما قال أحد النباحين المتملقين إلى الجمهور الغبي، ردا على من استكبر قتل عالم عبقري من هذا الوزن، واستفظع الجريمة الهائلة، ترتكب بحق الحضارة الإنسانية، وقد أبى الجمهور المناضل إلا أن يرى رأس لافوازيه مرفوعا بيد الجلاد؛ ليطمئن خاطره إلى أن الجهل قد زال، والعلم قد ساد، والعدالة قد فاضت وباضت، وفي حساب الحضارة، لا تساوي كل جماهير العالم العريضة شعرة واحدة في رأس هذا العبقري.
جورج جرداق
يرد على نفسه
ليس من حق أحد أن يقف أمام الملأ ويقول: أنا الإسلام. ليس من حق أحد أن يتحصن بكتاب الله ثم يعلن علينا من ورائه أن من نصره وأيده فقد دخل في زمرة المؤمنين الصالحين، ومن خذله وعارضه فقد خرج على كتاب الله وصار من أعداء الله المارقين ... لكنهم في زماننا يقولون غير ذلك ... فتنقلب موازين العراك وأسلحته، ويتحول الأمر من قبول أو رفض للاجتهاد السياسي؛ ليصبح إيمانا بالله أو كفرا به، ودعما للإسلام أو طعنا فيه.
فهمي هويدي
يفضح المستور
عباد الله: امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص (وذكر أسماء أخرى) ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم، إنهم ما رفعوا المصاحف لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة.
علي بن أبي طالب
يقرر أول حقوق الإنسان
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . (المائدة: 48)
تأسيس
لا شك أن عوامل متعددة تقف من وراء التمسك العنصري بالجنس والدين والجذور القومية، ذلك التمسك الذي يتمثل في حنين حاد للماضي، جاء كرد فعل طبيعي إزاء فترة طويلة من الاحتلال الأجنبي، مع ما أنبأت به مرحلة ما بعد التحرر الوطني من فشل مشاريع التحديث، وإقامة مجتمعات عصرية، وما لازمها من فشل آخر منيت به التوجهات العلمانية في إيجاد مرتكزات جماهيرية لها، وهو بدوره ناتج عن أسباب ليس هنا مقام مناقشتها، أما العامل الأساسي في ذلك التوجه الكاسح نحو الماضي، فهو وجود الدولة الصهيونية على التراب الوطني، وما يشكله هذا الوجود من خطر وتهديد مستمرين، وجرح غائر نازف دوما في الكرامة الوطنية والقومية، ولا نزاع في أن قيام الدولة الصهيونية على أسس عنصرية جنسية قومية تتمثل جميعا في الدين، كان دافعا للتوجهات نفسها في بلادنا، خاصة مع مقارنة أحوالنا بأحوال الدول المتقدمة؛ ومن ثم نزعت الجماهير - وفق خطط وبرامج معدة سلفا - للعنصرية القومية والجنسية التي تم تشخيصها جميعا في الإسلام، ليصبح دين الإسلام هو الوطن وهو الجنس، الذي يجمع كل المسلمين على اختلاف أوطانهم وأجناسهم، من باب توسعة حجم المجابهة البشرية مع إسرائيل، وربما مع العالم المتقدم، بتحالف كل المسلمين - على اختلاف مصالحهم الوطنية ومصالح فئاتهم الاقتصادية - مع الله ليصبحوا كما كانوا قديما شعبه المميز، وخير أمة أخرجت للناس في مقابل شعب الله المختار وبني إسرائيل الذين فضلهم على العالمين، ولتمرير المخططات الاستراتيجية للتحالف الإمبريالي عبر توحد مزعوم في مؤتمرات ومجالس، تؤدي في نهاية المطاف إلى مزيد من قمع الجماهير وترد للأنظمة، بحيث ننتهي إلى مقلب نفايات الأمم الغوابر.
وبهذا المنطق السائد يتم إغلاق الدائرة، وتصبح خصوصيتنا العرقية الجنسية القومية أدلوجة دينية، تجد تنظيراتها في مكتباتنا المزدحمة بما يطلق عليه ذلك الاصطلاح المجازي «التراث الإسلامي». بينما تصبح أي محاولة مخالفة، هي ابتعاد عن الاعتصام بحبل الله، وابتعاد عن صالح سلفنا وتنظيراته، وسقوط في مزيد من الانحطاط.
ومع الإحساس - المتنامي دوما - بالدونية والتقزم واليأس المطبق عن اللحاق بعالم اليوم، تنعكس المشاعر لتحول الدونية إلى الطرف المقابل؛ لإيجاد نوع من التوازن النفسي، فتتضخم الذات، والثقافة القومية، والأصل، والماضي، حتى نصل بها إلى أقص الطرف الآخر، بنرجسية واضحة، بل وفصامية، فنستخدم أحدث المنتجات العلمية الغربية، ثم نبرر لأنفسنا الوجه الآخر من الفصام العاجز، بالأزمة الروحية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها العالم المتقدم بشقيه، والتي لا بد أن ترجع أسبابها - وفق هذا المنطق المريض - لأخذ الغرب بالعلم البشري وحده، مع التشكيك الملح في قيمة ما أنتجه العقل البشري، وفي إمكانات هذا العقل.
ولا يبقى - مع التكاسل عن بذل الجهد، ومع اليأس - سوى الخلاص اليسير والسهل، بالتوجه نحو الماضي التليد؛ نرأب فيه صدعنا النفسي، دون حلول حقيقية على المستوى الواقعي، وإبان ذلك نخرج الشحنات مريضة وعشوائية، في تطرف هنا، وقمع من هناك، والغريب أنه لا يخفى أن كلا من التطرف والقمع يلقي دعما عجيبا، ماديا ومعنويا، يصل إلى درجة التحالف المباشر، أما الأعجب فهو أن الدعم لكليهما يأتي جميعه من مصب واحد، وإن اختلفت روافده!
ومع التخبط لحظة السقوط تبرز عدة شعارات تترجم توجهات أصحابها، تتواتر وتتزايد وتزايد، ما بين شعار الاستقرار الوطني، وبين مجموعة شعارات تجمعها حزمة واحدة، من قبيل العودة للتراث، العودة للجذور، العودة للأصول، لكن الواضح الغالب أن تلك العودة كانت غالبا للحصول على بعض من فيض البترودولار، وللعثور على لحية ومسبحة وجلباب قصير مع مناوشات عشوائية مع أصحاب شعار الاستقرار؛ وهي مناوشات في النهاية لا تغني ولا تشبع إلا أصحاب السيادة والسلطان، مع مزيد من تبرير توجهاتهم القمعية التي لا تنال في الحقيقة وفي الهدف سوى القوى الوطنية الحقيقية.
ولا نرتاب لحظة في شكنا في نوايا التوجهات الإعلامية الرسمية، وسعيها الدءوب لوضع الدين على قمة الهرم الفكري لمنتج الأمة الثقافي، الذي كونته خلال تاريخها الطويل، بحيث يظهر الدين وحده، والإسلام تحديدا، كما لو كان هو تراث أمة العرب ومنتجها الفكري الوحيد، وأدلوجتها عند التطبيق، وكل ما في الأمر هو انتظار تحقيق مناخ مناسب لتحويله من نظر إلى عمل، ومن قوة إلى فعل.
وتتم معالجة الدين بحيث يبدو دوما كسلسلة من الإحداثيات الإعجازية التي لا ترتبط بالواقع بحال، بحيث تبدو الأجهزة الإعلامية كما لو كانت المعبر الصادق عن ضمير الجماهير التي تم النفخ في نيران عنصريتها سلفا، ومن جهة أخرى يستوعب ذلك الإعلام الموجه تلك التوجهات، ويوظفها بعيدا عن أية علاقة بالواقع الراهن، ولا حتى الماضي، بغض النظر عما يمكن أن يؤدي إليه هذا المنهج من مزيد من التردي والسقوط.
وكما هو حادث ومشاهد، ينجم عن وضع الدين كإحداثيات إعجازية، تخرق نواميس الواقع ومنطق الطبيعة وقوانين التطور الاجتماعي، تسلسل آخر للبحث عن معجزات جديدة، كانت مستبطنة فيه، مع انتظار راكد بليد وسقيم لخلاص سماوي وإعجاز علوي يتدخل مباشرة؛ ليحل لنا أزمتنا ويعيدنا إلى عصر الفتوحات؛ فنحمل السيوف، تتقدمنا جيوش الملائكة. فقط على الجميع أن يلتزم الفروض والسنن بكافة دقائقها من الصلاة حتى المسواك، وبدءا بطاعة الله وانتهاء بطاعة أولي الأمر منا.
ولا يجد بعض فقهاء المؤسسات الحاكمة بأسا من تضخيم تلك النرجسية الفصامية، بالتفتيش في التاريخ القبلي والإرث الروحي عن غابر الأمجاد، بإصرار لا يفسره إلا القصد والرغبة في تأكيد زرع العصاب المرضي في الجماهير، وبخاصة لدى فئة أنصاف المثقفين؛ حتى يصل الشعور القبلي ذروته، في تصنيف العلوم حسب طائفة مبدعيها الدينية، وإقامة مؤتمرات العلوم الإسلامية بصنوفها، التي تتم بتشجيع ورعاية ودعم المؤسسات الحاكمة، وتفتتح بكلمات ميمونة من أصحاب المعالي، ويصرف عليها ببذخ، وبدعم لم تنكره الحسابات المعلنة للمؤسسة المخابراتية الأمريكية! وبإلحاق كافة العلوم بمصدر سماوي، يصدر التأكيد بعجز العلم البشري وقصوره، وينتفي دور العقل الذي أنتج تلك العلوم خارج حدودنا العصماء، وإبان ذلك يتم تسفيه ذلك العقل وتلك العلوم، كلما تصور المتعالم التلفازي، ذو العلاقات المعلومة والرائحة المميزة، أنه قد عثر على ثغرة في ذلك العلم، في غفلة من كل علماء الدنيا، ثم لا يجد مناصا بعد كشف الثغرات والنفخ في النعرات، من إحالة شبابنا عن كتب الكيمياء والفيزياء والاجتماع والتاريخ، والسياسة خاصة ... إلخ، إلى كتاب الله وحده الذي يشمل كل ما تم الكشف عنه وما لم يكتشف بعد، دون أن يكلف سيادته نفسه مرة واحدة بالكشف عن نظرية علمية واحدة من كتاب الله، قبل أن يكتشفها علماء الدول المتقدمة الكافرة بعقولهم القاصرة.
ووسط هذا الضجيج الصاخب، تطفر هناك، وتطفو هنا، أعمال لكتاب مهمومين، ينادي بعضها بالعمل السريع لتجاوز التاريخ العبء، الذي يفرش ظله السحري الماضي على حاضرنا ، فارضا الاكتفاء به كمثل لا يصح تخطيه، بينما ينادي بعضها الآخر بإعادة كتابة التاريخ، بغرض تنمية قدراتنا على صنع تاريخ جديد، هذا بينما اتجه آخرون - عمدا - للانتقاء من التراث جانبه المشرق المضيء الذي يتناغم مع أدلوجتهم وأسلوبهم في حل مشكل واقعنا، إلا أن المحبط في تلك المحاولات الأخيرة، التي قدمها مفكرون ذوو شأن يقعون من جيلي موقع الأساتذة والرواد، هو أن بعضهم - وقد حدث - يتراجع فورا عندما ينافره المفسر التلفازي اللوذعي. أما بعضهم الآخر الذي استعصم بمبدئه وقدرته على المنافرة، فقد طرح بالفعل محاولات جادة، بل وعظيمة وصادقة النوايا. لكنها جاءت خطابا مترفا ومتخصصا، يتوجه بأسلوبه وإغراقه في استخدام الاصطلاحات، وتضلعه بما لديه من تراكم معرفي ومفهومي - لنخبة من المثقفين القادرين على تناوله، إضافة إلى كون هذه المحاولات العظيمة جاءت في شكل أسفار ضخمة وهائلة كما وكيفا، نزعت - لطبيعة موضوعات بحثها - نحو الإطالة المفرطة؛ مما جعلها بعيدة عن متناول الإنسان العادي، لا في حجمها وما يتطلبه درسها من وقت يقتطع من يوم العمل الشاق، ولا في أثمانها التي نأت بها عن أيدي أصحاب المصلحة الحقيقيين في تناولها، فظلت في أيدي المجموعة المترفة، والمتخمة بالثقافة أصلا؛ لتمضغ كلماتها في مسامرات فكرية وندوات ديوانية.
أما الأخطر في رأينا - دون أن نحدد أو نفتح صراعا جدليا مع مفكرين نحترمهم ونرجو استمرارهم - هو أن تلك الكتابات الجادة والعلمية استمرت تستمرئ الجلوس تحت مظلة الماضي السحرية، تستمتع برطب مناخه، وسهولة تناول مادته العلمية - على غزارتها - مع بعض الأمان، وربما كل الأمان إن لزم ظرف يلزم بالتراجعات. وعليه فإن أساتذتنا هؤلاء عادة ما نظروا إلى تراث الأمة بحسبانه ذا مبتدأ زمكاني محدد، فقد تحدد مكانيا بأرض الحجاز في جزيرة العرب «وهنا العروبة»، وتحدد زمانيا مع لحظة التواصل بين السماء والأرض عند ابتداء الوحي القرآني «وهنا الإسلام»؛ ومن ثم فإن التراث يبدأ من تلك اللحظة في ذلك المكان، ويتحول فيما بعد إلى تراث لكل الدول التي خضعت للفتح الإسلامي، باعتباره تراث الفاتحين، مع قطع شعوب هذه الدول عن تراثها القديم، بحسبانه كفرا أو مروقا وعبادة لغير الواحد القهار، أو بالتعبير الطريف: إن كان يخالف القرآن فليحرق لأنه رأي مخالف أي كفر، وإن كان يوافقه، فلا داعي له لأن لدينا القرآن، وليحرق!
وبعض هؤلاء الباحثين لم يبعد عن لحظة تدوين التراث الإسلامي أكثر من بضع سنين قبل الإسلام، ولم يتحرك خارج الحاجز العربي الإسلامي المكاني، أما من عمد منهم إلى ما قبل ذلك خلال حقب الإمبراطوريات القديمة في حوض المتوسط الشرقي، فقد وضع نصب عينيه «عربنة» ذلك التراث، وسحب المصطلح العروبي عليه جميعا، من باب أنه كان روافد متعددة لصيغة واحدة، هي صيغة الشعوب السامية، ومعلوم أن للمنهج العلمي في هذا النزوع للإثبات والغرضية المسبقة موقفا معلوما.
لكن ما قلناه لا ينفي أن تلك البحوث الرائدة قد طرحت - وربما لأول مرة - ذلك التراث على مائدة المنهج العلمي، وعالجت ظرفه الموضوعي، بحيث نزعته من مفارقته وفضائيته لتربطه بواقعه وبزمنه وبظرفه، كما تضمنت محاولات ابتدائية لتحديد هويتنا في مقابل الآخرين، مع تأصيل هذه الهوية بربطها بجذورها الماضوية، كما أبانت لنا عن مدى وعينا بالتاريخ، ومدى علميتنا في تناول هذا التاريخ، وكم وحدات التذكر التاريخي لدينا، إضافة إلى إجابات متباينة عن تساؤلات عما يجب إلقاؤه من التراث وعما يجب الإبقاء عليه؟ وهل نعيد كتابة التراث أم نكتفي بقراءة ما يصلح لواقعنا فيه؟ وهي في النهاية تلقي الضوء على الاصطلاح العروبي، وهل تسمح مساحته بتغطية كافة شعوب الأمة بحسبانها أمة واحدة؟ أم مجموعة شعوب ارتبطت بالعروبة رغم خصوصية كل منها، أم مجموعة شعوب لا يجمعها سوى اللسان العربي؟ أما الأهم من كل هذا، فهو أنها بتناميها ووجودها على الساحة الفكرية، قدمت إصرارا على نفي العدمية التراثية، كما أدت في مجموعها إلى معنى مهم هو: أن أي تراث لأي مجتمع لا يمكن أن يتطور دون توارث، والتراث هو - لغة - إرث موروث عن الأسلاف، تركوا لنا فيه ناتج خبراتهم ومعارفهم؛ لنصل إلى أن التراث كموروث، متطور وفاعل ومنفعل دوما، أي إن الناس هم صناع ذلك التراث، يصوغونه وفق ظروفهم وحاجاتهم، وأن أية نقلة تطورية على سلم التراث لا بد أن تسبقها نقلة على الدرجة الأدنى، ويستحيل دونها الوصول للدرجة الأعلى، أو بمعنى آخر أن أي تطور ثقافي لأي مجتمع لا يمكن حدوثه إلا على أسس وأعمدة ثقافية سابقة. كما لا يغيب عنا أن ذلك التطور كما جاء رأسا صاعدا على تلك العمد القديمة، فإنه أيضا كان يقوم إبان ذلك التطور الرأسي بتوسع أفقي يفجر فيه - مع كل نقلة - الأسوار والتحديدات القديمة، من أفكار ومعتقدات لم تعد مناسبة لاحتواء الظرف التطوري الجديد، ولم تعد صالحة كوعاء مناسب للتراكم المعرفي المتزايد، ولم تعد صالحة لمعالجة إشكاليات مستجدة لم تكن معروفة من قبل، ويفرضها التطور الجديد للأشكال الاقتصادية والتنظيمات الاجتماعية.
وعليه، فمن الضروري أن نحدد زوايا رؤيتنا وموقفنا من مفهوم الثقافة والتراث، فالتراث لدينا - حسب المنطق العلمي - هو ناتج تراكمي كمي وكيفي لخبرات طويلة، تعود إلى بدء استقرار الإنسان على الأرض وارتباطه بها، وأن هذه الثقافة ناتج تفاعل جدلي داخل هذا المجتمع. وبينه وبين بيئته الطبيعية، وبينه وبين المجتمعات الأخرى، والثقافات التي تتيح لها الأحداث أن تتماس مع ثقافته، عبر تطور زمني، يشكل في النهاية منظومة فكرية، تندرج في إطارها مفاهيمه الاجتماعية، وتتشكل في ضوئها أنماطه السلوكية.
وإذا كان معلوما أن أشكال التنظيمات الاجتماعية، والتشكيلات الاقتصادية، والأشكال السياسية، تتغير وتتفاوت سماتها داخل المجتمع الواحد، بتفاوت الأزمنة وبالتراكم المعرفي المستمر والخبرات المستجدة؛ نتيجة عوامل شديدة التعقيد، كثيفة الروافد، فإن ذلك لا ينفي أبدا أن هذه العوامل مجتمعة تشكل بنية ثقافية ذات تميز وخصوصية، تطبع العقل الجماعي بسماتها، ويتخذ مواقفه المصيرية على أساس منها، وبتأثيرها اللاواعي على أساليب تفكيره أحيانا، بل إن أكثر مكونات البنية الثقافية إيغالا في القدم، يظل حاضرا في قوامها، وإن تفاوت هذا الحضور بين السفور، وبين التخفي داخل أنسقة جديدة، ويتخذ لإثبات وجوده أشكالا متعددة متباينة، حتى يمكن القول بتأثير مثل تلك العناصر الثقافية بالراسب الثقافي في خيارات الجماهير السياسية.
ومن هنا كنا دائما على اقتناع بأهمية دراسة التراث القديم، ودوره الفاعل، والوجوه التي يكشف فيها عن نفسه اليوم، وقدمنا في ذلك بعض البحوث الحذرة، التي تقوم على اعتبار أن التراث ليس مرحلة بعينها، ولا يقتصر على نسق بذاته، إزاء ما لاحظناه من إهمال الباحثين للتراث القديم، كما لو كان مرحلة ميتة، منتهية، منقطعة الصلة بالحاضر؛ مما أعطانا انطباعا عن سريان اقتناع بانفصالية في تاريخنا، بين مرحلتين لا علاقة بينهما: ثقافة الحضارات «المندثرة!» وبين ثقافة الحضارة العربية الإسلامية.
وبما أن الحضارة العربية الإسلامية ما كان ممكنا أن تبدأ من الصفر، فلا بأس - عند الباحثين - من الرجوع إلى أسسها في فلسفة اليونان، وإذا كان لا بد من الاعتراف بأن لها صلة بالحضارات القديمة في المنطقة، فهي صلة قد انبنت أساسا على أساطير كانت عوامل سلب في الحضارة العربية الإسلامية، وشكلت دعوة إلى نزعات صوفية وغنوصية، ولا معقول، وهو الجانب الذي ينبغي شطبه من تاريخ الفكر العربي الإسلامي؛ ومن ثم تتأرجح الأحكام بالعقلانية في المسافة الشاسعة، الواقعة ما بين الأشاعرة والقرامطة، أو بإصدار الحكم بالمعقول الإبستمولوجي على مجموعة علوم تبدأ بالطب، وتنتهي بالفقه، في خلطة لا يجمع بينها سوى أن منتجيها كانوا مسلمين، بينما تستبعد كل الخبرات القديمة وثقافتها إزاء البحث عن المعقول؛ لأن هذا القديم لا هو عربي ولا هو إسلامي ولا هو معقول، بينما المطلب الواضح لدى الباحثين هو التأكيد على ثقافة مشتركة معقولة، تستند إليها أصالتنا إزاء العصر، ويبدو أن هذه الثقافة لا بد أن تكون عربية، وهو ما يستدعي بالضرورة أن تكون إسلامية، رغم أن هذه الثقافة يمكن أن تجد لها أسسا في التراث القديم المنعوت بالأسطورة، ذلك التراث الذي يملك - إذا درسناه بصدق - من القرائن ما يبرهن على أنه كان عامل تواصل دائم في المنطقة الشرق أوسطية.
ولا يفوتنا هنا الأخذ بعين الاعتبار المقصود بمفهوم «العقلانية والمعقول» مقابل «اللامعقول» الذي يطرحه بعض الباحثين، وهل هو مفهوم مجرد قائم بذاته؟ أم أنه حكم تأسس على ملاحظة الواقع وارتبط بوقائع محددة، وما أدى إليه تفاعل هذه الوقائع ليتكون لدينا معيار لمعنى المعقول؟ ثم أي معقول نقصد؟ وهل تصح أحكامنا بالعقلانية من عدمها على نصوص قديمة، معزولة عن سياقها، وزمنها، ومجتمعها، وحدثها؟ ودون فهم من جانبنا للغة هذا القديم وخصوصية لغته، ولا نقصد بالطبع باللغة الكلام المنطوق أو المكتوب، إنما نقصد النسق الشامل الذي استخدمت فيه الكلمات كأدوات للتعبير عنه، والترتيب النسقي لهذه التعابير وعلاقتها بأنماط التفكير، وأساليب توصيل المعاني والرموز، ومفهوم البلاغات وجمالياتها عندهم، ثم علاقة هذه اللغة بفهمهم للكون والقوى الغيبية، وعلاقة كل هذا بالبنية التحتية بكل متشابكاتها. وكل هذا لا شك كان محكوما بقواعد وقوانين، وإلا ما أفرز تلك الحضارات التي ما كان يمكن للعشوائية إفرازها، لكنها قواعد وقوانين ذات لغة خاصة يجب أن نفهمها في إطار الحدث الاجتماعي والسياسي، والشكل الاقتصادي، والعقدي، ويحتاج منا إعادة نظر في مفهومنا للعقلانية، عند دراسة تلك النصوص القديمة. (1) معنى الأسطورة
وإعمالا لذلك تأتي قيمة دراسة الأساطير في تراثنا القديم وأهميتها، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من تراثنا، وهي الجانب الذي لم يحظ بأدنى قدر من الاهتمام، إزاء صدور الحكم المسبق عليه باللامعقول الذي ينبغي شطبه من تاريخنا، قبل درسه الدرس الكافي لإصدار مثل هذا الحكم، وربما جاز لنا هذا الشطب، لكن بعد الدرس الكافي وليس قبل ذلك، وإذا كان المفكرون في بلادنا قد تأخروا كثيرا في إدراك أهمية دراسة التراث وتناوله بالمنهج العلمي، وإذا كان ثمة إهمال واضح لمن لديهم إمكانية الاضطلاع بهذه المهمة، فإن إلقاء التراث القديم في سلة مهملات التاريخ سيكون جريمة لا تغتفر بكل المقاييس، سواء أكانت تلك الدعوة مقصودة أم بحسن نية، من حيث كونها تسهم في قطع الحبل السري لهذه الأمة برحمها الأصيل، وربما جاز القول: إن قطع الحبل السري يعني نضوج الوليد وخروجه لحياة جديدة وحقيقية، لكن هذا القطع سيكون في هذه الحال قطعا لجذره الرءوم، الذي يمكن لو بقي - على الأقل للفحص والتحليل - أن يكشف لنا عن أوجه الوراثة الجينية، وملامح التشابه الأصيل، وما إذا كان التوريث سائدا أم متنحيا.
والواضح أن الباحثين في تراثنا لم يهملوا القديم من هذا التراث إلا لأنه أسطوري، ولم يهملوا الأسطورة إلا لأنها تعنى بالخرافات واللامعقول وأقاصيص الآلهة. وواضح أيضا أن هذا الفهم لم يتأت بعد درس صادق وعميق للأساطير والتراث القديم، قدر ما انبنى على حكم تأسس على فهم شائع عن الأسطورة كخرافة وتلفيقات بدائية لا أساس لها، ولأن العرب احتسبوها أباطيل، ولأن الأديان الشرق أوسطية الكبرى قد اعتبرتها نوعا من العقائد الباطلة. هذا بالطبع مع ما درج من مفاهيم أنتجها معنى المصطلح القرآني عن الأسطورة، واحتسابها من خرافات الأولين، وربما ساعد على ذلك الإهمال البعد الزمني ما بين التراث القديم وبين اليوم، وتصور عدم إمكان التأثير عن بعد، أو إمكان بقاء موروث ذي قيمة مؤثرة في حياة أناس اليوم، هذا ناهيك عن الوهم المستبطن غير المعلن والناشئ عن مفاهيم تراثنا الإسلامي، والذي يصل إلى اقتناع بانقطاع تام لدى شعوب المنطقة مع ماضيها القديم، بحيث لم يبق لها غير العروبة والإسلام، ولا يصبح لمصر تاريخ أو شعب، فمصر ليست سوى فرعون واحد طغى وتجبر وغرق في البحر مع قومه المجرمين، وانتهى الأمر. وإذا اكتشفت بعد ذلك في الأمور أمور، فهي أمور تتعلق بقوم ضالين وعبدة للأصنام، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على القرى العربية القح، التي ذهبت في طوايا الغابرين، من عاد إلى ثمود ... إلخ، والأمر نفسه الذي ينطبق على الفلسطينيين وزعيمهم الكافر جالوت «جوليات»، بعد أن أورث الله أرضهم لبني إسرائيل، ولم يبق من كل تلك الأقوام إلا الذكرى المستحب فيها الاستعاذة وصب اللعنات ابتغاء الثواب.
ومن هنا جاء اهتمامنا بالأسطورة وبدراستها، ضمن دراستنا للتراث، بحسبانها من أهم أعمدته، وقد بدأنا ذلك بمجموعة بحوث نشرت تباعا، يجمع كتابنا هذا اليوم أهمها. والطريف أني بعد نشر كتابي «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة» لقيت كثيرا من الاستحسان من الكتاب المهمومين بدراسة التراث، وعبر بعضهم عن انبهاره بهذا التاريخ القديم، وأبدى استهجانه لإهماله كل هذا الإهمال، لكن هؤلاء «البعض» انتهى الأمر عندهم بمجرد إبداء الإعجاب بالتراث القديم، وعاد كل منهم لدراساته بالمفهوم الكلاسيكي العربي للتراث، دون هم حقيقي، رغم أن الدراسة العلمية لهذا القديم يمكن أن تكون من أمضى الأسلحة في الصراع الفكري الدائر الآن.
والأساطير (
Myth Mythos ) هي في الفهم الكلاسيكي مجموعة خرافات وأقاصيص، وهي اشتقاق من «سطر الأحاديث». وموضوعها - إضافة للآلهة - يتناول الأبطال الغابرين وفق لغة وتصورات وتخيلات وتأملات وأحكام تناسب العصر والمكان اللذين صيغت فيهما، وشكل الأنظمة، والمستوى المعرفي، وهي في الوقت نفسه تشكل ثقافة عصرها، بحيث تبدو ذات خصوصية تربطها ببيئتها ومجتمعها، بحيث يمكن من خلال دراستها استقراء التاريخ الأصدق لزمنها ومكانها.
وعادة ما نجد في الأساطير مشاعر إنسانية جياشة، وأحاسيس، وتصورات، ومواقف، تطلعنا على فلسفة الإنسان في الوجود، وعلى محاولاته الفكرية الأولى، التي تتضمن خلاصة تجاربه وماضيه، وكيف كان يستنتج من هذه التجارب منطقه ومفاهيمه وتعامله مع واقعه، وفق منطق خاص، ووفق مضامين أخلاقية، تمت صياغتها في قوالب أدبية ذات خصوصية، توارثتها الأجيال، وعدلت فيها، وأضافت إليها؛ مما جعل الأسطورة محل عمل دائب لا يتوقف، فهي حفرية حية. ورغم كونها تأكل بعضها بعضا، وتتناسخ، وتتكرر، إلا أن لها تاريخا حيا يمكن قراءته في تفاصيلها التكوينية، إذا بذلنا الجهد اللازم للتعامل مع كائن حي يعيش منذ ألوف السنين، بما دخل عليه من تبدلات وتغيرات خلال تلك السنين، وبشرط أن نملك المنهج المناسب، والأدوات اللازمة لقراءة كل حركات وسكنات هذا الحي العظيم والعريق.
وعليه فنحن نرى الأسطورة تسجيلا للوعي الإنساني واللاوعي في آن معا، وأنها أخذت مسارا تطوريا بطيئا، استثمرت أثناءه مبدأ لا يزال بحاجة لتفسير، لكنه قائم، وهو أن كل عنصر من الماضي يفرض نفسه وتأثيره على الجماهير بقدر لا يقاوم، ولا يقف أمامه أي اعتراض منطقي، وحتى اليوم، وبعيدا عن نطاق السلوكيات الدينية وطقوسها وعقائدها، يمكننا أن نجد مظاهر سلوكية لا معقولة ولا مبررة، ولا يبقى لتفسيرها سوى البحث في جذورها بحسبانها أحد مظاهر ذلك الحفري الحي، الذي كان يصر على الاستمرار. وعندما كان يستشعر أنه سيتبدد تحت وطأة عناصر ثقافية أخرى أقوى منه، كما حدث في المرحلة التي بدأ الدين يفرض فيها سيادته على الفكر، فإنه كان يتخفى في أردية دينية تتلاءم مع المستوى المعرفي الجديد.
وكناتج لرحلتنا مع الأساطير القديمة يمكننا المجازفة بالقول: إن الأسطورة وإن اشتملت على أحلام وانفعالات وتصورات وأخيلة، فإنها اشتملت أيضا على حقائق يمكن أن تنكشف بوضوح إذا عرفنا كيف نفسرها بعد ربطها بشرطها التاريخي، ومكانها في النسق المعرفي لزمكانها، وقد دعمنا تلك الرؤية بما كشفنا عنه في كتابنا «أوزيريس ...» وكيف عبر المصريون زمانها عن تحولهم التاريخي بأسطورة، بل وغيروا واقعهم الاجتماعي والسياسي، بأيديولوجيا تمت صياغتها لتحقيق أهداف ذلك التغيير في صياغة أسطورية، بحيث كانت الأسطورة هي الجانب النظري، أو النظرية الثورية لتثوير المجتمع حينذاك، كذلك عثرنا على أنسقة أسطورية يتضمنها الكتاب الحالي «الأسطورة والتراث» تشتمل على تسجيل تاريخي لأحداث وقعت فيما قبل التدوين، تناقلتها الأجيال المتعاقبة. وهي تؤمن تماما أنها كانت وقائع حدثت.
وعليه، فإن قراءة التاريخ القديم دون الأسطورة أمر غير تام العلمية، باحتسابنا الأسطورة السجل الأمثل للفكر وواقعه في مراحله الابتدائية، عندما كان يحاول تفسير الوجود من حوله، ويحاول قراءة الواقع الاجتماعي وتغييره ... هذا بالطبع مع ما تنقله لنا الأسطورة من بصمات وانطباعات النفس الجماعية عليها. ونقول جماعية لأن الأسطورة لا يمكن لأحد أن يدعي حق تأليفها. فهي مجهولة الأصل والمؤلف - بل وأحيانا - المنشأ والتاريخ، ناهيك عن كونها ثقافة أجيال متعاقبة، ظلت تجرح فيها وتعدل، هذا مع عالميتها التي وضحت في قدرتها المبهرة على الانتقال عبر حدود المكان والزمان، وإمكاناتها الهائلة على التكيف خارج وطنها وبعيدا عن زمنها؛ لتظل حية لدى شعوب مخالفة تتبناها في أزمنة مخالفة.
وعليه يمكن الاستفسار: هل جاء الإسلام المرتبط بالعروبة بالضرورة، بقطيعة معرفية مع الأسطورة، حتى يمكن القول، مع القائلين: إن هنا المعقول ودونه لا معقول، ونجعل من تلك المصادرة مبررا كافيا لإهدار الأساطير القديمة لأنها اللامعقول؟ هنا - لا شك - سيجد أصحاب تلك الرؤية عسرا شديدا في قياس مواضيع إيمانية بحت - لا شأن للعقل بها - على ما اتفق الاصطلاح عليه بتعبير المعقول، مثل تحديد موقع حادثة الإسراء والمعراج من هذا المعقول، وهل نرفضها بمنطق رفض اللامعقول؟ أم نبقي عليها بمنطق الإيمان؟ أم أن النوع القديم من اللامعقول هو محل التجرؤ والعنترية؟ ثم كيف نصنف دابة البراق - التي حملت الرسول
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى القدس - تصنيفا علميا يضعها ضمن فصيلتها الحية، وكيف نحدد تحديدا دقيقا أمة يأجوج ومأجوج بين الشعوب، وتحديد مواطنها، وهي أمة يتحدد معها مصير العالم، ويجب اتخاذ مواقف مناسبة إزاءها (بالمعقول؟) ثم لا شك أن أي مؤمن وأي شاك ستطيب نفسه إن تمكن من تفسير الحكمة الإلهية في إهلاك شعب مقابل ناقة تلدها صخرة!
كما لا جدال أن إيجاد تفسير معقول لإفناء قوم نوح في ضوء المعقول الآني الذي يفرض حرية الاعتقاد، سيكون مريحا لكثير من النفوس الحيرى والقلقة، وغير ذلك كثير لا يغنينا زيادة السرد بشأنه شيئا؛ لأنه ليس موضوع عقل، إنما كما قلنا هو موضوع قبول أو رفض، موضوع إيمان؛ مما يشير إلى أن سمة اللامعقول في بعض تفاصيل الأساطير القديمة لا تسلبها الحق في احترامها ودراستها، وربما كان الأمر الأهم من سردنا أمثلة أخرى، الوصول مباشرة للإجابة على السؤال الأخطر، الذي ربما كانت الإجابة عليه هي الأكثر علمية وإنصافا، هو: كيف تحول الحدث التاريخي في صدر الإسلام إلى حدث أسطوري، إبان تواتر الوحي في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، والزيادة الهائلة والمكثفة في أسطرة الوقائع عند تدوين التراث الإسلامي في سجلات الإخباريين؟
لا شك إذن أن إهدار التراث القديم، دون بحثه، وبحث ظرفه الموضوعي، وإصدار أحكام قبلية عليه وعلى من قبس منه من فلاسفتنا، ليس من العلمية في شيء (وهو النموذج الذي رأيناه لدى باحث مقتدر، وجد غاية لذته العقلية في سلب ابن سينا كل ميزات منتجه الفكري وتسفيهه كل التسفيه، بحسبانه متأثرا بذلك القديم اللامعقول، دون أن يهتم سيادة الباحث بما دون الجانب المعرفي وحده، ودون أن يخفى على باحث مثله، أنه بالإمبستولوجيا وحدها يمكن إثبات الأمر ونقيضه في آن معا)؛ ومن ثم يمكننا القول: إنه بالتزام كل شروط العلمية في البحث، يمكن أن نعثر في القديم على كثير مما يفيد قراءتنا لتراثنا وحاضرنا قراءة صحيحة، بالضبط كما نبحث عن العوامل الموضوعية لحدث ديني، ونترك اللاموضوعي فيه موكولا إلى جانب الإيمان، دون أن نكون قد ارتكبنا خطأ في حق العلم أو في حق الدين. ولذلك فإن اهتمامنا بالتراث القديم، يعود في المقام الأول إلى احتسابنا ذلك هو الطريق الممكن للوصول إلى جذور كثير من الاعتقادات التي توجه فكر وسلوك إنساننا اليوم، وربما تعديل ذلك السلوك، إضافة إلى ما يحمله هذا المنهج من إمكانات عدم الاصطدام مع عنصر الإيمان؛ لأن مساحة الحرية المتاحة في مناقشة القديم، بحسبانه ليس محل إيمان وإن كان محل تشابه، لا يضع الباحث وبحثه في محل تشكيك، ويعطيه قدرا من حرية الحركة، والبحث، والقول، مع ضمان عدم تمكن الطرف الآخر في الصراع الفكري، من استخدام أسلحته التقليدية في قمع البحث والمصادرة على القول، بل وربما في شل فعاليات تلك الأسلحة التقليدية نفسها.
وهنا يبدو واضحا أن ثمة علاقة من نوع ما بين الأسطورة والدين تطلب تحديدا وتوضيحا. ولأن حديثنا عن التراث القديم، فسيكون من الدقة الإشارة إلى أن ذلك التحديد والتوضيح سيتركز على الأديان الابتدائية، التي وصلت أوج القوة مع ظروف اجتماعية واقتصادية بعينها لم تعد الأسطورة تفي بمطلب مواكبتها؛ مما أدى لتجلي الدين كبديل معرفي أشمل وأقدر على المعالجة المعرفية، وحل إشكاليات مستجدة لم تعد الأسطورة كافية لحلها ومعالجتها، إضافة للعنصر الجديد الذي تلبسه الدين، ليتميز عن الأسطورة. فبينما كانت الأسطورة بعيدة تماما عن الفردية، وغير مفروضة، فيحق للناس تصديقها أو رفضها، والعمل بشروطها أو بشروط أخرى، فإن الدين جاء بدوره بفعل ظروف موضوعية، لكن دخل فيه الجانب الفردي واللمسة العبقرية لأشخاص بعينهم، بعد أن أصبح توجيها مخططا ومبرمجا عن وعي من فئة متميزة في المجتمع في مراحل تطوره التالية؛ نظرا لطبيعة منشئه وعلاقته بتلك النشأة، كان لا بد أن يتجاوز الأسطورة ، من حيث كونه أداة قمع، ليصبح اعتقادا مفروضا، وليظهر مفهوم الإيمان والكفر، وما يتبع ذلك من إنعام أو حرمان.
وفي كل ما اهتدينا إليه من كتابات بشأن علاقة الأسطورة بالدين، وجدنا شبه اتفاق على أن الدين الابتدائي في ظهوره مثل الأسطورة، نشأ نتيجة الجهل المعرفي، والأمل فيما هو أفضل من الحادث فعلا، مع بعض الخيال اللازم بالضرورة عن الجهل والأمل، وهي أمور ناتجة عن ضعف العلوم الطبيعية، والتصور الثنائي للكون ما بين روح أو عقل أو نفس، وبين مادة جامدة لا تفعل إلا بالفعل أو الروح. وهو بدوره ناتج ضروري عن تقسيم العمل إلى يدوي وذهني، وهذا أيضا ناتج آخر في سلسلة الأسباب والنتائج عن الانقسام الطبقي، ودور الطبقات المستغلة في إشاعة هذه التصورات ودعمها، ومنحها التفرغ الكافي لحكماء، يؤدون دور المنظرين المبدعين - شكلوا فيما بعد طبقة الكهان والعرافين، ثم رجال الدين - لتعميق تلك التصورات وإدامتها وإلباسها ثوب الإقناع والاستمرار.
هذا ويذهب نفر من علماء الميثولوجيا إلى أن أول الأعمال الأدبية الأسطورية ولدت في المعابد وهياكل الآلهة، ويعتقد روبرتسون سميث
W. R. Smith
أن الأساطير القديمة كانت بمثابة الاعتقاد الديني؛ لأن التراث المقدس كان يتخذ شكلا قصصيا يدور حول الآلهة، ويقوم في الوقت نفسه بتفسير الأفكار الدينية وتوضيحها بشكل أبسط، بحيث كانت الأسطورة جزءا من بنية الدين وطقوس العبادة، لكنها لم تتخذ صفة الإلزام، فخضعت لحرية الإنسان؛ مما جعلها عرضة دائمة للتغير من قبل كافة القوى التي يمكنها الاستفادة منها، كذلك يذهب «مالينوفسكي» إلى أن الأسطورة كانت بمثابة الدستور الاعتقادي الذي يفسر الحاضر ويؤمن المستقبل، وأنها كانت ذات غايات عملية، تهدف إلى ترسيخ عادات اجتماعية، أو تدعيم سلطة عشيرة بذاتها، أو إقامة نظام اجتماعي بالذات ... إلخ.
ولا يجد المهتم جهدا كبيرا في التوصل إلى الرأي الأقرب للقبول العلمي بشأن الأسطورة ونشأتها، في أن ضعف قوى الإنتاج في المبتدأ المجتمعي، لم يساعد الإنسان على اكتشاف الأسباب الحقيقية لما يقع أمامه من ظواهر، وهنا تقدمت الأسطورة لتقوم بهذه المهمة الأولى للتفسير، وهو الدور نفسه الذي قام به الدين في سدله الأستار على التفسير الموضوعي للواقع، والتعويض عن عجز الإنسان عن الوصول لإجابات صادقة، مع تبرير مرارة الواقع، وتقبل هذا الواقع على أساس خلاص قادم، واستعجال هذا القادم بتقديم القرابين والقيام بطقوس معينة، وبذلك تمكنت الطبقة السائدة من توفير الدخل المناسب لمنظريها وكهانها - ممثلا في قرابين ونذور ... إلخ - من فائض عمل الأجراء أنفسهم، بعد القسمة الطبقية التي خلقت ثنائية انتهت لاعتبار الفكر هو الأصل الواقع، وأن هذا الفكر مستقل بذاته كناتج طبيعي لصعود طبقة لا تعمل. مما ابتعد بالفكر كلية عن الواقع الذي نشأ منه ليكون الدين، الذي قدم بدلا من التفسيرات القديمة لغة رمزية تحل مشاكل الوجدان في عالم تصوري هلامي، وللتذكرة فما زلنا نتحدث عن الأديان الابتدائية.
ولعل مبتدأ فكرة الثنائية وميلادها ليس أمرا مبكرا في تاريخ الفكر الإنساني، وربما تصور الإنسان في البداية أن ثمة كيانا مخالفا للمادة، يترك الجسد الحي مع الموت، وربما تصوره الدم أو نبض القلب أو هواء التنفس؛ لتوقف كل هذا بالموت (ومن النفس تأتي كلمة النفس)، وفي تلك الحقبة القديمة كان واضحا أن الإنسان قد تصور هذه النفس تموت بدورها، وتمثلها في اسم الشخص أو ظله، أو طيف يزور أحلامه، أو حيوان كان يألفه ويعاشره، ثم أخذ يقلص المادية في تصوره للنفس ويجردها، حتى انتهى لتصورها باقية يمكنها تجاوز حدود المكان والزمان وتقمص الأجساد، ثم اللاموت والأبدية، ثم ارتفع بها إلى عالم الألوهية، وقد اتفق العلماء تقريبا على تقريب مراحل الاعتقاد الرئيسية، بدءا من عبادة ظواهر الطبيعة، ثم عبادة الأجداد أو العكس في بعض المدارس، ثم عبادة أرواح نصف مادية، ثم عبادة آلهة متعددة، ثم إله قومي واحد، ثم إله عالمي. كما اتفقوا على أن ضعف الإنسان جسديا وعقليا تجاه الطبيعة وامتنانه لعطائها، كان الثغرة التي دخلت منها التصورات الدينية، مع نشوء علاقات اجتماعية تسلطية حولت الألوهية من الطبيعة إلى الإنسان، وكان فشل محاولات التمرد على الأوضاع الظالمة عاملا مهما في تثبيت الوعي عند الحالة التي كان فيها ليبقى الدين عبودية ذاتية للمضطهدين.
وإذا كان الدين الابتدائي بهذا المعنى انعكاسا لواقع انفصل عن واقعه، وعاد ليؤثر في الناس كقوى مجردة، وعكست فيه الأدوار بحيث تتحكم الروح بالجسد ويصبح المخلوق خالقا، فإن الأسطورة كانت بدورها انعكاسا للواقع بحسبان الأسطورة أصل الدين كما يرى الباحثون الثقات، لكن ما يهمنا هنا رصده وتأكيده كوجهة نظر خاصة، هو أن الأسطورة - لا شك - كانت تختلف عن الدين في مسألة جوهرية، سواء من حيث المنشأ أم الغرض، فهي بعكس الدين نشأت استجابة لحاجات مادية وموضوعية وطبيعية ملحة. مما يشير إلى أن بدايتها سابقة لطور تقسيم العمل ونشوء الطبقة، وإن استمرت زمنا تعايش هذا الطور لتنضج بعد ذلك في الرداء الديني، وكان الغرض منها ليس تسكين أوضاع، أو أن غير المرغوب سينهزم بمجرد تلاوتها كما في الدين، بل على العكس كانت تحفيزا للعمل وللطاقات البشرية، وشحذا للهمم لتغيير الواقع وصد أخطار الطبيعة (وهو ما يمكن للقارئ أن يجد تطبيقا له في كتابنا هذا)، وربما عاصرت كبرى الأساطير مثل «أسطورة أوزيريس» الطور الطبقي، لكن الواضح أن الأسطورة حينذاك لم تعد أسطورة إنما أصبحت محل اعتقاد، أصبحت دينا.
أما الأساطير الأولى التي سبقت تقسيم العمل في شكله الحاد والإلزامي، ولازمته في أطواره الأولى، فلم تكن صنعة طبقية، قدر ما كانت استجابة لضرورات موضوعية، وظهر الدين مع الطور الطبقي وتقسيم العمل والكون إلى عقل وجسد. ومع التفرغ اللازم من العمل اليدوي، تمكنت الطبقة المسيطرة من تنمية ثقافتها الدفاعية، واستثمار التراث الأسطوري السابق بعد تفريغه من محتواه الموضوعي، وتحويله إلى خدمة الأغراض الجديدة، واحتساب التراث الأسطوري جزءا لا يتجزأ من الثقافة الجديدة المتمثلة في الدين، وتحول الفكر الأسطوري الذي كان جزءا من فاعلية الإنسان في الطبيعة وجزءا من خلقه وتقدمه، إلى لبنات ضمن البنية الدينية، وأصبحت قوى الأسطورة الفاعلة - مع الوضع الطبقي - قوى مفارقة لا أرضية، مهمتها المحافظة على ذلك الوضع، والتحالف مع الناس بقدر خضوعهم لها؛ لأنها تمثل الطبقة السائدة.
وهو ما يفسر لنا لماذا كان الأبطال في أساطير حضاراتنا القديمة - وخاصة ذات الصبغة الشعبية - يقومون بأفعال خارقة وتحولات سحرية، ويحققون كافة الرغبات والأماني، ويهزمون الملوك والآلهة؟ مما يشير إلى افتلات لمكبوتات اللاوعي الشعبي، كما يفسر لنا لماذا كان الملوك في أساطير الديانات الرسمية أبناء آلهة أو آلهة؟ ولماذا لا بد أن تقترن طاعة أولي الأمر بطاعة الله؟
ولا بأس هنا من إطلالة سريعة على أهم المدارس التي تناولت الأساطير بالدراسة، وأطروحاتها لتفسيرها. وربما أشهر الباحثين هو
k. o. Muller
الذي احتسب الأسطورة أحاديث مصورة لأحداث تاريخية حقيقية واقعية، وتابعه في ذلك مع بعض الاختلافات الجزئية كل من جاكسون
Jachson
وأولدنبرج
Oldenberg ، وهم إلى حد كبير يتبعون المنهج اليوهيمري القديم، الذي اعتبر الأسطورة قصة أبطال حقيقيين، قاموا بأعمال مجيدة؛ فخلدهم أخلافهم، وحولوهم من بشر إلى آلهة، وإن اشترط «موللر» وأتباعه وجوب امتلاك الباحث القدرة على التمييز في الأساطير بين الأسطورة الحقيقية والأسطورة التي قام الشعراء والفلاسفة بتحريف كلامها عن مواضعه، وقد رأى «ماكس موللر
Max Muller » أن الأسطورة صورة من صور الفكر تحددت بوساطة اللغة. أما أكثر المدارس أثرا فهي مدرسة «إ. ب. تايلور
E. B. Taylar » أحد أعلام مؤسسي المدرسة الأنثروبولوجية، التي هاجمت المدرسة اللغوية، وذهبت إلى منهج يجمع الأساطير المتشابهة في مجموعات للحصول على علم حقيقي للأساطير، مع مقارنة تلك المجموعات بعضها ببعض. لتتبع فعاليات عملية التخيل، التي تتكرر بتناسق مع قاعدة فكرية، وأن تبدأ الدراسة بالمجتمعات المتخلفة الحالية، مع رد الاعتبار كاملا للمادة الأسطورية نفسها؛ لأنها الأكثر جدارة بالبحث من اللغة التي تقولبت فيها. ومن أهم أتباع المذهب الأنثويولوجي «هربرت سبنسر
Herbert Spencer » صاحب فلسفة التطور الذي رأى أن الأساطير ليست سوى نصوص من عبادات الأسلاف.
وقد أدلت مدارس علم النفس أيضا بدلوها، واعتبرت بطل الأسطورة حالما يخضع لتحولات سحرية ويقوم بالخوارق، وكلها ليست سوى انعكاس لرغبات وأمان مكبوتة تنطلق بعيدا عن رقابة الوعي؛ لذلك تمتلئ بالرموز التي لو تمكنا من تفسيرها لزودتنا بفهم عميق لنفس الإنسان ورغباته، وأكد «إريك فروم
Erich Fromm » أن الأسطورة تشرح بلغة رمزية حشدا من الأفكار الدينية والفلسفية والأخلاقية، وما علينا إلا أن نفهم مفرداته، لينفتح لنا عالم مليء بالمعارف الثرية. كذلك تبع «يونغ» أستاذه «فرويد» في رأيه أن الأسطورة نتاج اللاشعور، لكنه اختلف عنه في قوله إنها نتاج لا شعور جمعي. عاشت في لا شعور الجماعة، وانتعشت من خلال الفرد.
وعلى الجملة، وحت لا يتحول أمرنا هنا إلى خطاب مدرسي، يمكن القول إن تعداد المدارس من «يوهيمر» حتى «مالينوفسكي» إلى «ليفي شتراوس» تقوم على مبادئ ثلاثة هي:
إن الأسطورة تصف حقائق تاريخية.
إنها رموز لحقائق فلسفية دائمة.
إنها انعكاسات لعملية طبيعية مرة بعد أخرى بصيرورة لا تتوقف.
ثم إن هذه المدارس في مجملها تتبع واحدا من مناهج ستة هي:
المنهج اليوهيمري:
الذي يعد أقدم تلك المناهج، ويرى الأسطورة قصة لأمجاد أبطال أو فضلاء غابرين.
المنهج الطبيعي:
الذي يعد أبطال الأساطير ظواهر طبيعية تم تشخيصها في أسطورة اعتبرت بعد ذلك قصة لشخصيات مقدسة.
المنهج المجازي:
بمعنى أن الأسطورة قصة مجازية تخفي أعمق معاني الثقافة.
المنهج الرمزي:
الذي يرى الأسطورة قصة رمزية تعبر عن فلسفة كاملة لعصرها؛ لذلك يجب دراسة العصور نفسها لفك رموز الأسطورة.
المنهج العقلي:
الذي يذهب إلى نشوء الأسطورة نتيجة سوء فهم أو خطأ ارتكبته مجموعة أفراد في تفسيرها أو قراءتها أو سردها لرواية أو حادثة أقدم.
منهج التحليل النفسي:
الذي يحتسب الأسطورة رموزا لرغبات غريزية وانفعالات نفسية.
ويبقى أن يسألنا القارئ عن منهجنا في ضوء خصوصية همومنا وخصوصية تاريخنا. إن المشكلة الحقيقية التي تواجهنا بعيدا عن خصوصيتنا، والتي تواجه أي باحث في الأساطير، هي أن علم الميثولوجيا حتى الآن لم يصل إلى مرحلة النضج التي تؤهل مدارسه المتنافرة المتعارضة للاندماج، هذا ناهيك عن كوننا نبدأ من طبيعة الداء والإشكالية، وليس لمجرد اللذة البحثية، حتى نتمكن من الوصول إلى أفضل دواء ممكن، ولا يمكننا أن نعطي الدواء نفسه لعلاج كل الأمراض. والمشكلات العلمية ناتجة إما عن مرض في الموضوع أو مرض في الباحث أو مرض في الطبيعة الإبستمية للموضوع، ويبدو أننا نجمع كل ذلك في إشكالياتنا مع تراثنا، ومن هنا لا بد من أن نضع نصب أعيننا وفي المقام الأول علاقة الأسطورة بالدين وبفلسفة الحياة عموما، وبأحوال الإنتاج وبنى المجتمع وتغيراته.
وعليه فإننا نقرر من البداية أننا سنعمد إلى المنهج الذي يؤدي إلى نتائج تبدو صحيحة، دون الرجوع للمدرسة، بمعنى أننا على استعداد للسير قسما من الطريق مع أي من هذه المدارس، لكننا لسنا على استعداد للسير مع أي منها الطريق كله.
وسنبدو معنيين في تراثنا بمشكلات وقضايا محددة، تتبعنا تطورها التاريخي، وأهميتها في مجتمعها وعصرها وبيئتها، مع إبراز موقعها في الصراع الفكري ومدى تعبيرها عن خصوصية عصرها وشعبها، مع ربطها ربطا لا يستفز أحدا بهموم الحاضر ومشاكل الآن؛ ومن ثم التزمنا الأكاديمية البحثية وصرامتها ودقتها، وأخذنا أنفسنا بالشدة في البحث والتنقيب والتقصي، مع الابتعاد عن صعوبة الاصطلاح وثقل المفاهيم، انطلاقا من همنا ومطامحنا العليا في التحرر الوطني والقومي والاجتماعي. وربما طمحنا إلى المساهمة مع أساتذتنا من الباحثين في فتح باب حان ولوجه، لدرس التراث القديم بمنهج علمي يمكنه أن يقدم للجماهير ولحركة التحرر العربية سلاحا فكريا في المعركة الفكرية الدائرة الآن.
وعليه فإننا نزعم في تلك المجموعة من البحوث التي تمت كتابتها متقطعة خلال عشر سنوات انصرمت، وتتفاوت في درجة إتقانها واقترابها أو بعدها من الأهداف المرصودة، أننا قد تمكنا من الوصول إلى كشوف لها من الخصوصية ما يجعلنا نغامر عندما نزعم أننا غير مسبوقين إليها، وإن كان ذلك لا ينفي أننا قد ارتكبنا خطأ هنا، وهفوة هناك، وزلة صغيرة أو كبيرة بينهما، لكن ما يعزينا أن مثل تلك السقطات والهنات تعود إلى اتساع رقعة المساحة المكانية والزمانية في السعي وراء الإشكاليات المختارة؛ لأنها فعلا من أشد الإشكاليات تعقيدا، وهو ما تنوء به قدرة باحث فرد، ومن هنا سنكون ممتنين لقارئ مهتم، يهتم بإعلامنا بموطن الزلل أينما وجده، حتى يمكننا أن نتلافاه، وأن نصلح من شأن ما يمكن تقديمه مستقبلا، ويكون لصاحب الإعلام فضل لن ننكره عليه.
قراءة سريعة في موضوع الإله النقيض
(1) تأسيس
في كتابه «عجائب الآثار» يحكي المؤرخ «عبد الرحمن الجبرتي» أنه في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حين وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر، وبينما كان الشرق يعاني من غيبوبته الغيبية، التي كانت أشد فتكا بعقله من القهر العثماني المتسلط آنذاك، قامت مجموعة من العلماء الفرنسيين الذين رافقوا حملة «نابليون بونابرت»، بعرض بعض التجارب الكيميائية أمام نفر من علماء الأزهر، فذعر علماء المسلمين لما رأوا، ولم يجدوا تفسيرا لديهم سوى أن يرجعوا تلك التجارب إلى خدع الشيطان الرجيم وأفاعيله؟!
1
أما «علي مبارك» فيرسم للعقل الشرقي آنها صورة أشد قتامة، في عرضه لأحداث المعارضة الكبرى التي قادها علماء المسلمين ضد إدخال مطبعة عربية إلى مصر على يد الفرنسيين، بحسبان المطبعة اختراعا من بدع إبليس اللعين!
2
والعجيب أن الشيطان لم يزل حتى اليوم يصول ويجول في مساحة كبرى من العقل الشرقي، وليس ببعيد ما ذكره «فتحي غانم» عن حملة السلفيين المتزمتين ضد استخدام الهاتف والسيارة بحسبانهما اكتشافات تمت بإيعاز من إبليس لعنه الله، بل وتكفيرهم لكتاب القصة، ولأشكال التعبير الأدبي الجديدة، باعتبارها دسائس استعمارية، يقف الشيطان وحزبه من ورائها!
3
وهكذا تجاوز الشيطان إطاره الديني، وتغلغل في ذات الإنسان ليتحكم بكل حياته، ومن ثم أصبح سببا لكل ما لا نرضي عنه، وستارا يخفي الأسباب الحقيقية، ومشجبا للأخطاء على مستوى الفرد والجماعة والدولة، وتفسيرا سهلا لكل مجهول؛ مما أدى بالعقل الشرقي إلى غياب شبه كامل عن واقعه المتردي، بحيث تحول التغيير الاجتماعي المطلوب نحو الجانب الأخلاقي، بشن الحرب على الشيطان وأعوانه في المقام الأول، وليس تغييرا للواقع المأساوي الذي نعيشه، وأن مدى تمكن فكرة الشيطان من العقل الشرقي، تستدعي تساؤلات عن مناشئها الأولى، وبحثا عن العوامل التي أدت إلى اكتسابها تلك القدرات الخارقة، ومن ثم وضع الشيطان داخل إطاره وحجمه الحقيقيين.
4 (2) ما بين الفوضى والنظام
رغم أن الإنسان البدائي لم يكن فيلسوفا، إلا أنه شغل نفسه بمحاولة معرفة أمور هي الفلسفة بعينها، وكثيرا ما سأل نفسه: أيهما كان أولا؟ الموت أم الحياة؟ العدم أم الوجود؟ الضار أم النافع؟
وهو بذلك إنما بلغ مرحلة متقدمة نسبيا على مدارج حداثيته، أدت به إلى تقسيم قوى الطبيعة إلى قوتين تعملان في اتجاهين متعاكسين، قوة إيجاب فيها النفع والحياة والوجود والضياء، ممثلة في عطاء الطبيعة وخصب الأرض وفيض النهر وتكاثر الحيوان النافع، وكان هذا هو الخير بالنسبة له، والقوة الأخرى قوة سلب فيها الضرر والموت والعدم والظلام، ممثلة في إمساك الطبيعة عن العطاء. وجفاف الأرض والنبات والنهر، وما يصحب ذلك من سكون وخمود من حوله؛ لذلك نجده يتجه بالعبادة ووسائل التقرب لمظاهر الطبيعة المختلفة، للظواهر الخيرة ليزداد خيرها، وللظواهر التي يرهب جانبها ويخشى بأسها وبطشها ليتحاشى شرها ونقمتها، ويقلل من ضررها.
وقد جاءت نقلته التطورية الأخرى، بعد مشاهدات، لعل أهمها: أنه لاحظ اختفاء أكثر مظاهر الحياة أمام ناظريه بحلول الظلام، وأنه لا يستطيع أن يأمن على نفسه من الضواري ليلا، فاستشعر أن الظلام تصحبه الفوضى وانعدام الأمان، فربط بين الظلام وبين العدم والموت والفوضى، وخاصة بعد تأكده أن غياب الشمس والضياء يعني بدء دورة جديدة للحياة؛ فربط الظلام بالشر، والضياء بالخير؛ لذا يلاحظ أن أغلب عبادات الشعوب القديمة شمسية، تمثل بالشمس إلهها الأكبر.
ومن هنا على ما يبدو، افترض أن الحالة الأولى للكون، كانت تسيطر عليها قوى الشر (الظلام، العدم، الموت، الفوضى)، وبعدها ظهرت في الوجود قوى الخير (الضياء، الوجود، النظام).
ومع تناوب فصول السنة، وما يستتبعه ذلك من موت وجفاف، وعودة للنمو والخصب بالتناوب، فقد افترض العقل البشري، وهو يرتقي درجة أخرى على سلمه التطوري، أن هناك صراعا قائما بين قوتي الخير والشر، فقام يشمر السواعد مساعدا قوى الخير، بزيادة الجهد المثمر في الأرض والتقرب إليها بأبكار ثماره وماشيته، مع طقوس وعبادات خاشعة، بينما اتجه نحو قوى الشر متزلفا بوسائل السحر، اتقاء لشرها، وإبعادا لغضبها. (3) إله الشر الأسطوري
وهذه المعاني نجدها غالبة على أساطير الشعوب الزراعية القديمة في الشرق الأوسط، ففي مصر القديمة - كانت مصر ولم تزل هبة النيل - نجد «أوزيريس
Osiris » إلها للنيل والخير والخضرة والنماء، بينما كان «ست
Seth » إله القفار والصحراء، وكان أيضا زعيم الأشرار ، يحاول دائما إحباط أعمال أخيه النافعة الخيرة.
5
كما نجد الأمر نفسه في حضارة الرافدين القديمة، فيترجم «د. أنيس فريحة» ملحمة
Enuma Elish - هناك ترجمات أخرى متعددة - التي تحكي أن «تيامة
Tiamat » رمز القوى العمياء الشريرة في الوجود، كانت هي البحر الأول المظلم في الوجود - ولم يزل اسمها علما على السهل الحجازي تهامة - حتى جاء النور ممثلا في «مردوك
Marduk » رب الضياء، فدخل معها صراعا عنيفا انتهى بالقضاء عليها؛ ومن ثم فرغ لتنظيم السموات والأرض، بعد أن باركها لتكثر خيراتها.
6
والأمر نفسه نجده في كنعان (فلسطين والأردن وسوريا ولبنان)، إن الأصل كان غمرا مظلما مسيطرا هو «يم»، يفرض السكون والفوضى على الوجود، حتى ظهر الإله «بعل» فقضى على «يم» من أجل تثبيت النظام والخير في الأرض، لكن أتباع «يم» قاموا يحاربون البعل بقيادة الإله الشرير «موت»، من أجل أن يستعيد الموت والسكون سيادة الدنيا. فتصدى لهم البعل مرة أخرى، لكن ليدخل مع «موت» هذه المرة في صراع أبدي، ويتناوبان الهزيمة والنصر، فمرة ترجح كفة «بعل»، فيكسب الجولة، فتسود الدنيا الخيرات نماء وخصبا، ومرة ترجح كفة «موت» فيغشى الأرض سكون الموت وفوضى الجفاف.
7 ،
8
ولنا أن نرى في هذه الأسطورة خطوة ارتقائية أخرى للعقل البشري، سوغت له تفسير التناوب الفصلي لشهور السنة، وما يستتبعه من تأثيرات على الأرض إن خصبا أو جدبا، وما زالت اللغات السامية ومنها العربية، تستعمل اسم الإله «موت» للدلالة على حالة السكون أو الموت، كبقايا أثرية، أو حفريات لغوية - إن جاز التعبير - لتدلل على المراحل التطورية التي مرت بها العقلية البشرية ارتقائيا. (4) الشيطان الفارسي
يبدو أن العقل البشري لم يستسغ الاستمرار في الاعتقاد بأن أصل الوجود هو الشر والظلام، فأراد أن يعطي إله النور والخير أولوية الوجود، وفي الوقت نفسه يسوغ بطريقة ما وجود إله الشر، ونظن أول هذه المحاولات التي لبست ثوبا فلسفيا قد جاءت في عقيدة «كيرمرث» الفارسية، وإن كنا لا ننكر ما سبقها من محاولات خاصة في مصر الفرعونية، ويلخص لنا «د. علي النشار» عقيدة «كيرمرث» فيقول: «إن أول الموجودات كان إله النور والخير «هرمز» - لم يزل اسمه علما على مضيق الخليج العربي - ففكر في ذاته متسائلا: لو كان لي منازع كيف يكون؟ وبمجرد أن طرأت هذه الفكرة على خاطره، حتى وجد هذا المنازع فعلا، فظهر الظلام بعد أن كانت الدنيا دائمة الضياء، نتيجة مجيء إله الشر «أهرمان» إلى الوجود، فقام إله الخير «هرمز» بخلق كل الملائكة والبشر ليساعده ضد غريمه «أهرمان»، لكن «أهرمان» قام بخلق كل الكائنات الضارة، وأخذ يؤثر بأتباعه الأشرار على البشر لينضموا إليه، وهكذا بدأ الصراع بين إله الخير أو النور، وبين إله الشر أو الظلام.»
9
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى اعتقاد قدماء الفرس في إله نور وخير قبل «هرمز» اشتهر باسم «ميثهرا» وهو إله زراعي؛ أي إله خصب ونماء وضياء
10
ويؤكد الباحث «عصام ناصف» أنه كان يحتفل بعيد ميلاده في 25 كانون أول، أي بالضبط عندما تبدأ الشمس قوة دورتها الجديدة، فهو إله الضياء أو الشمس.
11
وقد عبد الهنود بدورهم هذا الإله، واعتقد عباده أنه يدخل سنويا في معركة مع آلهة الموت والظلام، وأنه كان يتعرض في هذه المعركة للأسر، ثم الاستشهاد موتا على الصليب، فيصيب الأرض الجفاف ويتوقف النسل، لكنه يقوم من الموت في الحادي والعشرين من شهر آزار، عند المنقلب الربيعي، فتعود بقيامته المجيدة الحياة للأرض خيرا ونماء، ويشير المرحوم «عباس العقاد» إلى طقوس من ديانة «ميثهرا»، نجد فيها شبها كبيرا بما في المسيحية، ولك أن تلاحظ أن احتفال المسيحية بعيد ميلاد إلهها الشهيد «يسوع المسيح» في 25 كانون أول وهو موعد ميلاد «ميثهرا» نفسه، وأن احتفالها بعيد قيامته المجيد يوم 20 آذار، هو بدوره نفس موعد قيامة «ميثهرا» المجيدة
12
ويقول «عصام ناصف»: «وقد اقتبست المسيحية بعض ما في المثروية، ومن ذلك مفتاح دار النعيم ومفتاح الجحيم، وتيجان الأساقفة وأحذيتهم الحمراء، ولقب بابا، وكان يلقب به كبير كهنة «ميثهرا»».
13
ومن الطريف أن أتباع «ميثهرا» اتهموا المسيحيين الأوائل باقتفاء أثرهم، واقتباس عقائدهم منهم، إلا أن الأطرف فعلا هو أن الآباء الأوائل ... عندما جابهوا هذه المشكلة، لم يخطر ببالهم سنة العقل البشري التطورية، وما تستتبعه جدلية التطور من تأثير العقائد في بعضها، فعللوا المسألة بأن الشيطان بدأ محاربة الإيمان المسيحي من قديم الزمان، فجعل ديانة «ميثهرا» تسبق المسيحية في الظهور، وتتصف في مجمل طقوسها، وفي الأحداث التي جرت لبطلها المعبود بما جاء فيما بعد في المسيحية. (5) المهدي المجوسي
ويؤخذ مما جاء في ملل الشهرستاني أنه عندما ظهر «زرادشت» في فارس مناديا أنه نبي مرسل من قبل إله الخير «هرمز» لهداية البشر، كانت المعتقدات المثروية القديمة راسخة في أذهان القوم. فما كان منه إلا أن أقرها - وهي العادة في مثل هذه الأحوال - وأعلن «زرادشت» أنه بعث ليبتعد بالبشر عن طريق الشرير «أهرمان»،
14
لكنه فيما يرى «العقاد» حول «ميثهرا» من إله إلى ملاك موكل بهداية الصالحين لمساعدة «هرمز» في كفاحه ضد جحافل الظلام.
15
وليست الديانة الزرادشتية سوى تلك التي نعرفها في الإسلام بالمجوسية، لكن المجوسية عادت إلى فكرة وجود الشر أولا، وفسرت ذلك بأن «هرمز» و«أهرمان» كانا توءمين في باطن الزمن، فاحتال «أهرمان» بخبثه وشره الفطري، فشق لنفسه مخرجا إلى الوجود قبل «هرمز» الطيب، وهنا تدخل الزمن الأب ليحد من سلطان الشر على العالم، بأن أرسل «زرادشت» نبيا؛ ليعزز إله الخير «هرمز»، في محاربة «أهرمان» وجنده، وذلك بهداية البشر إلى طريق الخير فيكونون جنودا لهرمز.
وافترضت هذه العقيدة أن يستمر الصراع اثني عشر ألف سنة، يظهر على رأس كل ألف سنة إمام مهدي من بيت «زرادشت»، يقود الكفاح من أجل انتصار الخير على الشر، ويساعد البشر في التخلص من تأثير «أهرمان» ووسوساته، وبانتهاء المدة تقوم القيامة، وساعتها يحكم الدنيا الإمام المهدي الثاني عشر، ويسود السلام بعد أن تقوم القيامة، ويحكم فيها على «أهرمان» وجنوده ومن تبعه من البشر بالخلود في الجحيم، ولعل التشابه بين هذه الاعتقادات الفارسية وبين ما جاء في اعتقادات الفرق الشيعية الإمامية أوضح من أن يشار إليه.
كما أنه ليس بخاف أن ظهور فكرة إمام من نسل «زرادشت» يعيد للإنسانية أمنها وسلامها، كان ناتجا طبيعيا لنضوج الأوضاع الاجتماعية آنذاك والانقسامات الطبقية الحادة، فتحول العقل إلى البحث عن العزاء والراحة في عالم مقبل، يحكمه مهدي منتظر، يقضي على الشر والاضطهاد. كما أصبحت فكرة وجود إله شر مريحة للعقل، تساعده على الهرب من بحث الظروف الموضوعية التي تتحكم في حياته الاجتماعية، ومصدر الشر الحقيقي فيها، وهكذا جاءت المجوسية للإنسانية بمشجب مريح تعلق عليه كل الأخطاء والهفوات والتبريرات والمعاذير، وتصرف الطبقات المطحونة عن تغيير أوضاعها الفعلية إلى انتظار طوباوي لما في المستقبل الآتي. (6) الشيطان اليهودي
بداية، يصعب على الباحث أن يجد لدى اليهود إلها خاصا بالشر، لكن المطالع لمرحلة ما بعد التيه يمكنه أن يجد إشارات غامضة، تتضح بالتدريج مع فقدانهم أمان الاستقرار السالف في مصر، وبعد ما حدث بينهم في سيناء من صراع دموي، فظهرت فكرة إله مساو لإلههم «يهوه» في القدرة، هو السبب المباشر فيما وقع بهم من مصائب أسموه «عزازيل»، وتحاشيا لشر «عزازيل» قاموا يقدمون له القرابين كما يقدمونها إلى «يهوه» أو كما جاء في كتابهم المقدس: «... ويلقي هارون على التيس قرعتين، قرعة للرب، وقرعة لعزازيل.» ويرجح «لودز» أن «عزازيل» كان علما على شيطان أو جني اعتقد اليهود أنه يسكن الصحاري.
16
وفي كتاب «إبليس» يؤكد المرحوم «عباس العقاد» أن «عزازيل» هو اسم إله الخراب والقفار،
17
بينما يذهب آخرون إلى أنه زعيم الملائكة الذين هبطوا وزنوا ببنات البشر، ثم انهزموا أمام جنود الخير فلاذوا بالصحراء، أما نحن فنزعم أن «عزازيل» اليهود هذا ليس سوى «عزازيل» الذي كان يلقب به إله الهلال البابلي «سين»، وكان يصور في هيئة التيس، أو على الأرجح أنه كان إله التيوس مرموزا له بالهلال، للتشابه بين الهلال وبين قرني التيس، ولعل ذلك ما يفسر لنا صورة الشيطان في اللوحات الفنية مزودا بقرنين وحوافر وذنب.
وربما لا نجد ذكرا كثيرا للشيطان عند اليهود؛ لأن يهوه جمع الخير والشر معا، فلم يكن ثمة حاجة لإله للشر. ويذهب «كراب» إلى أن اليهود قد تأثروا بالعقائد الزرادشتية بعد احتكاكهم بالفرس، فقالوا بإلهين: واحد للخير وآخر للشر، وأطلقوا على إله الشر عدة ألقاب، أهمها:
satan «شيطان» و«إبليس». وإبليس - فيما يرى الباحثون - اختصار للأصل اليوناني «ديا بليس» أو «ديا بوليس
Dia-Bolos » ويؤكد الدكتور «مصطفى الجوزو» أن الكلمة
Dia-Bolos
أصبحت علما على ملاك الموت أو زعيم الهاوية السفلى التي كان اليهود يعتقدون أنها مصير جميع الموتى صالحا وطالحا.
18
ولنا أن نذهب إلى تعليل ذلك بكون اليهود اعتبروا الموت أعظم شر يمكن أن يصيب الإنسان، وبذلك فملاك الموت أو الشيطان اليهودي زعيم الهاوية اعتبر لديهم إلها للشر ورمزا له. (7) عزازيل وعزرائيل
وفي زعم بعض الباحثين أن المقطع الأول من ديابولوس
Dia
هو من الأصل اليوناني
Devil
ويعني الشيطان، لكن المرجح أن تكون كلمة «ديابولوس» قد دخلها خلط شديد واشتقاقات أخرى محتملة للمقطع
Dia .
من
Devin
بمعنى الألوهية، ومن
Dia
بمعنى يموت وبمعنى ملعون، ومن «ديوس
Deuce » بمعنى الشيطان، مع الأخذ بالحسبان قرب «ديوس» في النطق العربي، من اللفظ الكنعاني العبراني «التيوس» = جمع تيس، ويحمل المعنى نفسه في العربية، وهو ما يطابق ما ذهبنا إليه في أصل «عزازيل» لقب «سين» إله التيوس أو إله الهلال البابلي، مع اعتبارات أخرى مهمة، مثل التشابه بين لفظي «عزازيل» و«عزرائيل» ملاك الموت الأشهر.
ومن المفيد هنا أن نشير إلى تأثر الكنعانيين واليونانيين بشكل واسع بالعقيدة الفريجية (آسيا الصغرى) صاحبة الإله «آتيس
Attis ». وفي هوامش «د. يعقوب بكر»، على ترجمته لكتاب موسكاتي «الحضارات السامية القديمة» ملخص لأسطورة الإله «آتيس»، الذي كان إلها في هيئة شاب جميل، مات قتيلا وهو متلبس هيئة التيس، فهبط سيدا لعالم الموتى السفلي.
19
وبما نعرفه عن ميل اليونانيين إلى استبدال أسماء أبطال الأساطير الواردة بأسماء يونانية، فمن المحتمل أن يكون هذا «الديوس
Deus » أو التيس هو الذي حمل اسم «أبوللو» إله الشعر اليوناني (ولاحظ أن الشعر حتى يومنا هذا يعد وحيا شيطانيا، ولا يزال يعبر عن فيض الشاعر بأنه قد أتاه شيطانه).
ومن هنا يصبح معنى
Dia-Bolos
هو التيس «أبوللو»، أو الإله التيس «أبوللو»، أو إله عالم الموتى السفلي «أبوللو»، وهو ما يفسر لنا المقطع الثاني من كلمة ديابولوس أقصد
Abolos
أما حرف السين (S)
الأخير، فهو التصريف الاسمي، ولنلاحظ أنه من «أبوللو» كان اشتقاق الصفة
Apollonian
أي فائق الجمال. وبذلك نجد أنفسنا أمام معان كثيرة مختلطة للكلمة
Dia-Bolos
يمكن إجمالها في:
إله على هيئة التيس.
لكنه في الوقت نفسه فائق الجمال.
أصابته اللعنة فأصبح شريرا (لأن
Die = ملعون).
وهبط إلى عالم الموتى السفلي سيدا (لأن
Die = يموت).
حيث هناك العذاب بالتمزيق والحرق بالنار (لأن
Devil
تعني أيضا: يمزق، يفرم، لحم مشوي بالنار).
وهي في مجملها الصورة التي سنراها بهذا التركيب المتداخل في العقيدة المسيحية. (8) الشيطان المسيحي
يتضح من دراسة المراحل التاريخية العقائدية التالية، التي مرت بها فكرة إله الشر، أن البشرية قد ارتاحت تماما لمشجبها الديني، بحيث أصبح من الصعب - ومن الكفر في بعض العقائد - التنازل عنها. ولما أخذ العقل في الارتقاء من تعدد الآلهة إلى التوحيد، واجه مشكلة مؤرقة، فقد انتهى إلى القول بإله واحد موصوف بكل صفات الكمال، لا يصدر عنه إلا الخير، فكيف يحدث الشر؟ إلا أنه مع هذا التراث العريق لإله الشر، ذلك الذي أصبح اسمه «إبليس» أو «الشيطان
Satan »، لن توجد مشكلة؛ ومن ثم تركت له المسيحية بابا رحبا في عقائدها، فلا تكاد تجد سفرا إنجيليا يخلو من ذكر إبليس، مصحوبا بكل أنواع اللعنات وأقذعها، وحفاظا على وحدانية الله - ممثل الدولة الغائب - لم يعد إبليس إلها للشر، بل مخلوقا إلهيا تمرد على خالقه، فكان سببا لبلاء البشرية وآلامها، فهو أصل الخطيئة وسببها، وهو الذي أغوى آدم بالأكل من القوت المحرم والمعرفة المحرمة في الجنة، فارتكب خطيئته الأولى (ولأن ذلك يتعارض مع النص التوراتي القائل بأن الحية هي التي أوعزت لحواء لتأكل من الشجرة، فإن المسيحية أكدت أن هذه الحية لم تكن سوى إبليس متنكرا! وأنها ربما حملت إبليس في فمها، فتحدث إلى حواء من خلاها).
ويحكي لنا «واطس» قصة هذا المخلوق الذي تمرد على خالقه في قصة ملخصها: إن إبليس كان أكثر الملائكة جمالا وأعظمها شأنا عند الله، وكان أقرب الملائكة إلى الله، حتى كان يعكس الضوء الإلهي كالمرآة، فلقبه أقرانه لذلك ب «لوسيفر
Lucifer » أي حامل الضياء. ولما خلق الله آدم شعر إبليس أو «لوسيفر» أن هذا المخلوق الجديد سيهدد مكانته بالخطر. ورغم معرفته التامة باللعنة الأبدية التي ستلحقه إذا اعترض، فإنه لم يكتف بالاعتراض، بل رفض الأمر الإلهي بتأدية فروض الولاء للمخلوق الجديد الأقل منه شأنا، وأيده في الرفض عدة آلاف من الملائكة، أعلنوا العصيان والتمرد، فدفع الله بهم إلى عالم الظلام الأبدي تحت الأرض، فتحولوا من ملائكة إلى شياطين، يتزعمهم إبليس ملكا للشر، وعدوا لذرية «آدم».
20
بل وتزعم الأناجيل أن الله عندما نزل إلى الأرض في شخص «يسوع» المسيح - حسب اعتقادها - تعرض له إبليس أكثر من مرة ليغويه رغم معرفته به! (لاحظ إلى أي حد يثق الملاك العاصي بقدرته)، لكن المسيح الإله كان يفطن دائما للخدعة! ويعرف أن هذا إنما هو عدوه اللعين فيتحاشى مكره وفخاخه.
وهكذا يظهر شيطان المسيحية بقدرات جبارة، تصل به إلى حد تحدي إلهه والثورة عليه، ومحاولة صرف عباده عنه بغوايتهم. بل وصل به المدى حدا حاول معه إغواء إلهه ذاته، وهي صورة تلقي بنا في مرآة الزمان القديم، أيام كان إبليس إلها ذا قدرات إلهية، بل وتشهد له الأناجيل بهذا المعنى، بالسيادة في رسالة «بولس» إلى أفسس أن الشيطان: «رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية». وفي الإصحاح 14 من الإنجيل نفسه، وهو مع أتباعه في رسالة «بولس» إلى أفسس: «سلاطين وولاة العالم على الدهر مع أجناد الشر الروحية في السموات». وفي رسالته إلى أهل كورنثوس يصف بولس الرسول الشيطان وأتباعه بأنهم «رؤساء هذا العالم»، بل ويؤكد المسيح ملائكية إبليس وعلاقته بالموت والعالم السفلي، حيث النار والجحيم في الهاوية، بقوله في الإصحاح 25 من إنجيل متى: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية، المعدة لإبليس وملائكته.» (9) الشيطان في الإسلام
ويبدو أن قصة إبليس بمعناها الذي وصلت إليه مراحل العقل التطورية في المسيحية، كانت قصة معروفة بين عرب الجزيرة قبل الإسلام، ولا يبعد أن يكونوا قد عرفوها بتأثير اليهود والمسيحيين، فنجدهم يعتقدون بالاعتقاد اليهودي السالف حول «عزازيل»، وكونه ملاكا هبط مع رهطه إلى الأرض، وتزوج من الآدميات فيقول «د. خليل أحمد»: إن العرب في الجاهلية كانت لديهم أسطورة تقول: إن قبيلة جرهم هي نتاج تزاوج الملائكة مع بنات البشر، وأسطورة أخرى تؤكد أن ذا القرنين كانت أمه آدمية وأبوه ملاكا.
21
ويؤكد د. جواد علي أن العرب قد عبدوا الملائكة.
22
وهذا كله يفضي إلى أن العرب قد عرفوا قصة الملاك العاصي وأتباعه وعبدوهم، والإنسان لا يعبد إلا من صعد في التصور البشري إلى رتبه الألوهية.
وفي الإسلام أيضا نجد للشيطان مكانة، بالتسميات القديمة نفسها. فهو إبليس
Di-abolos
وهو الشيطان
Satan . ويؤكد «الثعلبي» أن الله عندما غضب على إبليس «مسخ صورته فصوره شيطانا بعد أن كان ملاكا ... وغير اسمه، وكان عزازيل فسماه إبليس!»
23 (وهي صورة تلقي بنا في مرآة القرون الخوالي)، إلا أن المفسرين - سيرا على تقليدهم المرعي - وضعوا لكلمة إبليس اشتقاقا لغويا عربيا أصيلا، فلم يعد اسما واردا من اللسان اليوناني عبر اليهود والمسيحيين، وإنما أصبح من «الإبلاس» أي اليأس التام من رحمة الله، وهو مصدر الخطيئة الأولى للبشر، بعد أن أغوى «آدم» و«حواء» ليأكلا من الثمرة المحرمة. وهو أساس كل بلاء وانحراف عن جادة الصواب.
ويرجح «العقاد» أن تكون كلمة شيطان من مادة: شط، شاط، شوط، شطن. وهي معان فيها البعد والضلال والتلهب والاحتراق، بحيث تستوعب أصول المعاني التي تفهم من كلمة الشيطان جميعها.
24
وإذا كان «إبليس» في العقائد القديمة إلها للشر، تحول مع التطور العقلي إلى ملاك عاص أو إلى جني، فإن القرآن الكريم يقول:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (البقرة: 30-34).
أما لماذا أبى «إبليس» واستكبر، وماذا كانت النتيجة، فهذا ما يجيب عنه الحوار التالي:
قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين (الحجر: 32-40).
فهنا أيضا «إبليس» ملاك عاص، يقف ممتلكا قدرات هائلة، لا يملكها المخلوق، فهو في موقف التحدي مع الإله، ويعلن تمرده، بل ويكرر قسمه في أكثر من آية بالالتزام بتمرده والاستمرار والإصرار عليه. انظر مثلا مواجهته ربه مقسما بذاته: «بعزتك لأغوينهم أجمعين». وليست هذه الغواية سوى رد على غواية الله له:
رب بما أغويتني لأزينن لهم ...
الآيات.
25
ورغم كون «إبليس» في الآيات ملاكا عاصيا، إلا أن آيات أخرى تقرر أنه كان من الجن:
فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه (الكهف: 50). أما كيف كان جنيا، فهي نقطة أخرى سنتطرق إليها بالمعالجة في مكان آخر من هذه الدراسة.
وسواء أكان ملاكا عاصيا أم جنيا، فهو في الإسلام - بدوره - شخصية ذات قدرات هائلة، في ضوء عصيانه لله، وهو يعرف كيان هذا الإله وقدراته، وعليه يصبح لدينا - في الإسلام - إله للخير، وإبليس للشر. ونتيجة هذا الفهم لإبليس، نسب إليه الكثير من الشراح والمفسرين والفقهاء أعمالا خارقة لا يستطيعها المخلوق. حتى قال د. الجوزو: «وكما أن لإبليس خصم الله الألد جنوده، يبدو أن الملائكة وبعض الجن الطيبين أنصار لله وعبيد له، يساعدون الناس في عمل الخير. ولعل هذا ما حدا بالدكتورين «إبراهيم بدران وسلوى الخماش» أن يلاحظا أن ما نسب إلى إبليس من قوة وجبروت، يبلغ من الضخامة ما يجعله موازيا في التصور الوهمي - للإنسان - جبروت الله».
26 (10) الشيطان جنيا
يبدو لنا أن تحول «إبليس» من إله للشر إلى ملاك عاص إنما يعود إلى نزوع العقل البشري خلال هذه القرون الطويلة نحو التوحيد، ونعتقد أنه كان لليهود دور لا يغفل في ذلك، إبان الأسر البابلي. فقد نقلوا - فيا يرى معظم الباحثين - جل آلهة الرافدين معهم إلى فلسطين، وعلى رأسهم الإله الجبار «إيل» وأتباعه من الآلهة التابعة، والذي ينتسب إليه «عزرا-إيل، وميكا-إيل، وإسراف-إيل ... إلخ». وأضافوا إليها عددا من الآلهة الفرعونية والكنعانية في مراحل تاريخهم التالي، ويبدو أنه مع اتجاههم نحو تمجيد إلههم القومي «يهوه»، الذي أدخل عبادته بينهم «موسى» النبي - عليه السلام - وتفضيله دون غيره عن بقية الآلهة، عز عليهم أن يتركوا هذا الجم الغفير من الآلهة باعتباره ثروة وتراثا قوميا بدوره، فحولوها من آلهة إلى أتباع للإله القومي «يهوه»، واعتبروها أقل منه شأنا.
وقد تأسس استنتاجنا هنا على إشارة من «ديورانت» إلى احتمال أن يكون اليهود قد صاغوا ملائكتهم من حشد الآلهة القديم.
27
ومن ثم نصادق على استنتاجنا بأن هذه الآلهة العديدة ظلت تحمل الطابع الإلهي هو هو لم يتغير. فهي مثل الإله نورانية التكوين، وهي مثله خالدة ولها قدرات كقدراته، ولها أجنحة آلهة الرافدين. ويؤيد ذلك أنه ما زال بعض تماثيلها المجنحة قائما في العراق إلى اليوم، وبما أنها أصبحت تابعة للإله الأكبر أو من أملاكه. فقد أطلق عليها اللسان العبري، الملائكة
Mal’akh . ولدينا أيضا الإله الجبار «إيل» وهو أعظم الآلهة القديمة شأنا لدى جميع الشعوب الرافدية الأصل ولدى اليهود بشكل خاص، الذي أخذ وضعه اللائق بين الآلهة المساعدة أو الملائكة، فأصبح كبيرها وسيدها باسمه القديم الإله الجبار إيل «جبرا إيل، أو جبريل»، وقد تخلقت الكلمة جبرا بمعنى الجبروت والقوة في كل اللغات السامية عن النطق الرافدي بما في ذلك اللغة العربية.
28
ومما يؤكد مذهبنا في تحويل اليهود الآلهة القديمة إلى ملائكة، تأكيد «سبتينو موسكاتي» أن الوصف الدقيق الذي قدمه النبي «حزقيال» لطائفة الكروبيين من سادة الملائكة، إنما كان نتيجة تأثره بما شاهده في بابل إبان الأسر البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، حيث يقول: «وحزقيال متأثر في هذا الوصف - ولا ريب - بتماثيل وصور الكائنات الجنية التي كانت تحرس معابد بابل وقصورها، والتي شهدها حزقيال قطعا إبان المنفى». ويؤكد ذلك أن في سفر حزقيال إشارات مباشرة إلى الصور المحفورة على الجدران في بابل.
29
وهنا يلوح لنا التداخل الذي حدث لبعض الآلهة المتحولة إلى ملائكة، ما بين كونها ملائكة أو جنا؛ نتيجة للتداخل الذي حدث بين فكرة الملائكة التابعة للإله، وبين الصور البابلية للجن، التي تصورهم كائنات بقرون وحوافر وذيول، التي شاهدوها إبان الأسر البابلي. ولما كان «إبليس» إلها قديما للشر، فمن المنطقي أن يتحول بدوره إلى ملاك تابع، وإلى جني في الوقت نفسه، ومن هنا - فيما نظن - نشأ التضارب فيما بعد، ما بين كونه ملاكا أم جنيا؟
وفي مثل مذهبنا هذا نجد «العقاد» يقول: «إن التطور في الديانات محقق لا شك فيه، أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبرى، فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو على الآلهة قدرا وقدرة، وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتى تزول، أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله العلي.»
30
ونساند ما رأيناه في التداخل بين الملائكية والجنية في شخصية «إبليس» بقول «العقاد»: «ففي أقدم العهود لم يكن عند العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية وخلائق الكائنات الأرضية من إنسانية وحيوانية، ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق وخلائق الشيطان، فكان الشيطان يحضر بين يدي الله مع الملائكة، وكان الملائكة يهبطون إلى الأرض، فيعاشرون بنات الناس، ومن هؤلاء الملائكة من يعمل في طاعة الشيطان.»
31 (11) إبليس التيس
وتتمة لمذهبنا في هذا التحول، نزعم أنه كان للمسيحية دور آخر كبير في التحولات التي دخلت على فكرة إله الشر. حيث نجد تحول إله الشر إلى ملاك مغضوب عليه، قد ظهر واتضح بجلاء في القرن الأول الميلادي. ثم بعدها أخذ المسيحيون يصورونه في هيئة إنسان ذي قرون وحوافر وذيل. وكان هذا في رأينا نتيجة لأن شعوب حوض المتوسط الشرقي كانت لا تزال تعبد الإله «آتيس»، ورمزه التيس ذو القرون والحوافر والذيل، وتعده إلها شهيدا. كما كانت هذه الشعوب بشكل عام، تتعبد إلى صور متعددة لتموز الرافدي، حتى سادت صورته الفينيقية بشكل واسع ممثلة في الإله «أدونيس». وكان يرمز له بدوره بالتيس، وكان بدوره إلها شهيدا. كذلك كان «ميثهرا» إلها شهيدا يحمل الصورة نفسها، فلما جاءت المسيحية واعتقد المسيحيون أن إلههم «يسوع» شهيد، ووجد الآباء الكنسيون صورة هذه الآلهة تتشابه - مع طقوسها - مع العقيدة المسيحية، لم يرجعوا ذلك إلى أن المسيحية مصب صبت فيه هذه المعتقدات، إنما اعتبروا هذه الديانات الأخرى التي ظلت في حالة صراع مع المسيحية حوالي خمسة قرون، قبل أن تصبح المسيحية دينا رسميا، صنعة للشيطان، وأن هذه الآلهة التي في صورة التيس لم تكن سوى تمثلات للشيطان نفسه.
وبحسبان كل هذه الديانات بما فيها المسيحية ديانات فدائية تقول بإله شهيد فدى البشر بنفسه، وتذبح نموذجا حيوانيا له في عيد موته وقيامته، الذي كان عيدا عاما في كل ديانات حوض المتوسط تقريبا، فإن التيس كان هو القربان الأمثل؛ لذلك رأت المسيحية أن تخالف ذلك، فاعتبرت إلهها الشهيد خروفا وليس جديا أو تيسا. واعتبرت الخروف القربان الأمثل، وعليه فكل من يؤمن بالإله الخروف فهو من أهل اليمين الخالد في النعيم. أما من يؤمن بالإله التيس فهو من أهل اليسار، أتباع إبليس، ومصيرهم جهنم. وفي هذا يقول إنجيل متى (إصحاح 25): «ومتى جاء ابن الإنسان (المسيح) في مجده، وجميع الملائكة والقديسيين، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم عن بعض، كما يميز الراعي الخراف عن الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ... ثم يقول أيضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين، إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.»
ومن هنا يتضح إصرار الأناجيل على تأكيد خروفية «المسيح» وليس تيسيته، أو ألوهيته وليس شيطنته. ومثال ذلك: «طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف، هذه أقوال الله الصادقة» (سفر الرؤيا، إصحاح 19)، وفي الجنة «عرش الله والخروف» (سفر الرؤيا، إصحاح 21). وهذا الإله الخروف هو «... حمل الله» (إنجيل يوحنا إصحاح 1).
32
وأتباع التيس «سيحاربون الخروف، والخروف يغلبهم؛ لأنه رب الأرباب وملك الملوك» (سفر الرؤيا، إصحاح 17). ومن هنا كانت تضحية الخروف والتقرب به أمرا مستحبا، تعبيرا عن صدق تضحية المسيح، وكذب تضحية إبليس (أو ميثهرا أو آتيس أو تموز أو أدونيس)؛ لأنهم جميعا إنما كانوا تيوسا. (12) إبليس الحية والتنين
يقول «العقاد»، وهو المعتمد الأساسي في هذه الدراسة عن الشيطان: إن الإنسان عندما حاول في بداية ظهور فكرة الشر أن يجد لها رمزا طبيعيا «لم يكن أمامه في مثل هذه الخطوة مثل على الشر الخبيث الذي يضمر السوء، ويتوارى عن النظر، أقرب إلى الحس والخيال من الحية التي تزحف على التراب وتندس في الجحور كيدا وخديعة وتمكنا من الدس والأذى فيما توهمه، ولم يكن في وسعه أن يتوهم شيئا سواها؛ ولهذا بقيت الحية مقترنة بقوة الشر حقيقة أو رمزا إلى أحدث العصور.»
33
وفي العقيدة الفارسية القديمة، نجد في الفصل الثالث من كتاب
Bundahesh
أن «أهرمان» إله الشر تشكل بهيئة الحية وملأ الوجود كله، ثم أرسل سمومه في كل شيء، ولم ينهزم حتى هبط هرمز إله الخير إلى الأرض وأعاده إلى قراره.
ودعما آخر نضيفه لما سبق في رؤيتنا لتحويل اليهود الآلهة القديمة إلى ملائكة، ثم تحول الملائكة إلى شياطين، ما جاء في رؤيا «إشعياء» النبي أن طائفة من الملائكة تسمى السرافيم تحرس عرش الرب في معبد أورشليم وتسبحه. ويشير «د. يعقوب بكر» في هوامشه على ترجمة كتاب «موسكاتي» سالف الذكر إلى أن الكلمة «سرافيم» هي في اللسان العبري من المفرد «ساراف» و«ساراف» تعني الحية!
34
والحية هي التي أوعزت لحواء في الجنة بالأكل من الثمرة المحرمة، فهي إذن رمز «إبليس» أو هي «إبليس» أو الشيطان، والشيطان يكون بهذا المعنى واحدا من السرافيم الملائكة. وفي هذا يقول الكتاب المقدس: «وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة، فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة: بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها.» ولما علم الرب بذلك قال للحية: «لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك» (الإصحاح 3، سفر التكوين).
إلا أنه للحق، حتى كتابة هذا النص التوراتي لم تكن شخصية «إبليس» قد تبلورت بعد، وكان الاعتقاد في مصدر الشر والإيعاز به هو الحية ذاتها، التي عظم أمرها في الأدوار التالية، وأصبحت في الخيال الإنساني ذات رءوس متعددة وأجنحة وأرجل ولسان وقاذف للهب، أي تنينا خرافيا يرمز للشر، ويدخل معه الإله في صراع طويل حتى يتغلب عليه. وفي ذلك يقول المزمور 74 بالكتاب المقدس: إن الإله القومي «يهوه» دخل الصراع مع هذا التنين الذي يسمى «لوياثان»: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضفت رءوس لوياثان.» لاحظ أن الإله لا يصارع مخلوقاته بل أنداده. وفي سفر إشعياء (27: 1): «في ذلك الوقت ستقتل لوياثان الحية الهاربة، لوياثان الحية الملتوية، ويقتل التنين الذي في البحر.» ولعله واضح أن ذلك ليس سوى ترجيع لصدى الاعتقادات البدائية في قوتي الخير والشر والصراع بينهما.
ويدعم ذلك تماما الاكتشافات الآثارية الحديثة في أوجاريت (تل شمرا) القديمة، وما سجلته النصوص الكنعانية المقدسة هناك حول إله الشر المرموز له ب «لوياثان»، حيث نجد أصلا (طبق الصورة الموجودة بالكتاب المقدس) أورده الباحث «فراس السواح»: «وفي ذلك اليوم، يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان، ويضع نهاية للحية الملتوية الهاربة، شالياط ذات الرءوس السبعة.» وفي نص آخر تقوم «عنات» زوجة الإله «بعل» بقتل التنين، فيخاطبها النص الأوجاريتي قائلا: «ألست أنت التي أفنت التنين؟ وسحقت الحية الملتوتة ذات الرءوس السبعة؟»
35 (13) وكان الشيطان العربي ثعبانا
وإضافة لهذه المشابهات (أو الشبهات) النصية، نجد الفكرة العامة هي صراع بين قوتي الخير والشر، وهي الفكرة نفسها في صراع «أوزير» و«ست» في العقيدة المصرية القديمة، وصراع «مردوك» و«تهامة» في العقيدة الرافدية القديمة، وصراع «البعل» و«موت» في العقيدة الكنعانية، وهي الفكرة القديمة نفسها الشائعة في بقية المعتقدات العتيقة من تنين الصين حتى تنانين حوض المتوسط.
و«العقاد» يؤكد أن الشراح اليهود المتأخرين قد ذكروا أن الشيطان تمثل لآدم في صوة الحية حين أغراه بالأكل من الثمرة المحرمة، ولم تنقطع العلاقة بين الحية والشيطان أبدا.
ومن بعد اليهود استرسل المسيحيون الأوائل في حديث الحية باعتبارها أقرب صورة حسية لتمثيل الفكرة الطالعة للشيطان أو «إبليس»، حتى أصبح لها مقار عبادة في مختلف الحضارات القديمة.
36
ومن هنا اعتبر المسيحيون الحية معبودا شيطانيا كالتيوس الآلهة، ومن هنا أيضا أصبح الشيطان ممثلا في الحية والتنين والتيس لدى المسيحيين، فبقيت اللوحات الفنية المسيحية تمثله بالحية، وبالتنين في جميع أعضائه عدا الرأس الذي حول إلى رأس إنسان ذي قرنين أو أذنين صاعدين مكان القرنين. وكلما تقدمنا زمنيا وجدنا الأعمال الفنية المسيحية تستبعد عن صورته الحية والتنين لتخلفها ملامح إنسان خبيث، لكنه محتفظ بالقرنين أو الأذنين الطويلتين والظلف المشقوق، والذيل الذي غالبا ما ينتهي برأس الحية!
أما أوضح إشارة إنجيلية لتسمية الحية بالشيطان، فقد جاءت في الإصحاح 12 من أعمال الرسل، إذ تقول: «إنه التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس، الشيطان الذي يضل العالم»!
ولو رحلنا جنوبا نحو جزيرة العرب، فسنجد الجاهليين يسمون الثعبان الكبير شيطانا، ويقال في بعض التفاسير إن هذا المعنى هو المقصود من
طلعها كأنه رءوس الشياطين (الصافات: 65). كذلك نجد في الإسلام حديثا منسوبا للإمام «علي» يقول: «قلت: يا رسول الله
فتلقى آدم من ربه كلمات (البقرة: 37) فما هي الكلمات؟ قال: يا علي إن الله أهبط آدم بالهند، وأهبط حواء بجدة، والحية بأصبهان، وإبليس بميسان، ولم يكن في الجنة شيء أحسن من الحية والطاووس، وكان للحية قوائم كقوائم البعير، فدخل إبليس في جوفها فغر آدم وخدعه، فغضب الله على الحية وألقى عنها قوائمها، وقال: جعلت رزقك التراب وجعلتك تمشين على بطنك، لا رحم الله من رحمك.»
37
وذلك مما يذكرنا بإبليس في العقائد القديمة كطاووس للملائكة وكحية.
ويفصل لنا «النيسابوري» أكثر فيقول: «إن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لآدم وحواء، فمنعه الخزنة من ذلك، فذهب إلى الطاووس، وكان - سيد طيور الجنة - يتحايل عليه ليدخله الجنة، فدله على الحية لأنها أقدر على ذلك، وكانت من خزان الجنة، وكانت صديقة لإبليس، فأدخلته في فمها ومرت به على الخزانة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة.»
ويصور لنا «الثعلبي» العقاب الإلهي الذي نزل بالمتآمرين الثلاثة «إبليس والطاووس والحية» بقوله: «إن الله أنزل إبليس بالأبلة من أرض العراق وهي البصرة، وقيل ميشان، والحية بأصبهان، والطاووس بأرض بابل، ومسخ صورة إبليس فصيره شيطانا، بعد أن كان ملاكا، وعاقب الحية بخمسة أشياء، قطع قوائمها وأمشاها على بطنها، ومسخ صورتها بعد أن كانت أحسن الدواب، وجعل غذاءها التراب، وجعلها تموت كل سنة بالشتاء (لاحظ تفسيره لمسألة البيات الشتوي) وجعلها عدوة لبني آدم وهم أعداؤها، حينما يرونها يقتلونها.»
38
ولعله قد بات واضحا في كل ما سردناه حتى الآن تأثر العقيدة المسيحية والعبرية بالأساطير الرافدية القديمة، إذ لم تزل مصورات الحية بقوائمها إلى اليوم قائمة، ونقوش عدة لإله الخير وهو يقطع هذه القوائم، ونقوش أخرى تجمع في تصويرها ما بين الطاووس والحية والتيس وإله الخير يصرعه، بل إن إيعاز الحية لآدم وحواء في القصص الديني، يجد له صدى وترجيعا واضحا في الآثار السومرية بعد أن عثر الباحثون على نقش سومري يعود تاريخه إلى الألف الثالثة قبل الميلاد (قبل ظهور اليهودية بقرون طويلة) يصور ذكرا وأنثى يتناولان ثمرة من نخلة، وخلف حواء تدلت حية في وضع يوحي بالصورة نفسها التي جاءت بعد ذلك في القصص الديني لتؤكد مقولة «العقاد»: «إن التطور في الديانات محقق لا شك فيه.»
لوحة رقم 1: «فن رافدي» يمكننا أن نلاحظ في هذه اللوحة الفنية إله الخير على اليمين (لاحظ الأجنحة والريش الذي أصبح من مواصفات الملائكة في مراحل تالية)، يصارع إله الشر ممثلا في هيئة تجمع كل مواصفات إله الشر (القرون، جسم الحية المغطى بالحراشف، ذيل الطاووس، القوائم، والأجنحة تذكيرا بأصله الإلهي أو عنصره الملائكي).
لوحة رقم 2: الإله حورس، أحد أفراد الثالوث المصري الذي يرأسه الأب الإلهي «أوزير» يطعن «ست» إله الشر ممثلا في تمساح، إذ تعد الميثولوجيا المصرية التمساح حليفا لإله الشر «ست»، وهذه القطعة الفنية ذات أهمية خاصة؛ لأنها النموذج الأصلي لكثير من الأشكال الممثلة للقديسين على ظهور الجياد في الفن القبطي، وخاصة في لوحات الماري جرجس.
لوحة رقم 3: الماري جرجس أو البطل الروماني في التصورات المسيحية يطعن التنين، قارن مع لوحة حورس يطعن التمساح.
لوحة رقم 4: الماري جرجس (فن مسيحي) يطعن التنين، قارن مع لوحة حورس.
لوحة رقم 5: تصوير آخر للبطل يقتل التنين.
لوحة رقم 6: على بوابة عشتار نجد هذه اللوحة التي جمعت كل مواصفات إله الشر أو الشيطان: تنين يجسم الحية وذنبها ولسانها، قرون التيس، القوائم، لاحظ إلى أي حد كان يمكن أن تؤثر هذه اللوحة في عقلية «حزقيال» صاحب سفر «حزقيال» بالكتاب المقدس، أو في عقلية بدوي مرتحل!
لوحة رقم 7: التيس الإلهي، فن رافدي من خراسباد القرن الثامن قبل الميلاد، محفوظ حاليا بمتحف اللوفر، قارن مع لوحة الخروف الإلهي.
لوحة رقم 8: الخروف الإلهي، فن مسيحي.
لوحة رقم 9: الخير يمحق الشر (فن مسيحي) لاحظ أجنحة الآلهة الرافدية في كليهما، وذيل الشيطان (أسفل) تذكيرا بالحية، وتحته اللهب!
لوحة رقم 10: «جن وقرص مجنح. متحف حلب» هذا ما علق به أندريه بارو في كتابه «بلاد آشور، دار الرشيد للنشر، ص104»، لكن لنا أن نرى في هذا النقش صورة تامة لملامح إبليس التي أتتنا في صورتها الناضجة النهائية، فنحن نرى، أمامنا أرجل الماعز والذيل ووجه الإنسان مزودا بقرون لشخصين يحملان كرسيا عليه قرص مجنح، والكرسي ليس سوى العرش، والشمس المجنحة رمز للإله. ومعلوم أن الديانات القديمة في مجملها ترمز لإله الخير بالشمس لأنه مصدر الضياء ... أليس هذا هو من أصبح لوسيفر الذي كان يعكس الضوء الإلهي لأنه من حملة العرش؟
زهرة للحب، زهرة للحرب
(1) تأسيس
لعل أجمل كواكب المجموعة الشمسية التسعة في رؤية الإنسان القديم، كان هو ذاك الكوكب اللامع الذي عادة ما يظهر مع مشرق الشمس ومغربها؛ مما حدا بالإنسان القديم إلى الاهتمام بأمره ومراقبته، حتى أطلق عليه «كوكب الحسن»، وكما تغنت الأشعار والأساطير بالقمر، فقد تغنت بالزهرة أيضا، حتى حفت بهما الأساطير من كل لون، ولم يكن يخطر بالبال آنذاك أنه سيأتي اليوم الذي ينتزع فيه العلم الحديث عن مثل هذه الكواكب تلك الهالة العظمى من الجمال والتبجيل، حتى أصبح من فساد الذوق وصفها بالجمال.
وقد كان للرافديين القدماء، وبخاصة البابليين، باع واهتمام خاص بعلم الفلك، ووصلت اكتشافاتهم إلى رصد ومعرفة أحوال خمسة من كواكب المجموعة الشمسية السيارة التسعة، هي «عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل»، ثم أضافوا إليهم النيرين الكبيرين «الشمس والقمر» ليصبحوا سبعة،
1
ليصبح الرقم «7» من يومها رقما مقدسا، إذ إنهم جمعوا بين علومهم وبين عقائدهم الدينية، حتى إن المعابد كانت دور عبادة وعلم، كما كانت في الوقت نفسه مراصد فلكية،
2
وكانت المعبودات في هذه الدور هي أجرام السماء وأفلاكها، وعلى رأسها هذه الأجرام والكواكب السبعة.
ويبدو لنا مما جاء في اللوح الخامس من أسطورة الخلق البابلية: «أن النجوم هي صورة الآلهة ... هي رموزها»،
3
إن العقل البشري إبان تطوره ارتفع نحو مزيد من التجريد لآلهته، فتمثل لها رموزا في السماء، جاعلا لكل إله من آلهته رمزا يتمثل في نجم أو كوكب أو مجموعة أجرام، لكن أعظم هذه الآلهة شأنا تلك التي رمزوا لها بالمجموعة «7» سالفة الذكر، ومن بين هذه السبعة المقدسات كان لعبادة كوكب الزهرة بالذات مكان ومكانة، وأثر بعيد امتد في مده الزمكاني، أو المكاني والزماني، حتى دخل في صلب عقائد ما زال يعتقدها الإنسان في قرنه العشرين! (2) الزهرة بين الأرض والسماء
عندما كان العقل البشري لم يزل على مدارج بدائيته الفكرية يدرج حبوا إبان مسيرته التطورية، انتقل بخطوة تجريدية بسيطة من عبادة تربة الأرض عرفانا بها كأم رءوم كبرى، ومن تعفير جبهته في ترابها، إلى فصل روح الخصوبة عنها، وتمثلها في إلهة تختص بحمل روح الخصوبة. بحيث لم تعد الخصوبة تتركز في التربة، وإنما في قوة كونية اختص بها معبود جسده العقل الرافدي القديم في إلهة أنثى باعتبار الإخصاب والعطاء والميلاد من خواص الأنثى، ولأن الأرض والأنثى محور حياة الإنسان؛ لذا فقد أصبحت هذه الآلهة قوى أساسية ومحركا كونيا لأحداث العالم، ثم تمثل لها رمزا في السماء هو كوكب الزهرة لما تميز به من حسن وبهاء؛ ومن ثم تحول نحو السماء عابدا؛ ليردف سجوده على الأرض برفع يديه نحو السماء، تاركا لنا رسومها فيما تركه من آثار رافدية (على هيئة نجمة ذات ثمانية إشعاعات، وأحيانا ستة عشر شعاعا).
4
وفي مدينة الوركاء السومرية نشأت عبادة كوكب الزهرة ونمت، إذ أطلق عليها اللسان السومري «إينانا» الذي يعني «سيدة السماء»،
5
ففي اللسان السومري «إن» تعني سيدة، و«آن» تعني السماء، وبدخول الساميين إلى الرافديين وتأسيس الدولة الأكادية تحول اسمها من «إينانا» إلى «عشتار».
ومما لا شك فيه أن عبادة «الربة الأم» من أقدم العبادات؛ لأن عملية التوالد العجيبة - في نظر الإنسان القديم - كانت من خصائص المرأة وحدها.
6
ولما كان التناسل من الأسرار الغريبة؛ فقد شخص هذه الإلهة في البداية بتربة الأرض؛ نظرا لأن إخصاب التربة ليس سوى نوع من الميلاد المتجدد للمحصول، ولتفسير دورة الحياة النباتية ما بين الخصب والجدب حسب التنوع الفصلي، فقد خطت يد الإنسان أول ملحمة في التاريخ عن إلهة الخصب، هي الملحمة السومرية «هبوط إينانا إلى العالم السفلي» التي أعاد البابليون صياغتها في ملحمة «هبوط عشتار إلى العالم الأسفل».
وفي هذا الزمان البعيد، لم يكن الإنسان قد وصل بعد إلى اختراع فكرة عالم آخر فيه بعث ثم ثواب أو عقاب، ترغيبا وترهيبا، وكل ما استطاع عقله أن يصل إليه حول مصير الموتى، أنهم يهبطون إلى عالم أسفل سطح الأرض ، لا فرق في ذلك بين صالح وطالح، أطلقوا عليه اسم «كور» أو «أرالو». وقد تصوره عالما موحشا مقبضا رهيبا مليئا بكل المفزعات من وحوش وأفاع وحيات، يعيش فيه الميت على الرغام والطين، ولا فكاك من هذا المصير الشقي لأي ميت أيا كانت مكانته.
7
وتقول الملحمة إن إلهة الخصب «إينانا» أو «عشتار» أو «الزهرة» قد قامت بتضحية اختيارية، وذلك بنزولها إلى عالم الموتى السفلي، وبغيابها عن عالم الأحياء - وهي روح الخصوبة - جفت الأرض وتوقف النسل وتعطل العطاء النباتي والحيواني وكل مظاهر الحياة المتجددة على الأرض؛ لتفسر الأسطورة فصل الجفاف، وكي تفسر فصل الخصب؛ كان لا بد أن تعود الزهرة من عالم الموتى، إلا أن الحبكة الدراماتيكية استدعت أن يوضع لعودتها شرط، تمثل في ضرورة حلول بديل محلها. وتصل الدراما التراجيدية إلى ذروتها عندما نجدها ترشد زبانية العالم السفلي إلى عشيقها المفضل «تموز» - صاحب الشهر المعروف باسمه في التقويم حتى الآن - ليأخذوه معهم بديلا، نظير الإفراج عنها، رغم ما كان بينهما من قصص غرام وهيام مشبعة بالفعل الجنسي، تم سردها بالأسلوب الصريح المكشوف، بوضوح وبساطة وسذاجة شديدة، تعبيرا عن الاعتقاد في مسألة الخصب وأهميتها.
8
أما مدخل العالم السفلي الرهيب، فكان في بابل نفسها، وبالتحديد في فتحة بئر يقع في مدينة الوركاء نفسها، حسبما جاءنا في ملحمة رافدية أخرى هي «ملحمة جلجامش».
9 (3) الزهرة ربة الحب والحرب
مع بدء «الآشوريين» على صفحة التاريخ، وتكون الدولة الإمبراطورية الآشورية، لم تعد الزهرة ربة اللذة والحب الشهواني فقط، وإنما أصبحت أيضا ربة حرب هلوك، إذا ما أخذنا بالحسبان طبيعة الشعب الآشوري الدموي وهو شعب محارب بفطرته، لم يشهد العالم القديم مثيلا له في البشاعة والقسوة. وقد وجد الآشوريون لطبعهم واعتقادهم الجديد سندا في طبيعة الزهرة نفسها، فهي تظهر في اليوم مرتين، صباحا مع الشروق ومساء مع الغروب، ومن هنا «اعتبروها إلهة الحب واللذة حين تكون إلهة المساء ... ولكنها إلهة الحرب والقتل حين تكون إلهة الصباح»،
10
حتى لقبوها بلقب «سيدة الحرب» فأصبحت مع بداية العهد الآشوري سيدة الحرب إلى جوار كونها سيدة السماء وربة اللذة.
ويؤكد «د. فاضل عبد الواحد» أن فترة سيادة الآشوريين كانت من دون شك من أشهر الفترات التي بلغت فيها الإلهة عشتار منزلة عظيمة باعتبارها إلهة للحرب
11
ويضيف د. نجيب ميخائيل أنها عبدت «... كإله ذكر في الصباح يشرف على الحروب والمذابح، وأنثى في المساء ترعى الحب والشهوة، فهي ربة هلوك تسعى وراء اللذة والإغواء».
12
والحب الجسدي هبة عشتار، هي «ربة العشق»، وهي «ملكة اللذة»، وهي «التي تحب المتعة والفرح»، وترتبط عبادتها بالعاهرات المقدسات المعروفات باسم «عشتاريتو» أي «العشتاريات» ... ولا يخضع البشر وحدهم لنزواتها بل الحيوان كذلك، ولقد استطاعت أن تطغى على اختصاصات غيرها من المعبودات في «سومر» و«أكد» و«آشور»، وهي زوجة لكبار الآلهة.
13
ويفسر «د. ميخائيل» مسألة العهر أو البغاء المقدس التي رافقت عبادة الزهرة بقوله: «وكانت عبادة عشتار تتطلب طبقة أخرى من النساء حول هيكلها، ينذرن أنفسهن لمطالبها ونزواتها؛ ومن ثم يطلق عليهن اسم عشتاريتو، وهن بنات الهوى ... «الحريماتي» ... وهناك كذلك طبقة المنذورات ... وهن من يقدمهن ساداتهن أو آباؤهن نذرا للمعبد للخدمة فيه.»
14
ولعله من الواضح البين أن هذا الطقس الذي تمجه أعرافنا وأذواقنا اليوم، إنما كان رمزا من رموز الخصب، يؤكد أهمية الجنس لإدامة الحياة وخلق مظاهرها المختلفة، وقد بقي هذا الطقس إلى عهد متأخر، فقد أسهب في ذكره المؤرخ اليوناني الرحالة «هيردوت» حوالي عام 500ق.م.
ونجد لدى الباحث «فراس السواح» تفسيرا أوضح قربا من واقع عقلية هذه العصور الغابرة، فيقول في معرض حديثه عن الإلهة الأم الكبرى، أو إلهة الجنس كعبادة عامة عرفتها أغلبية شعوب العالم القديم: «وهذه الإلهة إما أنها مخصبة ذاتيا دونما حاجة لقوة خارجية، كما هو الأمر في الميثولوجيا اليونانية، إذ أنجبت الأرض «جيا» إلها جديرا بها هو «أورانوس السماء» الذي غطاها تماما من جميع جهاتها، أو أنها بحاجة لقرين يساعدها على الإنجاب، وهذا الدور يؤديه إله السماء نفسه، حيث يقوم الإلهان بفعل القران الأول، الذي يقلده الأحياء منذ تلك الأيام: «أنا السماء وأنت الأرض» (هذا ما يهمس به العريس الهندوسي ليلة زواجه في أذن عروسه)؛ لهذا السبب فقد رافقت في أحيان كثيرة طقوس واحتفالات الإلهة الأم، ممارسات الجنس الجماعي، الذي من شأنه في هذه المناسبة المقدسة تحريض القوى الإخصابية الكامنة في الأرض، اعتمادا على مبدأ السحر التشاكلي، حيث الشبيه ينتج الشبيه.»
15
ونظن أن مسألة المنذورات قد جاءت في مرحلة متأخرة نسبيا وأكثر ارتقاء كنوع من التخصص الكهنوتي، بعد أن كانت هذه العبادة الداعرة. مسألة عامة ومتفشية بشكل وبائي حاد لدى عباد الزهرة، حتى اعتقد أن أفضل قربان يقدم للزهرة هو بكارة الأنثى، وفي هذا يقول «ول ديورانت»: «... ولم تكن التضحية بالبكارة في الهياكل عملا يتقرب به إلى عشتروت وحسب، بل كان فوق ذلك مشاركة لها في التهتك، الذي يرجى منه أن يوحي إلى الأرض إيحاء قويا لا تستطيع مقاومته، وأن يضمن تكاثر النبات والحيوان والإنسان.»
16
ويرى «د. أنيس فريحة» أن هذا البغاء الذي وصل حد «بيع النساء أجسادهن في أيام معدودات، وشراء ذبائح لعشتروت بأجورهن بقايا عادات قديمة سابقة للتاريخ، عندما لم يكن هناك زواج بالمعنى الذي نفهمه الآن، بل عندما كان الزواج اجتماعيا مشتركا، النساء للرجال والرجال للنساء في القبيلة الواحدة.»
17
ورغم كل هذا الشبق الحاد الذي تميزت به إلهة كوكب الزهرة، ومع كل قصص الغرام وتعدد عشاقها وفتكها المستمر بهؤلاء العشاق كما حدث مع «تموز» - كما لو كانت بقايا من غريزة حيوانية في اللاشعور الإنساني؛ لسابقة كانت الأنثى تفتك فيها بالذكر بعد الجماع، كما نجد في بعض الكائنات الحية اليوم - رغم كل ذلك نجد «... عبادها كثيرا ما كانوا يخاطبونها بقولهم: العذراء، العذراء المقدسة، الأم العذراء.»
18
ويعلق «السواح» على ذلك بقوله: «والعذراء لقبها، والعذرية جوهرها، رغم أنها ترمز للجنس والحب والإخصاب، فهذا الجوهر، لا يبدده لقاء عابر ولا حمل ولا ولادة، وتبقى عذريتها رغم إخصابها الأبدي الذي لا يمسه عرض زائل، ولعشتار عشاق وأزواج، أشهرهم تموز التعيس.»
19
ويقدم «جون. م. أليكارو» تفسيرا لهذا التناقض الغريب في شخصية الزهرة بقوله: «إن خلق الجنين في الرحم في اعتقاد القدماء يعتمد على ثلاثة عناصر: الروح، دم الحيض، مني الرجل. أما الروح فمن عند الله، والدم تقدمه المرأة، والمني للرجل، ولما كان دم الحيض عند العذراوات أغزر منه بكثير لدى المتزوجات، وخاصة بعد الولد الأول، فقد اعتقد الأقدمون أن مقدرة العذراء الإخصابية أكثر بكثير من غيرها. وخصوصا أن انتهاء الحيض يعني عدم القدرة على الإنجاب، وذلك عند تجاوز المرأة لسن اليأس. ومن هنا فإن عشتار وهي رمز الإخصاب لا يمكن أن تكون عذريتها إلا بهذا المعنى للكلمة، أي المخصبة أبدا، الغزيرة دم الحيض، الخالق للحياة.»
20
ومن الجدير بالذكر أن العذراء كلمة سامية مشتركة في مختلف اللغات السامية، فمنطوقها الأكادي في الرافدين هو «بتلت»، وفي الأوجاريتية «الكنعانية» «بتلت» أيضا، وفي الآرامية «بتولتا»، وفي العبرية «بتولا»، وفي العربية «بتول».
21 (4) الزهرة معبودة الجماهير
ومع الفتوحات البابلية والآشورية لبلاد شرقي المتوسط، رحلت الزهرة مع الرافدين تفرض عبادتها على القلوب. ففي كنعان حطت رحالها باسم «عنات» - باللسان الكنعاني - أو «إناث» بمعنى الأنوثة وما ينطوي عليه. وفي فينيقيا شمالا ظلت باسمها الآشوري «إستار». ومن هناك عبرت البحر مع التجارة الفينيقية إلى اليونان، حيث أصبحت هناك «أثينا» أو «أفروديت»، بل إنها وصلت روما لتعبد هناك تحت الاسم «فينوس».
22
وقد كان الفضل في انتشارها بالقارة الأوروبية إنما يعود في المقام الأول إلى أهل الساحل اللبناني الفينيقيين، الذين تمكنوا من السيطرة على البحر، كما كانوا شعبا تجاريا من الطراز الأول، حتى إن تمكنهم البحري والتجاري لا يزال يعد أعجوبة ومثلا تاريخيا نادرا، ولم يقتصر توسعها على الغرب فقط، وإنما اتجهت أيضا نحو الشرق، حيث عيلام (إيران القديمة) لتعرف هناك باسم «سيدة عيلام» التي تسكن سوسة «عاصمة عيلام».
23
ولم يسلم من فتنتها أي من شعوب المنطقة، حتى من ينعتهم المؤرخون بالموحدين، أقصد الشعب العبري أو اليهودي، قد وقعوا في فتنة الزهرة فعبدوها ومارسوا طقوسها الرافدية نفسها.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام الإشارة إلى أن عبادة الزهرة اشتملت على طقوس متعددة، أبرزها طقس موسمي للبكاء على الإله «تموز » التعس والنواح عليه لميتته في العالم السفلي بعد أن أسلمته «عشتار» للزبانية بديلا عنها، وهذا الطقس بالذات يرويه لنا النبي «حزقيال» في سفره بالكتاب المقدس، حيث يقول: إنه قد شاهد من بين اليهود عند «... مدخل بيت الرب ... نسوة جالسات يبكين على تموز ... وإذا عند باب الهيكل بين الرواق والمذابح، نحو خمسة وعشرين رجلا، ظهورهم نحو الهيكل ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون ...»
24
كما أن سفر نشيد الإنشاد المنسوب للنبي «سليمان»، لا يتسم بأية صفة دينية، ولا يمت للمعتقدات العبرية بصلة، كما لا تنسجم محتوياته أصلا مع طبيعة الكتاب المقدس، فهو أناشيد غزلية مكشوفة تماما تنضح بالتعابير الجنسية، تدور كحوار بين عشيق وعشيقته، يصف فيها العاشق مفاتن عشيقته واقتدارها الجنسي. وهو بالمقارنة مع طقس عشتار «الزهرة الرافدية» المسمى ب «الزواج المقدس» بين الكاهنة الكبرى للبغايا المقدسات، وبين الملك الذي كان يعد كبيرا للكهنة في الوقت نفسه، لتحريض القوى الإخصابية على العطاء، نجد نشيد الإنشاد يكاد يكون نسخة منقولة، وخاصة أن الفتى العاشق في الأناشيد ينعت بكلمتي: ملك راع، وهما من نعوت «تموز» في الرواية الرافدية، والفتاة في الأناشيد توصف مرة بأنها زوجة ومرة بكونها أختا، وهما صفتا الزهرة في أساطيرها الرافدية، ومن هذه الغزليات العبرية السليمانية نقتطع بعض المقاطع مثل:
ليقبلني بقبلات فمه؛ لأن حبك أطيب من الخمر ...
في الليل، على فراشي، طلبت من تحبه نفسي ...
شفتاك يا عروس تقطران شهدا، تحت لسانك عسل ولبن ...
دوائر فخذيك مثل الحلي ... سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب مزوج ...
ثدياك خشفتا توءمي ظبية ... وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات، قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد، قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح.
25
وقد أشار أكثر من باحث من ذوي المكانة العلمية إلى تسرب عبادة الزهرة وطقوسها إلى الديانة اليهودية، فيؤكد «ول ديورانت» أن العهر المقدس والمنذورات كانت طقوسا تمارس في هيكل بني إسرائيل.
26
كما نجد في الأعياد اليهودية نسخا أخرى من أعياد الزهرة في صيغتها الكنعانية، وهناك لم يكن خلال السنة الواحدة ما يمكن اعتباره فصلي خصب وجدب؛ لأن أغلبية الأراضي كانت تعتمد في ريها على الأمطار والمياه الجوفية، ويشير «جوردون» إلى أنه لم يكن هناك شيء أبعث للرعب في نفوس الكنعانيين مما أسموه بالسنوات العجاف إذا تلاحقت، وقد جاء في الأساطير المكتشفة في أوجاريت أنها تستمر سبع سنوات، يليها سنوات سبع أخرى كلها خيرات وهكذا دواليك.
27
ولنا أن نعلق هنا بأن الأمر لم يكن يسير في حقيقته على هذا المنوال، إنما هو الخيال الأسطوري المشبع بتقديس الرقم «7». وغني عن الإيضاح أن ما جاء في قصة يوسف بالكتاب المقدس، يشير إشارة واضحة إلى الأثر الكنعاني في العقائد اليهودية، ويقول «موسكاتي»: إن هذا الاعتقاد قد ترك أثره في عيد «شابوعوت» اليهودي، وقياسا على قصة إلهة الخصب، كان يجب أن تستريح تربة الأرض سنة كل سبع سنوات تسمى سنة «السبت» ولم يكن يبذر أو يحصد فيها شيء.
28
و«شابوعوت» أو عيد الأسابيع كما يسمى في الكتاب المقدس
29
هو عيد الحصاد، فهو عيد قيامة الزهرة للحياة وعودة الخصب إلى الأرض، كذلك عيد الفصح، هو في أصله كما يؤكد «لودز» ليس سوى بقايا العبادة الرافدية القديمة.
30
وذلك بالنظر إلى أنه كان يحتفل به في مستهل الربيع؛ لأنه موسم إنتاج الأرض والماشية فيما يقول «سميث»،
31
حتى إن اسم عيد الفصح سواء عند اليهود أم المسيحيين هو في الإنجليزية «إيستر»، وفي الألمانية «أوستيرن»، وفي التوتونية
Eastra
أو
Ostara ، وكما هو واضح في النطق أن الاسم ليس سوى ترديد مختلف اللكنات لاسم الإلهة «عشتار».
ومن اليهودية ينقلنا «السواح» إلى المسيحية، حيث يقول: «أما الأم الكبرى أو القوة الإخصابية الكونية المتمثلة بإلهة الحب العذراء، فقد حلت محلها السيدة مريم العذراء، التي دعيت بسيدة السماء، وهو اللقب الرئيسي للإلهة عشتار، وحتى وقت قريب كانت السيدة مريم تدعى في بعض المناطق الريفية في إيطاليا الجنوبية ب «أفروديتا» نسبة إلى أفروديت (وهو اسم الزهرة عند الرومان)، كما كانت تماثيل الإلهة ديمتر (اسم الزهرة عند اليونان) الباقية في بعض الخرائب العتيقة ، تعبد على أنها السيدة مريم ذاتها.»
32
والغريب حقا أننا إذا تتبعنا اسم السيدة «مريم
Mary » سنجده لقب كوكب الزهرة عند الرومان، فقد اعتبرها هؤلاء - نقلا عن الفينيقيين - إلهة للبحر، وكلاهما كان شعبا بحريا، وأطلقوا على «أفروديت» الزهرة اللقب البحري «ستيلا ماري»،
33
أي كوكب البحر، والبحر في اللاتينية واللغات المشتقة منها هو،
Maria Meer MaryMare ، ويشير «عباس العقاد» إلى أن الاسم «مريم
Mary » كان اسما عاما يطلق على إلهات الخصب،
34
فهو في سوريا القديمة
Mirhe
واليونان
Maia
وفي الهند
Marya ، وجميعها كما نرى تبدأ بميم الأمومة التي تنادي بها الأم في مختلف اللغات، وهو اللقب نفسه الذي حازته الزهرة في الرافدين، حيث رمز الأمومة الأكبر، فكانوا ينادونها ماما
Mama
وأما
Ama .
35
مع ملاحظة جانبية هي أن السيدة «مريم» قد تربت في بيئة يهودية متأثرة تماما ومشبعة بأفكار وعقائد إلهات الخصب، بل إنها كانت إحدى المنذورات للهيكل! وكان المعتقد - في تلك الأيام - أن المنذورة إذا حملت فإن حملها يكون من الإله، وهو الاعتقاد المسيحي فيما حدث لها بميلاد المسيح. ورغم أنها أنجبت المسيح، ومن بعده أنجبت عددا آخر من إخوته فيما تزعم الأناجيل،
36
فإنها ظلت تحظى بلقب الزهرة الشائع «البتول العذراء»! (5) الزهرة بين اليهود والعرب
ومن الرافدين إلى بلاد العرب، انتقلت المعارف الفلكية وعلم التنجيم، حتى إننا نجد لدى العرب تقسيمات للبروج والأجرام والكواكب، لم تزل أسماؤها العربية معمولا بها حتى اليوم، ومع هذه المعارف الفلكية انتقلت أيضا معرفة الأجرام والكواكب السبعة «الشمس، القمر، عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل»، وبينما اعتبروا الشمس والقمر النيرين الكبيرين، فقد عرفوا أن الكواكب الأخرى ليست كالشمس والقمر، وإنما هي كواكب سيارة؛ لذلك أطلقوا على الكواكب الخمسة اسم «الخنس الكنس»، والاسم «خنس» يعود لكونهم لاحظوها تسير في البروج والمنازل الفلكية سير النيرين الكبيرين، لكنها ترجع، وترجع هي «تخنس»، أما «كنس» فتعود لكونها تستتر كما تستتر الظباء في كناسها بالجبال، وتستر الظباء هو «كنس الظباء». وهي تعابير تعكس طبيعة البيئة العربية وتتسق معها، ويذهب الباحث «محمود الحوت» إلى احتمال أن يكون انتقال هذه العلوم إلى جزيرة العرب قد جاء على يد الصابئة، ومن المعروف أن صائبة الجزيرة كانوا تلامذة للكلدانيين من أهل الرافدين، وقد انتهى بعض الباحثين مؤخرا إلى أن مذهب صابئة الجزيرة كان من مذهب أهل الرافدين الكلدانيين القدماء؛ مما يرجح هذا الاحتمال.
37
ويبدو أن الزهرة عندما انتقلت مع «الخنس الجواري الكنس» إلى جزيرة العرب، أخذت معها أيضا صفاتها وخصائصها، ولربما بعض طقوس عباداتها، وفي هذا يقول «د. خليل أحمد»: «ومن أبرز الكواكب التي حظيت بالاحتفالية الأسطورية عند العرب: الزهرة: وهي إلهة الجمال والحب التي قدسها بعض العرب في البداية، ثم شملت عرب الشمال بأجمعهم. هذا وقد أطلق عليها المنجمون اسم السعد الأصغر ... وأضفى عليها العرب صفات مجتمعهم القبلي الترفيهية، كالطرب واللهو والسرور ... كما اعتقدوا أنها تهيج الغريزة الجنسية عند الضجاع بين المتآلفين من شدة الحب.»
38
ويضيف «د. الجوزو» أن العرب عبدوا الزهرة وصاغوا حولها الأساطير، وأهمها أسطورة تقول: «إنها كانت امرأة حسناء أغرت ملكين، وتعلمت منهما الكلمة التي يصعدان بها في السماء، إلى حيث ارتقت ومسخت هناك كوكبا.»
39
ويحتمل - فيما نرى - أن تكون قصتها مع الإله التعس «تموز» قد وصلت إلى الجزيرة فيما وصل، ولربما تكون قصة هذين الملكين هي تكرار أو صورة أخرى لما حدث مع «تموز»، خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان أن الأسطورة العربية تنتهي بالملاكين للنهاية التعسة نفسها، فبعد أن أغوتهما الزهرة، ونالت منهما مشتهاها، أودت بها، فقد نكسا في بئر في بابل، وهو ما يشبه إلى حد كبير مصير «تموز» ونزوله من بئر بلاد بابل إلى عالم الموتى السفلي. أما التغيرات الطفيفة التي لحقت بالأسطورة فمن الممكن عزوها إلى عامل الزمن ودوره في تطور المعتقدات، أما كون الأسطورة العربية تعتبر من وقع أسير فتنة الزهرة ملاكا (أو ملاكين) وليس إلها كما هو حال «تموز»، فيعود فيما نعتقد إلى نزوع العقل البشري خلال هذه القرون الطويلة نحو التوحيد، كما نعتقد أنه كان للشعب العبري دور لا يغفل في هذا الأمر، فاليهود أو العبريون قد عاشوا في الأسر البابلي حوالي أربعة قرون أو يزيد ، ولا جدال أنهم نقلوا - فيما يرى معظم الباحثين - جل آلهة الرافدين معهم إلى فلسطين، وعلى رأسهم الإله الجبار «إيل»، وأضافوا إليها عددا من الآلهة الفرعونية والكنعانية.
ويبدو أنه مع اتجاههم نحو إلههم القومي «يهوه» وتفضيله دون غيره على بقية الآلهة، عز عليهم أن يتركوا هذا الجم الغفير من الآلهة باعتباره ثروة وتراثا قوميا بدوره، فحولوها من آلهة إلى أتباع للإله القومي «يهوه». واعتبروها أقل منه شأنا. لكن هذه الآلهة العديدة ظلت تحمل الطابع الإلهي هو هو لم يتغير، فهي مثل الإله نورانية التكوين، وهي مثله خالدة، ولها قدرات كقدراته، ولها أجنحة كأجنحة آلهة الرافدين، التي ما يزال بعض تماثيلها المجنحة قائما في العراق إلى اليوم، وبما أنها أصبحت تابعة للإله الأكبر أو من أملاكه، فقد أطلق عليها اللسان العبري - معبرا عن هذا المعنى - اسمها الجديد «الملائكة»، ولما كان الإله الجبار «إيل» هو من أعظم الآلهة القديمة شأنا لدى جميع الشعوب السامية الأصل، ولدى اليهود بوجه خاص، فقد أخذ وضعه اللائق به بين الآلهة المساعدة أو الملائكة، فأصبح كبير الملائكة وسيدها، باسمه القديم الإله الجبار «جبرا إيل» أو «جبريل» وقد تخلفت الكلمة «جبرا» بمعنى الجبروت والقوة في كل اللغات السامية عن النطق الرافدي، بما في ذلك اللغة العربية.
40
وقد ذهب بعض الباحثين مذهبنا هذا في تحول آلهة الرافدين إلى ملائكة عند اليهود، ولكن في إشارات سريعة ولمحات خاطفة دون تفصيل، مثلا جاء في قول «ديورانت»: «... ولعل اليهود قد صاغوا ملائكتهم من هذا الحشد العظيم من الآلهة.»
41
وسيرا وراء تدعيم مذهبنا نتناول صفحات الكتاب المقدس، فيطالعنا سفر حزقيال برؤياه لطائفة من الملائكة تسمى الكروبيين أو الكروبيم يصفها قائلا: «... لكل منها أربعة أوجه، وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ولكل منها أربعة أجنحة تحتها أيدي إنسان.»
42
ويعلق «د. السيد بكر» على هذه الرؤيا بقوله: «وحزقيال متأثر في هذا الوصف - ولا ريب - بتماثيل وصور الكائنات الجنية المجنحة التي كانت تحرس معابد بابل وقصورها، والتي شهدها حزقيال قطعا إبان المنفى.»
43
ويؤكد ذلك أن في سفر حزقيال إشارات مباشرة إلى الصور المحفورة على الجدران في بابل.
44
وتبعا لهذا التطور الذي تحول بمجموعة الآلهة القديمة إلى أتباع للإله الأكبر الخالق، فقد سار العرب على السنة نفسها، وقالوا إن لله ملائكة يملكها، والصابئة (وهم يعودون بأصلهم وبعقيدتهم إلى بابل فيما يزعم بعض الباحثين) من العرب، كانوا يدينون للعقيدة القديمة فيعبدون الملائكة. وكانوا مع بقية العرب ينظرون إليها على أنها شفعاء إلى الله. وغني عن التعريف أن الإسلام قال أيضا بهذه الملائكة وبنفس الاسم «ملائكة»، واعتبرها كائنات نورانية مجنحة ...
جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع (فاطر: 1)،
45
وعلى رأسها يقف جبريل سيدا؛ لأنه من طائفة الكروبيين أو الكروبيم، وهم في الزمخشري سادة الملائكة،
46
وهم حملة العرش، ومما يروى أن النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
قد صادق على بيت من الشعر الجاهلي لأمية بن عبد الله يصف فيه هذه الطائفة الملائكية يقول:
رجل وثور تحت يمنى رجله
والنسر لليسرى وليث ملبد
47
وجاء التصديق من النبي
صلى الله عليه وسلم
على هذا الوصف لجبريل وطائفته، في قول النبي عن ابن عباس: «صدق أمية في قوله.»
48 (6) الزهرة في بلاد العرب
أصبح من المسلم به إذن أن العرب قبل الإسلام قد عرفوا عبادة كوكب الزهرة، لكن المشكلة التي نواجهها الآن فيما بين أيدينا من مصادر تتضارب فيها الآراء هي: هل كان للزهرة علاقة بالربات الثلاث المعبودات في الجاهلية: اللات ومناة والعزى؟ وإذا كانت هناك علاقة، فأي الربات الثلاث كانت تمثل كوكب الزهرة؟
يعد «فلهاوزن» من بين أكثر المستشرقين اهتماما بعقائد شبه الجزيرة، وكان له اهتمام خاص بالإلهة العربية «العزى»، وهو ينقل عن المؤرخ الروماني «بروكيبوس» المتوفى 562م، أن «العزى» العربية هي نفسها الإلهة «أفروديت»، وأن ذلك قد ورد صراحة من قبل في قول مؤرخ سرياني مرتين،
49
ولما كنا قد عرفنا آنفا أن «أفروديت» هو الاسم الروماني لربة الزهرة، فيكون مقصد «فلهاوزن» أن الزهرة هي العزى العربية، ونظرا لما يتمتع به هذا الرأي من وجاهة - في رأينا - فإننا بالتقصي يمكن أن نجد كثيرا مما يؤيد رأي «فلهاوزن»، وإليك بعض ما وجدناه أو استنتجناه مما ورد في المصادر من مؤيدات، سواء بطريق مباشر أم بطريق غير مباشر أم مقصود: (1)
جاء في قول «إسحاق الأنطاكي - ق 5ق» أن العرب كانوا في هذا الوقت يعبدون من تسمى «بلتي»، كما يقول «علي» في معجمه (4280) هي الزهرة (فينوس في النطق اليوناني) وهي عنده تحمل أيضا اسم العزى.
50
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى احتمال أن يكون ل «بلتيس» علاقة بما جاء في الأساطير عمن تسمى الملكة «بلقيس»، خاصة مع ما حيك حول شخصيتها من قصص تقول إنها خلبت لب الملك «سليمان الحكيم» بفتنتها. فكان أن أتاها وأنجب منها سلسلة من الأباطرة حكموا الحبشة. كان آخرهم الإمبراطور «هيلاسلاسي» - كما في الأساطير الحبشية - وما جاء في الكتاب المقدس أنه كان لها أرجل ماعز، والماعز يذكرنا بعشيق الزهرة الرافدية «تموز» الراعي، وأنه في الأسطورة الرافدية حاول أن ينجو من زبانية العالم السفلي فتحول إلى ماعز، لكنهم قبضوا عليه في النهاية، إضافة إلى حقيقة تاريخية تتعلق بطبيعة اللغات السامية، وبخاصة اللغة العربية، وهي «أن العرب كانوا يكتبون بلا نقاط، فإذا قرءوا التبس عليهم الأمر» وأحيانا كانت العين تحسب ميما أو تحسب القاف تاء، حتى إنك لتجد هذا اللبس حتى اليوم في كلمات كثيرة، ومثلا لذلك اختلاف كتابة اسم الملك البيزنطي في المصادر ما بين «يعفور، ونعفور، ونقفور». وغير ذلك كثير في المصادر اللغوية.
51
ولما كانت هذه المسألة تخرج على نطاق موضوعنا، فإننا نتركها كعلامة لمن يريد بحثها وتأصيلها من الباحثين. (2)
مما يؤيد رأي «فلهاوزن» في كون الزهرة هي «العزى»، أن «العزى» كانت تعبد في شكل شجرات ثلاث مقدسات، والشجر هو علامة الخصب وهو خاصية إلهة الزهرة. (3)
كان للعزى تمثال أو رمز تحمله قريش في حروبها، فهي فيما يقول «الحوت» «من الإلهات التي كانت تشترك في الحروب».
52
وهذه الخاصية بدورها كانت إحدى خصائص الزهرة. (4)
كان من بين آلهة الصفويين الإله «عزيزو» أو ال «عزيز» وهو كوكب الصباح وكان إلها مذكرا، وكوكب المساء وكان مؤنثا، فدعوه «العزى» تأنيثا ل «العزيز»، وكوكبا الصباح والمساء هما الزهرة عندما تكون إلهة حرب أو إلهة حب.
53 (5)
إن لقب إلهة الزهرة كنجمة صباح في المجتمع الإغريقي الروماني كان «آزيزوس»،
54
وهو كما نرى تصحيف للعزى الشرقية. (6)
من بين آلهة تدمر توءمان هما «عزيز» المشار إليه آنفا كنجم صباح معبود لدى الصفويين، و«أرصو» أو «أرض» كنجم مساء،
55
مع ملاحظة أن أرص هي «أرض»، والأرض كانت إلهة الخصب أو الإلهة الأم التي شخصت فيما بعد في كوكب الزهرة. (7)
إن «د. خليل أحمد» يقول: إن «العزى» رمزت عند العرب لكوكب الحسن. أما اللات فرمزت إلى الزهرة.
56
وهو كلام فيه سوء فهم وخلط واضح؛ لأن الزهرة ليست غير كوكب الحسن ذاته، ولكن ما يعنينا هو إشارته إلى أن «العزى» كانت ترمز إلى كوكب الحسن أي الزهرة (وقد يعني بقوله أن اللات أيضا كانت رمزا للزهرة، لكن تعبيره وموضوعه لم يفد ذلك المعنى، رغم أن هذا المعنى من وجهة نظرنا فيه صحة كبيرة كما سنرى لاحقا).
هذا ما ذهب إليه «فلهاوزن»، ومع ما رأيناه ينسجم مع وجهة نظره ويؤيدها، وهكذا يكون «العزى» الاسم الذي كان يشير إلى كوكب الزهرة عند العربي الجاهلي، إلا أن «فلهاوزن» يتطرق بعد ذلك إلى «اللات» فيقول إنها كانت رمزا للشمس
57
ويذهب مع هذا الزعم بعض المؤرخين والباحثين العرب، فيقول «د. جواد علي»: «إن ... اللت هو «اليلت» ... الإله الرئيسي عند العرب في أيام المؤرخ هيرودوت ... وهو اللت ... من نصوص الحجر ... ويظن أن اللات هي الشمس بدليل أن الشمس أنثى.»
58
كذلك يذهب المذهب نفسه الباحث «محمود الحوت» مستندا إلى رأي «فلهاوزن» وتأييد «نولدكه» في مذهبه؛ ليستنتج أن اللات هي الشمس.
59
ورغم أننا قد بحثنا فيما بين أيدينا من مصادر عما يؤيد مذهب «فلهاوزن» من كون أن العزى هي الزهرة، فإننا نخالفه في اعتباره اللات هي الشمس - مع علمنا بقدر «فلهاوزن» وحفظنا لثقله ولقدره - والاختلاف مرجعه إلى رؤية خاصة، تستند إلى رأي آخر ذهب إليه «رينيه ديسو»، مدعما بالتصديق والتأييد من كل من «ريكمانزوستاركي »، بل إننا نزعم - زعما ابتدائيا - أن الإلهات الثلاث مجتمعات «اللات والعزى ومناة» لم تكن سوى رموز لكوكب الزهرة وحده دون أي معبود آخر من أجرام الفضاء، وهذا ما سنحاول إقامة الدليل عليه الآن. (7) الزهرة والإلهات الثلاث
بالعودة إلى النصوص القديمة في بلاد الشام، حيث انتقلت إلى هناك عبادة ربة الزهرة من الرافدين، نجد الكنعانيين قد عبدوا إلى جوار الإله الرافدي الجبار «إيل» زوجة أيضا، واعتبروها الأم الكبرى والمخصبة الكونية، وأطلقوا عليها لقب التأنيث من «إيل» وهو «إيلات»، أما اسمها فكان «عشيرة» ولقبوها ب «سيدة البحر»، ولم يزل لقبها كزوجة للإله «إيل» وكسيدة للبحر علما على الخليج المعروف باسمها في البحر الأحمر إلى اليوم.
60
ولا يخفى أن «عشيرة» من «عشتار»، ولقبها «سيدة البحر» من أسماء وألقاب إلهة كوكب الزهرة، ولما كانوا قد أسموها «إيلات» من المذكر «إيل»، فإن ذلك يدعونا إلى القول بأن «إيلات» لم تكن سوى الزهرة، مع ملاحظة أن اللفظ «إيلات» هو «اللات» نفسه.
كذلك جاء في النصوص الأوجاريتية النص التالي: «ربت أثرت يم - ألت»
61
وبالترجمة يكون: «أثرت = عشيرة»، «ربت = ربة» «يم = البحر» «ألت = إيلات أو اللات»، ومجمله «عشيرة ربة البحر، إيلات» وهو يؤيد ما ذهبنا إليه.
وقد ذكر هيردوت (حسب لغته) أن العرب كانوا يعبدون الزهرة ويدعونها آليتا
Ailita
أو
Alilat .
62
إضافة إلى أن «اللات» التي عدها التدمريون غالبا ما كانت تذكر باسم «أثينا» وقد سمي ابن «أذينة» و«زنوبيا» «وهب اللات». وجاء اسمه من اليونانية
Athenodors
63
أي «هبة أثينا» أي إن «اللات» التدمرية كانت هي أثينا، وأثينا ليست سوى الزهرة.
وعليه: فإن اللات بدورها - إلى جوار «العزى» - إنما كانت رمزا لكوكب الزهرة، وهو ما ارتآه «ديسو»، وأيده فيه بشدة كل من «ريكمانز»
64
و«ستاركي».
65
والآن: أين «مناة» من كل هذا؟
يمكنني هنا العودة للاستناد إلى اللبس والخلط الذي حدث بين اللغة العربية وذاتها، ما بين الكتابة غير المنقطة وبين نطقها من جهة، وما بينها وبين بقية اللغات السامية الأخرى، فأضع افتراضا مؤداه أن «مناة» ليست سوى «عناة» روح الخصوبة عند الكنعانيين، المشتقة أصلا من «عشتار» اسم الزهرة في الرافدين. علما بأن «عناة» كانت تلقب بالعذراء، وباسمها الرافدي صراحة «عشتارت»،
66
هذا إضافة إلى ما جاء عن عبادات عرب الشمال، فقد عبد هؤلاء كما أسلفنا الإلهة الأم الأرض (أرض أو أرص أو أرصو أو رضى)، وقد أسموها «مناة»، واعتبروها ممثلة الزهرة من حيث هي نجمة المساء، بينما كان «عزيز» أو «العزى» إلهة الحرب والقتال من حيث هي نجمة الصباح، وأن «مناة» الزهرة كوكب المساء و«العزى» الزهرة كوكب الصباح ليستا سوى إلهتهم الكبرى «اللات» في صورتها عندما تريد أن تكون إلهة للحرب أو إلهة للحب.
67
وهنا نصل إلى ما قاله «ديسو»: إن اللات العربية أخذت عند العرب صورتين هما «العزيان» مثنى «العزى»، ويفسرها بأن «العزى الأولى نجمة الصباح إلهة الحرب. والعزى الثانية هي نجمة المساء».
68
وهذا فهم يؤدي بالضبط إلى ما افترضناه - أو زعمنا - مسبقا، وهو أن «اللات والعزى ومناة» كلها كانت رموزا لكوكب الزهرة وحده دون غيره.
ولعل آخر ما بين أيدينا من أدلة ندعم بها ما ذهبنا إليه، هو ما جاء في زعم جاهلي يقول: «إن بنات الله الثلاث مناة واللات وعزى هن إلهات القمر.»
69
فالعرب في الجاهلية اعتقدوا أنهن بنات الله، وأنهن إلهات القمر، ولو عدنا للأساطير الرافدية سنجد «إينانا» أو «عشتار» أو الزهرة ابنة القمر.
70
إضافة إلى ما ذكره «أمير علي» في حديثه عن بنات الله: «إن عبادة هذه الأصنام كانت بالدرجة الأولى تمثيلا للقوى المولدة في الطبيعة، وهي تشبه في مميزاتها ديانة الساميين القدماء والفينيقيين والبابليين.»
71
ولا يفوتنا الإشارة إلى أن الزهرة بصفتها إلها ذكرا محاربا «نجم الصباح» قد عبرت الجزيرة إلى جنوبها لتعبد هناك باسم «عثتر»
72 - لاحظ اشتقاق الاسم من عشتار - ومن هنا انتقلت إلى بلاد الحبش باسم «عستر» الذي صار هناك بالتدرج إلها للسماء، ويقول «موسكاتي» إنه: «... إلى جانب عستر كان هناك الإله «مدر» إله أمنا الأرض ... ويلحق بها أيضا «بحير» الذي يعده بعض العلماء إله البحر.»
73
وهذا الثالوث بدوره يمثل كوكب الزهرة. (8) الزهرة في الإسلام
سبق أن تحدثنا عن تسرب عبادات البابليين وعلومهم إلى العرب في الجاهلية عبر الصابئة، وتقديسهم للأجرام السماوية السبعة، والرقم «7»، بما فيها الكواكب السيارة الخمسة، حتى إنهم قدسوا يوم الزهرة المقدس، وكان يوم الجمعة في التقويم البابلي، وكان مكرسا في الرافدين لعبادة كوكب الزهرة، وما زال لتسميتهم لهذا اليوم باسم الزهرة أثر في اللسان الأوروبي، ف:
Vendred «الجمعة» هو في الأصل من
Venus
فينوس الزهرة، و
Dies-Vaneris
هو يوم الزهرة أو الجمعة.
74
وغني عن البيان أن يوم الزهرة «الجمعة» الذي أسماه الجاهليون اعتزازا «يوم العروبة» أصبح في المأثور الإسلامي يومه الأسبوعي المقدس، إضافة إلى أنه قد جاء في الآيات القرآنية تقديس واضح للكواكب الخمسة السيارة، في قول الله:
فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس (التكوير: 15-16).
75
وفي تفسير «محمد فريد وجدي» «الخنس: أي الكواكب الرواجع من خنس يخنس، ويخنس رجع وتنحى، الجوار: أي الجواري بمعنى الجاريات، والكنس: يقال كنس الوحش يكنس، استتر في كناسه أي في جحره، والسيارات الكنس هي التي تختفي تحت ضوء الشمس.»
76
ويذكر «ابن الكلبي» أن النبي (محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم ) ذكر العزى «الزهرة» يوما فقال: «لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي.»
77
ويعلق «ابن هشام» على أكل النبي من ذبحه لنصب الزهرة قبل بعثه، بقوله: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إن كان يأكل مما ذبح على النصب، فإنما فعل أمرا مباحا.»
78
وغني عن الإيضاح أن الرقم «7» قد نال حظوته القدسية في الإسلام، والقرآن الكريم ثري بالآيات التي تجعل لهذا الرقم مكانة خاصة، (طبقات السماء، والأرض، ودرجات الجنة، وأبواب العالم الآخر، وكذلك السنابل السبع، والبقرات السبع ... إلخ). كذلك نجد في التفاسير الإسلامية القرآنية صدى لما اعتقده البابليون في قدرات الزهرة الجنسية وتمكنها من ملكاتها الجسدية الإغوائية. وقد جاء في سورة البقرة:
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .
79
ومن التفاسير الحديثة تفسير «وجدي» يقول فيه: «فتنة: أي اختبار وابتلاء، والفتنة أيضا الضلال والإثم والكفر والفضيحة ... وفتنه الشيء أعجبه، وأفتن فلانا أوقعه في الفتنة.»
80
وفي التفاسير القديمة تفسير «الطبري» الذي يورد قصة تشرح هذه الآيات، يمكن إيجازها في الآتي:
إنه لما وقع الناس من بعد «آدم» في الضلال، شرعت الملائكة تطعن في أعمالهم، فأراد الله أن يبتلي الملائكة أنفسهم، فأمرهم باختيار ملكين من أعظم الملائكة علما وزهدا وديانة، فاختاروا «هاروت» و«ماروت»، وأهبطا إلى الأرض بعدما ركبت فيهما شهوات الإنس، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به أحدا، ونهيا عن قتل النفس والزنى وشرب الخمر وغير ذلك من المعصيات. وفي الأرض عرضت لهما امرأة هي الزهرة، فغلبت عليهما الشهوة، فأقبلا عليها وراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأخرجت لهما صنما يعبدانه ويسجدان له، فامتنعا وصبرا ردحا. ثم أتياها وراوداها عن نفسها، فأبت ثانية واشترطت عليهما إحدى ثلاثة، إما عبادة الصنم أو قتل النفس أو شرب الخمر، فقالا كل ذلك لا ينبغي، ثم احتدمت بهما الشهوة فآثرا أهون المطالب وهو شرب الخمر، فسقتهما حتى أخذت الخمر منهما ووقعا بالزهرة، وهنا مر بهما إنسان فخشيا الفضيحة فقتلاه، ويشاءان الصعود إلى السماء بعد أن عرفا وقوعهما في الخطيئة فلا يستطيعان، ويكشف الغطاء بينهما وبين الملائكة في السماء. فتنظر الملائكة إلى ما وقع فيه هاروت وماروت من الذنب، فيعجبون كل العجب، ويأخذون في الاستغفار لمن في الأرض من البشر. ويروى أنها طلبت منها تعليمها الكلام الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها، وعرجت بهذا الكلام السري إلى السماء، وهناك نسيت الكلام الذي تنزل به فبقيت مكانها، وجعلها الله هذا الكوكب الجميل. أما «هاروت» و«ماروت» فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لأنه ينقطع فجعلا ببابل يعذبان منكوسين في بئر إلى يوم القيامة.
81
ويروى عن «عبد الله بن عمر» أنه كان كلما رأى الزهرة يلعنها ويقول: «هذه التي فتنت هاروت وماروت.»
82
وفي الحديث عن «عبد الله بن عمر»: أن النبي إذا رآها كان يقول: «طلعت الحمراء فلا مرحبا ولا أهلا.»
83
ويزعم «ديسو» أن قوما مسلمين ظلوا على عبادة الزهرة سرا، حتى بعد هدم معبدها - الممثل في معبد «اللات» - وإقامة مسجد مكانه؛ وذلك لأن «ابن الكلبي» كان يعلم أن مئذنة المسجد اليسرى في المكان الذي كان يشغله هذا الصنم،
84
بل ويزعم «د. أنيس فريحة» أن عشيقها «تموز» قد بقي حيا في المأثورات الإسلامية وأنه هو الولي الخضر.
85
ولنا أن نلاحظ اشتقاق «الخضر» من الخضرة، والخضرة هي الخصب خاصية تموز والزهرة، إضافة إلى ما ذكره «خليل أحمد» أن اسم الخضر، يرجع إلى حدث تحولي: جلس مرة على فروة بيضاء فإذا هي تحته خضراء، وهو حاضر غائب يظهر من وقت لآخر.
86
ولو ربطنا كلام «خليل» بما علمناه عن حالتي الغياب والحضور عند الزهرة وتموز لتفسير التنوع الفصلي بين الخصب والجفاف، أمكننا الزعم أن كلام «د. فريحة» يحتمل الترجيح. أما مآذن المساجد اليوم، فكثير منها - إضافة إلى رمز القمر «الهلال» - يحمل داخل دائرة الهلال نجمة ذات ثمانية إشعاعات!
لوحة رقم 11: لاحظ هيئة الأسد وأجنحة النسر ووجه الرجل وقوائم الثور. إنه الفن الرافدي الذي أبهر حزقيال، فسماه الكروب وجمعها كروبين. وإذا أخذنا بظاهرة القلب في اللغات السامية تتحول كروب أو قروب إلى «برق».
رجل وثور تحت يمنى رجله
والنسر لليسرى وليث ملبد
أمية بن عبد الله
لوحة رقم 12: وصدق أمية في قوله.
أضحية للذكر، قربان للأنثى ومدخل إلى جذور الدين
الاجتماعية
(1) التأسيس
يزعم كثر من الباحثين أنه عندما كان العقل يتخبط في ظلمات بدائيته، بين ظواهر تصفو مرة، فتجزل العطاء، وتغضب مرة، فتدمر بلا تمييز، اتجه الإنسان نحو هذه الظواهر ضارعا متوسلا، فأله عناصرها، من أكبرها إلى أدناها، فعبد القمر والشمس وبقية أجرام الفضاء. وجعل للخصب والجفاف والأنهار والينابيع والأمطار، والحيوان النافع منه والضار، آلهة معنية بها. تعبد لبعضها خشية بطشها، ولبعضها الآخر رجاء استمرار منافعها؛ ليضمن لنفسه الأمان والقوت، ولأن حاجاته الأساسية تركزت في الطعام الذي يحصل عليه بصعوبة. فقد تصور أن بإمكانه التدلف لهذه الآلهة بالقرابين، طمعا في خيرها. وبالأسلوب نفسه اتجه للآلهة الباطشة الغضوب تحايلا عليها، ودرءا لعصفها أو زلزلتها، وإرعادا لشر وحوشها وضواريها.
وأخلص الإنسان في تعبده، فلم يبخل بالعطاء، فكان لا يتذوق ثمار محاصيله قبل أن يقدم لآلهته أول قطوفها، ولا ينتفع بحيوانه قبل أن يقترب بأبكار نسله من أربابه، وتفانى في إخلاصه إلى المدى الذي امتدت فيه يداه بالمدى إلى أعناق فلذات الأكباد؛ ليسيل دماء أطفاله على مذابح الآلهة. (2) موقفان ورأي
وقد اتخذ أغلب الباحثين من مسألة القرابين أحد موقفين:
موقف يرى أن القربان في بداية أمره اقتصر على ثمار النبات، ثم رأى الإنسان - زيادة في تملق آلهته - أن يذبح لها من ماشيته، بحسبان اللحم أعلى من النبات رتبة، ولما لم يكن متيسرا له أن يحمل قربانه ليذبحه عند عروش الآلهة، فقد عمد إلى ذبحه ثم حرقه لتتصاعد مادته دخانا، تشمه الآلهة فتهدأ نفوسها، وزيادة في المغالاة، وإثباتا لخلوص ضميره لآلهته، تحول نحو الدماء البشرية، فأسال بعض دمائه - بجروح مقصودة - على مذابح الآلهة، تقربا وفداء لنفسه ولأولاده وممتلكاته، ثم تحول الأمر إلى ما يشبه النذور، فكان يذبح واحدا من أبنائه لآلهته، إن هي استجابت لرجائه في أمر يرجوه، أو دفعا لشر محتمل الحدوث.
وموقف آخر يرى عكس ذلك تماما، مسايرة لسنة تطور العقل البشري الارتقائية؛ إذ يذهب إلى أن البداية كانت بالضحايا البشرية، عندما كان الإنسان لا يزال يصارع بدائيته الوحشية، وبالتدريج الارتقائي في تطور العقل تحول نحو الحيوان يستبدله بالإنسان؛ ليقدمه لآلهته مذبوحا أو محروقا فداء لنفسه أو للقبيلة أو الموطن، وأحيانا اكتفى بتقديم النبات في حال احتياجه للحيوان.
لكننا نرى أن العقل البشري في تطوره، لم يكن خاضعا - كبقية مظاهر الطبيعة - للسنن والنواميس الفيزيائية البحتة، وإنما لعوامل أخرى كثيرة، لعل أهمها الوسط البيئي والظروف الاجتماعية، بشعابها السياسية والاقتصادية، فلم يسر على وتيرة واحدة في خط ارتقائي صاعد باستمرار، نعم، نحن لا نشك في أن تطوره كان متصاعدا، لكنه كان تصاعدا لولبيا تتخلله العثرات والطفرات والكبوات، وكذلك مسيرة القربان، كانت أحيانا تصعد، فيقتصر القربان على رمز نباتي أو حيواني، وأحيانا تهبط فيبذل الإنسان دمه ودم أبنائه.
فقد تجد في أقدم المراحل التاريخية من ذبحوا أباهم قربانا - فيما يزعم «سيجموند فرويد» - وبعدها تجد - منذ حوالي خمسة آلاف عام فقط - تلك الترتيلة السومرية التي أوردها «ديورانت»،
1
وتقول: «الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته.» وبعدها بحوالي ثلاثة آلاف عام، نجد «عبد المطلب بن هاشم» ينذر ابنه «عبد الله» ليقدم قربانا على مذبح آلهته.
وفي قصة التكوين التوراتية، التي دونت قبل أربعة قرون من ميلاد «المسيح» نجد «قابيل» يكتفي في قربانه لإلهه بأبكار فاكهته وأثمارها،
2
وقريبا من القرن الرابع قبل الميلاد، نجد النبي اليهودي «أرميا» يقرر: أن اليهود «قد بنوا مرتفعات للبعل ليحرقوا أولادهم بالنار، محرقات للبعل»،
3
والمرتفعات هي المذابح، والمحرقات تعني قربانا يذبح ثم يحرق، أو يقدم مباشرة طعمة لنيران الإله «البعل»، والبعل إله كنعاني يعني اسمه «السيد» ومع القرن الأول الميلادي، تمتد العقلية البشرية إلى حد نزول الإله من السماء، لتقدمه على الصليب فداء لخطايا البشر، كما تقرر العقيدة المسيحية.
وبينما اكتفى «قابيل» في قربانه بالنبات، نجد بعضنا اليوم يدشن بيته أو سيارته الجديدة بالدم، وفي الوقت نفسه نجده مقترا في قربانه بشدة، عندما يقول في أمثاله الدارجة: «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع»! أي إن المسألة لم تكن أبدا صعودا دائما ولا هبوطا دائما، إنما كانت خليطا من هذا وذاك، وأحيانا جمع العصر الواحد كل أنواع القرابين تبعا لاختلاف الشعوب والأنظمة الاجتماعية، وتبعا لاختلاف العقول، وهذا ما ستجده واضحا في المراحل التاريخية العقائدية التالية. (3) القربان الحيواني
يعد القربان الحيواني أكثر أنواع القرابين شيوعا وقدما في التاريخ العقائدي، ويعترف أكثر من باحث بأنهم لا يعرفون - على وجه الدقة - السبب في التركيز الواضح على الخروف، في التقرب للإله المعبود منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا مع ملاحظة أن التيوس تأخذ المرتبة التالية بعد الخراف مباشرة في التعاسة وسوء الطالع، حيث تعد - بعد الخراف - أفضل القرابين.
ويبدو أن الخراف قد ظلت قربانا مفضلا حتى دونت أسفار الكتاب المقدس، ففي سفر التكوين نطالع: «وكان هابيل راعيا للغنم، وكان قايين - قابيل إسلاميا - عاملا في الأرض، وحدث من بعد أيام، أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمائها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر.»
4
ورغم أن الرب - حسب هذا النص - نظر إلى «هابيل» وقربانه، فإن هذا القربان لم يفد «هابيل» ويفتديه، بل على العكس تماما، فقد كلفه هذا القربان حياته، عندما استباح أخوه دمه، وفي السفر نفسه نجد النص التالي: «وحدث أن الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم ... خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب به إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك ... فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه، وأخذ بيده النار والسكين ... ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء وقال ... لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا؛ لأني الآن علمت أنك خائف من الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه ونظر، وإذا كبش وراءه ... فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه.»
5
وهذا إنما يعني وجود عادة التقرب إلى الآلهة بالضحايا البشرية، سواء في عهد «إبراهيم»، أم في القرن الرابع ق.م. عندما دون هذا السفر، رغم أن الشريعة السومرية قد شرعت إحلال الضأن محل الإنسان في التقرب للآلهة، وذلك قبل ثلاثة آلاف عام تقريبا من هذا التاريخ.
وقد كانت قصة هذا الفداء معروفة بين العرب قبل الإسلام؛ إذ «عبد المطلب بن هاشم» الأصل القرشي والعنصر العربي عموما إلى «إسماعيل بن إبراهيم» من جاريته «هاجر» المصرية، لكن الذبيح هنا كان «إسماعيل» وليس «إسحاق»، كما لو كان هناك تنافس قديم بين العرب أبناء «إسماعيل» وبين اليهود أبناء «إسحاق»: أيهما كان المذبوح (ولنلاحظ فخر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
بأنه ابن الذبيحين: عبد الله أبيه، وإسماعيل الجد البعيد ، ولنلاحظ أيضا تأكيد القرآن الكريم لقصة الذبح والتقرب للإله بالدماء البشرية في قصة إبراهيم النبي وابنه إسماعيل عليهما السلام، إضافة لتأكيده أيضا قصة هابيل وقابيل التي وردت من قبل في الكتاب المقدس).
وبين مقدسات الجاهليين في الجاهلية حجر أسموه مقام إبراهيم، وكانت قريش - حامية الكعبة في مكة - وبعض من تبعها، يرجعون شعائرهم ومناسكهم في الحج إلى «إبراهيم»، وفي هذا يقول «جواد علي»: «ويلحق بالحج تقديم العتائر - وهي التضحية في الإسلام - وكانت تذبح عند الأنصاب، فتوزع على الحاضرين ليأكلوها جماعة، أو تعطى للأفراد، وقد تترك لكواسر الجو وضواري البر، فلا يصد عنها إنسان ولا سبع.»
6
كما كانت مثل هذه العتائر تنحر أيضا عند عديد من الكعبات الجاهلية، فكان يوم 25 كانون أول، عيدا سنويا للتضحية في كعبة ذي الشرى، كما كان يتم النحر في بيت «اللات» بالطائف، وعلى عرفات في بيت «العزى» ... إلخ، ومع أن القرابين أو الأضاحي في هذه البيوت كانت حيوانية مرتكزة على الخراف، إلا أن معبد «ذي غابة» بوجه خاص عرف في الوقت نفسه الضحايا البشرية، بل ويرجح أكثر من باحث أن يكون الوأد هو نوع من القرابين، وخاصة أنه لم يكن مقصورا على البنات - كما هو شائع - وإنما شمل الذكور أيضا.
7
وعندما جاء الإسلام شرع التضحية الحيوانية، وحرم الوأد، فألغى من عالمه القرابين البشرية واستعاض عنها بالختان تأسيا بالجد إبراهيم وامتثالا لسنته. (4) القربان البشري «... وكل شيء تقريبا يتطهر - حسب الناموس - بالدم، وبدون سفك دم، لا تحصل مغفرة.»
8
هذا ما يقوله الكتاب المقدس مؤكدا ضرورة التضحية بالدم، سواء أكان دم حيوان فداء للإنسان كما فعل «إبراهيم» النبي، أم تيسا كما شرع «موسى». «ويضع هارون يديه على رأس التيس ... ليحمل التيس عنه كل الذنوب.»
9
أو سواء أكان هذا الدم دم إنسان «ونذر يفتاح نذرا للرب قائلا: إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون، يكون للرب، وأصعده محرقة ... ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه، وهي وحيدته، ولم يكن له ابن ولا ابنة غيرها، ففعل بها نذره الذي نذر.»
10
كذلك نجد النبي «أرميا» يؤكد في سفره أن بني إسرائيل كانوا يقدمون أطفالهم قرابين تذبح وتحرق على مذبح الإله «بعل مولك»،
11
أي السيد الملك.
ويلوح أن مبدأ استرضاء الآلهة بالدم كان مسألة عامة عند شعوب الشرق القديمة، فيؤكد «ديورانت» أنه في الاحتفالات السومرية الدينية كان الكهنة يضربون أنفسهم حتى تلطخ دماؤهم المذبح، وبعضهم كان يفتدي نفسه بإخصاء نفسه بنفسه.
12
ويؤكد «عبد الحميد زايد» أن الفينيقيين قد جروا على شرعة التضحية بالطفل البكر.
13
فقد وجد الآثاريون عظام أطفال تحت أسس المنازل.
14
وروى «فيلون» أنهم كانوا يضحون بأعز أبنائهم في حالة وقوع الأخطار إبعادا لشرها، وحكى «دويدور الصقلي» قصة ضحي فيها بمائتي طفل في صقلية،
15
كما كشفت حفائر «كفر الجرة» الكنعانية، عن صندوق يضم عظام أطفال تحت تأسيس عمود من سور، كتضحية تأسيس.
16
وفي قرطاج وجدت عظام أطفال لم تزد أعمارهم على ستة أشهر، ويوجد في متحف اللوفر أحد هذه الصناديق حتى الآن.
17
ومن القصص الشهيرة قصة «ميشا» ملك موآب، الذي ضحى بابنه الأكبر ليفك الحصار عن مدينته، ولما أجاب ربه رجاءه، ذبح سبعة آلاف يهودي، شكرا لله على نعمائه.
18
وقد كان للإله «بعل مولك» غرام خاص بدماء الصغار، وفي يوم عيده، كان الناس يأخذون زينتهم وسط الطبول والمزامير، التي كانت تطغى على صراخ أطفالهم، وهم يحترقون على مذبحه. وقد حدث في قرطاج أثناء حصارها سنة 307 قبل الميلاد، أن أحرق على مذبح الإله الدموي مائتا غلام من أبناء أرقى أسرها،
19
وإن كان من بين هؤلاء بعض العقلاء، الذين كانوا يكتفون بقص غلفة ذكر الطفل وإلقامها نيران الإله.
20 (5) القربان الملكي
يقول «أنيس فريحة» إن بني إسرائيل كثيرا ما كانوا ينظرون إلى ملوكهم على أنهم المسئولون عن الجفاف أو القحط أو النوازل والمصائب؛ لذلك توجهت أضحياتهم في وقت من الأوقات نحو التضحية بالملوك ...
21
ولو راجعنا الكتاب المقدس سنجد «داود» الملك النبي يقوم بذبح أولاد سلفه «الملك شاءول» السبعة على الصلبان للإله «يهوه»، فيستجيب الإله «يهوه»، ويكتفي بالذبائح السبع، ويرفع القحط، وينزل الغيث.
22
ولو عدنا إلى بدايات البدائيين نجدهم يمارسون السحر ابتهالا لقوى الطبيعة من أجل تأمين القوت، فتعمد القبيلة إلى قتل ملكها أو شيخها باعتباره أبا للجميع، وعلى رأسه يجب أن تقع كل الأخطاء والأوزار، فيتيسر معاشها وتزيد غلاتها، وتخصب أرضها.
23
ويلقي «روبرتسون» مزيدا من الضوء على المسألة، فيقول: إنه كانت لدى كثير من الشعوب القديمة عادة دينية سنوية، تقام زمن الاعتدال الربيعي، ابتغاء وفرة المحصول، يقدم فيها للآلهة قربان هو رمز لإله الإنبات، فكانوا يضحون أول الأمر بصلب الملك، وبعد موته يأكلون بضعا من لحمه، وينثرون قليلا من دمه، لتكسبهم بعض قدسيته، ثم ينشرون البقية في الأرض المهيأة للزرع. ومع مرور الزمن استعاضوا عن الملك بالاقتراع على المضحى به، ثم استبدلوا بالقرعة مجرما محكوما عليه بالموت. وآخر الأمر استبدلوا بكل هذا حيوانا، وحبذا لو كان خروفا أو تيسا، وعند تعسر الأحوال - غالبا ما - كانوا يكتفون بفطيرة في صورة إنسان، أو بفطيرة مرسوم عليها إنسان، أو صليب رمزا للإنسان المفترض أن يضحى به صلبا، وتحول ذلك تدريجيا إلى نوع من العشاء الرباني يؤكل فيه الخبز رمزا للجسد، وتعاقر فيه الخمر رمزا للدم.
24 (6) القرباني الإلهي
شاعت في بلاد الشرق القديم، قبل فتوح «الإسكندر»، وسيطرة الإمبراطورية الرومانية، عقائد مختلفة المواطن، لكنها تشابهت - حتى في دقائقها - اصطلح على تسميتها «ديانات الأسرار».
ومن المعروف أن «المسيح» - في العقيدة المسيحية التي نشأت في قلب منطقة ديانات الأسرار - كان بدوره إلها هبط ليحمل عن البشر آثامهم وخطاياهم فيموت على الصليب، ويقوم من الموت مانحا لمن يؤمن بموته وقيامته الخلود في ملكوته السماوي، بعد أن يرحلوا عن الدنيا، فكان أكبر قربان في تاريخ القرابين. وهذا ما تسجله الأناجيل بقولها: «الله بين محبته لنا ونحن بعد خطاة، ومات المسيح لأجلنا وقد صولحنا مع الله بموت ابنه»،
25
وأن المسيح الرب «مات من أجل خطايانا، وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث»،
26
وأنه قال: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية».
27
ويكون ذلك عن طريق تناول قربان مقدس من الفطير، يرسم عليه «المسيح» أو الصليب - رمزا له - في عيد القيامة المجيد (عيد الفصح المسيحي). والغريب أن موعده المسيحي هو نفسه موعد قيامة الآلهة المذكورة آنفا! ويشرب المؤمنون في هذا اليوم جرعات من النبيذ رمزا لدمه، ويفسر «بطرس» الرسول ذلك للمؤمنين بقوله: «لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية»؛
28
وذلك لأنه كما يقول زميله «بولس» الرسول: «بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة»،
29
إلا أن المسيحية اختارت لنفسها الخروف كقربان حيواني - وقد سبق أن بحثنا ذلك في موضوع الشيطان - دون التيس؛ ولذلك توضح الأناجيل أن الرب «المسيح» كان هو القربان والكبش الأعظم لأنه «حمل الله»؛
30
ولأنه «الخروف ... رب الأرباب وملك الملوك»،
31
وبالتأكيد هو الخروف الذي ذبح.
32
وعندما أعدت التأمل في هذا الموضوع قبل نشره للمرة الثانية في هذا الكتاب وضعت يدي على عدة مسائل وآفاق، أعتقد - على حد ما وقع بيدي من بحوث - أني غير مسبوق إليها، لا في المعالجة، ولا في النتائج، وفي البداية أرقتني عدة مسائل، لم تبد لي متسقة أو مقنعة، ولم أستسغ قبولها على علاتها، ورغم أن طرحي السابق - الذي اقترحت فيه أن تكون مسيرة القربان قد اتخذت خطها الارتقائي عبر سلم متذبذب ما بين التصاعد وبين الكبوات - كان مقنعا، إلا أنه لم يفسر لي هذه المسائل تفسيرا كافيا، وعلى سبيل المثال: لماذا اتخذت العلاقة بين الإنسان وربه شكل المقايضة، يعطيها القربان ثمنا لمقابل يتمثل في زيادة المحصول أو النسل أو الأمان أو ما أشبه، خاصة إذا كانت هذه الآلهة تتمثل في ظواهر الطبيعة؟ إن الملاحظ للأساطير المدونة، وفي نقوش ما قبل اكتشاف الكتابة، يجد هذه الآلهة الكونية تتصف بصفات إنسانية، فتتزوج وتتناسل وتغضب وتحزن وتفرح، فهل كان التقرب هنا للجرم الكوني أم للإنساني المتمثل في هذا الجرم؟
وقد قدم بعض الباحثين تفسيرا للعلاقة بين الإنسان وظواهر الطبيعة المتغشاة بالأنسنة، فأرجعوها إلى ميل البدائي إلى صبغ الكون بالأرواحية
spirits ، والتعامل مع كيانات الطبيعة الجامدة باعتبارها كيانات حية ، لكنني لوجه الحق، أخذت أميل إلى مذهب آخر يذهب إلى أن بداية التقديس والتأليه كانت تجاه الوالدين، وهو منطق يتسق مع طبيعة الأمور الواقعة الملاحظة. فالأقرب إلى حس الحدث البدائي ووجدانه هو الأم؛ فالأب كمصدر قوة وإرادة، ومصدر حماية ورعاية، ومصدر أمان وغذاء، ولا أتصور أن هذا الحدث البدائي يتجه للأرض أو القمر أو الشمس بمطالبه، قبل أن يتوجه بها إلى الوالدين، خاصة أن الأساطير القديمة قد اعتبرت هذه الكيانات الكونية، إما أنها أم كبرى تمثلوها في الأرض بداية، وإما أنها الأب الأول وتمثلوها في السماء عامة (فالأب فوق تمثله السماء، والأم تحت تمثلها الأرض)، ولم تزل أغلب الديانات تنادي ربها حتى اليوم بالأب الذي في السماء، ولم يزل ممثله على الأرض هو البابا؟ ويبدو أن هناك أحداثا وظروفا قد جدت، أدت إلى تلبيس ظواهر الطبيعة الظاهرة والمؤثرة في حياة الناس بالآباء أو الأمهات السالفين، ومن الطبيعي أن تختلف هذه الظواهر المؤثرة من مجتمع لآخر باختلاف البيئات، فتختلف رموز السالفين في ظواهر الطبيعة.
ويفسر الباحثون استمرار تقديس الأم أو الأب بعد موته، بأن الإنسان البدائي لم يكن لديه تفسير واضح لظاهرة الأحلام، التي كانت عالما هلاميا غامضا يحياه مختلطا بالعالم الحقيقي، كالطفل الذي لا يستطيع أن يفرق بين الحقيقة والمنام، كثيرا ما كان يرى السلف الراحل في حلمه حيا يعايشه ويفعل ويؤثر؛ مما أدى به إلى تصور أن هذا السلف لم يزل موجودا وإن كان مختفيا عنه، لكن أين؟ «وأين؟» هذه هي التي قادته بعد ذلك إلى تصوره حالا في حيوان أو زهرة أو شجرة، وهي المرحلة التي يسميها الباحثون بالمرحلة الطوطمية (وأصل كلمة طوطم من أوطوطيمان من العهد الكونكي، وتعني هو من قرابتي)، ثم تلا ذلك تجمع العشائر البدائية في قبائل، واتصال هذه القبائل بعضها ببعض وتكوين مجتمع أكبر، وفي هذه المرحلة الأكثر اتساعا ورحابة لم يعد ممكنا فرض روح السلف المعبود، الحالة في حيوان طوطمي مقدس لدى قبيلة أخرى تقدس طوطما آخر، لكن المنطقي أن يتم تمثيل هذا السلف في ظاهرة ترضي جميع الأطراف المتجاورة أو المتحدة، فارتفع العقل بسلفه المعبود عن التمثل في حيوان على الأرض إلى تمثله في مظهر كوني أكبر كالأرض أو السماء بأجرامها، ومن هنا يتضح لماذا تصور الإنسان معبوده على شبهه ومثاله، فهذا المعبود لم يكن سوى سلفه الغابر، وهنا بالضبط ما يهم موضوعنا.
فكما كان الإنسان يتعامل مع الإنسان، استمر هذا التعامل بعد أن رحل الأسلاف وحلوا في طواطم أو ظواهر طبيعية، أقصد ظاهرة المقايضة أو القرابين، فكان طبيعيا، أو يقوم الحدث البدائي بعد أن يدخل مرحلة الشباب بكسب رضا الأم والأب المسيطر، عن طريق التقرب إليه بما يجمع من نبات أو يقنص من حيوان، كسبا للرضى، وضمانا لاستمرار الحماية العشائرية، ويدعم هذا المذهب ما وجدته عند الآثاري كريمر في إشارته إلى اعتقادات السومريين أن الإنسان قد خلق من أجل عبادة الآلهة وخدمتها بتزويدها بالطعام والشراب للتفرغ لأعمالها الإلهية،
33
أو ما وجدته في تلك الترتيلة السومرية التي تقول:
عندما تزوجت الإلهات الأم
وعندما توزعت الإلهات الأم
بين السماء والأرض
وعندما ولدت الإلهات الأم
عند ذلك كتب العمل
الآلهة العظام تراقب العمل
والأبناء يحملون السلال.
34
حقيقة إني أرى في هذه الترتيلة حفرية رائعة، نقش فيها ما حدث في الحقب القديمة. فالإلهات هنا من الأمهات (عندما تزوجت الإلهات الأم) اللاتي توزعن بعد ذلك ما بين الكونيات الظاهرة (وعندما توزعت الإلهات الأم بين السماء والأرض)، فأصحبت الأرض هي الأم، ثم ارتفع بها إلى السماء لتتمثل في كوكب الزهرة (الإلهة إينانا في السومرية وعشتار في اللغات السامية). ولك أن تلاحظ أن هذه القدسية تمت «عندما ولدت الإلهات الأم»، بينما أصبحت مهمة الأبناء هي العمل لتتفرغ الأم الإلهة لإدارة شئون العشيرة، وليس بغريب مع ما ذهبنا إليه أن نجد السومريين ينادون هذه الإلهة بالنداء «ماما
Mama » و«مامي
Mami » و«أما
Ama ».
35
وإذا كان الإنسان في الأساطير قد ولد أو «خلق» ليعبد الآلهة ويقدم لها طعامها وشرابها ويزرع أرضها، فأي آلهة هذه التي تحتاج طعاما وشرابا بين الكونيات؟ إن الأوفق والأقرب للمنطق القول إن الآلهة هنا كانت هي الأم أو الأب.
ولا شك أن قول تلك الأساطير: إن وجود الآلهة قد سبق ميلاد الكون وصياغته بشكله الحالي
36
يؤكد مقولتنا في أن التأليه بدأ بالوالدين، وسبق دمجهما في الظواهر الكونية وتأليهها؛ لأن تعبيرهم «الكون» لم يكن يعني سوى الآلهة نفسها، فهو
Me
ولاحظ هنا ميم الأمومة مرة أخرى.
إلا أن إشارة الأساطير السومرية (في أغلبها) إلى أن أول الآلهة كان إلهة أنثى هي الأم، يعني أن هذه المنطقة كانت تحفظ في ذاكرتها بقايا العصر الأمومي، وهذا يستدعي التساؤل عن نوع القرابين التي كانت مفترضا تقديمها للإلهة الأم؟ وهذا بدوره يستدعي عدة أسئلة أخرى: هل كان هناك فارق واضح بين أنواع القرابين التي كانت تقدم للإلهة الأم، وبين تلك التي كانت تقدم لإله أب؟ وفي هذه الحالة، وحتى نمسك بخيوط تطور طقس القربان لا بد أن نحاول الإجابة على سؤال أهم من كل هذا وهو: أيهما سبق الآخر: المجتمع الأمومي أم المجتمع الأبوي؟ لم أجد فيما وقع بين يدي من مصادر أو بحوث ما يضع هذه التفرقة بين قرابين خاصة بالمجتمع الأمومي وقرابين خاصة بالمجتمع الأبوي، وكل ما وجدت رتلا ضخما يتكلم عن القرابين وخطها التطوري، منها ما يخلط الحابل بالنابل، ومنها ما يؤكد تطور هذا الطقس ابتداء من التقرب بالنبات صعودا إلى الحيوان حتى الإنسان، ومنها ما يعكس الوضع فيبدأ بالقربان الإنسان ويرتقي، فيستبدل قرابينه الإنسانية بالحيوان أو النبات. وهنا أقترح - بناء على ما بين يدي من شواهد - أن طقس القربان في النظام الأمومي، قد اتخذ في أول أمره شكلا خاصا يتفق مع طبيعة النظام، ثم تبع ذلك اختلاط ناتج عن تداخل المجتمعين إبان مرحلة الانتقال إلى سيادة الذكر النهائية، أدى إلى خلط مماثل في البحوث التي تناولت هذه المرحلة.
وحتى أكون واضحا، ورغم تشابك المسألة واختلاطها الشديد، سأبدأ بمحاولة تمييز المجتمعات الأمومية عن المجتمعات الأبوية، بميزات أكثر من كون هذا كانت السيادة فيه للذكور، أو كون ذاك كانت السيادة فيه للنساء ، ولنقر مبدئيا أنه من غير المنطق أن يوجد مجتمع كل آلهته إناث ويسوده بشر ذكور أو العكس.
لقد حاول الباحثون الإجابة على السؤال أيهما كان أولا: النظام الأمومي أم الأبوي؟ فافترض «داروين» أن السيادة المطلقة كانت في البداية للذكر (المجتمع الأبوي)، وأكمل «أتكسون» فقال: إنه قد حدث أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش فقتلوه وافترسوه معا، ويستطرد «روبرتسون سميث» فيقول: إنه بعد ذلك مرت مرحلة انتقالية ظهر فيها النظام الأمومي، ثم يسلم «فرويد» بكل ذلك ويقول: إن الأوضاع عادت بعد ذلك إلى سابق عهدها، وساد الذكر مرة أخرى.
37
هذا بينما تلخص الأنثروبولوجيا «جيكيتا هوكس
Jaquetta Hawkes » اتجاه معظم الباحثين، وترتب المسألة بشكل أكثر إقناعا، فتقول: إن أقدم تماثيل شكلها الإنسان للعبادة يعود تاريخها إلى حوالي خمس عشرة ألف سنة (أي في العصر الحجري القديم)، وهي تماثيل لإناث ضخمت فيها الأعضاء المثيرة جنسيا، أسمتها «هوكس» تماثيل «أفروديت الولادة»، وهذا يعني أن العصر الأمومي كان الأسبق. وتبع ذلك عصر اتضحت فيه رسوم تتسم بالذكورة، تلاها العودة للإلهات مع اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الحديث، وتؤكد «هوكس» أمرا منطقيا تماما، هو أن النساء هن مكتشفات الزراعة، وقد حدث ذلك إبان جمعهن للثمار في منطقة مستقرة مع أطفالهن، وملاحظتهن بالصدفة لنمو الثمار المتساقطة على الأرض مرة تلو أخرى، في وقت كان الرجال فيه يخرجون للقنص، وعند عودتهم يكون كل الرجال لكل النساء فينسب الأطفال إلى الأم دون الأب. ويعد اكتشافها للزراعة وإجادتها لهذا العمل رغم بدائيته النسبية، أساسا اقتصاديا ساعد على تثبيت سيادتها، ثم تلا ذلك في نهاية العصر الحجري الحديث، أي منذ حوالي خمسة آلاف سنة تقريبا، سيادة الذكور النهائية، ولاحظت «هوكس» أن ذلك قد اقترن بنشأة المدن المستقرة الكبيرة.
38
وإن اكتشاف المرأة للزراعة نقطة مهمة تماما وضعتها الصدفة ضمن رصيدها للسيادة، ومع هذه النقطة أقف بقارئي هنيهة لأضع أمامه اقتراحا يحل مسألة أيهما كان أولا: النظام الأمومي أم الأبوي؟ أبدؤها برفض هذا السؤال من أساسه، فالخطأ الذي أدى إلى إجابات متضاربة هو السؤال نفسه، ففي رأيي أنه لم يكن هناك قبل أو بعد، ولا سابق أو لاحق، بل أزعم - وأرجو ألا أكون مخطئا - أن اختلاف النظامين هو اختلاف بين مجتمعين، هو اختلاف مكاني وليس اختلافا زمنيا، فإذا كانت المرأة هي مكتشفة الزراعة في مجتمع أمومي، فلا بد أن يكون النظام الأمومي قد ارتبط بالوسط الزراعي، وسيكون الشق الآخر الذي يتبادر للذهن فورا هو: أن النظام الأبوي قد نشأ في وسط رعوي بدوي. (7) تدعيم مذهبنا
تقول «ميد
Mead » مقولة اعتيادية تماما، وهي أن النساء بفضل قدرتهن على الإنجاب، ولأن مسألة الولادة كانت في عيني الإنسان البدائي مثيرة للدهشة والعجب (وربما الانبهار المؤدي للتقديس)؛ مما أدى إلى الاعتقاد بأن النساء قابضات على أسرار الحياة.
39
ونضيف إلى «ميد»: إذا كانت الولادة في مجتمع أمومي يأتي فيه أي رجل أية أنثى، فإن ذلك لا يعطي للذكر فرصة ملاحظة أثره أو دوره في عملية الإنجاب، إضافة إلى أن الفترة الطويلة الفاصلة بين الجماع وبين الولادة، قد تخفى بسهولة عن عين الإنسان البدائي غير المدققة للعلاقة بين الأمرين، كما أن معيشة الأولاد والبنات معا لدى البدائيين دون عائق قبل المراهقة، فيعرفون الجماع الذي لا يتسبب عنه ولادة، كل هذا أدى إلى عدم معرفتهم للعلاقة بين المضاجعة والتناسل؛ ومن ثم عدم التفكير بالمرة أن للذكر دورا في عملية الميلاد، بل إن هناك من يعتقدون حتى اليوم في بعض المجتمعات المتخلفة التي تحيا حياة شبه بدائية، أنه يمكن للمرأة الحمل دون رجل يأتيها، بل وتدخل هذه الفكرة الخاطئة تماما كأساس في بعض الديانات الكبرى القائمة إلى الآن؛ لذلك كان طبيعيا أن يتصور الإنسان البدائي أن الأنثى وحدها هي الكائن الوحيد المسئول عن منح الحياة.
هذا مع الأخذ بالحسبان ما أشارت إليه «هوكس» عن أن أول تماثيل معبودة وجدت كانت لنساء ولادات، إضافة إلى أسطورة «الشعير والنعجة» السومرية، التي تقول: إن البشر قد خرجوا من الأرض الأم كالزرع والحشيش والدود.
40
وهذا (خروج الزرع من الأرض، وخروج الوليد من بطن الأم) هو ما حدا بالعقل إلى تأليه الأرض واعتبارها الأم الأولى الكبرى التي أنجبت الزرع والحيوان والإنسان، وناداها ماما ومامي، ولا ننسى أن اكتشاف المرأة للزراعة ومفاجأتها للرجال القناصين بهذه القدرة العجيبة، زاد من ارتباطها بالأرض ومن رصيدها الخطير (منح الحياة أو إنجاب الحياة أو إنتاج الحياة)، حتى أصبح ذلك اختصاصا أنثويا بحتا، ومن الطبيعي والمنطقي تماما ألا يحدث هذا إلا في وسط زراعي مائة بالمائة.
وللمزيد من أجل تدعيم رؤيانا، نحث الخطى نحو عهد قريب لا يزيد على خمسة آلاف عام مضت، إلى منطقة الهلال الخصيب (الرافدين، سوريا، لبنان، فلسطين)، حيث قامت هناك كيانات زراعية انتهت بسيطرة الرعاة المهاجرين من الجنس السامي، فيما يسمى بالهجرات السامية، التي بدأت في هيئة تغلغل تدريجي أدى إلى سيادتهم النهائية على المنطقة، فحل «الأكاديون» الرعاة محل «السومريين» المزارعين، وانتهت بقية الهلال الخصيب إلى الوقوع تحت سيطرة «الكنعانيين» وأقربائهم. وقد احتفظت لنا هذه الحضارات بسجل واضح في ملاحمها الأسطورية، لما يمكن أن نعتبره صدى لواقع حقيقي حدث فعلا يتناغم مع رؤيتنا تناغما بينا.
ففي بلاد «سومر» الرافدية، حيث اكتشفت الكتابة المسمارية، سجل يؤكد أنه حتى قيام الحضارة السومرية في المنطقة الزراعية الخصبة، كانت السيادة للإلهة الولود المخصبة «إينانا» صاحبة العشاق الكثيرين، وهي في الأساطير لا تهتم بعشاقها الذكور، بل كانت أحيانا تفتك بهم، وهم من البشر والحيوان على حد سواء؛ مما يعطي انطباعا أنها كانت رمزا للأنثى الولود عموما، وكان همها الوحيد هو الإشباع الجنسي الشبق الحاد.
وقد فسر الباحثون ذلك بأنه رمز الأرض التي يجب تخصيبها باستمرار لتعطي حياة جديدة مستمرة (ولا ننسى أننا انتقلنا هنا عبر مرحلة طويلة اجتزنا فيها عشرة آلاف عام، اتضح فيها للرجل دوره في الإخصاب)، وحتى تقدم لنا الأسطورة تفسيرا لفصلي الخصب والجدب في طبيعة الأرض، قالت: إن «إينانا» كانت تهبط إلى باطن الأرض، حيث عالم الموتى في وقت الاعتدال الخريفي، حيث يبدأ فصل الجدب على الأرض بغيابها، ثم تعود مع الاعتدال الربيعي إلى سطح الأرض، لتبدأ عملية الإخصاب والتوالد فيعود للأرض خصبها.
وليس بغريب (مع رؤيانا) أن يتم تعديل هذه الأسطورة، بعد تغلغل الرعاة الأكاديين في بلاد سومر الزراعية، وسيطرتهم عليها وقيام الدولة الأكادية، ليتحول اسم «إينانا» إلى «عشتار، وعشتروت، من العشرة والمعاشرة والتعشير»، لكنها لا تصبح السيدة المطلقة المسئولة عن الخصب، إنما يظهر هنا سيد جديد، كان في الأساطير السومرية مجرد ذكر خامل الذكر ضمن مجموعة عشاقها الكثيرين. وكان يسمى «دوموزي أبسو»؛ ليرتفع ويصبح هو سبب الخصب الأول، ويحمل اسم «تموز راعي الخراف الطيب» ويصبح هو المسئول الأول عن الخصب والإنجاب واستمرار الحياة، ويصبح هو الذي يموت في فصل الجدب ويهبط إلى عالم الموتى السفلي، ويعود في بداية فصل الخصب فيعود للأرض خصبها، دون أن يرتبط ذلك بأي منطق، فكيف يتأتى ذلك لذكر؟ اللهم إلا منطق السيطرة الرعوية، منطق مجتمع يأخذ بالنظام الأبوي في نظمه الاجتماعية، ساد فأراد تسويد آلهته.
وكان المصير، مصير إلهات بقية الهلال الخصيب نفسه، «عناة» أو «إناث» الأنثى الأولى، التي توارت في الظل بعد السيطرة البدوية الكنعانية؛ لتصبح تابعة لسيد مطلق هو الإله «بعل» وبعلها سيدها الذي أخذ دورها ليقوم بقصة الموت والقيام من الموت، ممثلا دور الخصب بدلا منه، أما الإلهة الأولى الكبرى التي ورد ذكرها في الأساطير الرافدية باسم «تيامات
Tiamat » فقد تحولت في الأساطير الأكادية بعد سيطرة الرعاة على المنطقة مباشرة، في أسطورة «إينوما إيليش» إلى إلهة شريرة، سميت «تهامة» (ولاحظ أن تهامة علم على سهل بأرض الرعاة الحجازيين)، قام إله الدولة الذكر القوي «مردوخ» بقتلها وتمزيقها، إلا أن الأسطورة رغم ذلك احتفظت باعتراف ضمني بأهمية الإلهة الأنثى للحياة، فقالت إن «مردوخ» قد صنع من جسمها الممزق الكون وكائناته.
ولا يفوتنا ملاحظة خاصة حول أسطورة «الشعيرة والنعجة» السومرية التي تقول: إن النعجة والشعيرة كانت في موطن يسمى «التل المقدس»، وأن الإله «إن كي» أو «إينكي» (وترى أنه إله زراعي أصيل في سومر؛ لأن كلمة «آن» تعني «إله» و«كي» أو «جي» تعني الأرض، والأرض كانت تعني أرض سومر) قد طلب من الإله «أنليل » أم «أنل إيل» (وفي اعتقادنا أنه إله رعوي وافد يدل عليه اسم إيل، وهو اللفظ الرعوي المألوف في المجتمعات السامية للدلالة على المعبود)، طلب منه تحقيق رغبة تتمثل في نقل النعجة والشعير من «التل المقدس» إلى «الأرض» (واتفقنا أن جي أو كي أو الأرض تعني بلاد سومر الخصبة)، والنص لا يحتاج لأي تعليق، فالنعجة والشعير الرعويان، يتنقلان هنا من «تل» إلى «أرض خصبة» رمزا لدخول الرعاة بلاد الرافدين الخصبة التي حاولت الأسطورة تصويره، على أنه قد تم برغبة أهل سومر أنفسهم أو بطلب من إلههم «أن كي» يرجو فيه الإله الرعوي «أنل إيل»، وقد لاحظ الباحث «فوزي رشيد» اختلاف أسطورة الشعير والنعجة في صياغتها ومضمونها عن بقية المآثر السومرية ونسقها المعتاد؛ مما أدى به إلى افتراض قدومها من خارج بلاد سومر
41
ثم افترض أن هذا المكان هو الجزء الشمالي من الرافدين حيث بلاد آشور.
هذا بإيجاز شديد ما حفظه لنا التاريخ محمولا في ذاكرة البشر؛ لتسجله لنا هذه الملاحم الأسطورية مع اكتشاف الكتابة، وهو ما يكاد يكون توثيقا لما طرحناه من قبل.
وفي تصوري أن التغلغل البطيء للساميين الرعاة المهاجرين من مناطق جبلية وصحراوية إلى الهلال الخصيب، قد استغرق على الأقل خمسة آلاف عام قبل ذلك، تم خلالها اتحاد بين المجتمعين الأبوي الذكري، والزراعي الأمومي، كما أن المنطق يذهب بنا إلى الاعتراف للرعاة بأنهم أول من دجن الحيوان، واكتسبوا في ذلك مهارة وحذقا، ويتفق ذلك مع حاجتهم للغذاء الحيواني: لحم ولبن، وللكساء من الوبر (لعدم توافر النبات)، مقابل تأخر الزراعيين في ذلك لعدم الحاجة، وعندما تغلغل الرعاة في المجتمع الزراعي، استخدموا مهارتهم في تدجين دواب أكبر لخدمة العمل الزراعي؛ مما أدى بهم في النهاية - كمجتمع أبوي - إلى سلب النساء مكانتهن ووضعهن الاقتصادي المستند إلى الزراعة.
ولم يزل لدينا مزيد من الشواهد لدعم رؤيانا. (8) القربان الأمومي «القربان لغة من قرب وقرب ويقترب، فالقربان وسيلة تقرب واقتراب ومشاركة وإذابة للمسافات بين العابد والمعبود»، فأي قربان كان يمكن تقديمه للأم الأولى المخصبة الشبقة الولود المنجبة مانحة الحياة ؟ في مجتمع أمومي كان فيه الجميع للجميع، النساء للرجال والرجال للنساء.
حاولت البحث جاهدا عن إشارات لقرابين حية كانت تقدم للإلهات الإناث، وما وجدته إما إشارات خاطفة لوجود بقايا نيران وعظام حيوانات متفحمة بجوار تماثيل فينوس الولادة في العصر الحجري القديم؛
42
وهو ما لا يمكن الاعتماد عليه - بمفرده فقط - للقطع، أو حتى للاحتمال القوي بأن الإلهات الإناث في العصر الحجري القديم قد عرفن القرابين الحية، وإما إشارات لقرابين حية حيوانية وبشرية قدمت لعشتاروت الرافدية، وهي بدورها مما لا يمكن الاعتداد به؛ لأنها أولا وردت في مصادر تجميعية لا يمكن الوثوق بها تماما، ولأنها ثانيا لا يمكن اعتبارها دليلا على أصالة هذه القرابين المقدمة للإلهات النساء؛ لأنها «عشتروت» في عصر قريب بالنسبة للعبادة الأمومية القديمة، وهو عصر تداخل فيه المجتمع الرعوي الذكري مع المجتمع الزراعي الأمومي، وساد فيه الغزاة الرعاة الذكور تماما، كما ساد فيه الآلهة الذكور أيضا إلى جانب الإلهات الإناث؛ مما يعطينا إيحاء قويا بأن الضحايا الحيوانية أو البشرية كقرابين للآلهة، قد أتت وافدة مع الرعاة إلى المجتمعات الزراعية، وأن القربان الحي قد عرف في بداية أمره في المجتمعات الرعوية الأبوية، وارتبط بالآلهة الذكور ثم بعد اندماج المجتمعين عرفت الإلهات الإناث هذا النوع من القرابين.
ولعل ندرة الإشارات إلى قرابين حية قدمت لإلهات إناث، مقابل ما تمتلئ به المصادر من أنواع القرابين الحية التي كانت تقدم لآلهة ذكور، أول العلامات الشاهدة على ما طرحناه، إضافة إلى شواهد أخرى كثيرة سيأتي بيانها في حينه، بعد أن نحاول الإجابة على السؤال السالف: أي قربان كان يليق بالأم المخصبة الشبقة الولود المنجبة مانحة الحياة؟
وأظنني وجدت الإجابة في طقس مهم ومثير، كان يمارس في المناسبات الدينية للإلهات الإناث، في عصر المدن والدول الكبرى في منطقة الهلال الخصيب، أي بعد اختلاط النظامين الأبوي والأمومي، واستتباب السيادة الذكرية على الأرض، مع عدم خلوصها للذكر تماما في السماء، حيث كان للإلهات الإناث وجودهن الباقي، وأعيادهن واحتفالاتهن. «مع ملاحظة أن استمرار الو جود الأنثوي في العبادة مستمر حتى الآن في العقيدة المسيحية التي تعتبر مريم أم الإله المسيح من أبيه السماوي، وهذه الأم إلهة تستوجب الاحتفال والعبادة. ولعل في صيام العذراء المخصص لها دون بقية أقانيم المسيحية الثلاثة، الذي يصوم فيه المسيحيون عن كل ما هو حيواني حي، ويقتصرون فيه على أكل النبات، تذكرة واضحة لا لبس فيها بالمجتمع الذي كان - في سالف العصور - يعتمد على الزراعة والنبات، وكانت تسود الأم العذراء الأولى، ولم تنته عبادة الأنثى إلا في بيئة رعوية مائة بالمائة، ذكرية مائة بالمائة. أقصد في الدين الإسلامي، الذي تحول بالعبادة عن الأنثى نهائيا.»
وأقصد بالطقس الذي أشرت إليه، والذي كان يمارس في المناسبات الدينية للإلهات والإناث طقس الجنس الجماعي، في أيام محدودة، بجوار معبد الإلهة، والتضحية بالبكارة داخل هيكل الإله نفسه. ولا أجدني مخطئا إذا قلت: إن هذا الطقس إنما كان أفضل قربان يمكن تقديمه للإلهة المخصبة الشبقة الولود المنجبة مانحة الحياة، ولا أكون مغاليا إن احتسبت هذا الطقس أيضا تذكرة بتلك الأيام الخوالي، أيام كان كل النساء للرجال وكل الرجال للنساء. وفي هذا يقول «جيمس فريزر»: «وكان مثل هذه العادة منتشرا في كثير من أصقاع آسيا الغربية، ومهما يكن الدافع لذلك، فإنه لم يكن مجرد انغماس في الفسق الشهواني، بل كان واجبا دينيا خطيرا، يقام به خدمة للإلهة الأم العظمى.» وأقترح تعديل العبارة الأخيرة لتصبح «كان واجبا دينيا خطيرا، يقام به تقريبا للإلهة الأم العظمى» - يتابع فريزر - «وهي الإلهة التي اختلفت أسماؤها، وشكلها واحد ثابت في كل البلاد؛ ففي بابل كان على كل امرأة غنية أو فقيرة، أن تستسلم مرة في حياتها لذراعي رجل غريب في معبد ميليطا أي عشتار أو عشتاروت، وأن تقدم للإلهة الدراهم التي أخذتها لقاء هذا البغاء المقدس. كان صحن الهيكل يزدحم بالنساء اللاتي ينتظرن العمل بهذه العادة ... وفي بعلبك في لبنان كان العرف يقضي على كل عذراء أن تضاجع غريبا في الهيكل.»
43
وما زلنا مع «فريزر»: «وفي أرمينيا كانت أشرف العائلات تكرس بناتها لخدمة الإلهة أنايتيس في هيكل إكسيليسينا، حيث كانت الغيد يعملن كبغايا مدة طويلة قبل أن يتزوجن ... وكذلك كانت جماعة كبيرة من الزانيات المقدسات يعبدن الإلهة «ما
Ma » ولاحظ ميم الأمومة في بلدة كومانا في بنطس ... الإلهة الأم التي تمثل في شخصيتها قوى التناسل في الطبيعة كلها ... وذلك لضمان إثمار الأرض وتكاثر الإنسان والحيوان ... وكانت الإلهة دائما تعد غير متزوجة وغير عفيفة معا.»
44
وألفت نظر قارئي إلى أن هذه الصفة (غير متزوجة وغير عفيفة) إنما كانت صفة الأنثى في المجتمع الأمومي الأول، حيث لم يكن قد اخترع نظام الزواج بعد.
والملاحظ أن هذا الطقس - الذي تمجه أعرافنا اليوم - كان عملا مقدسا سمي
Sacred Protitution
قصد به تحريض القوى الإخصابية في الأرض الأم، اعتمادا على مبدأ السحر التشاكلي، إذ الشبيه ينتج الشبيه.
وبمرور الزمن، وتأكيد سيادة الذكور التي تتميز بالغيرة، بدأت محاولات للتحايل (ما نسميه اليوم التأويل) من أجل تخفيف هذا القربان، فكان أن شكلت طبقة خاصة من النساء ليقمن بهذا الطقس القرباني، فأصبحن ضحية وفداء لبقية النساء، إلا أن ذلك لم يكن عارا بل شرفا عظيما نالته هؤلاء النسوة، فلقبوهن «بالعشتاريات
lshtaritu » المشتق من «عشتار».
ويقول «فاضل عبد الواحد»: إن هؤلاء «العشتاريات» أصبحن كاهنات المعابد وأنهن كن من بنات العائلات المالكة والنبلاء.
45
ويذكر «فريزر»: أن إحداهن - ويبدو أنها الكاهنة الكبرى - كانت تنام دائما على سرير الإله «بعل» أو «مردوخ». وكان معتقدا أن الإله اصطفاها من بين نساء بابل كلهن ليضاجعها في سريره
46
وكان لقب العشتارية الأفضل هو «قاديشتو»، وهو الذي أصبح في اليهودية «قديشا» - وكانت تطلق على زانيات الهيكل السليماني - التي ننطقها «قديسة».
47
أما باقي النساء فكان لا بد أن يتقدمن لعشتار بقربان بديل عن الجنس مع غريب، فلا بد من تضحية. لذلك كان واجبا دينيا على المرأة التي لا ترغب في تقديم جسدها للإلهة، أن تكتفي بقص شعرها بدلا من جسدها.
48
وفي عيد رأس السنة الجديدة (الاعتدال الربيعي، وقت عودة عشتار أو زوجها من عالم الموتى السفلي لإخصاب الأرض) كان يقام احتفال عظيم يقوم فيه الملك بدور الإله الأكبر، بينما تقوم القديسة الكبرى بدور الإلهة عشتار، ويضاجعها على سرير الإله، فتتحقق الخصوبة، ويعم الرخاء.
49
ولنا أن نلاحظ تلك الملحوظة التي تفرض نفسها بقوة، فقد كان لقب أية إلهة خصب في الهلال الخصيب هو «البتول». وقد ترجمها بعض المترجمين بالعذراء، إلا أنها لوجه الحق كانت تعني «غير المتزوجة، أو غير المرتبطة برجل محدد بعينه» وهي بدورها صفة الأنثى في المجتمع الأمومي الغابر، وهي الصفة التي حملتها الإلهة مريم في العقيدة المسيحية «رغم إنجابها للمسيح وإخوته».
وفي طرالس بليديا تم الكشف مؤخرا عن لوحة شرف منقورة على عمود مرمري يعود عهدها إلى القرن الثاني بعد الميلاد، تعلن: أن الشريفة «أورليا أماليا» قد قدمت جسدها قربانا للإلهة، وأنها في تدينها أصيلة، فقد قدمت أمها وجدتها القربان نفسه، وأنه قد تم التأكد من ذلك.
50 (9) القربان الذكري
يقول الكتاب المقدس: «وكان هابيل راعيا للغنم، وكان قايين عاملا في الأرض، وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين لم ينظر.»
51
ورغم أن هناك أمورا غير منطقية كثيرة بالكتاب المذكور، إلا أن مسألة قبول الإله للحم «هابيل»، ورفضه لثمار «قايين» يصعب قبولها على علاتها، أو افتراض أن الإله ربما كان من «اللواحم» وكفى، فلا ريب أن في الظروف الموضوعية التي أحاطت بالشعب العبري - وهو شعب رعوي - صاحب ومؤلف الكتاب المقدس، أسبابا دفعته إلى التأكيد على علاقة الرب الودية بالراعي، مقابل نفوره من المزارع، دونما سبب واضح غير أن هذا راع وذاك مزارع، تلك العلاقة التي توجها الموقف المأساوي المتمثل في مقتل الراعي على يد المزارع؛ لإبراز الشر الكامن في المزارع، مقابل طيبة الراعي؛ ومن ثم وجب الثأر المتأصل في القبلية، فحل الغضب الإلهي على المزارع؛ ومن ثم تقدس قربان «هابيل» الراعي، الذي ما كان ممكنا قبوله أو وصوله إلى الرب، دون ذبحه وحرقه لتتصاعد مادته، فيتسلمها الرب فتهدأ نفسه وتستريح.
وهنا بالضبط أتصور السر الكامن وراء الدم والذبح والحرق والتقرب بالخروف والتيس، كوسائل تواصل بين الراعي ورب الرعاة، وهنا يكمن السر في تنافس العرب واليهود (وكلاهما راع) في تأكيد الفخر لنفسه بأنه كان المذبوح للرب (مشخصين في إسماعيل وإسحاق)، وأنه هنا يكمن السر في التضحية بسيد القبيلة أو ملكها باعتباره الأب والمعبود، تمثل - في ذروته - في التضحية بالخروف الأكبر «يسوع» في العقيدة المسيحية، ولنحاول الآن إقامة عمد هذه الرؤية.
ونبدأ بالإشارة إلى الاحتفالية المسيحية بعيد الفصح، وهو موعد قيامة «المسيح» بعد أيام ثلاثة من موته، وفيه يؤكل لحم الخروف، بعد حرمان من أكل أي طعام حيواني، يقضيه المسيحيون اختياريا لمدة خمسة وخمسين يوما في صيام يقتصر الطعام فيه على النبات، ولنا حول ذلك ملاحظات، مع إضافات لازمة:
أن صيام العذراء رمز واضح - كما سبق أن أشرنا - إلى العصر الأمومي الزراعي، وخاصة أنه قد خصص للأم العذراء «مريم» بالذات.
أن نهاية الصيام الكبير تتم بعيد الفصح الذي يكسر فيه الصيام بأكل الخروف، وهو ليس سوى رمز لنهاية النظام الأمومي في المجتمعات الزراعية وسيادة النظام الذكري الرعوي الغازي ممثلا في الخروف، قربان الرعاة المفضل.
أن المسيح - بنص الأناجيل - كان يعد لمريم «ابنها البكر».
52
أن المسيح - بنص الأناجيل - كان يعد «ملكا لليهود».
53
أن المسيح - بنص الأناجيل - إله ذكر.
أن المسيح قد استشهد ومات، وهو في المسيحية اعتقاد أساسي دونه الكفر، وأن موته كان فداء للبشر.
فالمسيح إذن «ابن بكر» كان يعد ملكا، وفي الوقت نفسه إله ذكر استشهد فداء للبشر، وتحول بعد موته إلى الأب الذي في السماوات.
أن عيد الفصح المسيحي، الذي يؤكل فيه الخروف أو المسيح كان في أصله عيدا رعويا، كان يحتفل به الساميون عموما، والعبريون اليهود خصوصا، وكان بالتسمية العبرية عيد «الفسح» ويقول مولتون
Moulton : «إن العبريين كانوا يبدءون احتفالهم الفسحي ليلة البدر من لحظة ظهور القمر - وطوال الليل - وإلى لحظة اختفائه بأكل خروف يشتركون فيه جماعة.»
54
ولاحظ أن الخروف من حيوانات الرعاة، وأن القمر أحد الظواهر الفضائية المؤثرة في حياة البادية الليلية، وأنه كان إلها لكل الشعوب السامية العائدة بأصولها إلى بوادي شرق المتوسط، وأنه عبد تحت اسم الإله «سين». راجع في ذلك موضوعنا «منذ فجر التاريخ والحج فريضة إجبارية».
أنه لا بد أن تتوافر في هذه الضحية شروط عددها موسكاتي كالآتي:
أن تكون سليمة من العيوب.
أن تكون من الغنم أو التيوس (وهي حيوانات الراعي).
أن تكون البكر بين الحملان أو المعز.
أن تكون ذكرا (وهي دلالة المجتمع الأبوي الذكري).
55
أنه كان يؤكل مع هذه الضحية فطير (خبز غير مختمر)، ويرى «موسكاتي» أن ذلك بدوره كان عادة رعوية، إذ لم يكن لدى الرعاة وقت لانتظار التخمر؛ نظرا لظروف تنقلهم السريع وراء الكلأ والعشب،
56
إلا أن لنا رأيا آخر، وهو أن أكل الفطير خبزا غير مختمر، ربما كان عادة زراعية الأصل، وهو ما يؤكده رأي «برتولت
Bortholet »، فيرى أن سر أكل الخبز فطيرا هو أن ينال الإله نصيبه من المحصول الجديد في أسرع وقت ممكن،
57
وهو ما يجعلنا نضع احتمالا بأن الأصل في احتفالية عيد الفسح عيدان وليس عيدا واحدا:
عيد خاص بالمزارعين يتقرب فيه العباد للإله بقربان من ثمار الأرض ممثلا في حنطة على هيئة فطير، ويدعم لنا احتمالنا قول «بنتسنجر
Benzinger »: إن عادة أكل الفطير دون خمير، كان سببه عدم التفرغ إبان جمع المحصول،
58
ولاحظ «وقدم قايين من أثمار الأرض قربانا ...»
عيد خاص بالرعويين أصحاب النظام الأبوي يذبحون فيه من ماشيتهم، ولاحظ «وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها».
ثم اختلط العيدان، بتداخل المجتمعين، والنظامين الأبوي والأمومي، ويؤكد لنا أن عيد الفطر لم يكن عيدا رعويا في الأصل قول «برتولت»: إن عيد الحصاد لم يكن ذا موعد محدد، فقد كان مرتهنا بنضوج المحصول والاستعداد لجمعه، ثم تحدد موعده وثبت بعد ذلك، بعد أن ارتبط بعيد الفسح. أما أظهر الدلالات على ذلك ما جاء في كتاب العبريين المقدس: أن عيد الفسح
59
هو «عيد ابتداء المنجل في العيدان»!
60
وإن هذا بدوره يعد دعما آخر لمذهبنا، في أن النظام الأمومي كان زراعيا ، وقرابينه إما دعارة أو نبات في هيئة فطير، وإن النظام الأبوي كان رعويا وقرابينه دماء وذبائح.
ونعود إلى عيد الفصح المسيحي مرة أخرى لتناول فكرتين مهمتين:
إن «المسيح» كان لقبه الراعي، وأنه كان يعد ملكا وإلها وأبا للمؤمنين في الوقت نفسه.
إن موته كان فداء للبشر.
وأطرح هنا تفسير «سيجموند فرويد» لمسألة التضحية (بالحيوان، بالإنسان، بالملك، بالإله على حد سواء)، فيقول اعتمادا على «داروين»، و«أتكسون»، و«روبرتسون سميث»:
إن البشر قد عاشوا في أول عصورهم على هيئة عشائر صغيرة، وإن كل عشيرة رزحت تحت نير سلطة طاغية لأب ذكر، «وبناء على مذهبنا، سينطبق كلام «فرويد» هنا على المجتمع الرعوي البدائي فقط، رغم أنه لم يقل ذلك». وإن هذا الأب القاسي المرعب، كان أنانيا فظا غليظ القلب، يقتل أبناءه لأتفه سبب، إنه كان يرضى خصي الابن أو يقطع ذكره من أصوله إذا أثار غيرته، واقترب من الإناث اللاتي كن حريما له، وحريمه إما أمه أو إخوته أو بناته. وذات يوم تضافر الأبناء المقهورون، وأعلنوا تمردهم وعصيانهم على ملكهم وأبيهم، فقتلوه وافترسوه معا.
ثم حلت عشيرة الإخوة محل الأب، ونتيجة الشعور بالذنب، صرفوا النظر عن نسائه، وأقاموا نظام الزواج الخارجي، فنشأ التابو أو التحريم، ونظمت الأسرة أوضاعها تبعا لقواعد أمومية جديدة، «وهذه النقطة سبق أن رفضناها من خلال نظريتنا».
ثم اختار الأبناء المتمردون حيوانا ليكون طوطما للأب المقتول (ولاحظ أن الكلمة أو طوطيمان تعني: هو من قرابتي)، واعتبروه السلف الأول والروح الحامية، وحظر مسه أو قتله إلا في اجتماع كامل لمأدبة يأكلونه فيها جماعة.
61
وهنا اقتراح أن يكون هذا الطوطم خروفا أو تيسا، باعتبارهما من حيوانات الراعي. لكن الاعتراض البدهي قد يقول: كيف ذلك بينما الخروف أو التيس كان يؤكل في أي وقت كان، وهنا أبرز رؤيتي بنقطتين:
الأولى:
ما جاء في تحديد صفات الوليمة الطوطمية في الفسح العبري (ذكر وليس أنثى، من الغنم أو الماعز، بكر، سليمة من العيوب)؛ لتأكيد صفات معينة في الطواطم دون بقية الخراف، تتمتع بالرعاية إلى اليوم الموعود لذبحها وأكلها .
والثانية:
إن من عادات المشعوذين حتى اليوم، أن يطلب المشعوذ من صاحب المشكلة حيوانا ذا صفات محددة وخاصة جدا ليذبحها فتحل مشكلته.
ونتابع مع «فرويد»، فيقول: «إن الأب المقتول الذي كان الأبناء يخشونه ويرهبونه ويكرهونه ويجلونه في وقت واحد، كان كل منهم يتمنى لو يحتل مكانه؛ لذلك أصبح أكله ممثلا في خروف في موعد محدد كل عام، هو محاولة للتشبه به من خلال التمثيل الجسدي لقطعة منه.
62
وفي الوقت نفسه أصبح هذا الموعد عيدا يحيي في الأبناء ذكرى انتصار حلفهم على الأب الملك القاسي.»
63
ويرى أن عادة الختان المستمرة حتى اليوم، إن هي إلا بديل رمزي عن الخصي الذي كان الأب كلي القدرة يعاقب به أبناءه فيما غبر من الزمن.
64
وأضيف إلى «فرويد» أنه ليس ختانا فقط، بل كان يصل إلى حد إخصاء كامل يقوم به الإنسان لذاته بذاته، في احتفالات الآلهة الشهيدة، كما كان يحدث في احتفالات الحزن على الإله «أدونيس» في «لبنان».
65
ولم يزل يمارسه الشيعة المتطرفون في احتفالات الحزن على «الحسين» الشهيد في لبنان وسوريا والعراق وإيران، حتى اليوم. ومع ذلك أجدني أخالف «فرويد» في كثير مما ذهب إليه.
إن قول «فرويد» إن الاحتفال بالفصح حول ذكر غنم مذبوح إحياء لذكرى قتل الأب - والأب كما اتفقنا كان الإله - على يد أبنائه. وذكرى انتصارهم عليه، فيها كثير مما يجافي المنطق والواقع. ومجافاة المنطق تتضح في التساؤلات: هل كانت حالة قتل الأب البدائي حالة واحدة حدثت في جماعة بعينها دون بقية الجماعات، وترسبت ذكراها بعد ذلك لدى كل الجماعات والمجتمعات، التي ما زالت إلى اليوم على اختلاف مللها ونحلها تمارس طقس الأضحية في أعيادها؟ بالطبع هذا غير ممكن أيا كانت التبريرات. أم أن حادثة قتل الأب قد تكررت الصورة نفسها لدى كل العشائر القديمة، حتى تظل في ذاكرة جميع الشعوب، ويتم تذكرها إلى اليوم باحتفالات التضحية، وهذا بدوره نوع من الصدفة مستحيلة الوقوع بهذا الاطراد والتزامن والتشابه.
ثم إنه إذا كان أكل الخروف إلى اليوم ، هو أكل الإله ذاته - كما هو واضح تماما في العقيدة المسيحية - فهل التقرب يتم هنا للإله نفسه؟ أعني أن الاعتقاد بهبوط الإله المسيح من السماء وموته على الصليب لفداء البشر، وأكل الخروف في الفصح المسيحي تذكرة به، إذ قال المسيح: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه.»
66
هل يعد هذا الاعتقاد تقربا للإله ذاته؟ إن ذلك يبدو لي غير منطقي بالمرة، ولا يمكن أن أتصور الإنسان حتى اليوم يتقرب للإله بالإله ذاته، فينزل من عرشه السماوي ليصلبه على الأرض، ثم يأكله بعد ذلك خروفا، فيما يزعم «فرويد» أنه احتفال بذكرى قتل الأب البدائي وانتصار حلف الأبناء عليه.
إنه تفسير يجافي المنطق تماما، ثم يجافي الواقع المعيش، ومن الواقع المشاهد للآن يمكنني أن أرسم صورة تأملية نستعيد فيها حقيقة ما حدث في غابر الأزمان، يمكن أن نفسر بها سر التضحية ب «الأب، الملك، الإله، الخروف» على حد سواء. (10) الأضحية والفداء
مرة أخرى أعود فأؤكد أن القربان النباتي (الفطير) كان في مجتمع زراعي أمومي، لم يعرف الدماء ولا الذبح في مبدأ أمره، وكانت قرابينه إما دعارة أو فطيرا. بينما كانت التضحية بالذبح والدم احتفالية رعوية نشأت في مجتمع أبوي، وكي تتماسك حلقات رؤيتي التأملية، أستمر في استقراء الواقع، وأعود إلى «داروين» كما عاد إليه «فرويد». فأجد أن نظرية الانتخاب الطبيعي لا تعني أبدا تضافر الإخوة لقتل الأب، إنما كان ما يحدث، هو ما يحدث اليوم في عالم الحيوان؛ إذ يستمر الذكر القوي في سيادة القطيع، حتى ينتابه ضعف الشيخوخة، فيظهر ذكر آخر قوي يدعوه للنزال وينازعه السيادة، وعلى المهزوم أن يتخلى عن موقعه، وهكذا دواليك، أما تمثل الأب في طوطم يؤكل في موعد يحدد فليس مرجعه جريمة ارتكبها الأبناء في حق الأب كما ذهب «فرويد»، إنما أتصور الأمر كامنا في معنى «الأضحية» نفسه، فهي في الإنجليزية
sacrifice
بمعنى التضحية والذبح للإلهة وهي الأضحية. والذبيحة، وتعني أيضا الخسارة والتضحية بشيء، من أجل شيء آخر، والأضحية في اللغة العربية من التضحية، والتضحية «فعل » يحمل معنى الخسارة والتنازل عن شيء نملكه. كما يحمل أيضا معنى فداء الآخرين، ومعنى النبل، فهي خسارة شخصية من أجل كسب أكبر وأهم للجماعة كلها.
وكان معنى الضحية ولم يزل معنى الفدية التي يفتدي بها الإنسان أو المجتمع أو الوطن، وتحمل أيضا معنى التضحية الاختيارية بالذات، من أجل سلامة الجماعة كلها، وفي هذه الحال، يتحول عمل الفادي في نظر الناس بعد موته إلى قمة الأعمال سموا وقدسية، حتى إن تضحيته في كافة الأديان تقريبا، ترفع عنه كل الخطايا، حتى تصل قداسته حد الملائكية. ويطلق على عمله في هذه الحال «استشهاد»، بمعنى الموت أمام الجميع وهم شهود يستشهد بهم على مجد عمله وفدائه. وإذا كان هذا يحدث اليوم، فلا نتعجب من أفراد العشيرة البدائية، وهم يحتمون وراء الذكر الأب القوي، من أحد ضواري الصحراء، أو من نازلة طبيعية قاسية، فيموت أمام أعين الجميع وهم شهود على مجد عمله وقدس فدائيته، فيرفعونه بعد موته إلى رتبة الألوهية الغيبية (مع ملاحظة دور الأحلام في تأكيد هذا المعنى، والفزع الطفولي في حلم يسترجع ذكرى فداء الأب واستشهاده)، ولكن لأن الغيب مسألة غير واضحة المعالم، فقد تمثل البدائيون السلف الراحل في طواطم أنفع الحيوانات، وما أنفع الخروف والتيس للراعي! ذاك الطوطم الذي ظل يحظى بالإكرام والتبجيل، حتى موعد ذكرى استشهاده، فكان أن اجتمع الأبناء حول جسده المذبوح في خروفه الطوطمي، تذكرة لهم بآلام استشهاده، ثم يأكلونه ليحتووه في البطون والحنايا والحشايا، ويستمدون من جسده القدسي مددا وقوة، ويحتوونه داخل أنفسهم وأرواحهم، فهو فيهم وهم فيه (بتعبير المسيح آنف الذكر).
وإلا، لماذا الحزن والبكاء في موسم استشهاد الآلهة؟ ولماذا لطم الخدود وشق الجيوب الذي كان يمارس حزنا على «تموز» و«أدونيس» و«بعل» و«آتيس» و«ميثهرا» و«المسيح» و«الحسين»؟ وهل يتفق هذا الحزن الهائل مع تفسير «فرويد» أنه ذكرى انتصار الأبناء على الأب القاسي؟ ثم لماذا يصل الحزن إلى حد تجريح الأبدان إن لم يكن مشاركة للأب الشهيد في ألمه، واصطناعا لألم ناتج عن عدم مشاركته بطولته ومصيره ؟ ثم لماذا يسمى الفطير القرباني، الذي يقدم في ذكرى موت «المسيح» مرسوما عليه «المسيح» أو صليبه (رمزا لآلام استشهاده) الذي كان يؤكل قبل ذلك في الفسح، لماذا يسمى خبز الحزن
sad bread ؟ أو لماذا يتمادى الحزن ويتحول إلى هستيريا تصل إلى حد إخصاء المؤمن نفسه في مواسم استشهاد آلهة الهلال الخصيب، إذا لم يكن ذلك محاولة متأخرة للاعتراف لهذا الأب بأنه الوحيد الذي يستحق شرف الرجولة، وأن من عداه لا يستحق أن يحمل شرف رجولة لم يشارك بها الشهيد مجد استشهاده؟ ثم لماذا يلقب كل آلهة الخصيب التي سادت مع السيادة الرعوية بلقب «الشهيد»؟ ولماذا تقول الأساطير رغم تباعد المسافات بين هذه الآلهة: إن كلا منهم مات ميتة عنيفة على أنياب وحش بري بالذات؟
حقيقة لا أرى ذلك كله متفقا أو متسقا إلا مع رؤيتي، وإذا كان من غير المنطقي أن تتكرر حادثة قتل الأب على يد أبنائه كما ذهب «فرويد»، فإنه من المنطقي أن تتكرر حادثة استشهاد الأب فداء لعشيرته، باختلاف المكان والزمان، وفوق هذا كله فإن نظريتي تتسق مع آخر الديانات الفدائية الكبرى (المسيحية)، التي اعتقدت في ألوهية المسيح، ذاك الإنسان الذي أعاد إنجيل «متى» أصل نسبه إلى بيت الملكين «داود» وابنه «سليمان»،
67
فكان ملكا منتظرا لليهود يمسح بالزيت المقدس مسيحا، ثم يقودهم ويحررهم من الاستعمار الروماني، لكنه استشهد على الصليب، فاستحق الألوهية؛ لأنه في الاعتقاد المسيحي قد أسلم نفسه للصليب بإرادته فداء لكل الشعب، وإن الإيمان به، وأكل لحمه وشرب دمه ممثلا في خروفه الطوطمي في الفصح، يرفع كل الخطايا عن البشر، خاصة أن عرش ملك اليهود المنتظر كان يسمى عرش «يهوه» إله اليهود؛ لذلك كان المسيح ملكا وإلها.
ومن هنا لا نندهش عند قراءة الأساطير القديمة لآلهة الفداء، أن نجد الإله «تموز» يستشهد وهو في هيئة التيس، وكذلك «بعل» الكنعانيين، وكذلك «أدونيس» الفينيقي الذي قتل على أنياب خنزير بري، وكذلك «آتيس» إله فريجيا الذي استشهد إبان صراعه مع وحش بري. وهو يتلبس هيئة التيس ! (11) تداخل القرابين والأضاحي
يبدو لنا أن الإنسان عندما بدأ يتحول بأسلافه من الطواطم إلى المظاهر الكونية، كان اهتمام المجتمع الرعوي الأبوي بما فوق (والذكر فوق الأنثى والأب فوق الأم)، خاصة مع حياته في بادية تسترشد بالقمر والنجوم ليلا مع الاتساع والرحابة في أفق لا تحده حدود. فتمثل آلهته في السماء (الهلال القمر الإله سين، ولاحظ التشابه بين قرني التيس أو الخروف وبين الهلال) وأرى أن المنطق يقود إلى تمثل الراعي لوجه أبيه الشهيد في القمر لما تحمله تضاريسه من تمثلات كثيرة، كنا نتخيل فيها ما يحلو لنا ونحن صغار، وما أشبه البدائيين بصغار اليوم، إضافة إلى أن اللفظ السامي الرعوي الدال على الغنم أو الماعز كان «سي» بإمالة السين إمالة طويلة، والتي أصبحت «شاه». والتسمية «سي» تلتقي تماما مع تسمية القمر ب «سين» ولم تزل نساؤنا المصريات إلى اليوم يسبقن اسم الزوج ب «سي» بمعنى سيدي أو ربي أو «بعلي» «فلان»!
هذا بينما تركز اهتمام المزارعين أصحاب النظام الأمومي في أمهم الأرض، وعندما رفعوها إلى السماء ليلبسوها بالظواهر الفضائية تمثلوا هذه الأم في كوكب متلألئ ذي دلال هو كوكب الزهرة، ويذهب «فرويد» إلى أن هذه الأم قد رمز لها بالقمر، إلا أني أرى في ذلك بعض الخلط. فارتباط الأنثى الأم بالقمر، جاء فيما أعتقد ليس لكونهم رأوها هي القمر ذاته أو أن رمزها في السماء هو القمر، ولكن لعدم معرفة الزراعيين البدائيين بدور الرجل في الحمل والميلاد، وربما كان اتفاق ظهور القمر - وتبدل أحواله حتى تكامله ثم اختفائه - مع إيقاعات المرأة البيولوجية، سببا في نشوء تفسير لدى البدائيين في المجتمع الأمومي. إن القمر هو الزوج الحقيقي للمرأة، كما يصح أن يكون هذا التصور قد تدعم فيما بعد باندماج المجتمعين الرعوي الأبوي والزراعي الأمومي، فزوجوا الأب الذكر «سين» إله القمر بالإلهة الأنثى الأم الكبرى، وهو ما وجدنا صداه في أسطورة «إينانا» إلهة الجنس وكوكب الزهرة السومرية، إذ جاء فيها أن القمر سين كان زوجا لها ومقابل اسمها «إبناتا = إن + آن» أي سيدة السماء، كان لقب الإله سين «نانا = نن + آن» أي ذكر السماء أو رجل السماء أو سيد السماء.
68
وكان اعتياديا تماما بعد هذا التزاوج بين المجتمعين والنظامين أن تتداخل القرابين الزراعية بالأضاحي الرعوية، وأن تستمر تضحية الأب البدائي في الذكرى الإنسانية، التي تحولت إلى عرف مسنون يجب الوفاء به كلما حل بهم أمر جلل، وعلى الملك (الذي حل محل الأب بعد قيام المدن) أن يقوم بهذه التضحية، باعتباره ممثل الإله كما ضحى بذلك الأب الأول. وهو ما فعله الملك القرطاجي «هملقار» في معركة «هيرا» التي قاتل فيها الإغريق قتالا مستميتا، واستمرت من الفجر حتى منتصف الليل، ومكث في معسكره يلقي بعشرات الضحايا في محرقة هائلة. ولما رأى جنوده يتقهقرون ارتمى وسط اللهب بتضحية اختيارية، وقضى نحبه فداء مواطنيه. فجعل مواطنوه فيما بعد يقدمون له الضحايا، وشيدوا له نصبا في كافة المستعمرات القرطاجية
69 (وهو تكرار واضح لا يحتاج تعليقا لما سبق وحدث في سالف الأزمان، ويتفق تماما مع رأينا).
بالعودة إلى خمسة آلاف سنة مضت، وقت نشأة المدن في الهلال الخصيب، وسيادة الذكور، وتزاوج الثقافتين الرعوية الأبوية والزراعية الأمومية، تحولت احتفالات الخصب؛ لحث الأرض على الإنتاج، من إلهات الأرض والزهرة الإناث، إلى الآلهة الذكور، فتحولت القرابين بالتالي إلى أضاحي، يضحي فيها الملك بنفسه، ويبدو أن تقديم الأطفال قربانا للنيران - فيما نرى - قد نشأ عن محاولة الملوك التهرب من هذا المصير المفزع، فنشأت عادة مضاجعة الملك للكاهنة الكبرى «قاديشتو» لإنتاج آلهة من نسله الملكي الإلهي تخصص للتضحية. وفي هذا ما يفسر لنا لجوء الملك اليهودي «داود» إلى شنق أبناء سلفه «شاول» السبعة؛ لرفع القحط وإنزال المطر.
وهكذا أصبح إنبات الأرض واستنزال المطر وعودة فصل الخصب، مرهونا بسفك الدماء وبالأضاحي، وهو أمر لا يزال شائعا في بلادنا إلى اليوم، يتمثل في تحذير الأم لطفلها بعدم الخروج وحيدا، حتى لا يذبحوه على حجر طاحونة الحبوب؛ لأن الطاحونة إذا توقفت فلا بد أن يذبح عليها طفل حتى تعود إلى العمل، وتعود إلى طحن الحبوب، هكذا كانوا يروون لنا ونحن صغار، وهي رواية تلقي بنا في مرآة التاريخ القديم، حيث ارتهن استمرار دوران الطبيعة (الطاحونة)؛ لتعطي حبوبها وزرعها بالتضحية بالدم، وهي تضحية لم تكن - أبدا - أصيلة في المجتمع الأمومي الزراعي. إنما وفدت مع قدوم الرعاة، إذ أصبح تقديم الطفل الملكي الإلهي للإلهة الأم الكبرى، نتيجة اقتران ثقافة المزارع القاضية بتقديم دم بكارة الأنثى في الهيكل للأم الكبرى، بثقافة الراعي التي كانت تقضي بتقديم بكر الخراف أو الملك نفسه فداء للجماعة.
وربما كان الطفل (الناتج عن جماع الملك الرعوي بالكاهنة الأمومية) هو تراض بتعاقد لتقديم ضريبة عوضا عن الصراع الدموي، الذي لا بد قد حدث إبان دخول الرعاة للأرض الزراعية، بين أصحاب الأرض الزراعية وبين الغزاة الرعويين.
والمطالع للكتاب المقدس يجده لا يني يذكر دائما الابن البكر صاحب الميراث والبركة عن أبيه، وهو ما يتفق مع اعتباره ولي العهد أو الملك أو الأب الذي يجب أن يقوم بالتضحية المطلوبة.
وظل الاعتقاد قائما حتى اليوم، ويمارس تذكرة بالأب الفادي والشهيد الأول، وظل الخروف هو الضحية المثلى، يذبحه أحفاد الرعاة المسلمون، ويذبحه المسيحيون ليفطروا على لحمه، بعد الصيام الأمومي النباتي الطويل.
لوحة رقم 13: أفروديت الولادة.
لوحة رقم 14: تمثال بدائي آخر، أفروديت الولادة.
لوحة رقم 15: إلهة الخصب عشتار.
لوحة رقم 16: عنات البتول العذراء.
لوحة رقم 17: عنات ربة الخصب الكنعانية.
لوحة رقم 18: عنات على جرة فخارية.
لوحة رقم 19: إيزيس الإلهة الأم الفرعونية على عرشها، تمسك بمفتاح الحياة «الصليب»، وأمامها كل صنوف الزرع تأكيدا لعلاقة الإلهة الأم بالخصب، تقربه لها الملكة نفرتاري.
لوحة رقم 20: لوحة للفنان «جويا
Goya »، أليست تلك هي الربة الشجرة بقرة الخصب؟
القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث
(1) التأسيس
تأسيس (1)
في صباه، وهو يصبو إلى الفهم والتفسير، اتجه العقل البشري نحو ظواهر الطبيعة النافعة، والغضوب الباطشة، واللينة السلسة، والمزجرة المدمرة، يرجو بينه وبينها تواصلا، يبغي به نفعا، وتوقيا لعصف العاصف منها وزلزلته، فسجد لها عابدا، وتقرب منها بما رآه أهلا لها، متزلفا، راغبا للخير، ودافعا للشر ... فكان أن تصور الكون كله مليئا بالحياة .
وجنح به الخيال إلى تأليه المظاهر الكبرى في الوجود، من الشمس إلى القمر إلى الكواكب إلى النجوم إلى البرق والرعد، حتى النهر والصخر والخصب والجدب، فجعل لكل حالة في الطبيعة آلهة معينة بها، تستحق منه العبادة، والتقرب إليها بأثمن ما لديه، ضمانا لعطفها ودرءا لغضبها.
وإبان ذلك أو ربما قبله، قدس الإنسان - فيما رآه جديرا بالقدسية - آباءه وأسلافه الغابرين، وكان لظاهرة الأحلام دورها في تقديس الأسلاف، فلم يكن لدى الإنسان في مبتدأ أمره تفسير واضح لأحداث المنام وأحواله. وهذا المبتدأ لم يكن إلا مرحلة الطفولة في التطور البشري، فكان كالطفل واضح الحلم جليه، فكان لا يفرق بين حدث الحلم وحدث الواقع، وفي المنام كان الأسلاف الراحلون أحياء فاعلين، فخرج بنتيجة مؤداها أن أباه الراحل لم يزل موجودا وحيا ومؤثرا، وإن كان مخفيا بطريقة ما.
ومن هنا سوغ اعتقاده في أرواحية الطبيعة وصبغها بالحياة، أن سلفه الراحل هو حالة من حالات الطبيعة، أو هو في واحدة من ظواهرها، فربما كان في هذه الشجرة أو تلك النبتة، أو في هذا الحيوان النافع، أو في تلك المياه الجارية.
وهي تلك المرحلة المسماة - اصطلاحيا - بالطوطمية، التي تم فيها تقديس الكائنات الأرضية، واعتبارها محلا لسكنى السلف الراحل، مع الأخذ بالحسبان أن الطوطمية من كلمة «أوطوطيمان» من العهد الكونكي، وتعني «هذا من قرابتي».
وفي مرحلة تالية، وعندما أخذت العشائر البدائية تتجمع في قبائل، واتصلت القبائل مكونة مجتمعا أكبر وأكثر رحابة واتساعا، لم يعد ممكنا فرض روح السلف المعبود، الحالة في حيوان طوطمي مقدس لدى قبيلة، على قبيلة أخرى تقدس طوطما آخر، فكان أن تم تمثل السلف في ظاهرة ترضي جميع الأطراف المتجاورة أو المتحدة، فارتفع العقل بسلفه المعبود عن التمثل في حيوان على الأرض، إلى تمثله في مظهر كوني أكبر، فكانت عبادته المخلصة للكواكب والنجوم إن هي إلا للأسلاف المقدسين.
تأسيس (2)
على ناتج البحوث الأركيولوجية، افترض الباحثون أن المجتمع الإنسان قد مر بمرحلتين شكلا نظامين اجتماعيين مختلفين: مجتمع سادته المرأة، إذ كانت تستقر إلى جوار أطفالها ، بينما يخرج الذكور للقنص، وكانت المرأة فيه للجميع، لم يكن هناك نظام زواج بالمعنى المعروف بعد، ومجتمع ساده الذكور، بما في الذكورة من قسوة وخشونة، وقد اختلف العلماء حول أي المجتمعين كان سابقا للآخر، بينما افترضنا في طرح خاص سبق لنا وضعه في دراستنا «أضحية للذكر، قربان للأنثى»
1
أن اختلاف النظامين: الذكري والأنثوي، ليس اختلافا زمانيا، إنما هو اختلاف مكاني. ودللنا على أن المجتمع الذكري الأبوي كان مجتمعا رعويا بدويا عبد آلهة ذكورا، إلى جوار المجتمع الأنثوي الأمومي الذي سادته المرأة، وعبد إلهات نساء يمثلن القدرة على الميلاد والخصوبة ومنح الحياة، تأسيسا على فرضنا أن المجتمع الأنثوي الأمومي كان مجتمعا زراعيا، شكل فيه الخصب ظاهرة أساسية؛ مما جعلها أس الاعتقاد والعبادة، الممثلة في إلهة خصبة ولود، كانت أما أولى مقابل عبادة الأب الأول في المجتمع الرعوي البدوي الذكري الأبوي، وبمرور الزمن تمكن البدو الرعاة من التسلل إلى المناطق الزراعية، في شكل غزو بطيء تدريجي أدى إلى سيادة الذكور في النهاية، ونشوء نظام الزواج؛ ومن ثم ترك الأقدمون لنا آباءهم وأمهاتهم ممثلة في آلهة كونية، تركزت خاصة في الظواهر الفضائية.
تأسيس (3)
معتمدا على نتائج بحوث كل من «أتكسون وروبرتسون سميث» افترض «سيجموند فرويد» أن أساس القرابين، التي كانت تقدمها الشعوب القديمة لآلهتها، في شكل أضاحي من البشر، أو الحيوان بعد ذلك كبديل عن الإنسان، الذي لم يزل مستمرا إلى الآن، والذي تمثل في ديانة «فرويد» اليهودية في ذبيحة من الغنم الذكر الخالي من العيوب، في عيد الفسح العبري، افترض أن ذلك يعود إلى ذكرى في اللاشعور الجمعي، تعود بدورها إلى أيام سيادة الذكور المطلقة في المجتمع البدائي - فيما يزعم - وقسوة الأب الذكر الفظ، وإرهابه لبنيه، واستيلائه باستمرار على النساء جميعا، وقتله لأي من أبنائه يثير غيرته، أو لأي سبب آخر؛ مما أدى إلى تحالف الأبناء - يوما - ضد الأب القاسي والثورة عليه، وقتله وافتراسه معا، وما ذبيحة الفسح أو الأضحية والاجتماع حولها وأكلها جماعة، إلا تذكار لانتصار حلف الأبناء ضد الأب الشرس وقتله وافتراسه.
2
وقد عارضنا رأي «فرويد» في الدراسة المشار إليها آنفا، وطرحنا فرضا آخر لتفسير طقس القربان والتضحية، على أساس مختلف تماما، اعتمادا على رؤية تأملية خاصة في كلمة الأضحية والتضحية
Sacrifice
فرأينا الأب الأول فاديا استشهد فداء بنيه، وضحى بنفسه دفاعا عنهم، ومن أجل استمرار حياتهم، في صراع مع واحد أو أكثر من ضواري ذلك الزمان.
كما افترضنا أن هذا لا بد قد حدث في المجتمع الأبوي الذكري البدوي الرعوي، إذ ارتفع الأب بمجد عمله في نظر أبنائه إلى السماء مقدسا؛ ليحل في أوضح كواكب البادية وأقربها إلى حس الرعاة، أقصد القمر، الذي أصبح إلها يستحق التضحية له بأعز ما يملك الإنسان، عرفانا له بتضحيته السالفة.
وللتشابه القائم بين قرني التيس أو الخروف أو الثور، وبين الهلال، فقد تصور الإنسان أن هذا الحيوان إن هو إلا سلفه المعبود؛ ومن ثم قام بذبحه في احتفالات خاصة، ثم أكله ليحتويه في حشاه وبطنه بتلك الأيام الغابرة.
ورغم اختلاف المجتمعات التي تحتفل بهذه المناسبة (الذبح)، فإن العين الفاحصة لكل احتفال أضحوي - رغم اختلاف الطوائف - ستلاحظ غلبة الطقوس القمرية على هذه المحافل.
وأحيانا قام الإنسان بذبح أحد أبنائه، أو نذره للذبح كضحية لربه، وانتشر هذا الطقس انتشارا واسعا في وقت من الزمان، ويبدو أنه الأساس في ظاهرة الختان، التي اعتبرت - لدى كثير من الباحثين - ذبحا جزئيا، بديلا عن الذبح الكلي الذي كان يمارس في غابر الأيام.
أما القرابين في المجتمع الأمومي، الذي عبد ربات ولادات مخصبات في مناطق زراعية، فقد افترضنا أنها ممارسة الجنس الجماعي، وهو ما عثرنا عليه في طقوس كثير من الإلهات الإناث في حوض المتوسط، وسبق أن فصلنا القول فيه في دراستنا (المشار إليها) إذ وجدناه منتشرا بشكل وبائي حاد، وكان قربانا وتقربا يتلاءم مع نظام زراعي، للخصب والميلاد والحياة فيه الدور الأساسي، وتؤدي فيه الإلهات الإناث دور الخصب والولادة ومنح الحياة، ويقوم على أساس قديم، سادت فيه الأنثى التي لا تعرف رجلا واحدا، وبعد تداخل المجتمعين : الرعوي الأبوي، والزراعي الأمومي ، وسيادة الذكور ونشوء نظام الزواج، بدأت محاولات للتخفيف من طقس الجنس الجماعي بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة. كما خفف من قبل ذبح الطفل إلى عملية ختان. فتحول الطقس من جنس جماعي عام، إلى فريضة يجب أن تؤديها المرأة ولو مرة واحدة على الأقل في حياتها، وهي ممارسة الجنس مع غريب عنها.
ثم تطور الأمر نحو مزيد من التخفيف، فتم تخصيص طائفة من النساء كمنذورات لمعابد الإلهات الإناث، يقمن بهذه المهمة بشكل خاص بدلا من بقية النساء وفداء لهن. أما النساء اللاتي لا يقمن بذلك، ولا يدخلن في سلك الكهانة الجنسية، فكان مفروضا عليهن استبدال الجنس مع غريب بقص شعورهن للإلهة المعبودة.
تأسيس (4)
ولأن الأب الذي في السماء كان أبا في المجتمع الذكري الأبوي الرعوي، ولأن الإلهة التي في السماء كانت أنثى ولودا في المجتمع الأنثوي الأمومي الزراعي، ولأن المجتمعين تداخلا، وكذلك النظامان، فقد زوج العباد آلهتهم بعضها من بعض؛ ومن ثم كان القمر رب البادية وأبو الرعاة زوجا للأم الكبرى التي كانت صاحبة أخطر دور في حياة المحصول الزراعي ونضجه، أقصد الشمس.
ولأن هناك زواجا قد حدث فلا بد من وليد، فكما كانت حياة الأب الأول والأم الأولى على الأرض، فلا بد أن تكون كذلك في السماء، وبذلك اكتملت أضلاع الثالوث الإلهي، نعم، اختلف وضع الزهرة والشمس ما بين مجتمع وآخر، فتارة كانت الشمس ذكرا، وتارة أنثى، وتارة كان كوكب الزهرة زوجة أنثى، وتارة ابنا ذكرا، تبعا لاختلاف المجتمعات وطبيعة البيئة وعلاقتها بالشمس والزهرة، إلا أن القمر بالذات، كتبت له السيادة بسيادة الذكور المطلقة، فظل هو الأب الذكر دائما، وأخطر ضلع في الثواليث الإلهية المختلفة، الذي ربما كان أهمها لبحثنا الآن، ثالوث الجنوب العربي اليمني، الذي قدس الثلاثي السماوي: القمر كإله ذكر أخذ دور الابن، لكن القمر كان هو الإله المقدم، فعبده القتبانيون والحميريون بالاسم «عم»، وعم القبيلة أبوها وسيدها، وعبده الحضارمة بالاسم «سين»، وعبده المعينيون بالاسم «ود»، وعبده السبئيون - فيما يقول الباحثون - بالاسم «المقة». (2) آلهة القمر: سين وياسين
و «سين» كبير آلهة حضرموت، كشفته بعثة بريطانية في منطقة الحريضة عام 1944م، في نقوش تمتد بطول الشريط الساحلي لجنوب الجزيرة العربية، على امتداد أرض الأحقاف
3
وقد كان إله القمر باسم «سين» معروفا في عبادات الرافدين القديمة،
4
كما كانت له معابده ومزاراته في شبه جزيرة سيناء، التي يرى الباحثون أن اسمها مشتق من اسمه.
5
ونرى أن الاسم «سين» يتركب من «ن» النون الأخيرة، وهي أداة التعريف في العربية الجنوبية، تلحق بآخر الاسم المراد تعريفه، و«سي» وهي في اللغات السامية بشكل عام، إنما تطلق على الشياه عموما (الخراف، الماعز، البقر، والثيران ... إلخ)، وهي التي تطورت بعد ذلك من «سي» إلى «شاة».
6
وعليه فإن الاسم «سين» كعلم دال على إله القمر، إنما يعني الإله التيس أو الإله الثور، وهو ما يلتقي تماما مع ألقاب القمر المنتشرة في الجنوب اليمني وهو اللقب «الثور».
7
لكن الأمر اللافت للنظر في أمر الإله «سين»، أن بعض المتخصصين في اللغات السامية وعلمائها، يرون أن الاسم هو «ياسين».
8
وهو مما يستدعي التساؤل: هل هناك علاقة بين «سين» أو «ياسين» وما جاء في القرآن الكريم:
يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين (يس: 1-3)، خاصة إذا أخذنا بالحسبان ملاحظة للباحثة اليمنية ثريا منقوش في ملاحظة هامشية تقول: إن الإله «سين» ظل كمكبوت في العقل اليمني يستدعى اليوم في قرى اليمن عندما يتعرض عزيز لحادث، فيقولون: «ياسين عليك»، كما يقول المصريون «اسم الله عليك»!
9
وهي تقصد بدون مواربة أن الإله «سين» كان يعرف أيضا باسم «ياسين»، ولعل «الياء هنا للنداء وربما كانت للترجي»، وهو ما يدعمه ما جاء عند المؤرخ اليمني «أبو الحسن الهمداني» في حديثه عن الإله القمري السبئي «المقة» بقوله: إن أصل الكلمة هو «يلمقة»،
10
أو «يا المقة».
هذا إضافة إلى ما يجب وضعه في الاعتبار عن اعتياد القرآن الكريم القسم بمقدسات عرب قبل الإسلام وتمجيدها، مثل قسمه بالشمس والقمر صراحة، وبالكواكب الخمسة المعبودة المعروفة بالخنس، الجوار الكنس في قوله:
فلا أقسم بالخنس (التكوير: 15). أو كما في قوله:
فلا أقسم بمواقع النجوم (الواقعة: 75).
وقد كان من أسماء الإله القمر لدى عرب الجنوب الاسم «شهر». وكان منتشرا بدوره في كل اللغات السامية كعلم على إله القمر في حالة الهلال، ولم يزل مستعملا إلى الآن في اليمن.
11
وقد جاء بالاسم والمعنى نفسيهما في القرآن الكريم في قوله:
فمن شهد منكم الشهر فليصمه (البقرة: 185) بمعنى من شهد منكم الهلال! (3) الأب الودود
وقد عبد المعينيون القمر بالاسم «ود»، ويعني الأب، والودود أو الحنون، وفي عبادة هذا الإله المعيني دعم آخر لنظريتنا التي طرحناها مقابل نظرية «فرويد»، ورأينا فيها أن طقس التضحية هو تكرار لحدث استشهاد الأب الأول دفاعا عن أبنائه في معركة مع ضار شرس. ثم تحول الأب بعد موته ليحل في طوطم حيواني (خروف أو تيس أو ثور)، وبعدها ارتفع - في نظر أبنائه وأحفاده - ليتلبس بالقمر، للتشابه بين قرني الطوطم الأرضي وبين الهلال.
وقد جاءت النصوص تشير إلى الإله القمر بالصيغة «ودم شهرن»، وهي تعني الأب القمر «ود = الأب + شهر = الهلال + ن أداة التعريف اليمنية = الأب القمر». وقد ورد في صيغة أخرى هي «دم شهرن»
12
وتحمل المعنى نفسه «الآب القمر».
ونلاحظ هنا أن الأب حمل في اسميه معاني الود والرحمة والمحبة، إضافة إلى دماء الشهادة والتضحية، فدخل في تركيب اسمه - إضافة للود - معنى الدم، في «ودم»، وفي «دم»، وما زلنا نعبر إلى اليوم عن الروابط القرابية بأنها صلة «دم». ونعني بها القرابة من جهة الأب بالذات؛ لأن قرابة الأم صلة «رحم»، والميم في «ودم شهرن» هي للصلة والاتصال والربط بين «ود» و«شهرن»، ويدعمنا أكثر أن «ود» الأب الذي حارب الضواري واستشهد في سبيل أبنائه - في نظريتنا - قد مثله الجنوبيون في هيئة رجل مقاتل شجاع محارب،
13
ولقبوه بعدد من الألقاب التي تحمل معاني التبجيل والحب. فناداه اللسان اليمني «صدوق» أي الصادق،
14
و«نهى» أي الحسن، و«رضى» أي الراضي الرحيم، و«حكم»
15
أي الحكيم، و«رحمن» أي الرحمن،
16
و«حريمن» أي المحرم أو القدوس،
17
والرب، والملك، والعزيز، والعادل، والأمين .
18
أما أبلغ الأدلة على تطابق عبادة القمر لدى المعينيين مع نظريتنا، فتتمثل في اعتقاد المعينيين أنهم إنما هم أبناء مباشرون للقمر «ود»، حتى أطلقوا على أنفسهم «ه ود» أو «هود».
19
والهاء تفيد الانتساب والبنوة، ويصبح المعنى «أبناء ود» أو الأبناء الذين في الأرض للأب الذي في السموات.
20 (4) المقة «المقة»، هو اسم القمر السبئي، كما ورد عند الباحثين في آثار الجنوب العربي. ويعد السبئيون أنفسهم أولاد الإله «المقة».
21
ويعد أشهر آلهة اليمن، فقد ورد اسمه في النقوش المكتشفة حتى عهد قريب أكثر من ألف مرة.
22
ويقول الباحثون: إن الاسم يعني اللامع أو الثاقب، لكننا نرى أن هذا الاسم الغريب يحتاج جهدا آخر في التعامل معه.
ووجه الغرابة - في نظرنا - يكمن في أمرين: الأمر الأول يتعلق ب «الألف واللام، ال» في بداية «المقة»، ونحن نعلم أن أداة التعريف في العربية الشمالية هي «الهاء، ه» في أول الكلمة، مثل «هبعل» أي الإله «بعل»، وكانت في العربية الجنوبية هي «النون، ن» تضاف إلى نهاية الكلمة مثل «رحمنن» أي الرحمن، فما دلالة الألف واللام في اسم «المقة»؟
والأمر الثاني يتعلق بالتاء الأخيرة في «المقة»، والتاء في العربية القديمة، شمالية وجنوبية، كانت تضاف آخر اللفظة للتأنيث، بينما نفهم من النصوص السبئية أن «المقة» إله ذكر، قال الباحثون إنه إله القمر السبئي، فما حكمة إضافة تاء التأنيث لاسم علم يدل على إله ذكر؟
ولنبدأ بالمشكلة الأولى: «الألف واللام، ال»، وأظنني وجدت حلها فيما أشار إليه «موسكاتي» عن شخصية إلهية غامضة تسمى «إل»،
23
وقد كان «إل» اسما إلهيا في بلاد الرافدين وبلاد الشام القديمة، وهو فيما يؤكد لنا «د. جواد علي ونولدكه وآخرون»، كان إلها ساميا معروفا في كل العبادات السامية
24
إلا أنهم لم يوضحوا لنا دلالته بشكل صريح، كذلك يؤكد لنا «ديتلف نيلس» أن معبودا باسم «إل» كان معروفا في كل بقاع جزيرة العرب، ويرى أنه كان اسما ذا دلالة عامة، يستعمل كبديل لكل اسم إلهي في حديث الغائب، فيقال «إل كذا» ويتبع «إل» اسم الإله المقصود ، ويضيف «نيلسن» أن «إل» ورد كعلم لإله خاص في النقوش السبئية والقتبانية،
25
لكنه بدوره لم يوضح لنا أي إله خاص تسمى بالاسم «إل» وعلى أية منطقة من الطبيعة أو على أية ظاهرة طبيعية كانت دلالته. هذا وقد أفادنا «ريكمانز» أن «إل» قد جاء في النقوش السبئية يحمل اللقبين «فخر» بمعنى العظيم و«تعلى» بمعنى تعالى،
26
كما أفادنا «هوبر» بأنه قد عثر على «إل» في النقوش الثمودية بالصيغة «إله ن» وتعني الله.
27
وتأسيسا على هذه المعاني، يمكننا الزعم بأن «الألف واللام» في أول «المقة» إنما تعني الله أو الإله، وتصبح لفظة المقة تعنى «الإله مقة»، أو «الرب مقة».
وتبقى الإشكالية الثانية وهي «تاء التأنيث» الأخيرة، وأتصور أن حلها يمكن العثور عليه في نص قتباني يشير إلى موضع الذبائح المقدسة بقوله: «مختن ملكن بمكي»،
28
وتعني مذبح الملك بموضع مكي، أو المذبح الملكي في منطقة مقدسة أطلق عليها النص اسم مكي، ولأن المذبح لا يكون إلا في معبد، إذن فمعبد الإله هنا ومزاره المقدس في منطقة «مكي»، فهل هناك علاقة بين الاله «المقة» وبين مكي؟ هناك مشكلة ظاهرة يمكن أن تواجه هذا الاقتراح، وهي أن النص «مختن ملكن بمكي» نص قتباني، يشير إلى معبد إله القمر القتباني، وإله القمر القتباني كان هو الإله «عم» وليس «المقة»، إلا أني أعتقد أن هذه المشكلة الظاهرية ستساعد على الحل، أكثر من إثارتها للإشكالية، ولنطرح الآن تصورنا للحل في الخطوات التالية: (1)
ورد عند «ابن طيفور المصري» و«القيروان» أن أهل اليمن كانوا يقلبون القاف كافا كما يفعل أهل فلسطين اليوم، ومن هنا لا تستبعد العلاقة بين «المقة» و«مكي». (2)
إن إشارة النص القتباني إلى المذبح الملكي بكونه في الموضع «مكي»، مع ما عرفناه عن تقديسهم للإله «إل» وتلقيبه بفخر وتعلى، والصيغة الثمودية التي عثر عليها هوبر «إله ن» أي الله، والتي تشير إلى «إل»، وما عرفناه عن «إل» كعلم دال على إله خاص عند القتبانيين والسبئيين معا فيما زعم «نيلسن»، ومع ما زعمناه حول كون «الألف واللام » في أول «المقة» إنما هي «إل»، وتعني إله أو رب، مع هذه المجموعة من الإشارات نجدنا مدفوعين دفعا إلى استنتاج أن معبد «إل» على الأرض سواء أكان قتبانيا أم سبئيا، إنما كان يشار إليه بالاسم «مكي»، ويقدس معبده ومحيطه كحرم خاص بالإله «إل». (3)
ومن هنا نقترح أن يكون اسم «المقة» ليس خاصا لإله خاص، إنما يعني «إل = إله + مقة أو مكي = معبد الإله على الأرض»، وهنا ننتقل خطوة أخرى فنقول إن ترجمة «المقة» بالإله أو الرب مقة ترجمة غير دقيقة، ويجب أن تكون «إله أو رب مقة أو مكي»، أي إله المعبد الحرام الموجود على الأرض ويسمى مكي. (4)
وتأسيسا على ذلك لا يعد «المقة» اسم علم يطلق على إله القمر السبئي، إنما تصبح «المقة» تعني «رب البيت»، ولأن رب البيت أو إله مكي هو القمر، ولأن الرب المعبود، في عموم دول الجنوب هو القمر، فقد ألقي في روع الباحثين أن اللفظ «المقة» الوارد بكثرة في النقوش السبئية، هو اسم علم أطلقه السبئيون على إلههم القمري! (5)
ومع هذا الفهم تصبح «تاء التأنيث» في آخر «المقة» مفهومة، إذا لم يكن «المقة» إلها ذكرا، إنما معبد يحيطه موضع حرام مقدس للإله على الأرض. (6)
ويدعم رؤيانا هذه أنه جاء في النصوص السبئية أكثر من إشارة للإله المعبود باسم «ذوي سموي»،
29
أي رب السماء أو صاحب السماء أو الذي في السماء. وهذا إنما يعني أن رب السماء (وهو هنا إله ذكر وليس أنثى) هو «إل» أو «إله ن» بالذات وبشكل خاص، أما «المقة» أو «مكة» فلم تكن سوى حرم معبد هذا الإله على الأرض، أي يصبح «إل» هو «ذوي سموي» رب السماء ورب البيت المقدس له على الأرض. (7)
أنه قد ثبت في النقوش: أن زوجة إله القمر وهي الشمس، قد أطلق عليها اسم «إلات»،
30
ومن هنا يصبح «إل» هو إله القمر؛ لأن «إلات» الشمس هي مؤنث «إل»، وتتضح التسمية الحسية تماما ل «إل» بأنه «ذوي سموي» أو الرب الذي في السماء. (8)
أنه كان من عادة ملوك اليمن التسمي بالأسماء الإلهية ، ضمانا لاكتساب القدسية المسوغة للحكم بالحق الإلهي، ومن هذه الأسماء «إل ذرح» أي الله المضيء و«إل شرح» أي الله المتلألئ و«إل يسع» أي الله المشع.
31 (9)
وعليه نصل إلى نتائج هي:
أن «مقة أو مكي أو مكة» تشير إلى موضع الحرم الإلهي على الأرض.
أن «المقة» إنما تعني رب البيت.
أن رب البيت هو «إل» هو «الفخر تعالى» هو «ذوي سموي» هو رب السماء هو «إله ن» هو «الله». (5) ثالوث إل
ومع «إل» إله السماء الذكر أو «القمر»، ومع «إلات» إلهة السماء الأنثى أو «الشمس» جاء الضلع الثالث ممثلا في الوليد الإلهي «عثتر سمين» أي عثتر السماء، الذي أشارت إليه النصوص بالاسمين: «آزيزوس
Azizos » وكان يتقدم الشمس عند شروقها، و«مونيموس
Monimos » وكان يتبع الشمس حين غروبها،
32
هو كوكب الزهرة؛ لذلك نستنتج أن الزهرة كان إلها ذكرا، أخذ دور الابن في الثالوث المقدس عند عرب الجنوب وحمل اللقبين: «العزيز آزيزوس» و«المنعم مونيموس»، ويذهب بعض الباحثين إلى أنه المقصود بالنجم الثاقب في القرآن الكريم.
33
و«العزيز» ترد في صيغة أخرى هي «عزين»،
34
ونظنها تقابل الصيغة «عزيم» في اللسان العبري، إذا أخذنا في الحسبان خلط اللسان بين حرفي ال «ن» وال «م»، و«العزيم» في العبرية ليس سوى الماعز، والتيوس بوجه خاص، وهو ما يعيد إلى أذهاننا صفة الأب القمر كثور أو خروف أو تيس؛ لذلك حملت لنا اللغة في حفرياتها ما يؤكد أن الابن قد حمل - بدوره - عن الأب الصفة نفسها. وأن الإصرار على تصوير الآلهة القمرية في الجنوب بصور الحيوانات المشهور عنها قدرة الإخصاب الجنسي، وكانت رموزا لآلهة الخصب عموما، سواء في بلاد الرافدين أم الشام أم مصر، حيث كان الثور والتيس ممثلين لآلهة الفداء المعروفة بآلهة الخصب، يطرح علينا تساؤلا: هل عرفت بلاد اليمن القديمة، في عصور ازدهارها كيمن سعيد زراعي خصب، عبادة الخصب وما رافقها من طقوس الجنس الجماعي، ونذر البنات للمعابد كبغايا للإله؟
الحقيقة أننا لم نعثر بهذا الصدد على مؤيدات واضحة ، إنما عثرنا على ما يضع الأمر موضع الترجيح، فقد جاءت لنا النصوص القتبانية بأسماء نساء دخلن سلك الكهنة وقدمن أنفسهن كمنذورات للمعابد،
35
كما جاءنا نقش من معين يصور إلهة على هيئة امرأة تحمل سنابل في يدها اليسرى، وتنشر الخير فوق الجميع بيدها الأخرى، وهي دلالة واضحة على إلهة خصب بلا لبس، وخاصة سنابل الحبوب التي استخدمت كرمز خصب في كل العبادات الجنسية القديمة، ويمكننا أن نفهم السر في اعتبار سنابل القمح رمز خصب، إذا أخذنا في اعتبارنا هيئة حبة القمح المفلوقة، التي كانت في نظر الإنسان القديم فرجا صغيرا، وملاحظة أنها عندما تروى بالمياه كما يروى فرج الأنثى بمياه الذكر، تنفلق الحبة عن حياة جديدة ممثلة في نبتة جديدة، كما ينفلق فرج الأنثى عن المولود الجديد، هذا إضافة إلى ما أورده الباحثون أنه كان لدى يمن الجنوب طقس يمارس عند إصابة المنطقة بجفاف، فيخرجون بالأضاحي إلى العراء، ويرددون أدعية وأناشيد ما زالت تردد إلى الآن في المناسبات نفسها وفي المنطقة نفسها.
36
أما طقس التضحية الذي عرفناه إبداعا خاصا بالمجتمع الأبوي الرعوي، والذي استمر بعد تزاوج المجتمعين الأبوي والأمومي، وعبادة الخصب في هذه المجتمعات، واقتران الأضاحي بطقوس الجنس. فإننا نجد له ترديدا واضحا في القرابين الحيوانية، التي كانت تقدم لآلهة اليمن، وفي النقش «مختن. ملكن. بمكي» كانت كلمة مختن تعني المذبح، ومنها الختان الذي هو بديل عن الذبح الكلي للطفل كقربان للإله، وهو بدوره رمز جنسي واضح، يرجح نوعا من الطقوس الجنسية في العبادات اليمنية.
وهناك أسطورة حبشية تدخل في صلب الاعتقادات الدينية الحبشية تقول: إن سلسلة أباطرة الحبشة هم نسل الأنثى الشمسية «ماكد» المعروفة في الأساطير باسم «بلقيس» ملكة اليمن، بعد أن ضاجعها إله القمر «حكيم»، المعروف في الأساطير باسم «سليمان»
37
مع ملاحظة أنه كان هناك تواصل دائم بين بلاد اليمن وبلاد الحبشة، نتيجة للتقارب الجغرافي والتبادل التجاري. والأسطورة تشير بوضوح إلى الاعتقاد في نوع من العبادة الجنسية، ناهيك عن كون الآلهة اليمنية تشكل ثالوثا يقوم فيه الجنس بدور رئيسي ، حتى تكتمل أضلاع الثالوث.
ورغم كل هذه الشواهد فإنها لا تضع الاقتراح بوجود عبادة جنسية في الجنوب اليمني موضع اليقين قدر وضعه موضع الترجيح، فإن لدينا كثيرا من الشواهد التي يمكننا بها دعم هذا الاقتراح دعما قويا، وسيأتي ذكرها في حينه. (6) إلى مكة
من المعروف أنه بعد انهيار مركز اليمن السعيد التجاري، ودمار سد مأرب الشهير، نزحت القبائل اليمنية نحو الشمال؛ لتستقر في أنحاء من بلاد العرب، واستقرت أكبرها «خزاعة» في المنطقة التي أصبحت تعرف باسم مكة.
38
ومن الطبيعي أن تحمل هذه القبائل في رحلها معتقداتها وآلهتها وطقوسها الدينية، ومن الطبيعي أيضا أن يرحل «رب البيت» مع أصحابه ليتقدس له بيت جديد على الأرض في مكة!
وقد لاحظت الباحثة اليمنية «ثريا منقوش» التشابه بين ما اعتقدت أنه إله قمري لسبأ باسم «المقة» وبين «مكة»، وربطت بين الاثنين في ضوء ما جاء عند «ابن طيفور المصري» و«القيرواني» عن بعض أهل اليمن ولكنهم القاف كافا، وما جاء على لسان النبي «محمد»
صلى الله عليه وسلم
حول الفقه اليماني والحكمة اليمانية، لتصل من ملاحظاتها إلى أن أهل اليمن هم أصل التوحيد الذي جاء بعد ذلك في الدين الإسلامي، وأتصور أنه بعد جهدنا في التعامل مع الاسم «المقة»، يمكن أن تكون ملاحظة الباحثة حول التشابه بين «المقة» و«مكة» قد تدعمت بشكل كاف، كما أن تعاملنا الآتي مع الطقوس التي صاحبت البيت المكي الحجازي، سيضيف إلى «منقوش» مزيدا من الدعم والأسانيد، في احتمالها أن يكون «مكة» الحجازي هو «المقة» اليمني، وخاصة مع ما جاء عند «المسعودي» عن البيت الإلهي الحجازي أنه خطط أصلا لعبادة الكواكب السيارة.
39
وغني عن الذكر أن أبرز الكواكب السيارة المؤلهة هي القمر الأب والشمس الأم والزهرة الابن، أو الرب «إل» والأم «إلات» والابن «عثتر».
وفي الروايات الإسلامية أن منطقة الحجاز كانت صحراء بلقعا، حتى انفجرت زمزم تحت خد «إسماعيل» طفلا، فكان أول من جاء واستقر بجوار البئر ركب من اليمن.
40
مضافا إلى ذلك ما جاء عن «عمرو بن لحي الخزاعي» عند الإخباريين المسلمين، باعتباره أول حاجب للبيت الحجازي الإلهي، وفي ذلك إشارة واضحة إلى بداية حجابة هذا البيت مع الخزاعيين القادمين من اليمن، وخاصة إذا علمنا أن هذه الحجابة الأولى للبيت، لا تبعد - زمانيا - عن تاريخ دمار سد مأرب وتشتت القبائل اليمنية بأكثر من نصف قرن.
41
مع لمحة مهمة جاءت في كتب التراث الإسلامي، وتحكي عن «تبع الثاني» أحد ملوك اليمن، الذي قدم البيت الإلهي الحجازي، وطاف به، وقام ينحر للناس ويطعمهم، ثم كسا البيت بالبرود اليمنية، وجعل له مفتاحا.
42
ذاك المفتاح الذي استلمه الخزاعيون، وأصبح فيما بعد محل صراع ونزاع انتهى به إلى يد «قصي بن كلاب»، الذي ألف القبائل «وقرشهم تقريشا، ومنها قريش» ضد خزاعة، وأخرجهم وانتزع منهم البيت الإلهي. وسواء أحدثت قصة «تبع الثاني» أم لم تحدث، فهي تعبير عن ترجيع الذاكرة لصدى أحداث وظروف نشأة البيت وعلاقته بأهل اليمن، حتى جعلت مفتاحه بين اليمنيين.
ولا يفوتنا هنا ما أكدته الباحثة «منقوش» - على ذمتها - أن كثيرا من عادات الحج للبيت الحجازي، كانت على غرار التقاليد اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للإله «المقة» وإن كانت لم تورد مؤيدات واضحة لتأكيدها هذا.
43 (7) عبادة الجنس
وسمي الموضع المقدس المحرم الحرام في الحجاز بالاسم «مكة»، وأطلق على إله هذا الموضع المقدس اسم «رب البيت»، وكان التعبير «رب البيت» هو التعبير الدارج والمفضل قبل الإسلام على ما نشاهد في كتب التأريخ الإسلامي. أما رب البيت عند عرب قبل الإسلام، أو ما اصطلح على تسميتهم بالجاهليين، فقد حمل الاسم «الله». ولعله ليس بخاف أن الله من «إل» و«إله ن»، بعد أن حلت أداة التعريف في العربية العدنانية «الألف واللام» في أول الكلمة محل أداة التعريف في العربية القحطانية واليمنية «ن»، إضافة إلى «إلات» الإلهة المقدسة والزوجة الأم، و«هبل» كبير أصنام الكعبة. ونظنه قام هنا بدور الإله الابن، إذا أخذنا بالحسبان أن الاسم «هبل» هو في الأصل «ه، بعل» أو «هبعل». والهاء كانت أداة التعريف في العربية الشمالية وظلت على حالها، بينما أهملت العين بالتخفيف مع مرور الزمن. أما «بعل» في «هبعل» فهو اسم إله الخصب في البلاد الكنعانية الشامية المتصلة جغرافيا وتجاريا بمنطقة مكة اتصالا وثيقا. وقد كان بعل إلها معروفا ومنتشرا انتشارا هائلا في البلاد الشامية كإله للخصب، وصاحبته طقوس جنسية تفشت تفشيا عظيما في مختلف تلك المناطق، وقد كان في الأساطير الأوجاريتية الشامية ابنا للإله «إل».
44
ويبدو أن توسط منطقة «مكة» بين بلاد الشام وبلاد اليمن، وما كان من تواصل مستمر بينها وبين مكة، أدى إلى تداخل بين عقائد المنطقتين في مكة، فدخل «بعل»، وحل محل «عثتر سمين» كابن للإله أو «إل»، ويلقي لنا الإخباريون المسلمون بظلال هذا التداخل في الرواية التي تقول: إن «عمرو بن لحي الخزاعي» سافر من مكة إلى الشام في تجارة، فرآهم هناك يتعبدون لآلهة الخصب هذه، وكان مما أحضره «هبل وإساف ونائلة» فوضع هبل في فناء الكعبة، ووضع «إساف» على الصفا ووضع «نائلة» على المروة.
45
وإذا كان «هبل» في الأصل «بعل» إله الخصب صاحب الطقوس الجنسية، فهل عرف البيت الإلهي الحجازي هذا النوع من الطقوس؟ إذا كان ذلك كذلك، فإنه سيدعم احتمالنا الذي سبق أن طرحناه عن ترجيح وجود عبادة جنسية غابرة في عبادة «المقة» اليمنية.
ولنبدأ محاولة الإجابة مع «إساف» و«نائلة».
تقول كتب التأريخ الإسلامية: إن الصنم «إساف» كان معبودا ذكرا على جبل الصفا، وأن الصنم «نائلة» كان معبودا أنثى على جبل المروة، وأنهما كانا شخصين حقيقيين، دخلا فناء الكعبة، وهناك فجر إساف بنائلة، فمسخهما الله هذين الصنمين!
46
لكن، كيف للعقل أن يستسيغ هذه الرواية الإسلامية عن «إساف» و«نائلة»، في ضوء حقيقة أن الصفا والمروة كانا مقدسين لدى الجاهليين، كذلك «إساف» و«نائلة» كانا ربين جديرين بالتبجيل والتقديس، وكانوا يسعون بينهما سبعة أشواط، ويتمسحون بهما، ويقصون شعورهم عندهما، في طقس مهم من طقوس الحج.
47
وعندما جاء الإسلام أقر السعي بين الصفا والمروة أشواطا سبعة، واعتبرها من شعائر الله في الحج. فهل كان عربي قبل الإسلام، يقدس ويبجل من ذكرت الرواية الإسلامية أنهما فجرا ومارسا الفعل الجنسي في فناء الكعبة؟
الحقيقة أنه لا يمكن فهم هذا الأمر إلا إذا كان فعل «إساف» و«نائلة» بالكعبة في نظر عبادهما ليس فجرا بل عملا مقدسا، وأنهما كانا يتمثلان عبادة جنسية سادت زمانا في هذه المنطقة، وأن السعي بينهما لم يكن في المقاييس الخلقية القديمة أمرا مشينا، بل كان نوعا من العبادة المقدسة والمقررة في نظر أصحابها، والتي كانت منتشرة في بقية بقاع المنطقة انتشارا هائلا، خاصة في بلاد الشام والعراق بوجه خاص، وبقية بلاد الهلال الخصيب بأكملها، دونما إحساس بأنه أمر مخجل أو معيب، وكل ما في الأمر أن الرواة المسلمين عندما واجهوا هذه المسألة بالمقاييس الأخلاقية الجديدة، لم يستسيغوا الأمر على هذا الشكل، فسموا الفعل الجنسي المقدس فجرا قام به «إساف» و«نائلة» فمسخا صنمين.
وهذه الحقيقة الأولى، نضعها في رصيد ترجيحنا وجود عبادة جنسية في المنطقة في أدوارها الأولى. (8) وهناك علامات
والعجيب حقا أن الروايات الإسلامية عندما أرادت تفسير السر في استمرار تقديس الصفا والمروة في الإسلام، واستمرار السعي بينهما في شعائر الحج الإسلامي، استبدلت الذكر «إساف» والأنثى «نائلة»، بذكر وأنثى مرة أخرى، ممثلين في «آدم» و«حواء» ليقوما بالفعل الجنسي بدلا من «إساف» و«نائلة»، إذ أمر الله «جبريل» أن ينزل «آدم» من على الصفا، و«حواء» من على المروة إلى خيمة نصبت موضع البيت، وهناك جمع بينهما في الخيمة، وبني البيت بحجر من الصفا وحجر من المروة،
48
أو بمزيج من الذكر والأنثى؟ بل يقال إن ما لله تعالى من منسك أحب إليه من موضع المسعى بين الصفا والمروة
49
وهذه حقيقة أخرى نضيفها لرصيد احتمال وجود عبادة جنسية في البيت الإلهي المكي في عهوده القديمة.
وهناك رواية إسلامية أخرى تقول: إن «آدم» و«حواء» عندما هبطا من الجنة نزلا مفترقين، وظلا هائمين حتى التقيا، وعرف «آدم» «حواء» (أي جامعها، والتوراة بشكل خاص تصر على استخدام لفظ عرف بمعنى جامع) على جبل عرفة؛ لذلك عرف الجبل باسم عرفة؛ لأن «آدم» عرف أو جامع «حواء » عليه!
50
ومن هنا تقدس الوقوف بعرفة، وكان الوقوف بعرفة من أهم مناسك الحج الجاهلي، فكانوا يتجهون إلى هناك زرافات ذكورا وإناثا، يبيتون ليلتهم حتى يطلع عليهم النهار. وإن العقل ليتساءل أمام مشهد ألوف الرجال والنساء يتجهون إلى الجبل ليبيتوا هناك جميعا حتى الصباح: ما وجه القدسية في هذا الطقس؟ إن لم يكن من قبل ذلك تجمعا لممارسة طقس الجنس الجماعي طلبا للغيث والخصب، ملاحظة أن عرفة يطلق عليه الجمع «عرفات»، ولا نعرف جبلا يجمع اسمه إلا «عرفات»! فهل الجمع هنا للجبل أم للمجتمعين على الجبل في حالة جماع، أو عرفات، يماثلون به الفعل الأول الذي قام به «إساف» عندما عرف «نائلة»، أو «آدم» عندما ضاجع «حواء»، أو إله القمر «إل» عندما جامع الشمس «إلات»؟ وهذه حقيقة ثالثة نضيفها إلى الرصيد.
ولو عدنا إلى طقوس الحج الجاهلي فسنجد طقسا عجيبا ومثيرا، وهو أنهم كانوا يطوفون حول البيت الإلهي ذكورا وإناثا عراة تماما،
51
فما الداعي لهذا العري إن لم يكن بغرض يستحق العري؟ وعندما جاء الإسلام جعل للإحرام زيا لا يستر إلا العورة، بل وحرم لبس المخيط وكره لبس الطيلسان المزرر للمحرم.
52
وهناك رواية إسلامية تقول: إن الحجر الأسود كان أبيض لكنه اسود من مس الحيض في الجاهلية؟
53
أي إنه كان هناك طقس لدى الجاهليين تؤديه النساء في الحجر، وهو مس الحجر الأسود بدماء الحيض، ودماء الحيض تحديدا! وقد كان دم الحيض عند المرأة في اعتقاد الأقدمين هو سر الميلاد، فمن المرأة الدم، ومن الرجل المني، ومن الإله الروح. علما أن الدورة الشهرية للمرأة تتوافق مع حركات القمر توافقا بينا، وكان «إل» كما علمنا هو إله القمر!
وطقس عجيب آخر هو الاحتكاك بالحجر الأسود
54
بل إن كلمة حج مأخوذة أصلا من فعل الاحتكاك، فهي في أصلها من «ح ك»،
55
مع الأخذ بالاعتبار هيئة الحجر الأسود وشكله.
وفي الروايات الإسلامية أن «جبريل» بعد أن أخذ «آدم» وأراه مناسك الحج كلها قال له: «إن الله تبارك وتعالى قد غفر لك وقبل توبتك، وحلت لك زوجتك.»
56
وفي التفسير أن مكة سميت بكة؛ لأنه يبك بها الرجال والنساء. وأن الحطيم ما بين الحجر الأسود وباب البيت سمي حطيما لأن الناس يحطم بعضهم بعضا هناك.
57
وهناك غير ذلك شواهد ودلالات على عبادة الخصب والجنس، فالروايات الإسلامية تقول: إن «عمرو بن لحي الخزاعي» أحضر «هبل» و«إساف» و«نائلة» من «هيت» على شاطئ الفرات فوق الأنبار من نواحي بغداد.
58
ومعروف لدى جميع الباحثين أن هذا المكان بالذات كان مرتعا تفشت فيه عبادة الخصب وطقوس الجنس بشكل وبائي حاد. وجاء عند الباحثين أن العرب قدسوا من سموهم بنات الله، وكن بالدرجة الأولى تمثيلا للقوى المولودة في الطبيعة
59
وكان لقريش وبعض العرب شجرة خضراء عظيمة يقدسونها تسمى «ذات أنواط»،
60
والاسم «ذات أنواط» هو أحد ألقاب الشمس التي عرفناها بالاسم «إلات» كإلهة أم أنثى، وفي ذلك ما يدعم علاقتها بالخصب والجنس في نظر العرب، كما كان لمزدلفة كشعيرة حج - في الأصل - إله يدعى «قزح»، وهو إله برق ورعد ومطر.
61
ثم ما الداعي لطقوس أخرى مثيرة في الحج الجاهلي، ولا معنى لها إلا في ضوء احتفالات الخصب والجنس، مثل طقس الشرب من زمزم، وحتى الاسم زمزم وهو من الزمزمة، والزمزمة صوت الرعد
62
الذي يسبق المطر، وما لزوم طقس حلق الشعر - وبالذات عند المروة - الذي لا يمكن فهمه بالمرة، إلا في ضوء طقوس الخصب الجنسية القديمة، والذي كان بديلا عن الجنس الجماعي، خاصة أنهم كانوا يمزجونه بالدقيق، ويترك للفقراء، يصنعونه فطيرا على هيئة القمر، إضافة إلى الذبح كطقس أساسي
63
وصلاة الغيث وإهداء الجواري للكعبة، والذي استمر في صدر الإسلام.
64
ويذكرنا بالمنذورات للمعابد في ديانات الخصب القديمة، أو ما جاء في استفسارات غريبة من المسلمين، مثل سؤال «أبي بصير» لأبي عبد الله عن محرم نظر إلى فرج امرأة في الحج حتى أمنى، فأجاب بأن عليه الفداء بأن يذبح هديا.
65
ولدينا أيضا ما جاء في قول «عمر بن الخطاب» من على المنبر إبان خلافته: «متعتان كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة الحج، ومتعة النساء».
66
إذ كان النبي في حجة الوداع قد قال: ابدءوا بما بدأ الله عز وجل به، فأتى الصفا فبدأ به، ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا، فلما قضى طوافه عند المروة قام فخطب في أصحابه وأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة، ويتمتعوا بالحج، والمتعة هنا أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين، حتى قال قائل كما أخرجه «أبو داود» في سننه: أننطلق وذكورنا تقطر؟ فقال النبي: «إذا استمتع الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة المتعة.»
67
أما أهل اليمن، فكان لهم ميزات خاصة بما لهم من سابقة؛ إذ رفع الإسلام عنهم الذبح والحلق،
68
وجاء عن النبي: «طوفوا بالبيت واستلموا الركن، فإنه يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه»،
69
والركن هو «الركن اليماني»، وذهب وهب إلى أن الركن اليماني ياقوتة من الجنة أنزلت على الصفا،
70
وكان الحجيج يمسحون - عادة - الحجر الأسود والركن اليماني،
71
ولا يزالون.
وظل للقمر دوره واحترامه في الإسلام، بعد أن تحول من «إل» أو الله إلى آية من آيات الله، فوضع فوق المآذن مع النجمة رمزا للزهرة! وظلت الشهور قمرية، والحج قمريا، والصيام قمريا بدويا كامل الجوع، بعكس الصيام الزراعي، كما في صيام العذراء المسيحي، الذي يمنع من تناول الطعام الحيواني، ويقتصر على تناول النبات، بل ظن أكثر الناس أن العلة في صيام الأيام البيض لأن لياليها مقمرة، لولا أن الفقهاء لاحظوا ذلك فقالوا: إن العلة الحقيقية هي أن آدم هبط إلى الأرض مسودا من الذنب، فناداه مناد من السماء أن يصوم ثلاثة أيام هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من الشهر القمري (وهي الليالي المقمرة تماما)، فعاد أبيض.
72
الحقيقة أنه لا يمكن فهم هذا كله إلا في ضوء عبادة الثالوث القمري، وأن هذه العبادة قد رافقها في أصلها اليمني طقوس جنسية واضحة، وانتقلت من مكي مع «إل» إلى مكة، وظلت عند الجاهليين، وبقيت منها بقايا تشير إليها، في كثير من الطقوس، التي ظلت في شعائر الحج الإسلامية، فيما أبقاه الإسلام من الشعائر الجاهلية، لكن بعد أن نقاها من شوائبها القديمة، وارتقى بها بما يتفق والمقاييس الخلقية الجديدة. (9) «إل» العبري
عندما نرحل شمالا من جزيرة العرب - عبر بادية الشام - نحو الهلال الخصيب (العراق وسوريا ولبنان وفلسطين القديمة)، نجد «إل» مرة أخرى أمامنا، يصول ويجول عبر مساحات شاسعة في عقول الأقوام هناك، لكن مع وضوح الكسر في همزة «إل» وتحولها بالتدريج إلى «ياء» في نطقه «إيل»، مع زوجته. «إلات» وهو الاسم الجنوبي نفسه. وقد جاء عند شعوب الساحل الفينيقي (اللبناني) أن زوجة «إيل» هي
Asherat de la mer
التي تنطق عادة في المراجع «عشيرات البحر».
73
بينما من الواضح جدا أنها «أثرت»، و«عشيرات» و«أثرت» هذه قد حملت أيضا اسم «إلات» مع تحويل الكسر في الهمزة إلى ياء لتصبح «إيلات»، التي لم يزل اسمها علما على خليج البحر الأحمر الشرقي حتى الآن. أما زوجها «إيل» الذي عرفناه قبلا إلها للقمر، فقد حظي في تلك الربوع الخضراء بالتمجيد الملائم لعظمته. وأنشئت له بيوت حرام أصبح ما حولها حرما للإله. ولم يزل من هذه البلدان المحرمة حرمة البيت المنشأ فيها «بيت إيل» الحالية والواقعة على بعد ستة كيلومترات شمالي مدينة القدس، بعد أن تحورت مع الأيام إلى «بيتين».
74
أما الرافديون القدماء فقد عرفوه بالاسم «إيلو» مع إضافة حرف الواو للتفخيم، فهو اسم جمع ونوع من جمع الجلالة،
75
ولكن الآراميين عرفوه بالاسم «إله»، كذلك العبريون عرفوه بالاسمين «إيل، والله».
76
وقد حمل الصفات نفسها التي صبغه بها اليمنيون، صفات الأب الحنون الرحيم الذي فدى أبناءه في سالف الأزمان، فنجده في الأدب الأوجاريتي «الكنعاني» هو «أبو الآلهة» وهو «إل. د. ف اد» أي إله الرحمة والشفقة؛ لأن لفظة «ف ا د» يقابلها في العربية «الفؤاد». أما حرف الدال فهو للإضافة، وهو «ب ن ي. ب ن وت» ويترجمها د. فريحة «خالق الخلائق» ولها لدينا ترجمة أخرى هي «أبو أبنائه» وتعني تأكيد معنى الأبوة. وفي تلك التسمية دعم آخر لمذهبنا في كون الإله هو الأب البدائي الذي اعتبرناه رحيما فاديا، وليس مرعبا قاسيا كما ذهب آتكسون وروبرتسون سميث وفرويد. ومن ألقابه أيضا «م ل ك. أب. ش ن م» أي الملك الأب السامي؛ لأن «ش ن م» تعني السمو والعلو، وهو أيضا «ل ط ف ن» أي لطفان أي كثير اللطف، وهو أيضا «ث ر إل» أي الإله الثور، وهي صفة لا تحتاج تعليقا، وهو «أب. آدم» أي أبو البشر.
77
وهي صفة أخرى تؤكد مذهبنا في بداية التأليه. إلا أن الغريب في كل هذا أن نجد هذا الإله معروفا في التوراة (الكتاب المقدس، العهد القديم)، والأغرب أن يقول لنا العلامة موسكاتي إن زوجته «أثرت» قد عرفت بدورها طريقها للتسجيل بين أسفار الكتاب بالاسم «أشيرا»،
78
وهو يشبه بوضوح التسمية الفينيقية الكنعانية «عشيرات». ووجه الغرابة تعارض ذلك مع ما ظل يردده اليهود أنهم شعب موحد، نزه الخالق عن طبيعة المخلوقات، لكننا عندما نتناول الكتاب المقدس لنطالعه سنجده يقرر دون تردد أن ديانة العبريين - على الأقل في مراحلها الأولى - كانت ديانة تثليث، وهو ما سنحاول إيضاحه الآن مما قرأناه في ذلك الكتاب.
مع بداية الكتاب المقدس سنجد سفر التكوين - وطوال مرحلة طويلة من بداية الخلق وحتى خروج «موسى» بنبوته - يعطينا للمعبود العبري الاسم «إيل»، ويقرر دون مواربة أن «إيل إله إسرائيل»،
79
وأنه هو «إله بيت إيل»،
80
ذلك الاسم الذي عرفناه إلها للقمر في الجنوب العربي، وضلعا أكبر في ثالوث يتكون من أب وأم وابن. (10) الثالوث العبري
من سرد الكتاب المقدس لقصة خلق أبوي البشر «آدم وحواء»، وارتكابهما الخطيئة بأكل الثمرة المحرمة بإيعاز من الحية الخبيثة، وخروجهما من الجنة، نقتطع المقاطع التالية:
وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة.
81
فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟
82
فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟
83
فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت.
84
وإن التعبير «الرب الإله» يوحي أن هناك أكثر من رب، رب إله، وأرباب ربما أقل شأنا، ويعضد هذا الفهم أن النص يقول بعد أكل آدم لثمرة المعرفة :
وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا
عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من
شجرة الحياة أيضا، ويحيا إلى الأبد.
85
وناهيك عن الفهم الفج لمسألة الخلود، وعن خشية الرب من استغلال «آدم» لغفلته واحتمال أكله من شجرة الخلود فيخلد كالآلهة، فإن التعبير «كواحد منا» يوحي أن الرب الإله هنا لا يتحدث عن نفسه فقط، بل يتحدث عن نفسه وعن آخرين مثله، وأن هذا الحديث موجه إلى هؤلاء الآخرين، وهو ما يؤكد الفهم بأن الرب الإله، إله ضمن مجمع من الآلهة، ويدعم هذا الفهم أكثر وأكثر نص آخر يتحدث عن بناء البشر لبرج عال، ذلك البرج المشهور في الأساطير ببرج بابل، فيقول النص:
فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم
يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد، ولسان
واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع
عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك
ألسنتهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم
الرب من هناك على وجه كل الأرض.
86
ومرة أخرى يشعر الرب بالخوف من ذكاء مخلوقاته، وأنهم قد يتمكنون من الوصول ببرجهم إلى السماء وإقلاق راحته، فيتدخل بأن يحول لغتهم الواحدة إلى لغات متعددة حتى لا يفهم بعضهم بعضا؛ ومن ثم لا يتحدون مستقبلا في عمل يزعجه، إلا أن الأهم من هذا وما يعنينا، هو أن الصياغة الدالة على المعبود هنا أضحت «الرب» فقط وليست «الرب الإله»، وأن هذا «الرب» إنما هو فرد ضمن مجمع إلهي، متضمنا في قول النص «هلم ننزل ونبلبل ألسنتهم».
وهذا الرب يأتينا بشكل أوضح في لقاءات متكررة مع النبي «إبراهيم»، في نصوص مطولة نجتزئ منها النصوص التالية:
وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعط هذه الأرض، فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له.
87
والنص هنا بين جلي، يميز ربا من أرباب أخرى، بأنه الرب الذي ظهر لإبراهيم، ثم نجد صيغة أخرى للدلالة على الإله في قصة هروب «هاجر» جارية «سارة» زوجة «إبراهيم» التي تقول:
فقال إبرام لساراي : هو ذا جاريتك في يدك ، افعلي
بها ما يحسن في عينيك، فأذلتها ساراي، فهربت من
وجهها، فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية، ... فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك واخضعي
لها، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى، فتلدين
ابنا وتدعين اسمه: إسماعيل؛ لأن الرب قد سمع
لمذلتك، فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل
رئي؛ لأنها قالت: أههنا رأيت بعد روية؟
88
والنص هنا يحدثنا عن ظهور من دعاه «ملاك الرب» لهاجر، لكنه يعود ليقول: إن هاجر عرفت فيه شخص الإله «إيل»، وإن «إيل» إنما هو فرد ضمن مجمع إلهي، وهو ما يعبر عنه النص بقوله: «الرب الذي تكلم معها».
ولكن كيف يمكن فهم هذا التضارب ما بين «ملاك الرب» وبين «الرب»؟ علينا هنا العودة إلى وقت وأسلوب كتابة الكتاب المقدس نفسه لحل هذا التضارب.
من المعروف أن مواد الكتاب المقدس كانت في البداية روايات شفهية، وربما يضاف إليها كتابات متناثرة متداولة جيلا بعد جيل، وما يسمى التوراة من أسفار هذا الكتاب هي الأسفار الخمسة الأولى
Cenesis
وتشتمل على سفر التكوين
وهو معتمدنا حتى الآن في البحث، وهو السفر الذي قرر أن «إيل» هو إله العبريين أو اليهود أو بني إسرائيل، وسفر الخروج
Exodus
وسفر اللاويين
Leviticus
وسفر العدد
Nummbers
وسفر التثنية
Deuteronomy . وهناك تصنيف آخر يضيف لهذه الأسفار سفر يشوع ليجعل التوراة ستة أسفار، المسماة
Hexatuch . ويختلف الباحثون حول الموعد الأقرب للدقة لبداية كتابة أسفار الكتاب المقدس، فهناك من يعيدها إلى حوالي 440ق.م. وهو التوقيت المرجح، وأن الأسفار الأولى «التوراة» كتبت خلال مدة زمنية تصل إلى ثلاثة قرون، وهناك من يرى أنها دونت بعد النبي «موسى» بعدة قرون مصنفة من مصادر مختلفة. وهذا رأي مدرسة «فلهاوزن». وهم يعيدون أبعد مصدر للتأليف إلى عام 850ق.م. وهناك من يرتد بكتابتها إلى حوالي القرن العاشر قبل الميلاد وهو أبعد تقدير حتى الآن، وأن هذا إنما يعني وجود مسافة زمنية طويلة تفصل بين بدء هذا التراث وبين وقت تدوينه، إضافة إلى أنه كتب بأيد مختلفة وعقليات مختلفة؛ مما أدى إلى ظهور نوع من التضارب والتناقض، حتى إن مدرسة «فلهاوزن» بنت توقيتها على أسباب مهمة وخطيرة، هي اختلاف أسماء الإله بين الأسفار، وتكرار بعض القصص بأساليب مختلفة تشير إلى اختلاف الكتاب. دليل ذلك وجود فروق بينة وعميقة في اللغة والأسلوب.
89
وفي ذلك ما يفسر لنا قضيتنا: هل الذي رأته هاجر «ملاك الرب» أو الرب «إيل» نفسه، والتفسير ببساطة هو وجود روايات، وربما نصوص من عصور قديمة بيد الكاتب الذي عاش جيلا آخر بعد قرون طويلة من التطور الفكري والديني. إذ أخذت الآلهة المتعددة القديمة تتحول تدريجيا إلى جم غفير من الملائكة؛ نتيجة لاتجاه العقل نحو التوحيد، إلا أن الملائكة ظلت تحمل الطابع الإلهي في أسمائها مثل: «جبرايل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل ... إلخ». ومن هنا نستطيع أن نلمس حيرة الكاتب بين ما بيديه من نتف وروايات قديمة، وبين ما يمليه عليه عقله، ومنطق عصره، والتطور الديني الذي وصل إليه الفكر الديني، مع محاولته الحرص على القديم في الوقت نفسه؛ لذلك ورغم محاولاته الارتقاء بربه عن التجلي والكلام مع البشر، كالبشر، فيتصرف في الصياغة وينسب ذلك إلى ما يسميه «ملاك الرب»، إلا أنه لم يستطع على ما يبدو إلغاء الفقرة الأخيرة «دعت اسم الرب الذي تكلم معها إيل»؛ لأنها على ما يبدو كانت ضمن نصوص مكتوبة ولها قدسيتها، أو ربما لأنه كان مضطرا للحفاظ على جزء مهم في الرواية الأصلية. وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها في كثير من النصوص، ظاهرة تعامل كاتب حديث مع نصوص قديمة. ومثالا لذلك نطالع نصا آخر يحكي لنا قصة القرار الإلهي بتدمير مدينة لوط «سدوم» التي تفشى فيها داء الشذوذ الجنسي. وتبدأ القصة بظهور الرب لإبراهيم، تبشره بغلام بعد أن بلغ وزوجته من العمر عتيا، فتقول:
وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار.
فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة، وسجد إلى الأرض.
وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في
عينيك فلا تتجاوز عبدك .
90
والرب هنا يظهر بوضوح لا يقبل لبسا في هيئة ثلاثة رجال يناديهم إبراهيم «الثلاثة» في صيغة المنادي الواحد: يا سيد، عينيك، لا تتجاوز عبدك، ثم يعود لمناداة ربه بصيغة الجمع، فيقول:
ليؤخذ قليل من ماء، واغسلوا أرجلكم، واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون؛ لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت ... وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا. قالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها ها في الخيمة. فقال «أي الرب» إني أرجع إليك نحو زمان الحياة، ويكون لسارة امرأتك ابن، فضحكت سارة في باطنها ... فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ ... ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم. وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم، فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ ... وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم. وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب.
91
واضح إذن أن الرب قد ظهر لإبراهيم في هيئة ثلاثة شخوص، والأكثر وضوحا هو حيرة الكاتب مع ما بين يديه من متناثرات قديمة، وبين اعتقاده في إله واحد، فتضارب النص بين يديه ما بين الإفراد والجمع، ولكن تبقى في الآية الأخيرة مسألة غير مفهومة، وهي أن «الرجال» الدالة على الرب المثلث، قد ذهبوا إلى سدوم، بينما ظل «إبراهيم» مع الرب، لكنها تصبح مفهومة عندما نستمر مع النص فنجده يقول:
فجاء الملاكان إلى سدوم مساء، وكان لوط جالسا
في باب سدوم، فلا رآهما لوط قام لاستقبالهما،
وسجد بوجهه إلى الأرض، وقال: يا سيدي ميلا
إلى بيت عبدكما، واغسلا أرجلكما ...
92
وهنا انتقالة مفاجئة إلى من يسميهما النص «الملاكان»، لكن سلوك «لوط» يوحي أنه أمام اثنين من الأرباب، سواء في سجوده أم في وصف نفسه بأنه عبد لسادة، ومرة أخرى نجدنا مضطرين إلى اللجوء إلى تضارب الكتاب بين ما لديه من تراث وبين ما يعتقد، ويصبح التفسير ببساطة أن الإله الممثل في ثلاثة، ذهب منهما اثنان إلى سدوم، وبقي واحد - ويبدو أنه كبيرهم - مع «إبراهيم»، ويدعم ذلك أن هذين الاثنين أخبرا «لوطا» بقرار تدمير سدوم وبالرغبة الإلهية في إنقاذه مع زوجته وابنته، في النص:
ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته
ويد ابنته، لشفقة الرب عليه، وأخرجاه،
ووضعاه خارج المدينة ...
فقال لهما لوط: لا يا سيد.
هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك، وعظمت لطفك
الذي صنعت.
93
وحيرة الكاتب بادية ما بين كون الاثنين ملاكين أم رجلين أم إلهين أم ربا واحدا «أمسك الرجلان، لشفقة الرب عليك، لا يا سيد، عينيك».
وتأسيسا على هذه النصوص يمكننا أن نقول بدون تردد إن النصوص الأصلية، سواء أكانت شفاهية أم على هيئة كتابات متناثرة، كانت تتحدث عن ثالوث إلهي، وأن الضلع الأكبر في هذا الثالوث كان «إيل» الذي عرفناه قبلا إلها للقمر. (11) يهوه القمري
بظهور النبي «موسى» يتوقف ذكر «إيل» في الكتاب المقدس؛ ليظهر إله جديد يحمل اسما جديدا يختلف في تنغيمه ما بين «ياو، ياه، ياهو، إهيه» أما اسمه الأشهر فهو «يهوه»، غداة التقاه «موسى» وهو يرعى الغنم في مديان على هيئة نار في عليقة، وقال له: «هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم ... هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد.»
94
وهو الإله الذي جاء ذكره في مزامير النبي الملك «داود» بالاسم «ياه» في قول الكتاب المقدس: «غنوا لله، رنموا لاسمه أعدوا طريقا لراكب القفار، باسمه ياه، واهتفوا أمامه.»
95
ورغم أن قانون الإيمان اليهودي بالإله «يهوه» يقول: «لويهي لك إلوهيم أحريم»،
96
ويعني محرم عليك الإيمان بغيري، أو على الأصح لا إله إلا الله، فإن ما يجب التأكيد عليه أن هذا الإله، بهذا الاسم، كان معروفا قبل نبوة «موسى» بقرون طويلة. كإله وثني، عبدته شعوب مختلفة بصفته مشاركا مع آلهة أخرى، فعبد في صحراء مصر الشرقية وسيناء، كما عبده اللحيانيون والأنباط والثموديون.
97
كما ثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنه عبد لدى الكنعانيين بعد العثور على الاسمين «ياه وياهو » منقوشين على قطع خزفية من عصر البرونز عام 1931م، وعلى ألواح ضمن مكتشفات مدينة أوجاريت (تل شمرا).
98
كما اكتشف الآثاري «برستد» أن أهل مديان كانوا يدينون بعبادة إله وثني يحمل هذا الاسم،
99
والملاحظ للاسم «ياوه، ياهو، ياه، إهيه، يهوه» يشعر فيها بزمجرات الطبيعة وأصوات الريح والوحوش، خاصة مع وجوب النطق السليم ليهوه بفتح فسجول طويلة.
100
ويرى «شتادة
Stade »
101
أن معناه هو المسقط أي الذي يسقط البروق على الأعداء، ولأن هوى بمعنى سقط، بينما يذهب «فلهاوزن
Wellhausen » إلى أن الاسم «يهوه» من هوى في العربية يعني الهواء، فمعناه يهب أي إنه إله العاصفة.
102
ونظن «فلهاوزن» أقرب إلى الصحة، إذ إن يهوه في نصوص الكتاب المقدس كان لا يظهر إلا بين العواصف والغيوم والرياح، ومن الرياح «يرح» أحد أساء إله القمر! في المنطقة الكنعانية، وسبق وأنشئ لإله القمر «يرح» معبد عظيم سميت به البلدة التي أنشئ فيها بكاملها فسميت «أريحا»
103
إضافة إلى أن القمر كان في نظر الأقدمين جرما كبيرا كالشمس، لكنه غير مستقر الأحوال، فسلوكه «هوائي» - وحتى اليوم نقول عن الشخص المتقلب إنه شخص هوائي - ومن هنا نلمح في «يهوه» الصفات القمرية. وقد قدم «ديتلف نيلسن» عددا من البراهين على قمرية الإله الموسوي «يهوه»، نوجز أهمها في الآتي: (1)
أنه كان يرسم في صورة ثور ويقدس. وسبق أن عرفنا الثور والشياه رموزا للقمر في هيئة الهلال. وبحثا وراء نيلسن نجد في النصوص:
فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه
عجلا مسبوكا فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل.
104
فاستشار الملك وعمل عجلي ذهب وقال لهم ... هوذا
آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر، ووضع
واحدا في بيت إيل، وجعل الآخر في دان.
105
ويستنتج النتيجة نفسها «د. يعقوب السيد بكر» من صور زخارف معبد «سليمان» التي رسمت الثور مقدسا.
106 (2)
أن الليل كان الوقت المقدس لتجلي «يهوه» لعباده، ووقت أعياده. (3)
أنه كان لدى اليهود احتفالات خاصة بالبدر والهلال. (4)
أن يوم السبت والأعياد الأسبوعية الأخرى ترتبط عند العرب واليهود بأيام المحاق الثلاثة، وترتبط كل شهرين بمواقع القمر. (5)
أن التعبيرات التي استخدمها الكتاب المقدس عند ظهور «يهوه » اصطلاحات فلكية قمرية. (6)
أن الديانة الإسرائيلية قبل السبي كانت توصف بأنها ديانة قمر وشمس وكواكب كما في سفر «أرميا».
107 (7)
عبور اليهود البحر من مصر عبر خليج السويس وقت الجزر، والقمر هو الذي يسبب المد والجزر، أو كما جاء في سفر الخروج «وهو الذي يجفف قاع البحر في الصحراء».
108 (8)
ظهوره في سيناء لليهود يرتبط بوقت ظهور القمر في اليوم الثالث من الشهر، كما أن أول الشهر القمري ومنتصفه يومان مقدسان، كما أن الأعياد الكبرى ترتبط بليلة تجلي القمر. (9)
إن التضحية ارتبطت بمواطن القمر، فكان عدد الأضاحي بعدد أيام الشهر، حتى اليوم الخامس عشر تذبح خمس عشرة ذبيحة.
109
وهكذا نجد «نيلسن» يدفعنا إلى تقرير قمرية الإله اليهودي الموسوي الجديد «يهوه»، كما كان «إيل» من قبل إلها للقمر، وهنا نطرح رأيا جديدا نستنتجه من اكتشاف في مصر الفرعونية، حيث اكتشفت أنه قد أقامت قديما في جزيرة فيلة بصعيد مصر جماعة من اليهود كانوا يعبدون هناك إلها باسم «ياهو»، مع إلهين آخرين. واحد منهما أنثى يدعى «إناث ياهو»
110
أي «الأنثى ياهو»؛ مما يعطى انطباعات أهمها:
إن هذه الجماعة تابعة للديانة الموسوية صاحبة الإله ياهو، الذي لم يظهر كإله لليهود إلا مع النبي «موسى»، وكانوا قبلها يعبدون الإله «إيل».
إن هذه الجماعة التي عبدت الثالوث اليهودي جماعة من الأتباع الأوائل لموسى، بدليل أنها لم تعرف التطور التوحيدي الذي حدث لديانة «يهوه» بعد ذلك في البلاد الفلسطينية؛ نتيجة انعزالها في جزيرة فيلة بأسوان بمصر.
إن التطور التوحيدي حدث لعبادة «يهوه» بعد «موسى»، بدليل أن العباد الأوائل قد عبدوه ضمن ثالوث إلهي، وهذا يدعم «فرويد» فيما يسميه مصالحة قادش بعد موت «موسى».
إن هذه الديانة اليهودية التثليثية قامت فيها «إناث ياهو» أو الأنثى ياهو بدور الزوجة، ويبدو لنا أن «ياهو» نفسه أو «يهوه» قد قام بدور الإله الابن، ونستند في ذلك إلى نقش جاء ضمن مكتشفات مدينة أوجاريت يقول فيه الإله الأعظم إيل: «اسم ابني ياو.»
111
كما جاء فيها نصوص تشير إلى أن الإله «إيل» في الأدب الأوجاريتي قد ظهر بصورة أب طاعن في السن، عاجز عن إدارة شئون مملكته، وكان تواقا إلى أن يأخذ ابنه وظائفه! وقرر أكثر من مرة تعيين خليفة له،
112
وهكذا يمكن القول: إن هذا الثالوث اليهودي الوثني الذي توارثه اليهود، كان يتكون من «إيل» في دور الإله الأب العجوز، و«إناث ياهو» أو الأنثى ياهو في دور الإلهة الأم، و«يهوه» في دور الإله الابن، الذي اضطلع مع «موسى» بالدور الرئيسي، وقام بدلا من أبيه إيل ضلعا أكبر في الثالوث.
والعجيب حقا أننا إذا عدنا إلى ديانة اليمن في الجنوب العربي، فسنجد القمر الإله يحمل لقب «كهلان» أي الإله الكهل،
113
كما سنجد الاسم «يهوه» موجودا قبل هذا الزمان. وقد ورد ممزوجا بأسماء قتبانية، جاءت في قائمة «إلبرايت»، ومنها «شهر هلل يهو بن الملك يدع أب ذبيان يهو نعم»، كما تسمى به الثموديون في أسماء مثل «أو سريهو، وعزريهو». أما آخر الأدلة لدينا - الآن على الأقل - على أن ديانة «يهوه» كانت ديانة تثليث، أن إلهة الخصب في البلاد الكنعانية التي استوطنها الإسرائيليون، كانت تدعى «إناث».
114
كما أن في الكتاب المقدس سفرا لا يتسم بأية صفة دينية، هو نشيد الإنشاد للنبي الملك «سليمان»، وهو مجموعة غزليات جنسية بحت تشير إلى نوع من طقوس الجنس المقدسة، التي عرفناها في عبادة الثالوث. كما أكد «ديورانت» أن العهر المقدس ونظام المنذورات كان طقسا يمارس في هيكل بني إسرائيل.
115
وكان ضمن المنذورات تلك الفتاة اليهودية، التي أخذت في المسيحية بعد ذلك دور الأم، وعرفت باسم الإلهة «مريم» في الديانة المسيحية، والتي أنجبت الإله الابن «يسوع» المسيح.
وهنا يفيدنا «روبرتسون سميث» بأن الكلمة «يسوع
Jesous » هي صيغة يونانية للأصل العبري «يشوع
Jehoshua »،
116
وإذا حللنا بدورنا الاسم «يشوع» فسنجده يتركب من مقطعين هما «ياه» ذاك الذي عرفناه إلها ابنا أخذ عن أبيه سلطانه، و«شوع» أي المخلص أو الناصر أو الحامي.
ولو عدنا مرة أخرى إلى ديانة عرب الجنوب، فسنجد بين الآلهة الثمودية ذاك الذي حمل اسم «يثع» بمعنى الناصر أو الحامي ،
117
الاسم الذي دخل في مركب مقدس ورد في القرآن الكريم باسم «اليسع»،
118
وهو من الصيغة العبرية «اليشع»، وهو اسم يتركب من مقطعين: الأول منهما هو «إل» الذي عرفناه إلها للقمر و«يشع» أو يثع أي المخلص أو الناصر أو الحامي، وهو في الوقت نفسه صفة للقمر الذي «يشع»!
ومنه يمكن القول عن اسم المسيح «يشوع» إنه «ياه المشع» أو الإله المشع، وهو تركيب بالغ الدلالة على الدور الذي أخذه إله القمر الابن عن الأب، الذي سبق، ونصر، وخلص، وحمى، وفدى أبناءه في غابر الأزمان؛ ليصبح صاحب الدور الأخطر والضلع الأكبر في الثالوث المسيحي، وليصبح هو الفادي الأعظم الذي ضحى بنفسه على الصليب؛ لأنه «أبانا الذي في السموات»، أو القمر الذي في السموات، والذي يحتاج وحده بحثا آخر، وجهدا آخر. (12) إضافة
بعد أن انتهيت من هذه الدراسة، طالعت كتابين هما:
الكتاب الأول:
د. علي زيعور، العقلية الصوفية ونفسانية التصوف، ووجدت فيه مزيدا من التأييد لنظريتي في التضحية؛ لذلك لجأت إلى إضافة حاشيتين الأولى عن علاقة الإله «ود» بظاهرة وأد الصغار، والثانية عن علاقة الفعل «حلق» بطقس الذبح، وهما ملحوظتان رأيتهما تعضدان نظريتي.
الكتاب الثاني:
د. أحمد إبراهيم الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ويهمني هنا أن أجتزئ منه فقرة واحدة هي: «وقد فسر المؤرخون واللغويون العرب اسم مكة تفسيرات كثيرة لغوية وغير لغوية استنبطوها من مكانة الكعبة وقدسيتها في نفوس العرب، وهذه التفسيرات متأخرة بطبيعة الحال، واسم مكة سابق على هذه المفاهيم، ولما كانت قبائل الجنوب هي أول من استعمر هذا الوادي، فالأرجح أن اسمها أخذ من لغة الجنوب مستندا إلى البيت الحرام، فمكة كما ذكرها «بطليموس» كلمة يمنية مكونة من «مك» و«رب». و«مك» تعني البيت، فتكون «مكرب» بمعنى بيت الرب، أو بيت الإله، ومن هذه الكلمة أخذت مكة أو بكة بقلب الميم باء على عادة أهل الجنوب، ويقول المؤرخ «بروكلمان» إنها مأخوذة من كلمة مقرب العربية الجنوبية ومعناها الهيكل .»
119
أي المذبح. وأترك هذه الفقرة لقارئي دون تعليق ، وفقط أذكره بتفسيري لكلمة «المقة» اليمنية.
نماذج من الأساطير التوراتية ومدخل إلى فهم دورها التاريخي
(1) مقولات تمهيدية
في ذلك اليوم، قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات. (سفر التكوين، 15: 18)
لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل.
المسيح (إنجيل متى، 5: 17)
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين . (سورة البقرة: 47)
ولسنا ننقل من الإسرائيليات، إلا ما أذن الشارع في نقله.
ابن كثير، البداية والنهاية
1
إنه ليس من شيء يستطيع أن يبقي الحركة الصهيونية حية وفاعلة، إلا بالإيمان الراسخ ... وإن هذا الإيمان يجب أن يتركز على فلسطين، وفلسطين وحدها. وإن أي انحراف عن فلسطين، يكون بمثابة الكفر بهذا الإيمان.
حاييم ويزمان: المذكرات
2
إن الحركة الصهيونية تناضل من أجل فكرة عظيمة، وتمثل تراثا عظيما يكن له الغرب المسيحي أعظم تقدير.
لويد جورج: المذكرات
3
والخضوع الروحي لأمة أخرى هو شر أنواع الاستعمار.
د. جواد علي، المفصل
4 (2) تأسيس 1
حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وقت كانت مصر قد تحولت إلى دولة عظمى على الكوكب الأرضي، منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا من الزمان، ووقت كانت فيه بلاد العراق القديم قد انتقلت من نظام الدولة المدينية المتعددة، إلى دولة مركزية كبرى تتالت على الحكم فيها عدة دول تركت بصماتها الحضارية في وادي الرافدين، من السومريين إلى الأكاديين إلى الآشوريين، ووقت بدأ الكنعانيون في فلسطين يتحولون عن نظام المشتركات المعبدية إلى نظام الدول المدينية، على شكل ممالك صغيرة متجاورة، بينما شرع فرعهم الشمالي على الساحل اللبناني، والمعروف بالفينيقي، يشرع أشرعته على البحر ليغزو عالمه المجهول، ويقيم مستعمرات متفرقة على سواحله حتى الأطلسي غربا، في هذا الوقت من الزمن، وفدت إلى بادية الشام موجات بدوية متبررة من البوادي البعيدة،
5
تتدافع متلاطمة على صفحة المنطقة فيما عرف بالقبائل الآرامية. وحين كانت الموجات الآرامية لم تزل في طور التدفق ترسل قرون استشعارها من بادية الشام، تتحسس ما حولها في بلاد الخصب، برز من رغاء بطونهم وأفخاذهم تلك القبيلة التي حطت رحلها، عطشى جوعى، شرقي فلسطين، وحل لها تعدد الأسماء، فعرفها التاريخ باسم العبريين، وبني إسرائيل، وشعب الله المختار، يدفعهم الطمع إلى الجموح في الطموح؛ للاستيلاء على مناطق الخصب الشاسعة من حولهم.
وعلى العادة البدوية، تصوروا أن بالإمكان الإغارة كرا وفرا، وفق التقاليد البدوية العتيدة، وأخلاقيات السلب والنهب، لكنهم وجدوا أنفسهم هذه المرة إزاء نوع جديد من النظم لم يألفوه، أمام دول وممالك وحضارات كبرى، ذات جيوش منظمة وحكومات مركزية، تتحرك كل أطرافها للعمل بمجرد أن يجذب الملك طرف الخيط داخل قصره؛ مما جعل الجوعى القادمين يتوقفون للتفكير مليا في الوسائل المناسبة؛ لاختراق هذه الأسوار المنيعة، والأنظمة الصارمة، فاستكانوا على حدود الممالك المجاورة، وتعاملوا كمحطات إنذار مبكر لهذه الممالك إزاء أي تحركات متبررة حولها من بني جنسهم، مقابل ما تفيض به عليهم هذه الممالك من خيرات.
ومع الاحتكاك بهذه الحضارات المنتظمة في سلك المركزية، اهتدى القادمون وأدركوا، مبكرين، أن صروح الحضارة لا تخرج فجأة من الأرض بلا منابت أو جذور (وهم لا يملكون أيا من مقوماتها)، فقيام الكيانات المركزية يحتاج إلى تماسك لا يتيسر للنظام الاجتماعي البدوي بفرقته، ويحتاج إلى تكاتف جهود العمل البشري المتسق في خطط منظمة، يصعب على الطبع البدوي في تفرقه استلهامه أو حتى استيهامه، إضافة إلى ما هو أهم من كل هذا، وأول مقومات الكيان المتماسك هو الأرض؛ ومن ثم كان لا بد من أرض أولا، إلا أن الاستيلاء على أرض متكاملة البنيان الحضاري، جاهزة للتسليم، أمر غير ميسور تقف دونه هممهم؛ لذلك توجه همهم نحو خطة طويلة النفس، تعتمد على التسلل الهادئ والبطيء من أضعف الثغرات الممكنة في المنطقة، ولم يكن هناك أمثل من مجموعة الممالك الكنعانية؛ ليستقروا فيها كمواطنين من الدرجة الثانية، وكعصابات مأجورة على الحدود أحيانا، وآنها بدأت الأرض تتماسك من تحتهم وتلتئم وتتكون، وفق الخطة لقيام الكيان. والكيان ليس فقط أرضا تجود بشبع البطون، وتئوي الجسد المنهك من ارتحاله وراء الكلأ ، إنما هو أيضا تراث وراسب لخبرات قديمة وعلاقات بالأرض وطبعها وطبيعتها، وناتج جدول زمني طويل بين الإنسان وبين هذه الأرض، فهو أيضا تاريخ، ووعي بهذا التاريخ. وهنا لا مندوحة من الاعتراف لهؤلاء الغبر الشعث أنهم كانوا الأصدق وعيا بالتاريخ في المنطقة، وظلوا مفتحي الأعين والأذهان دائما عليه، بينما كانت المنطقة في طريقها إلى غفوات متلاحقة انتهت بسباتها الطويل الحالي.
ومن هنا أخذ هؤلاء في تمثل تراث المنطقة، والتراث الكنعاني بشكل خاص، وهضموه بجودة عالية، ثم بدءوا إعادة صياغته بشكل جديد، بما يخدم مصالحهم الآنية أوانها، والمستقبلية أيضا، بوعي نفاذ لهذا التاريخ ودوره، مستثمرين في ذلك العملة صادقة الرنين، أقصد «الدين».
وبالدين كانت بداية تاريخهم، الذي لم يكن تاريخهم أصلا، وبالدين كانت بداية وجودهم كشعب يحمل تراثا عريقا «يكن له الغرب أعظم تقدير» على حد تعبير لويد جورج. وبالدين كانت بداية لغتهم بعد أن تحولوا عن آراميتهم الأصلية إلى اللغة الكنعانية، إمعانا في المصداقية مع الوعي بتمثل التراث والتلاحم التاريخي، وهو ما اعترف به الكتاب المقدس، إذ أوضح، بلا التواء، برغم التواءاته ومنحنياته الخطيرة، أن اللغة العبرية هي «شفة كنعان»، أو لسان كنعان (إشعياء، 19: 18). وبالدين وتفهمهم لدوره، وإمكانياته التي لا تنفد، كانت بدايتهم كأصل للتدين، فاحتكروا النبوات جميعا في نسلهم وأصلابهم، وليس هناك شهادة لهم بالتفوق الأكيد سوى التسليم لهم بهذا الاحتكار، برغم أنهم بدءوا من ديانات المنطقة - كما سنرى - لكن بعد أن أدخلوا عليها دبلجة وبرمجة ذكية، فتحولت إلى دين يجمع من المتنافرات هجينا عجيبا، يزداد عجبه عندما نجد العقول تقبله أحسن القبول؛ ليصبح صاحب السيادة على عقل المنطقة بلا منازع.
وقديما، وحديثا، وربما لأمد مقبل، كان الدين هو الأسلوب الأكثر فعالية وعملية. وقد تمكن العبريون من التضلع في فنونه، واستثمروه وفق برامج جدوى عالية الكفاءة والجودة، مع انتهاز لماح لكل ما يطرأ في المنطقة من تغيرات على مختلف الأصعدة؛ لنشر القناعات المطلوبة بين أهلها، ومن هنا نفهم لماذا كانوا في عجلة من أمرهم لوضع كتاب مقدس
BIBLE ، جمعوا له حشدا من كل ما وقع تحت أيديهم من ميثولوجيا المنطقة وتراثها، مع التدخل بما يلزم وقتما لزم الأمر، فكان هذا الكتاب مأثرتهم الوحيدة، لكنه كان الأوحد الثابت، بعد اندثار الحضارات الأصلية، وانقطاع أهلها عن تاريخها، بينما كانت للمقدس العبري منهلا ومنبعا، بحيث أثبت صلابة لا تبارى، لا نجد لها سببا سوى الوعي بالتاريخ والتواصل معه. (3) تأسيس 2
وهكذا؛ وبعد أن تمكن العبريون من تهويد تراث المنطقة، وجعلوا جماعتهم وأسلافهم قطب الدائرة في كتابهم، فنسبوا بطولات الملاحم القديمة إلى آبائهم الأوائل أحيانا، وأدرجوا الأبطال في الميثولوجيا القديمة للمنطقة ضمن النسل العبراني أحيانا أخرى، أو غالبا ما كانوا يختارون البطل أيا كان جنسه، ثم يصوغون له شجرة نسب تولده من أسلافهم، فكان أن تلاحقت على صفحات الكتاب ثقافات شتى، أولدت هجينا تعشقت فيه رواسب شعوب المنطقة، وأدى فيها اليهود دور البطولة المطلقة.
ولعله من نافلة القول، وتكرار المعروف، أن هذا الكتاب لا يعد بحال مصداقا لما اصطلح على تسميته ب «كلمة الله الثابتة». ولدينا، وبين أيدينا، في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادر سنة 1960م إقرار واضح يقول: «ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى نفسه كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص الذي كتبه عديدون بعده، بل يجب القول: إن ازديادا تدريجيا حدث، سببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.»
ومعلوم أيضا أن الباحثين التوراتيين قد اختلفوا فيما بينهم حول ضبط جمع مادة هذا الكتاب وتوقيتها، وأنه لم يكتب بيد مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد، بل قام بهذه المهمة مؤلفون كثيرون، في عصور متباينة، لجماهير تتباين مزيجا ومزاجا، حتى امتدت هذه التفانين إلى أكثر من ألف عام، وقدر البعض تاريخ الانتهاء منها حوالي 440ق.م.
6
وربما في تقدير آخر، حتى القرن الأول قبل الميلاد.
7
ولعل أشهر المدارس البحثية في التوراة، وهي مدرسة «فلهاوزن
Willhaesen »، التي أكدت أن تصانيف التوراة قد بدأ جمعها بعد عهد «موسى» بقرون، وأن الجماع والمصنفين كانوا مختلفين مزاجا ومشربا، ودللت على ذلك بأدلة مهمة ، لعل أخطرها ولا يقبل جدلا، أن اسم الإله وطبيعته وعلاقته باليهود، يختلف ما بين سفر وآخر، إضافة إلى تكرار القصص في الأسفار؛ مما يشير إلى أن المصنفين لم يلتقوا معا، ليصفوا ما بينهم من خلافات حادة في التفاصيل. هذا مع فروق واضحة وعميقة إلى حد التنافر التام في اللغة والأسلوب بين هذه الأسفار.
8
أما النسخة العربية، فتؤكد على غلافها أنه «قد ترجم عن اللغات الأصلية، وهي العبرانية «أصلا الكنعانية»، واللغة الكلدانية «وما تحمله من تراث رافدي طويل»، واللغة اليونانية «وما حملته من علوم جامعة الإسكندرية وتراثها المصري العريق».»
وقد ساعد اليهود على الإحاطة بشكل واسع بتراث المنطقة وتحميله للتوراة، أن هناك ظروفا أدت إلى ارتحالهم في مناسبات مختلفة إلى الرافدين وإلى مصر؛ مما أدى إلى زيادات وتراكمات اصطبغت مع كل ارتحال بلون جديد؛ مما أدى بباحث متحيز لليهود مثل «إيفار لسنر» إلى الاعتراف باحتواء التوراة على متنافرات عديمة الاتساق والتمازج، وقوله: «إن تابوت العهد، يعود بنا إلى مساكن آلهة النيل المتنقلة، وآثار السحر ترجع بنا إلى مصر، كما تذكرنا قصة الطوفان والأرقام الغامضة ببابل، ويصير الإله البابلي جلجامش نمرود، وتصبح ثيران آشور المجنحة كروبيم العبريين. كما أن أسطورة الجنة، وشخصية الشيطان أهريمان وعالم الملائكة ورؤساء الملائكة، تعيد إلى أذهاننا بلاد الفرس، ونتعرف على البعل إله الفينيقيين والكنعانيين في أسماء إشبعل ومربعل. لقد كان الفلسطينيون الذين يحتمل أنهم وفدوا أصلا من كريت، ينظرون إلى اليمامة أصلا كإله، أما السمكة التي عبدت في عسقلان، فتظهر في قصة يونان.»
9
وكلام «لسنر» هنا كلام شديد العمومية والتسطيح، إلا أنه يشير إلى المعنى المقصود، ويؤكد وراثة اليهود، أو سلبهم تراث الآخرين بشكل فاضح وضح لدى «لسنر»، وهو المعروف بتحزبه لبني إسرائيل. إلا أن هناك دراسات أخرى أكثر علمية وتدقيقا وتوثيقا، قدمها جلة من العلماء الأجلاء، لعل أهمها وأشهرها وأحوزها للثقة، دراسات المصرولوجي «جيمس هنري برستد
J. H. Breasted » حول تأثير الحضارة المصرية وثقافتها القديمة في التراث التوراتي، ودراسات عالم الآثاريات السومرية، «صموئيل نوح كريمر
S. N. Kramar » أحد أعلام أركيولوجيا الرافدين ، حول تأثير السومريين المباشر، وغير المباشر - عن طريق بابل وآشور - في التوراة.
ويقول «برستد»: «إن الكنعانيين، الذين كانوا يسكنون هذه البلاد قبل العبرانيين، كانوا قد اجتازوا مرحلة النمو المتحضر التي تبلغ أكثر من ألف سنة، حينما غزا العبرانيون البلاد، وقد عرفنا من النقوش التاريخية، البابلية والمصرية القديمة، وكذلك من الحفائر الآثارية، شيئا كثيرا عن المدن الفلسطينية الراقية النامية، السابقة لعهد العبرانيين. كما كان للثقافة البابلية أثر مهم خالد في فلسطين الكنعانية، وعن طريق الكنعانيين، بوجه خاص، وصل أثر البابليين في الفن والأدب والدين إلى العبرانيين، يضاف إلى ذلك أن الإقليم كان، منذ زمن بعيد، واقعا تحت نفوذ الحضارة المصرية القديمة، فقد بدأ المصريون يبسطون سيطرتهم على الساحل الفينيقي قبل أن يطأ العبرانيون فلسطين بأكثر من ألفي سنة، إذ اقتحمت الجيوش المصرية فلسطين قبل سنة 2500ق.م. ولما فتح المصريون آسيا الغربية، ووصلوا في فتحهم إلى نهر الفرات في خلال القرن السادس عشر ق.م. بقيت فلسطين مستعمرة في أيديهم أكثر من أربعة قرون، والواقع أنهم حكموا فلسطين مدة قرنين بعد دخول العبرانيين فيها، وبذلك بلغت المدنية الكنعانية مرتبة سامية في القرون التي احتلتها فيها مصر، فلما غزاها العبرانيون، كانت قد اصطبغت مرارا وتكرارا بالعناصر المصرية.»
10
وغاية ما يريده «برستد» هنا، بوضوح، هو القول: إن العناصر الثقافية الكنعانية، حتى التي أثرت في اليهود الغزاة، تعود بدورها إلى أصول مصرية ورافدية؛ لذلك يستطرد: «وكان من نتائج ذلك، أن العبرانيين حينما غزوا فلسطين، صاروا على اتصال مباشر بتلك الحضارة الكنعانية المركبة، التي أنشئ معظمها من العناصر البابلية والمصرية معا، أما من الناحية الثقافية، فإنها كما أوضحنا كانت داخلة ضمن الإقليم التجاري الذي طالما كانت المعاملات البابلية تسيطر عليه، كما كانت في الوقت نفسه تقع مباشرة في ظل صرح المدنية المصرية العظيمة.»
11
ومن ثم قام «برستد» بعقد مقارنات عديدة ومهمة، بين ما عثر عليه من نصوص مصرية، وبين النصوص التوراتية، كان من أهم نتائجها : أن حكمة الملك المصري الإهناسي المعروفة ب «نصائح إلى مري كارع
Mare Ka Ra » قد وجدت طريقها إلى سفر «صموئيل» وسفر الأمثال،
12
كما أثر تصور المصريين لمفهوم العدالة تأثيرا لا يقبل شكا في سفر «ملاخي» وهو يقول: «إليكم يا من تخافون اسمي، تشرق شمس العدالة بالشفاء في أجنحتها» (ملاخي ص4). ويعقب بأن العدالة في المفهوم المصري مثلتها الإلهة «ماعت» بنت «رع» الشمس، وأن شمس العدالة وصفتها التوراة بأن لها أجنحة، ولم يوجد في أي تصور عبري صورة لإلههم يهوه تمثله بأجنحة، ولم يوجد ذلك إلا في النقوش المصرية وحدها.
13
ثم يؤكد أن اليهود - لا شك - كانوا على علم بأنشودة إخناتون العظيمة لإله الشمس، بعد أن قارنها بسفر المزامير، وكذلك كانوا على علم بحكم الحكيم المصري «آمن موبي
Amen Mu Be »، بعد أن عقد بينها وبين أسفار «أرميا والمزامير والأمثال» مقابلة نصية كادت تكون حرفية، استغرقت حوالي خمسا وثلاثين صفحة من القطع الكبير، هذا ناهيك عن العدد الكثيف والجم الغفير مما قدمه «برستد»، اكتفينا منه بهذه اللمحات، مع الإحالة إلى المصدر لمن ابتغى المزيد.
أما عالم السومريات «كريمر» فقد قدم جهدا مشابها في مقارنات مدهشة حقا ما بين التراث السومري وبين التوراة، حتى كاد يجزم أن كل آراء السومريين في الكون والدين قد انتقلت بتفاصيلها إلى التوراة، وذلك عبر البابليين الذين سبق أن ورثوا التراث السومري وشذبوه وقدموه إلى الدنيا، ويمكن الرجوع في ذلك تفصيلا إلى أهم كتبه المترجمة، وهي: «السومريون تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم»،
14 «الأساطير السومرية»،
15 «من ألواح سومر».
16
أما نحن، فما نقصده حقيقة، ونصر عليه، هو أن هذه المآثر التي جمعها علماء أجلاء وقارنوها «وعدوها قد دخلت التوراة بالصدفة، أو بالتأثر الطبيعي لجماعة بلا حضارة بالحضارات الكبرى في مصر والرافدين» لم تدخل التوراة بالصدفة وحدها، ولا بالتأثير المنطقي الذي يصب الأعلى في الأسفل، إنما ما نراه، ونحاول إيضاحه في هذه الدراسة، وهو وجود العمد والقصد من أهل التوراة، ليس لمجرد الفائدة العلمية والحضارية، بل لتحقيق أغراض ومقاصد عظمى، ستتضح في حينه. (4) تأسيس 3
إذن، فقد تسلل بنو عابر إلى الممالك الكنعانية تدريجيا وعلى دفعات، ويتضح ذلك في قصة التوراة عن هبوط النبي «إبراهيم» ضيفا على مملكة شاليم، التي كانت قائمة قبل زمنه بزمان، وكان يحكمها كاهن ملك هو «ملكي صادق»، أو «الملك صادق»؛ مما يشير إلى أن ممالك الكنعان كانت تعيش مرحلة المشترك المعبدي حتى هذا الوقت.
وقد ظل هؤلاء الأغراب من العبريين يعيشون زمنا طويلا على هامش الحياة الكنعانية المستقرة، وتكلموا لغة أهل البلاد «الكنعانية»، وعبدوا الآلهة الكنعانية، لكن الفرصة الحقيقية للسيطرة الكاملة على الأرض، أو التحول على الأقل إلى مواطنين من الدرجة الأولى، لم تتح لهم طوال هذه الحقبة، وظلوا مجرد عصابات مأجورة لملوك كنعان، حتى جد جديد تمثل في جدب حل بأرض كنعان، دفع بالعصابات العبرية إلى هبوط أرض مصر يستجدون القوت، في عهد النبي «يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»، برفقة أبنائه المعروفين بالأسباط، وعلى رأسهم النبي «يوسف»، إذ نالوا هناك - فيما تزعم التوراة - حظوظا عظيمة، انتهت بهم وزراء لخزانة المصريين، برغم أنه لم يوجد نص مصري واحد فيما اكتشف حتى الآن يشير إلى هذا المعنى. وقد وصلوا إلى هذه الرتبة بعد صداقة عقدها «يوسف» النبي مع الفرعون المصري، عندما أبهرت الفرعون قدرة يوسف على تفسير الأحلام والتبصير وقراءة الطالع، إلا أنه ما إن انقضى زمن الفرعون الحلوم، حتى ضاق بهم حلم الفرعون الجديد، وقلب حظوظهم رأسا على عقب، فأمر باستخدامهم كعمالة رخيصة في الأعمال الشاقة، ودخل بنو عابر عهد مذلة مريرة تستشعر مرارتها في كل سفر من أسفار التوراة، مصحوبة باللعنات المرتجاة استنزالا على المصريين من رب العالمين. ومرة أخرى تحين الفرصة لبني عابر فتطرأ في مصر الفتن الداخلية، التي تشغلها وتصرفها عن القبيلة الهامشية، وعن شئون إمبراطوريتها في الخارج؛ مما يخفف من هيمنتها بعض الشيء على مستعمراتها الآسيوية، في وقت انشغل فيه أهل الرافدين في صراعات انقسمت فيها البلاد على نفسها؛ مما يعطي الضوء الأخضر لبني عابر للهروب من مصر إلى كنعان مرة أخرى. وفي رحلة الخروج، أو الهروب، وفي ضوء انشغال اليد العليا عنهم بشواغلها الخاصة في الداخل، يسجل اليهود في توراتهم أبشع صور الوحشية، فيأتون على كل ما يقابلهم في الطريق ذبحا وتحريقا. ولم يسلم من أذاهم لا الإنسان ولا الحيوان، ولا حتى نبات الأرض، بعد أن قررته لهم الشريعة الربانية وأباحته بإباحية مطلقة، وأسفر الرب العبراني آنذاك عن هويته بوضوح، فأعلن أنه من الآن «الرب رجل حرب» (خروج، 15: 3)، وأن رائحة دخان المحروقات أحب المشهيات إلى نفسه الملتاثة «وقود، رائحة سرور للرب»، متكررات في سفر اللاويين، إصحاح 1، 9، 13، 17 ... إلخ. ولم يكتف بذلك، بل قرر أن يمارس لذة الذبح والإحراق بنفسه، فترك عرشه السماوي وهبط يتخبط كرها وفظاظة ليمارس رغباته «وأجعل مسكني في وسطكم، وأكون لكم إلها وأنتم تكونون لي شعبا» (لاويين، 16: 11)، وأخذ ينفث أوامره المتكررة: «أحرقوا جميع مدنهم، بمساكنهم، وجميع حصونهم بالنار» (عدد، 31: 10) «اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة» (عدد، 31: 17) «احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (تثنية، 12: 31)
فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها، مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة، وكل أمتعتها، كاملة للرب إلهك. (تثنية، 13: 15، 16)
أما شريعة الحرب، وفق الخطة المثلى، التي كتبها رب اليهود بإصبعه على الألواح، والتي نفذها «يشوع» خليفة «موسى» على القيادة، بدقة وإخلاص تحسده عليهما الضواري من كواسر الوحش، فهي مرصودة في أوامر الرب وتوجيهاته.
حيث تقترب من مدينة لكي تحاربها، فاستدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك! «وما أشبه الليلة بالبارحة»، وإن لم تسالمك وعملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك، التي أعطاها الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست من هؤلاء الأمم هنا.
أما مدن كنعان الفلسطينية، فلها في موعظة الرب الحسنة شرعة أخرى، فهو يأمر قائلا: «وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منها نسمة ما» (تثنية، 20: 10-16).
وهكذا وجد بنو عابر فرصتهم للتعبير عن طبائعهم وسليقتهم المفطورة بصدق نادر المثال، مدهش. وقد أكد صدق هذه المفاخر التوراتية ذلك الحجر الذي اكتشف أخيرا في «نوميديا» ضمن آثار «قرطاجة» القديمة، شمال أفريقيا، وعليه كتابة تقول: «إننا خرجنا من ديارنا لننجو بأنفسنا من قاطع الطريق يشوع بن نون، بعد أن قتل منا في عشية واحدة عشرة آلاف إنسان.»
17
وكان من طبائع الأمور أن تستقر أمور مصر الداخلية، وتخرج تلملم شتات مستعمراتها الخارجية، وأن تهدأ آشور وتتماسك بابل؛ ليبدأ هؤلاء وأولئك يبسطون حمايتهم على المنطقة، وإن اتفقت الأغراض السياسية لكليهما على أن تظل دولة «سليمان بن داود» على حالها، كحائل بين الدول العظمى، لكن مع تناوب السيادة عليها حسب الفرص المتاحة، ولا يجد بنو عابر من يحرقونه ليكون رائحة سرور للرب، فيحرقون بعضهم بعضا، وتنقسم مملكة سليمان مملكتين:
السامرة في الشمال، ويهوذا في الجنوب، ويكتشف المصريون أن طبع بني عابر اللئيم غلاب، فيجرد الفرعون «شيشنق» عليهم حملة تجردهم مما يستر عوراتهم؛ ليأتي الآشوريون، ومن بعدهم البابليون، ليستاقوهم أسرى وسبايا على شاطئ الفرات، ليعيشوا هناك في الأسر زمانا.
وتتغير الأحوال، وتجد تغيرات عالمية جديدة مع بروز القوة الفارسية الطالعة، فيتحالف المأسورون في بابل مع «قورش» عظيم الفرس، ويسربون له أخبار بابل أولا بأول، حتى يفتحوا له أبوابها، فيرد صنيعهم بأحسن منه، ويعيدهم على دفعات إلى فلسطين، ويسمح لهم بإعادة بناء الهيكل السليماني، ويقيمون دولة خاضعة للفرس، لكن الأحداث تتلاحق على المنطقة، مع قوة الإغريق الصاعدة، فيصطدم «الإسكندر المقدوني» بالفرس، ويحتل فلسطين لتصبح مستعمرة يونانية، ثم تقع بعد موته في قرعة قواده الرومان؛ لتتحول إلى مستعمرة رومانية، ويثور اليهود ثورات متكررة ضد الرومان، فيأتي القائد «طيطس» ليكسب في التاريخ شرف إنهاء الوجود اليهودي هناك، ويدمر الهيكل، ويشتت أصحابه؛ ليبدأ عصر الشتات لليهودي التائه. لكن ليكون ذلك بداية بعث جديد، واحتلال عالمي للعقول وتهويدها، ومع ظهور المسيحية وانتشارها، إضافة إلى فرصة أخرى حانت في مكان بعيد في عمق البوادي ، مع ظهور الدعوة الإسلامية، وهو ما سنلمسه لمسا رفيقا إبان استمرارنا في بحثنا هذا. (5) أسطورة الخلق والتكوين ... وشقها كما تشق الصدفة إلى قسمين
وثبت نصفا جعله سقفا سماء ...
والأسفل ثبته في الأرض، خلق منه الأرض
من ملحمة الخلق البابلية «إينوما إيليش»
تقول قصة الخلق التوراتية إن الرب العبراني، بعد أن قضى على فوضى الماء أو الغمر البدائي الذي كان أول موجودات الوجود، وكان محيطا أزليا مظلما، مثلته التوراة في وحش خرافي عظيم أسمته «لوياثان» هو التنين ذو الرءوس المتعددة، قام الرب بشقه نصفين، صنع منهما السماء والأرض، وقد استغرقت هذه العملية التصنيعية ستة من الأيام، استراح بعدها الإله من عناء عمله على عرشه، في اليوم السابع، وإليك النصوص:
أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه. أنت رضضت رءوس لوياثان. (مزمور، 74)
استيقظي، البسي قوة يا ذراع الرب ... ألست أنت القاطعة رهب، الطاعنة التنين؟ ألست أنت هي المنشفة البحر، مياه الغمر العظيم. (إشعياء، 51: 9، 10)
في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان، الحية الهاربة. لوياثان الحية المتحوية، ويقتل التنين الذي في البحر. (إشعياء، 27: 1)
كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه ... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والتي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله الجلد سماء. (تكوين، 1: 2-8)
ثم بعد ذلك، تخير الرب التوراتي مكانا على يابسة الأرض، أسمته التوراة «جنة عدن»، وقد اتسم الإله بصفة الخلد لأنه كان يتعاطى في هذه الجنة من شجرة الحياة التي تمنح الحياة الأبدية، كما اتسم بالمعرفة؛ لأنه كان يغتذي من شجرة أخرى هناك، هي شجرة المعرفة. ويوما ما قرر الرب خلق الإنسان المدعو «آدم»، ثم خلق له من ضلعه أنيسا هو «حواء» زوجته، ووضعها معه في الجنة، لكنه حرم عليهما ثمرة شجرة المعرفة، ففضل أن يكون رب جاهلين لا رب عارفين، وتشرح التوراة القول: ثم كان ضباب يطلع من الأرض، ويسقي كل وجه الأرض، وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسا حية، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وحيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر ... وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها؛ لأنك يوم تأكل منها موتا تموت، وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينا نظيره ... فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، وأحضرها إلى آدم. فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت ... وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر ... ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي (تكوين، إصحاح 2، 3). وهكذا، وبرغم محاولة الرب إيهام الزوجين أن ثمرة المعرفة ثمرة سامة وقاتلة، فقد فضل الزوجان العلم بالشيء على الجهل به، فغضب عليهما الرب لفضولهما المعرفي، وخشي أن يدفعهما الفضول إلى ما هو أكثر ترويعا، وربما يأكلان من ثمرة الخلد فيكسبان الألوهية؛ مما قد يؤدي إلى منافسة غير مضمونة النتائج، ومن هنا:
قال الرب: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا أكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة (تكوين، 3: 22-24).
وقد كان المظنون، حتى عهد قريب، أن الكاتب التوراتي هو الناظم الأول لأسطورة الخلق بهذا الشكل، الذي اكتسب ثباتا عجيبا، وانتقل إلى ديانات أخرى مع بعض التهذيب هنا والتشذيب هناك، حتى بدأت الكشوف الأركيولوجية المعاصرة في آثاريات المنطقة تأتي بثمارها، وتم فك رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية، والمسمارية الرافدية، والأوجاريتية الكنعانية؛ مما أثبت أن هذه الملحمة ليست إلا تهجينا مستهجنا لمجموعة من الملاحم القديمة، التي عرفها بنو عابر مبكرين، وأعادوا صياغتها في توراتهم، بينما اندثرت تلك الحضارات القديمة، ونسي تراثها، حتى أعاد الزمان سيرته، وبدأ نفض غبار الأيام الغبراء عنها.
وبرغم عدم تناسق الدراما التوراتية في التكوين، وتنافرها بعضها مع بعض، ومع أبسط البداهات العقلية، كنتيجة لسلب التراث دون إدراك لمرامي تركيباته الأصلية، ولنزعه عن سياقه البيئي اجتماعيا وجغرافيا وزمانيا، فإن العودة إلى الأصول الأولى لمنابته، تضع بين أيدينا الأسس الحقيقية، والظروف التي بنى عليها الأقدمون تصوراتهم الكونية، كناتج طبيعي لمشاهدات الإنسان وتراكم خبرات تفاعله البيئي، ومحاولته تفسير ما يجري من جدل بين عناصر الطبيعة، ودوره ككائن متميز في هذا الجدل. ولنعد معا إلى البداية نستطلع أحوال هذا الإنسان في ضوء ما سنطرحه من تصورات.
في مناطق الخصب، التي بدأ الأقدمون يستقرون فيها، بدأ صراع إنساني رفيع القدرات بين الإنسان والطبيعة، من أجل أن يثبت أقدامه في مقرها، رافضا التراجع إلى طور البداية والبداوة، تطلعا إلى حياة أقدر على تحدي مزاج الطبيعة المتقلب، وتحديها المستمر لهذا الكائن الذي نشأ من رحمها، ويحاول السيطرة عليها وكبح جماحها لصالح وجوده واستمراره.
وفي مناطق الخصب تنتاب الطبيعة تقلباتها المزاجية، ما بين جدب يزهق الأرواح جوعا، ويقضي بجفافه على الزرع، والضرع، وبين إفراط في السخاء فتدمر الفيضانات جهود سنين مضنية وشاقة من عمل الإنسان الدءوب، أما الآفة الكبرى، والوحش الجبار، فكان ماء البحر الذي يداوم محاولاته في عدم ترك اليابس، واستمرار طغيانه على دلتا الأنهار؛ مما أدخل الإنسان المزارع في ملحمة رائعة البطولة مع هذا الوحش، ذي الأمواج المتطاولة بألسنتها من الماء المالح، تلفح زرعه وتربته كل حين، وكان على كل منهما: الإنسان، والبحر، أن يثبت قدرته أكثر من الآخر على التمسك بالطمي الذي كانت تلقيه الأنهار في دلتاها، وكثيرا ما أطل البحر بأعاصيره رءوسا وألسنة تنهش من الفلاح زرعه، وتشيع في مستقراته الويل والدمار، ولعل أروع هذه الملاحم بطولة ما سجله المصريون وهم يضمون إلى اليابس مزيدا، يوما وراء يوم، ويدفعون البحر إلى الوراء خلف حدوده، حتى تمكنت الدلتا من قوامها العظيم، وهو الأمر نفسه الذي جد السومريون لتحقيقه في العراق القديم.
ومن هنا كان البحر دائما رمزا للفوضى والدمار والظلام. وإنه كي يقيم الفلاح يابسا لزراعته وقراه، فلا بد أن يفرضه على شاطئ البحر فرضا أو ينتزعه من البحر بجبروته، ومن هنا نفهم لماذا تصور الإنسان بداية الكون بحرا أزليا فوضويا معربدا، ولماذا تصوره وحشا متعدد الرءوس لا تقوم الحياة المستقرة واليابسة، بوجه خاص، دون التغلب عليه وقهره؛ ولذلك تصور العقل، وهو في بدئه يحاول الفهم والتفسير، أن البحر هو الأساس في الكوزموسية، ورمز للشر والظلام، بينما أصبح اليابس بطميه، الذي تأتي به الأنهار، رمزا للخير والضياء، أما الشمس التي كانت تساعد على مزيد من التجفيف وزيادة المساحات المنزرعة، فقد أصبحت أعظم الآلهة طرا في جميع البلدان الزراعية، والوديان النهرية، بلا استثناء.
ومن هنا فقد تصور المصريون الأقدمون، وهم بسبيل الفهم، إنشاء علاقات جدلية مع الطبيعة، أن الكون بدأ غمرا ويما هائلا مظلما، أطلقوا عليه اسم «نون»، وأن من «نون» خرج إله الشمس «رع» بقدرته وحده؛ لينشر الضياء والحرارة على الأرض، من أجل ظهور اليابس، وتكون التربة الصالحة للزراعة، وعليه فإن «رع» قبل الخلق كان في الأزلية والبدء على سطح «نون»، أو ما جاء في الرواية التوراتية يقول: «وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه».
وإن التعبير «يرف» يستدعي معنى الطيران على وجه المياه، والإله الذي عرفه الشرق القديم، في المصورات طائرا، هو «رع» المصري، الذي كان يتمثل في شكل قرص الشمس مجتمعا، وهو الذي خرج من الغمر الأول «نون»، وهو الذي أنجب إله الهواء «شو» الذي فتق الأرض قسمين عظيمين، بعد أن كانتا رتقا، ورفع القسم الأعلى سماء أصبحت هي الإلهة «نوت».
18
ثم تزوجت السماء والأرض، أو تفاعلت ظواهرهما فأنجبا أول البشر على الأرض؛ لإتمام المهمة بزيادة المساحة المنزرعة زرعا وتفليحا وتسجيلا للوعي بدور ومهمة كل من الطبيعة والإنسان في تحقيق الغرض الأسمى. وفي قصة أخرى روى المصريون أن وحشا أول رمزوا له بالاسم «حاتحور»، أو «هاتور»، أو بالقلب اللغوي «هاروت»، وكانت إلهة أنثى، قد انطلقت تدمر بلا تمييز. وتدخل «رع» الشمس لإنقاذ البشر، وتغلب عليها بعد ملحمة بطولية كبرى، ولا ريب أن الشمس هنا كانت تقوم بدورها المعروف ضد ماء البحر الطاغي على اليابس، وهو ما رددته التوراة بوضوح، لكن بعد أن نسبت دور البطولة للرب العبري الذي قضى على البحر البدائي، ونشف البحر «ألست أنت المنشفة البحر، مياه الغمر الأولى» (إشعياء، 51: 10).
وكما أشرنا، فقد تكررت الملحمة البطولية بين الإنسان والبحر، في دلتا دجلة والفرات على رأس الخليج العربي، وسجلها السومريون، ومن بعدهم البابليون؛ ليؤكدوا أنهم عرفوا ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، وأدركوا دور الإنسان فيها، فهذا الإله «نمو
Namu » ويعبر عنه بالمقطع الصوري الذي يصور البحر، يوصف بأنه المحيط الأول الذي أنجب السماء والأرض.
19
ثم تنجب السماء والأرض إله الهواء «إنليل»، الذي تكفل بمهام مهمة، أولها خلق الفأس أداة العمل الزراعي،
20
حتى إن خلق الفأس، تلك الأداة البسيطة، قد أعطي أهمية كبرى تليق بمقامه آنذاك، فأفردت له ملحمة كاملة مقدسة، تتحدث في الوقت نفسه قائلة:
الرب الذي يملك حقا، هو الذي أظهر للعيان
الرب الذي لا يتبدل في أحكامه إنليل
الرب الذي يجلب البذور إلى الأرض ليزرعها
تولى برعايته فصل السماء عن الأرض
تولى برعايته فصل الأرض عن السماء.
21
وفي ملحمة أخرى لم يعرف عنوانها الأصلي، واصطلح على تسميتها
kAR4 Methos
وردت أبيات تقول:
عندما فصلت السماء عن الأرض
بعدما كانتا متصلتين ... وبعدما نظمت الآلهة الجداول والقنوات
وثبتت شواطئ دجلة والفرات
جلست الآلهة «تستريح».
22
وفي جنة الآلهة السومرية المعروفة باسم «دلمون
Dilmon »، جاء الابن الإلهي «آنكي»، ويعني اسمه «إله الأرض»، وبالتحديد «اليابس المنزرع»، ممثلا لبداية البشرية على الأرض، لكنه أصيب بمرض في ضلعه، بعد أن أكل من ثمار حرمتها عليه الإلهة «ننهور ساج
Nin Hursag » فخلقت الآلهة إلهة أنثى تحمل اسم «نن تي
Nin Ti » لعلاج وتمريض آني. والضلع بالسومرية ينطق «تي
Ti »؛ لذلك سميت الإلهة الممرضة «نن تي»، و«نن» تعني سيدة، فهي إذن «سيدة الضلع».
ويعقب الآثاري «كريمر» على ذلك بما يوعز لنا بحل أحجية خلق حواء من ضلع آدم التي وردت في التوراة، حتى يكاد يقنعنا أن التوراة قد أخذت الأصل السومري بشكل شائه، بعد مرور زمان نسي معه هذا الأصل العتيد، ولم يبق سوى سيدة الضلع أو السيدة الضلع، فخال كتاب التوراة أن الأنثى الأولى مخلوقة من ضلع الإنسان الأول، وسقط كاتب هذا الجزء من التوراة في الشرك السومري، ففسر حواء التي تدل على الأنثى الأولى في اللغات السامية جميعا، بأنها مأخوذة من «تلك السيدة التي تحيي، أو تسبب الحياة، أو أم كل حي»، وهو ما تعنيه أيضا الكلمة السومرية «تي» لأنها تدل على الضلع عندما تكون اسما، لكنها عندما تكون فعلا فهي تعني «أحيا»، أو جعله يحيا!
23
أما الختم الذي عثر عليه مؤخرا في آثار سومر، ففيه فصل الخطاب؛ لأنه يمثل ذكرا وأنثى يجلسان متقابلين بينهما نخلة، وخلف الأنثى تدلت حية، رأسها بجوار رأس الأنثى، بينما تمد هذه الأنثى يدها في شكل دعوة للذكر الجالس قبالتها، ليتناول من ثمار النخلة، ولنتذكر الارتباط اللغوي بين الحية والحياة، وبين الحية وحيا الأنثى، أو فرجها كمفرز للمواليد والحياة، وبين التسمية حواء «التي تحيي»، أما ما لا يغيب عن فطن فهو الحية المصرية المقدسة على تيجان الفراعنة، تمنحهم الحياة وطول العمر.
ثم تكتشف أروع الملاحم البابلية، لتقطع ما بقي من شك بيقينها، تلك التي أصبحت من أشهر المآثر في الدوائر العلمية إلى اليوم، والمعروفة باسم «إينوما إيليش
Enuma Elish »، أو «في العلا عندما»، وتحدثنا عن بحر أول فوضوي ، ترمز له إلهة أنثى شريرة مرعبة تدع «تيامات
Tiamat »، يتطوع إله الدولة البابلية (مردوخ
Marduk ) لمنازلتها وتخليص البشر من نوباتها الهستيرية، فيقضي عليها، ثم يشطر جسدها المائي شطرين، يصنع منهما السماء والأرض.
24
أو كما في النص:
شقها كما تشق الصدفة قسمين
وثبت نصفا جعله سقف سماء
25
شطر جسدها شطرين:
أعلاهما ثبته في السماء
خلق منه السماء
والأسفل ثبته في الأرض
خلق منه الأرض.
26 «ولنلاحظ أن الأقدمين قد وضعوا بذلك تفسيرا مريحا لظاهرة سقوط الماء من الأعالي، في هيئة مطر، بحسبان أن السماء أحد قسمي البحر الأول.»
ثم توضح «الإينوما إيليش» أن الإله «مردوخ» كان هو صاحب فلسفة الخلق بالكلمة، وللمصداقية كان الإله فتاح المصري، صاحب فلسفة مدينة منف هو الأسبق.
27
وقد قررت الملحمة البابلية ذلك منسوبا إلى رب المملكة البابلية، بعد أن تطور الشكل المجتمعي في الرافدين من مشتركات مدينية إلى مملكة مركزية يحكمها حاكم ملك فرد لا ترد كلمته، وحتى تكون كلمة الملك نافذة لا تقبل الإرجاء، فقد صيغت الملحمة لتعبر عن هذا المعنى الرئاسي الجديد في عالم السماء، كما هو في عالم الأرض، بحسبان الملك ممثلا جسديا لمردوخ على عرش بابل.
وفي أنقاض مدينة «أوجاريت» الكنعانية القديمة، «تل شمرا حاليا»، تم العثور على ثروة لا تقدر بثمن من المدونات الكنعانية، التي ألقت ضوءا مباشرا على أصل ميثولوجيا الخلق التوراتية، وكان أهم ما ورد فيها تطابق الأحداث، حتى اسم أبي البشر «آدم» بلفظه ورسمه، وهو كما ورد «أب آدم ويقرب»، أي «ويقترب أبو البشر»،
28
ومن النصوص التي وجدت قضاء الإله على اليم أو الغمر، أو البحر الأول ممثلا في تنين هو بالاسم نفسه: «لوياثان»؛ مما يثير الدهشة لشدة التطابق. انظر النص الكنعاني يقول:
في ذلك اليوم
يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم، الشديد لوياثان
ويضع نهاية للحية الملتوية الهاربة
شالياط ذات الرءوس السبعة.
29
ونص آخر يقول:
ألست أنت التي محقت يم؟
ألست أنت التي أفنت التنين؟
وسحقت الحية
ذات الرءوس السبعة؟!
30
أما العجيب في أمر هذه القصة كلها، التي تعود إلى مفاهيم شعوب زراعية، تعبر عن مشكلات المزارع وهمومه، ووضعت لتفسير ظواهر ترتبط تماما بعلاقة البحر بالطمي بالنهر بالخصب بالفلاح نفسه، العجيب أن تنتقل بقضها وقضيضها إلى التوراة. وهو كتاب شعب رعوي بدوي لا علاقة له بكل هذا. ويحل فيها الرب العبراني محل كل آلهة المنطقة الزراعية، ليقوم بكافة الأدوار، في مختلف ملاحم قصص البطولة بين المزارع والبحر، دونما مبرر منطقي واحد، سوى استيلاء الرب التوراتي على تراث المنطقة، الذي أصبح تراثا مقدسا، ينحشر داخل كتاب مقدس. ولا شك أن الكتاب التوراتي كان يعلم أن الجميع سيقبلها، في مصر أو كنعان أو الرافدين؛ لأنها إنما تردد تراثهم هم، ومفاهيمهم هم، وذكرياتهم هم، أيام كانت الأنهار تحفر في الرمل طريقا لها، ولا يوجد من أرض تصلح للزراعة إلا في الدلتا حيث يفرش النهر طميه، فيهاجمه البحر، لكن التوراة ألبسته ثوبا جديدا، وبطولة جديدة، وشعبا يختص بشئون الإله البطل الجديد، هو الشعب العبري.
إلى هنا والخطورة محدودة فيما حدث، لكن الإضافات التي لحقت هذا التراث، وعشقها الكاتب التوراتي في قصة الخلق القديمة، تشير إلى المنحى الخطير، والسم المدسوس في العسل، الذي التهمه الجميع شاكرين حامدين. أما الغل اليهودي والحقد البدوي على الزراع فينضح واضحا ويفصح عن نفسه فيما أردف بالروايات الأصلية، ممثلا في صراع بين الراعي والزارع، يجسد الأهداف المطلوبة داخل عقل المنطقة وروحها وقلبها المطمئن بالإيمان، فتروي التوراة ما لم يقله الأصل البابلي والكنعاني، أو تعكس الوضع الذي كان في أصل الرواية المصرية، حول أول بشر على الأرض، فبينما نجد أول البشر في مصر «أوزيريس» رمزا للأرض المنزرعة، إلها للخير، وأخاه «ست» رمز البوادي والبداوة إلها للشر، تقول رواية التوراة:
إن أبا البشر «آدم»، قد أنجب أخوين هما «هابيل» و«قايين»، «وكان هابيل راعيا للغنم، وكان قايين عاملا في الأرض، وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمائها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قايين جدا، وسقط وجهه ... وحدث، إذ كانا في الحقل، أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله» (التكوين، 4: 2-8).
وهكذا وضح أن الرب قد ميز الراعي على المزارع، أو «العبراني» على «المصري، والكنعاني، والرافدي» منذ بداية الخليقة، دونما سبب واضح سوى أن الفلاح اجتهد، وعرق، وزرع، وحصد، وقدم ثومه، وبصله، وكراثه، قربانا مرويا بعرق جهده البطولي فآذى أنف الرب، الذي كان دوما يتوق إلى رائحة اللحم المحروق، ويلح دائما في طلبه، وهو ما قدمه له الراعي لتهدأ نفسه وتستريح. والسبب الأوضح أن قايين فلاح من أهل الخصب والزرع؛ ومن ثم كان لا بد من إبراز الشر الكامن فيه، مقابل طيبة الراعي السمح الذكي، الذي لم يبذل جهدا، إنما اكتفى بالاسترخاء إلى جوار قطعانه وهي تتلاقح، ثم أخذ من منتوجها لربه قربانا، فيقتل المزارع أخاه الراعي الطيب غيرة وحسدا، ولا يبقى للمزارع ميزة لكل جهوده وحضارته ومنشآته وتراثه وبطولاته، إزاء التفضيل الرباني لهابيل العبراني، وما عليه إلا أن يترك الأرض وتاريخه فيها للراعي الطيب، وما شاء الله قدر. (6) أسطورة الطوفان
إن طوفانا سيهلك مراكز العبادة وتهلك
ذرية البشر ...
إن هذا هو القرار الذي أصدره الإله
في مجمعهم؛
قم فابن فلكا.
هذا ما همس به الإله لعبده الصالح زيو سودرا.
من ملحمة جلجاميش
31
ونتابع الملحمة، فتقول:
أرعد الإله حداد في الغيوم،
وبعد أن زلج زيو سودرا الباب
كان الإله حداد يرعد في الغيوم،
وأصبحت الريح عاتية، فأرخى الحبال
وانطلقت السفينة مع التيار،
وجاءت كل الرياح، والعواصف المدمرة،
واكتسحت الزوابع العواصم،
وبعد أن اكتسحت الزوابع البلاد
في سبعة أيام وسبع ليال،
وتأرجحت السفينة مع الرياح المدمرة
في المياه العالية،
بزغت الشمس تنير الأرض.
32
أما التوراة فتقول: ... فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي؛ لأن الأرض امتلأت ظلما منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض ... اصنع لنفسك فلكا من خشب ... فها أنا آتي بطوفان الماء على الأرض ... كل ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي، من كل ذي جسد اثنان ... تكون ذكرا وأنثى ... وكان الطوفان.
وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فتغطت جميع الجبال الشامخة ... فمات كل ذي جسد ... وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوما، ثم ذكر الله نوحا ... وأجاز الله ريحا على الأرض، فهدأت المياه، وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء ... واستقر الفلك في الشهر السابع ... على جبال أراراط ...
وحدث من بعد أربعين يوما أن نوح فتح طاقة الفلك ... وأرسل الغراب فخرج مترددا ... ثم أرسل الحمامة ... فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها ... فلبث سبعة أيام وعاد فأرسل الحمامة من الفلك، فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا بورقة زيتون خضراء في فمها، فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض، فلبث سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه ... فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات، وبنى نوح مذبحا للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان.
وكلم الله نوحا وبنيه معه قائلا: «هذه علامة ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم وضعت قوسي في السحاب، فتكون علامة ميثاق بيني وبينكم وبين كل نفس حية، فلا تكون المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد ... وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، وكانت كل أيام نوح تسعمائة وخمسين سنة» (التكوين، 6: 9).
هذا ما جاء بالكتاب العبري المقدس حول قصة الطوفان، وربما أصبح واضحا أننا سنكرر القول: «وكان مظنونا أنها إبداع خاص بالمؤلف التوراتي»، والقول لازم عن المقدمات التي أسلفناها، والتي أصبحت معلومة بعد حل رموز اللوح الحادي عشر من ملحمة «جلجامش» البابلية؛ مما دفع الآثاري «كريمر» - بعد ذلك بربع قرن تقريبا - إلى الإعلان بثقة تامة وبلا وجل: «أن قصة الطوفان التي دونها كتاب التوراة العبرانيون لم تكن أصيلة، وإنما هي من المبتكرات السومرية التي اقتبسها البابليون، ووضعوها في صيغة الطوفان البابلي.»
33
وباستقراء الثلث الأسفل من لوح سومري ذي ستة حقول «نشره آرنوبويل عام 1914م»، يخبرنا أنه بعد فترة قصيرة من خلق العالم، اكتشفت الآلهة السومرية أن الإنسان لم يحقق الغاية من خلقه، وأنه أفسد في الأرض وسفك الدماء؛ لذلك قررت إفناء الحياة على الأرض وغسلها بماء الطوفان. هذا بينما يؤكد الباحث العراقي «فاضل عبد الواحد»: «أن الطوفان يعد من المظاهر الطبيعية المألوفة في وادي الرافدين، فمنذ قديم الأزمان حتى تاريخنا المعاصر، ما زالت مياه دجلة والفرات وروافدهما، تغمر مساحات واسعة كل عام تقريبا، خاصة في الجزء الجنوبي من القطر، وأن هذه الظاهرة الطبيعية المروعة، التي لم يستطع الإنسان في وادي الرافدين السيطرة عليها بوسائله المتوفرة آنذاك، كانت في نظر الفرد مثل غيرها من الظواهر الطبيعية الأخرى، سرا من الأسرار الإلهية، وسلاحا من أسلحتها؛ ولهذا فقد احتل الطوفان حيزا مهما في معتقدات سكان وادي الرافدين وتآليفهم، ولنا أن نفترض أن واحدا من تلك الفيضانات العظيمة في بلاد سومر، بقي صداه في ذاكرة الأجيال لشدة هوله، وبسبب ما لحق بالناس والبلاد من دمار، بحيث اتخذ منه المؤرخون القدامى نقطة لتأريخ الحوادث.»
34
ولعل ما يدعم فرضية الباحث العراقي بشدة، التنقيبات الآثارية التي كشفت الطبقات السفلى للمدن السومرية القديمة، التي أظهرت تحتها طبقة من الطمي يتراوح سمكها ما بين نصف المتر والثلاثة أمتار؛
35
مما يشير إلى حدوث الفيضان العظيم بما لا يقبل دحضا للبيان الأركيولوجي.
أما ألواح سومر فتطالعنا: أن الملك الورع التقي «زيوسودرا
ziusudra »، الذي كان يؤدي النذور بانتظام لكهان الآلهة، اختارته الآلهة لتخبره بقرار إفناء الحياة الأرضية بالطوفان، ونصحته ببناء فلك عظيم يجمع له من كل كائنات الأرض، من كل زوجين اثنين، وهو ما يوضح لنا أن السومريين قد تصوروا فيضانهم حدثا كونيا عم الأرض بأسرها، فسجلوه بهذا المعنى، وتمضي القصة في تصوير هول الفيضان وجبروته، إلى أن يهدأ وترسو السفينة، ويطلق «زيوسودرا» حيواناته، فتكافئه الآلهة بالخلود الألفي في «دلمون».
ولا يفوتنا هنا بشأن خلود «زيوسودرا» ما نخرج به من دراسة قائمة الملوك السومريين الأوائل، إذ نلاحظ القوم وقد اعتقدوا أن ملوكهم السالفين قد عاشوا أعمارا طويلة إلى حد خيالي ، وربما كتعظيم لشأنهم وتكريما وتقديسا، فمثلا تدعي القائمة المذكورة: أن «تموز» عاش ثلاثة آلاف عام، حاكما على مدينة
Bad-Tibera ، وأن «آلوليم» حكم ما يزيد عن ستة وعشرين ألف سنة، وأن «آلجار» قد حكم ستا وثلاثين ألف سنة،
36
ويعقب «د. فاضل عبد الواحد» على تلك الأرقام بقوله: إنها: «... خيالية بشكل واضح، وأغلب الظن أن مثل هذه الأرقام الكبيرة، إنما تعكس فكرة شائعة عند أكثر الأمم القديمة، وهي أن الإنسان كان في قديم الزمان، يتمتع بعمر طويل وصفات جسدية خارقة».
37
وعليه، لا يعود غريبا علينا ما ينسب إلى «زيوسودرا» - بطل الملحمة - من عمر خيالي عاشه بين قومه. أما تقواه فقد أطالت عمره إلى الأبد بنعمة الخلود في «دلمون».
وتأتي الدولة البابلية، فتتناول الملحمة وتعيد صياغتها، ويظل المحتوى، ويتغير أبطال المغامرة، فهذه المرة يصبح البطل هو «أوتنابشتيم
Utnabeshtem » الذي ناداه الإله قائلا:
أوتنابشتيم، يا رجل شوربياك،
اهدم الدار، وابن سفينة،
دع أملاكك، وأنقذ حياتك،
ارحل بها وخذ بذرة كل حي.
وينفذ العبد الصالح أوامر ربه، ويروي قائلا: «وأكملت السفينة في اليوم السابع، وحملتها بكل صنوف الأحياء، واستمرت أعاصير الطوفان ستة أيام وست ليال، واكتسحت الأرض كما تكتسحها عاصفة الجنوب. وفي اليوم السابع أطلقت حمامة، فذهبت وعادت، وعز عليها أن تجد مكانا ظاهرا تحط عليه، وأرسلت سنونو وعاد ولم يجد موضعا ظاهرا يحط عليه، فأرسلت غرابا فذهب ورأى الماء يتناقص، فأكل وعب ودار ولم يعد، وحينذاك واجهت الجهات الأربع، وضحيت، وسكبت قربانا فوق قمة الجبل.»
38
وكانت تضحية «أوتنابشتيم» بدوره، ببعض حيوانات السفينة الطاهرة، قام بذبحها وحرقها، ويقول النص: «فتنشق الرب الرائحة الذكية.»
39
وعقب الإله «إنليل» على الطوفان بقوله: «لقد حمل المذنب ذنبه، والآثم إثمه، أمهله كي لا يفنى، ولا تهمله كي لا يفسد»،
40
وهكذا كان غرض الإله تطهير الأرض من القتلة وسفاكي الدماء، فسفك هو دماء البشر والحيوان ومزقهم شر ممزق، دون أن يميز بين صالح وطالح، لكن «إنليل» وبقية الآلهة ندموا على ما ألحقوه بالبشرية من ويل، وعند ذلك قامت الإلهة «عشتار» بتعليق عقدها الثمين الملون في باحة السماء؛ ليصبح قوس قزح رمزا لميثاق مع البشر بعدم تكرار الطوفان، وعقبت بالقول: «كما أنني لا أنسى عقد اللازورد الذي كان يزين عنقي، فإنني لن أنسى تلك الأيام أبدا، سأذكرها دوما.»
41
الرمز واضح، فقد سجل الكاتب التوراتي الملحمة الرافدية بكل منمنماتها وزخارفها الدقيقة، لكن إذا كان أهل الرافدين قد سجلوا تذكرة بحدث يتعلق بظروف طبيعة بلادهم، وبأنساقهم الفكرية. فإن الكاتب التوراتي الذي لم يعش واقع الحدث ولا علاقة له بالأمر، يتناول الملحمة ليحقق منها أغراضا أخرى، فينسب الأمر كله للرب العبراني، ثم ينسب بطولة الملحمة للرجل الذي نسبوا إليه النسل الميمون «نوح»؛ لأن من نوح سيأتي بنو عابر، ثم يضيف الكاتب التوراتي ما لم يكن في الأصل الرافدي، بما يصادق على رؤيتنا بشكل وضاء، تلك الرؤية التي تزعم أن بني عابر قد استلبوا التراث، وحشوه بما يلزم، ثم أعادوا تصديره إلينا مرة أخرى، ملحقا بما يحقق الأغراض المرصودة.
وربما كان من المستحسن، قبل أن نتناول ذلك الحشو وكشف المرصود، أن نركن قليلا إلى كتب التراث الإسلامية، نقرأ بعض ما تعلق بالأمر فيها، وقبلها نعرج على ما جاء في أخبار العرب الجاهلية، إذ يؤكد لنا الباحث «محمود الحوت» أن أهم أساطير العرب مستمدة من مقدسات اليهود الذين دخلوا بلاد العرب واستقروا فيها وأصبحوا جزءا من شعوبها وقبائلها؛ لذلك اعتقد العرب في جاهليتهم أن نوحا هو أحد مشاهير الأنبياء الخمسة أولي العزم، وأخذوا أيضا بروايات اليهود حول كونه النسل التاسع فقط لآدم،
42
وهو أمر لم يستدع من العقل العربي أي تساؤل حول إمكانية ضلال الإنسان في مثل هذا الزمن القصير، أو حول استحقاق هذا النسل المتواضع لمثل هذا العقاب الهائل، كلا لم يتساءل العربي وهو في جاهليته مثل هذه التساؤلات، ويزخر الشعر الجاهلي بأخبار السفينة النوحية، فهذا «الأفوه الأودي» - نموذجا - يأبى إلا أن يسجل أسماء أبناء نوح قائلا:
ولما يعصمها سام وحام
ويافث حيثما حلت ولام
أما طول العمر النوحي فيصبح مضرب المثل، ومكافأة الله له غاية المنى، ويؤخذ ذلك من مديح «الأعشى» لإياس:
جزى الله إياسا خير نعمة كما
جزى المرء نوحا بعدما شابا
في فلكه إذ تبداها ليصنعها
وظل يجمع ألواحا وأبوابا
أو مثل ضرب الراجز:
فعلت لو عمرت سن الحل
أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل
صرت رهينة هرم أو قتل
ويذهب «د. جواد علي» في موسوعته «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» إلى أن الشاعر «أمية بن عبد الله بن أبي الصلت» هو الناظم الحقيقي لحادثة الطوفان، بالشكل الذي عرفه العرب قبل الإسلام مباشرة.
43
هذا أمر، أما الرواية القرآنية الكريمة عن الطوفان فأمر آخر، فالنبي «نوح» فيها (عليه السلام)، نبي كريم كمحمد
صلى الله عليه وسلم ، أرسله الله تعالى لهداية قومه، فكانوا كأهل الجاهلية، في تكذيبهم وجحودهم لدعوة الإسلام الكريمة، ولما كان دعاء النبي مستجابا، فقد دعا نوح (عليه السلام) على قومه بالفناء، فاستجاب له مجيب الدعاء وأرسل عليهم الطوفان، وهو ما تقوله الآيات الكريمة:
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (نوح: 26).
وكانت قصة النبي نوح (عليه السلام) كغيرها من قصص الأنبياء، والقرى الكافرة بالنبوات، عبرة لمن عارضوا دعوة المصطفى
صلى الله عليه وسلم
وتحذيرا مبطنا ووعيدا، ومثال ذلك:
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح . (الحج: 42)
وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية . (الفرقان: 37)
كذبت قبلهم قوم نوح . (ق: 12؛ ص: 12؛ القمر: 9؛ غافر: 5)
أما ما جاء في كتب الأخبار، فلعل أهمه وأجدره بداية بالتسجيل والتدبر، ما جاء عن قوم «نوح» وقوم محمد (عليه الصلاة والسلام)، تذكرة بمصير من سبق وكذبوا، في قول الشيخ «الحافظ ابن كثير»: «وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان، واعترف به آخرون منهم، وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا ... وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع، وجهل بليغ، ومكابرة للمحسوسات وتكذيب لرب الأرض والسماء.»
44
هذا وقد جمع «الجزائري» ما ورد عن النبي نوح (عليه السلام) في موجز لطيف، يصف فيه حجم السفينة بقوله: «فقدر طولها في الأرض ألف ومائتا ذراع، وعرضها ثمانمائة ذراع، وطولها في السماء ثمانون ذراعا ...» وعندما ركب نوح (عليه السلام) السفينة ومن معه «ضربتها الأمواج حتى وافت مكة وطافت في البيت، وغرق جميع الدنيا إلا موضع البيت، وإنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق، فبقي الماء ينصب من السماء أربعين صباحا، ومن الأرض العيون، حتى ارتفعت السفينة فمست السماء، فرفع نوح يده وقال: يا رهمان أنفر، وتفسيرها يا رب أحسن، فأمر الله الأرض أن تبلع ماءها ... واستوت السفينة على جبل الجودي وهو جبل بالموصل، جبل عظيم ... ويروى عن أبي عبد الله ... أن مدة لبثهم في السفينة سبعة أيام ولياليها ...» ثم يروي عن وهب مسندا أن الله أوحى لنوح حين هبط من السفينة: «يا نوح إني خلقت خلقي لعبادتي، وأمرتهم بطاعتي، وقد عصوني وعبدوا غيري، واستوجبوا بذلك غضبي فغرقتهم، وإني قد جعلت قوسي أمانا لعبادي وبلادي، وموثقا مني بيني وبين خلقي، يأمنون به إلى يوم القيامة من الغرق، ومن أوفى بعهدي مني؟ ففرح نوح (عليه السلام) واستبشر، وكانت القوس فيها سهم ووتر، فنزع الله عز وجل السهم والوتر من القوس، وجعلها أمانا لعباده لا تقولوا قوس قزح فإن قزح اسم الشيطان، ولكن قولوا قوس الله، وإن هذه المجرة التي في السماء ويسمونها مجرة الكبش، موضع انفطار السماء للماء.»
وقد أشار «ابن كثير» بدوره للقربان الذي رفعه نوح (عليه السلام) لله، وللقوس علامة العهد في قوله: «إن الله كلم نوحا قائلا له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك، وجميع الدواب التي معك، ولينموا وليكثروا في الأرض، فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عز وجل، وأخذ من جميع الدواب الحلال، والطير الحلال، فذبحها قربانا إلى الله عز وجل، وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الأرض، وجعل تذكارا لميثاقه إليه: القوس الذي في الغمام وهو قوس قزح.»
45
أما العجيب، فهو ما جاء عند «الجزائري» يحمل حفريات من عقائد أهل الشام والرافدين القديمة، فيقول: «عن الصادق ... قال: يوم النيروز هو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح عليه السلام على الجودي.»
46
والنيروز كما هو معلوم عيد الربيع والخصب القديم، حيث كانت منطقة الرافدين والشام تدين بعبادة عدد من آلهة الخصب والزرع والمطر منذ فجر التاريخ، مثل الإله «حداد» إله الصواعق والبرق والأمطار، والإلهة «بارات» إلهة «بيروت» الفينيقية، وكانت الوجه الآخر لعملة «عشتار» الرافدية، التي حملها معهم الفينيقيون لتبارك رحلاتهم البحرية عبر جبل طارق، فأعطت للجزر البريطانية اسمها، وكان رمزها الأول هو الصليب، نجده منقوشا على عرشها، أو تمسكه - في مصوراتها - بيدها، علما أن الصليب كان الاصطلاح السومري الدال على الخصب،
47
كما حملت اسم «ستيلا ماريا» أو «ستلا ماري» أي كوكب البحر،
48
حيث عبد الفينيقيون عشتار كما عبدها الرافديون، ممثلة في كوكب الزهرة، ولما كان الفينيقيون قوما بحريين يعتمدون في حياتهم على التجارة البحرية، فقد اتخذوا من الزهرة أو «عشتار» أو «بارات» أو «ستلا ماريا» أو «ماريا» كوكبهم المعبود، بل إن «ماريا» هو الاشتقاق اللاتيني للماء الطاغي أو البحر الهادر أو الطوفان.
وبالعودة إلى الجزائري يقول: «عن أبي الحسن ... أن الله أوحى إلى الجبال إني واضع سفينة على جبل منكن في الطوفان فتطاولت وشمخت، وتواضع جبل بالموصل يقال له الجودي، فمرت السفينة تدور في الطوفان على الجبال كلها حتى انتهت إلى الجودي، فوقفت عليه، فقال لنوح: بارات قني، بارات قني، يعني اللهم أصلح، اللهم أصلح. وفي حديث آخر: أنه ضرب جؤجؤ السفينة الجبل، فخاف عليها قال: يا ماريا أتقن، يعني رب أصلح، وفي حديث آخر أنه قال: يا رهمان أتقن، وتأويلها يا رب أحسن ... وفي عيون أخبار الرضا، قال: «إن نوحا ... لما ركب السفينة أوحى الله إليه: يا نوح إن خفت الغرق فهللني ألفا ثم سلني النجاة أنجيك من الغرق ومن آمن معك، فلما استوى نوح ومن معه في السفينة ورفع القلص عصفت الريح عليهم، فلم يأمن نوح من الغرق، فأعجلته الريح فلم يدرك أن يهلل ألف مرة فقال بالسريانية: هلوليا ألفا ألفا، يا ماريا أتقن، فاستوى القلص وجرت السفينة».»
49
وإن النداء «هلوليا» كان نداء معروفا ومستعملا في الأناشيد الطقسية لآلهة الخصب القديمة، وكانت رمزا لعبادة «ديونسيوس» النسخة الرومانية لتموز الرافدي زوج عشتار، ونسخة من حداد صاحب الأمطار والرعود والبروق، و«هلوليا» من بالإيلوليين، والنداء مركب من شقين: الأول هر «إيل» وهو اللفظ السامي الدال على الإله. أما الثاني فهو احتمالا من السومرية
A-U
أي السائل المخصب الأصل «ريلوليو
Eieleu » حتى عرف عباد «ديونيسيوس» نسبة لهذا النداء، وهو خاصة «حداد» صاحب الرعود والبروق والصواعق والسيول.
50
ونعود - منعا للتشتت - إلى موضوعنا ورؤيتنا، وزعمنا أن العبريين قد استلبوا تراثنا وحشوه بما يلزم، ثم أعادوا تصديره إلينا مرة أخرى ملحقا بما يحقق الأغراض المرصودة.
فهذا «نوح» التوراتي يهبط من سفينته ومعه أولاده الثلاثة «سام، وحام، يافث» ومن نسلهم تأتي شعوب الأرض، وحسب التصنيف التوراتي فإن «سام» سيخلف ذرية من أهل البوادي الرعاة، الذين سينسلون بني عابر المباركين، أما «حام» فسينجب ولدين ينسلان شعبين، الأول هو «مصرايم» أبو المصريين، وأهل السودان ... كل ذوي البشرة السوداء حتى الكوشيين أو الأحباش، والثاني هو «كنعان» أو الكنعانيين سكان فلسطين (التكوين، 10)، ولعله من الواضح أن الرجل وهو يدون، قد اتخذ لجده البعيد اسما من جذر السمو «سام»، وحط بأهل النيل وفلسطين في طين الأرض وحمئها «حام»، فهو من جذر الحمو والحمأ، وربما ربط الكاتب بين الحمو واسوداد الطين واسوداد البشرة. كما أن الحمأ هو طين الأرض الحارة الخصبة. وتصل الإضافات التوراتية إلى هدفها حين تقول: «وابتدأ نوح يكون فلاحا، وغرس كرمه وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء، ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم بما فعله ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (التكوين، 9: 20-26).
وهكذا: ومرة أخرى، تحيق اللعنة بكنعان الفلاح، مع قرار سماوي ونبوءة مقدسة، تؤكد أن «كنعان» سيكون عبدا لذرية الراعي «سام» أبي العبريين، دونما ذنب جناه سوى أن أباه وليس هو، أبصر عورة «نوح»، بل إن «نوحا» نفسه لم يصب بداء الثمل من السكر، إلا عندما «ابتدأ يكون فلاحا»!
والمغزى أوضح من الحاجة للشرح أو التعليق. فأرض كنعان هي المطمع والمشتهى؛ لأن مصر والرافدين أكبر من الطموح، ومع ذلك لم يكن هناك بأس من طرح الفكرة ابتدائيا، فمن يعلم؟ فيقول الرب لإبراهيم: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (التكوين، 15: 18).
أما النجاح الحقيقي الذي حققته مثل هذه الإضافات المصدرة إلينا، فهو أنها شقت طريقها بثقة داخل تراثنا الإسلامي، مع ملحقات وزيادات، وأحيانا مجاملات وملاطفات لبني إسرائيل، بحسبانهم محل احتكار النبوات السابقة، كما أن صحيح الإسلام يضع من شروط الإيمان، شرط الإيمان بالنبوات التي سبقت الرسالة الإسلامية، وخاصة أن الآيات القرآنية الكريمة قد أعادت التاريخ كله دورة كاملة، وأكدت أن كل الأنبياء السابقين في بني إسرائيل إنما كانوا مسلمين، ومن هنا، ومع قلة التفاصيل في العموميات القرآنية، لم يجد كتبة التراث والأخبار حرجا أو بأسا من الرجوع إلى المنمنمات الدقيقة لتاريخ هؤلاء الأنبياء والمسلمين، في كتاب اليهود المقدس، حتى أصبح منهلا لا ينضب للمشتغلين بعلوم التراث، ولا غضاضة في الأمر مع إعلان النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
أنه هو نفسه فرع من الشجرة المباركة، عبر «إسماعيل بن إبراهيم». ومعلوم أن «إبراهيم» أهم أرومات العبريين وأنشرهم ذكرا، هذا مع التصريح الواضح في الحديث النبوي عن «البخاري» «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.» وهو الحديث الذي استندت إليه طبقة كتاب السير والتأريخ المسلمين، وعلى رأسهم «ابن كثير» الذي أورد الحديث في مقدمته لكتاب البداية والنهاية، معلنا أنه سيجعل من روايات أهل الكتاب مصدرا لا غنى عنه، ويعقب على الحديث الشريف بالقول: «فهو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار».
51
وإجمالا لذلك، قام «النيسابوري الثعلبي» يصب جام غضبه على «حام» المزارع، فيقول راويا عن قتادة منسوبا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم : فأصاب «حام» امرأته في السفينة، فدعا نوح ربه، قال: فتغيرت نطفته فجاء بالسودان.
52
فالأسود هنا أدنى درجة من الأبيض، وسر سواده مضمر في الحديث، وربما كان ذلك سر أن العبيد يغلبهم السواد، ثم يضيف عن عطاء الحديث «ودعا نوح على حام أن لا يعدو شعر ولده آذانهم، وحيثما كان ولده يكونوا عبيدا لولد سام.»
53
ثم يزيد مجاملا مؤكدا لأهل التوراة فضلهم، فيقول: «ولما حضرته الوفاة (يقصد نوحا) أوصى إلى ابنه ثم سام، وجعله ولي عهده.»
54
أما زعيم طبقة كتاب السير «ابن كثير»، وهو - زيادة في النكاية - من أبناء فلسطين، ومن مواليد بلدة «شركوين»، وعاش حياته في «مجدل» وتوفي بها، فيجعل كنعان هو الابن الكافر من بني «نوح»، والذي قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء،
55
ويكرر الثعلبيات قائلا: «إن حاما واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه السلام نوح أن تشوه خلقة نطفته، فولد له ولد أسود هو كنعان ... وقيل بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته، فلم يسترها وسترها أخواه، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وأن يكون أولاده عبيدا لإخوته.»
56
أما «المسعودي» فأسعده أن يردد: «ودعا على ولده حام، لأمر كان منه مع أبيه قد اشتهر، فقال: ملعون حام، عبد عبيد يكون لإخوته، ثم قال: مبارك سام.»
57
أما «نعمة الله الجزائري» فينعم على سام بمزيد من النياشين والتبريكات، فيقول في قصص الأنبياء: «عن أبي عبد الله أن جبريل أتى فقال له: يا نوح إنه قد انقضت نبوتك واستكملت أيامك، فانظر الاسم الأكبر وميراث العلم، فادفعها إلى ابنك سام ... فدفع عليه السلام آثار النبوة إلى ابنه سام. فأما حام ويافث فلم يكن عندهما علم ينتفعان به.»
58
وسبب ذلك مسلمات مصدقة، صدق بها «الصدوق القمي» في كتابه «علل الشرائع» وهو يقول: «إن نوحا كان يوما في السفينة نائما، فهبت ريح فكشفت عورته، فضحك حام ويافث، فزجرهما سام ونهاهما عن الضحك، وكان كلما غطى سام شيئا تكشفه الريح، كشفه حام ويافث، فانتبه نوح فرآهم يضحكون فقال: ما هذا؟ فأخبره سام بما كان، فرفع نوح يديه إلى السماء يدعو، ويقول: اللهم غير ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان ... جميع البيض سواهم من سام، وقال نوح عليه السلام لحام ويافث: جعلت ذريتكما خولا أي خدما لذرية سام إلى يوم القيامة.»
59
والأمثلة على ذلك كثير، ولن نجد كتابا تراثيا واحدا يخلو من ذكر القصة التوراتية الملغومة، مع إضافات وشروح اجتهادية لإنصاف «سام» على «حام» أو لإنصاف الراعي على المزارع، أو أهل المراعي على أهل الوديان الخصبة. ومن هنا نفهم لماذا أصبح كل الفراعين في نظر أحفادهم المسلمين كفارا ملاعين، ولماذا يترحم الفلسطيني اليوم على «طالوت» أو «شاءول» الإسرائيلي، ويلعن جده «جالوت» أو «جوليات» الذي استشهد وهو يدافع عن أرضه، وما على الاثنين سوى مسح عرق الحياء عن الجبين، من أفاعيل الأجداد الملاعين، مع بني عابر الطيبين. وإذا كان «ابن كثير» قد صب نقمته على جده «كنعان»، فلا غرابة إذا وجدنا العرف في القرية المصرية يستمد أصوله من كتب التراث الإسلامية فيجعل من ينتحلون اسم «العرب»، ويعدون أنفسهم من أصل رعوي (من جزيرة العرب) أصحاب حق مشروع في السيادة والسلب والنهب دون استهجان. بينما يصبح الانتساب للفلاحين سبة وعارا وضعفا ومذلة وهوانا؛ مما جعل أصحاب الأصول المصرية القح يتنافسون في استكشاف أصول بدوية عربية لأروماتهم؛ مما يسجل النتيجة الواضحة للجولة بين الراعي والمزارع، أو بين أبناء «حام»، على المستوى الديني، ثم بالتبعية على المستوى الاجتماعي والنفسي، بل السياسي، وهو أمر لا مندوحة من الاعتراف به، ولا عزاء للفلاحين. (7) أسطورة «إيل»
في جبل إيل، جبل الله، سكناي،
في الأماكن الهانئة سكناي.
من ملحمة البعل الكنعانية
ولنعد إلى ما قبل الوعد الإلهي بما بين النيل والفرات أرضا خالصة (تسليم مفتاح) لبني عابر، والقبيلة تحط رحالها في أرض كنعان بهدوء الضيفان ولطف المستجير طالبا الإجارة والجوار. وتسجل التوراة هذه اللحظات التاريخية العتيدة فتقول:
فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطا ابن أخيه ، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان، واجتاز إبراهيم في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له، ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل، ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق. (التكوين، 12: 5-8)
القبيلة العبرية هنا مختصرة، مرموز لها بقيادتها من الأسرة الإبراهيمية، تخرج من حاران تريد أرض كنعان، بإيجاز سريع يشير إلى خط الهجرة الآرامية، وضمنها القبيلة العبرية والفخذ الإبراهيمي. ثم، وبالسرعة نفسها، وفي إشارة خاطفة تقول التوراة: إن الكنعانيين كانوا أهل هذه الأرض وأصحابها، لكن حلقها يغص بذلك فتلتوي في تعبيرها، ولا تفصح بالتعبير المباشر، إنما تقول: «وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض!»
ودون مقدمات ولا ممهدات، يظهر الرب لإبرام ليهبه الأرض الكنعانية، مسجلة ومشهرة وممهورة بالضمانات لولده من بعده، فهو ليس مجرد انتفاع مؤقت إبان حياته تئول بعده لأصحابها، إنما لنسله، ولنلاحظ أنه لم يقل حتى لأبنائه، بل لنسله! فالخطط معدة سلفا ولأمد بعيد مقبل.
أما العجيب في الرواية هنا فهو التعبير «فبنى مذبحا للرب الذي ظهر له»! وهذا إنما يعني وجود أرباب لم تظهر له، وظهر أحدها، أو أن القبيلة كانت قبل نزول كنعان تعرف ربا محددا غير هذا «الذي ظهر له»، ويظهر هذا الجديد فجأة في كنعان بالذات، وهو قول يتسق مع واقع الأحوال آنذاك، فقد كان لكل شعب أرض، ورب للشعب والأرض، فهل كان هذا «الذي ظهر له» ربا لإبراهيم منذ البدء، أم أنه رب كنعاني حيث حطت القبيلة رحالها؟ الإجابة يمكن استنتاجها من باقي الرواية التوراتية، وهي تقرر بوضوح أن «إيل إله إسرائيل (التكوين، 23: 20)»، وهنا يجدر بنا الوقوف قليلا لتسجيل بعض الملحوظات المهمة التي يمكنها أن تجيب عن السؤال المطروح. (1)
إن الإله طوال القصص التوراتي السابق على نزول أرض كنعان، منذ بدء الخليقة إلى ظهور إبراهيم، لم يذكر أبدا بالاسم «إيل»؛ مما يشير إلى أنه لم يكن معروفا لهذه القبيلة في مواطنها الأصلية. (2)
كان هذا الإله معروفا هناك حين وصول القبيلة أرض كنعان، وله بيت مقدس يعبد فيه، وأصبحت المدينة المقام فيها حرما كاملا له وسميت «بيت إيل»، ثم نقل من هناك إلى الجبل، شرقي بيت إيل، ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق. أي إنه سكن بين المدينة المقدسة «بيت إيل» ومدينة «عاي». (3)
إن هذا الإله الكنعاني قد أصبح إلها لإسرائيل، أو أنهم اختاروه إلها، وأعلنوا أنه هو الذي اختارهم، والغرض الذي يمكن فهمه أن لكل شعب أرضا يرتبط بها بالمواطنة والوطنية، ولا توجد شعوب دون وطن، لكن توجد «قبائل» بلا وطن، تمتهن الرعي وترتبط ببدائية البداوة، وتنفر من عاطفة الوطنية والاستقرار؛ لذلك عندما قرر هؤلاء أن يتحولوا من قبيلة إلى شعب، وحلا لهم اسم «شعب الله المختار»، قاموا يمنحون أنفسهم أرضا، منحها لهم رب الأرض نفسها، فهو الذي اختارهم وأتى بهم إلى بلاده ليتأله عليهم، بعد أن ضاقت به السبل وانقطعت الوظائف، فاختارهم شعبا خاصا له يمارس معهم الربوبية! وحتى لا يكون هناك تناقض، فإن الرب نفسه، بحسبانه المالك الشرعي، هو الذي منحهم أرضه الكنعانية؛ لذلك ما فتئت التوراة تكرر هذا المنح من الرب الكنعاني صاحب أرض كنعان بكافة الصيغ، التي أبرزها وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان، ملكا أبديا وأكون لهم إلها (التكوين، 17: 8). (4)
وإضافة إلى كون «إيل» إلها كنعانيا قديما في البلاد، له بيته ومدينته المقدسة، فقد كان له كهانته المنظمة، قبل هبوط القبيلة العبرية عليه. فهذا كبير الكهنة يستضيف «إبرام» وأهله بعد معركة ناجحة مع أعداء للمنطقة الكنعانية، ثم يبارك «إبرام» باسم «إيل»، فيسبغ عليه المواطنة لدفاعه عن البلاد، «وملكي صادق ملك شاليم، وأخرج خبزا وخمرا، وكان كاهنا لله العلي، وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي ... الذي أسلم أعداءك في يدك» (التكوين، 14: 18-20). وفي المقابل تقرر أن ينال الكاهن من «إبرام» ورجاله الذين أخذوا يصولون في المنطقة ويجولون، العشر من الغنائم التي يغنمها «فأعطاه عشرا من كل شيء» (التكوين، 14: 20). وتمت الصفقة بمباركة من ملك في الجوار كان له نصيبه أيضا، فحضر الاتفاقية. «وقال ملك سدوم لإبرام: أعطني النفوس، وأما الأملاك فخذها لنفسك ...» (التكوين، 14: 21)، لكن «إبرام» يترك لهم كل شيء من الغنائم الزائلة بإباء وشمم، ويقول للملك: «لا آخذن لا خيطا ولا شراك نعل، ولا من كل ما هو لك، فلا تقول: أنا أغنيت إبرام» (التكوين، 14: 23-24)، ويتوجه للرب «إل عليون»، أو «إيل العالي» أو «الله العلي» بندائه: «أيها السيد الرب: ماذا تعطيني؟» (التكوين، 15: 2). فيجيبه: «أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها» (التكوين، 1: 7)، ثم لا يلبث «إل» أن يوسع على خليله، فيزيد: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (التكوين، 5: 18). (5)
إن «إيل»، إله المدينة الكنعانية المقدسة «بيت إيل»، يستمر على عهده وتصميمه في اختيار بني عابر شعبا بديلا لشعبه الكنعاني، فيظهر ليعقوب حفيد إبرام ليؤكد له استمرار الحلف، ويعرفه بنفسه قائلا: «أنا إله بيت إيل» (التكوين، 31: 13).
وحتى تثبت التوراة جدارة بني عابر بالأرض، ورب الأرض، تجعل الإله الكنعاني يمر بتجربة مريرة، يستشعر بعدها مدى حاجته الشديدة للعصابة العبرية، فتروي: ... فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه ...
وبرغم أن «حق فخذ يعقوب» قد انخلع في هذه الجولة الصراعية، فإنه يستمر يضغط على خصمه مما يضطره إلى ترجيه «وقال: أطلقني، لأنه قد طلع الفجر.» وهنا، وفي هذه اللحظة التاريخية، يكتشف يعقوب شخصية خصمه الحقيقية، التي تخشى النور والنهار، ويعرف فيه «إل» إله كنعان، فيرفض يعقوب إطلاقه إن لم يباركه، بما تحمل هذه البركات من أعطيات: «وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أخبرني عن اسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فينيئيل، قائلا: لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي» (التكوين، 33: 24-30).
ومن هنا تغير اسم «يعقوب» إلى «إسرائيل»؛ ليصبح أولاده من بعده يحملون اسم «بني إسرائيل»، والكلمة «إسرائيل» هي في الأصل العبري «صرع إيل»، وتعني «مصارع الرب»، أو «صارع الرب»، وهكذا أثبت «يعقوب» لرب كنعان قدراته؛ ومن ثم استحقاق هذا الرب للحماية، وفرض الإتاوة، وسلب الأرض، ونهب العرض، ولا بأس أن تتدخل الشروح المتفذلكة لتؤكد أن الكلمة «إسرائيل» تعني أيضا: «جندي الرب»؛ أي حامي الرب والمدافع عن حياضه وذماره!
أما المكتشفات الآثارية في تل شمرا (مدينة أوجاريت الكنعانية القديمة)، فقد كشفت لنا في ملاحمها المتعددة عن عبادة الإله «إيل» كسيد للآلهة، وخالق للبشر، وأنه كان معروفا على نطاق واسع في هذه المنطقة، وتصفه ملحمة «البعل» بأنه خالق الكائنات، رفيع المقام، مقامه عند نبع النهرين، قرب أفقا، أبو الزمن والسنين، لطفان «أي كثير اللطف» ... إلخ.
60
لكن، كما سبق أن أشرنا، جدت ظروف أدت إلى مستجدات في جوهر الاعتقاد اليهودي، فحل الجدب بأرض كنعان، مما اضطر القبيلة العبرية أن تهبط مصر، مع واحد من بني إسرائيل هو «يوسف»، حيث عاشوا أو عاثوا هناك زمنا، خرجوا بعده بقيادة سليل إسرائيل العتيد «موسى» النبي، وتحت راية إله جديد، غلبت عليه العناصر الرعوية هو «يهوه» أو «جاهوفاه»، وإن ظلت فيه علامات زراعية خصيبة لم يستطع التخلص منها بحكم تأثير الوسط البيئي المصري في اليهود. وقد أصبح «يهوه» هو إله اليهود القومي طوال تاريخهم بعد ذلك، ويبدو أنه جاء كرد فعل للاضطهاد المصري. وقد وضحت بدويته في مجموعة سمات «لا مجال لسردها هنا». وكان أبرزها ما أوردناه من شرائع الحرب، وقد أدى ظهور «يهوه» إلى انتهاء «إل» تماما، وتحوله إلى رمز وعلم قديم أدمج في «يهوه» نهائيا، إضافة إلى أن بني عابر لم يعودوا في هذا الطور بحاجة لممالأة آلهة المنطقة، بعدما تيسر لهم جهاز الردع وتحولوا بكاملهم إلى مؤسسة عسكرية متحركة إلى كنعان، فجاء «يهوه» متسقا مع طبيعة المرحلة والعنصر، مع ملاحظة أن التوراة تقول: إن «موسى» قد التقى بهذا الإله خارج مصر، وفي منطقة من البوادي أسمتها «مديان». (8) أسطورة المسيح الملك
إنهم يقولون عنك يا أوزيريس:
لو أنك ترحل إلا أنك تستيقظ ثانية
ولو أنك تموت إلا أنك تبعث مرة ثانية
قف، انهض،
إن إيزيس تحبك!
متون الأهرام
وكل ما أسلفناه من نصوص توراتية، يضمه كتاب مقدس واحد من الأناجيل المسيحية، يؤمن به المسيحيون كمقدس واحد على الدرجة نفسها من القدسية، تأسيسا على قول المسيح: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل» (متى، 5: 17)، مقررا بذلك أنه جاء مصدقا للتوراة وسيرة الأنبياء اليهود فيها، وأنه إنما هو متمم فقط، وهو أمر كان له دوره الخطير في دخول الإسرائيليات كعمد أساسية للإيمان المسيحي، حتى إن «المسيح» نفسه لم يتعرض، لا بالشرح ولا التعليق، حول قصص الخلق، أو الطوفان، أو غيرها من قصص التوراة، بحسبانها مقررات صادقة مسلما بها، وطلب من المؤمنين الرجوع إليها في التوراة؛ لذلك ظلت الأناجيل جميعا قصة حياة وموت وقيام المسيح، ومعنى الخطيئة والفداء وما ارتبط بهما من عقائد وطقوس. وقد كانت بدورها تراثا من الثقافة القديمة للمنطقة، ظل حيا وقائما إلى زمن المسيح، حتى وقع في يد اليهود فاقتنصوه، وانهالوا عليه تهويدا، حتى صار تراثا لبيت داود «ولا نعلم لماذا يبحث المسيحيون في التراث اليهودي، أو المهود عن النبوءات بقدوم المسيح، ويربطون التوراة بالأناجيل لما فيها من هذه النبوءات، بينما كان عليهم أن يبحثوا عن ذلك في المصادر الأصيلة في تراث المنطقة، التي انتهت وصبت جميعا عند المسيح، أو لماذا التقليد ولدينا الأصل، أو لماذا المهود ولدينا الوطني الأصيل، نكتشف فيه ما نريد من نبوءات».
ويبدو أن واقع الأمر قد سبب إرباكا شديدا للمهتمين بالبحث الجاد، بين المسيحيين الشرقيين؛ لارتباطهم من جانب بوطنهم، وما يلزم عن هذا الارتباط من معان تستلزمها الوطنية، وارتباطهم من جانب آخر بمقدس مفروض عليهم فرضا في العهد القديم، ويناقض تماما هذه الوطنية ومصالح الوطن ومعنى المواطنة الحق . فهذا المرحوم الصديق «أنيس فاخوري» ينشغل بالقضية زمنا إلى أن يهديني ما وصل إليه منشورا في كتاب، حاول فيه نزع ما لحق بالعقل المسيحي من تهويد، بعد أن وضع يده على نقطة التقينا عندها، وهي بنص كلامه «عندما نتعجب نحن في الشرق الأوسط أو في العالم العربي كيف أن الغرب المسيحي لا يأبه لحقنا، بل يدعم حق عدونا المغتصب، وعندما نبحث عن أسباب ذلك الدعم وننسبه فقط إلى قوة اليهود المالية والاقتصادية والإعلامية المسيطرة في العالم الغربي، نكون قد وضعنا أيدينا على نصف الجواب، أما النصف الآخر الذي ما زلنا نجهله أو نتجاهله، فهو كامن في أن الذهن المسيحي قد تهود منذ أكثر من ثمانين سنة، وتبنى مطالب الصهيونية وكأنها أمل كل مسيحي.»
61
وهكذا عبر الرجل عن معايشته أرقا مهموما به إلى يوم وفاته، ما بين إيمانه وبين وطنيته الصادقة، وما يتعرض له هذا الوطن، في ضوء ما رسمته المقدسات في العقل بما يناقض تماما مصالح هذا الوطن.
لكن الأستاذ «فاخوري» كان مؤمنا ويرفض التخلي عن هذا الإيمان؛ لذلك حاول باستمرار أن يرجع هذا التهويد إلى العصر الراهن مع ظهور الدعوة الصهيونية، برغم إشارات في كتابه تتحدث عن أسباب تبني الغرب المسيحي لمطالب الصهاينة، وما أسماه دون تصريح ب «... الوشائج الدينية الغامضة القائمة بين المسيحية واليهودية، والعلاقة غير الواضحة تماما، ما بين العهد القديم والعهد الجديد في الكتاب المقدس للكنيسة المسيحية، وهي الأمور التي جعل منها التضليل اليهودي ركائز دينية وأدبية قوية، متأصلة في ذهن الغرب المسيحي؛ لذلك نرى أن الكيان الإسرائيلي الديني السياسي كان قائما في ذهن الغرب المسيحي، لمدة طويلة، سبقت إعلان الأمم المتحدة قرارها بالتقسيم سنة 1947م، تمهيدا لقيام إسرائيل في السنة التالية.»
62
وما أشار إليه من أسباب ساعدت على هذا التهويد «... بواسطة اليهود المتنصرين الذين اندسوا بين المسيحيين عبر السنين، وأخذوا يغذونهم بالتفاسير والنظرات والتعاليم المضللة ... الذي سهل اختلاط الأمر على المسيحيين.»
63
لكن دون أن يشير بالطبع إلى أن كل تلاميذ «المسيح» بلا استثناء إنما كانوا يهودا، وهم حواريه، وكتبه أناجيله، ورسله إلى العالمين! واكتفى بالتنبيه إلى ما أسماه الوشائج الدينية الغامضة «بغموض» بين الكتابين والديانتين، وهو الأمر الذي نراه غير غامض، ولم يعد يحتمل مجاملات أو محاذير، بل هو الأمر الذي كتب للمبادئ اليهودية النصر الحقيقي على نصف عقل العالم اليوم.
ودونما علاقة خاصة بقضيتنا وروافدها السياسية والتاريخية، ودونما رابطة مواطنة أو وطنية، يكتشف بعض المسيحيين في الغرب تناقض العهدين القديم والجديد، ويؤسسون مذهب الثيوزوفيرية والأزوتيرية السرية الجديد، يحاولون فيه تخليص «المسيح» الروحاني والمسيحية العالمية من المفاهيم الناموسية المؤسسة على عمد توراتية؛ مما يصل بهم إلى رفض العهد القديم، بأنبيائه ومفاهيمه وشرائعه، ويلجئون إلى تفسير الأناجيل وما لحقها من مفاهيم ناموسية يهودية تفسيرا جديدا لا علاقة له بالقديم، يقوم على التأويل والترميز، إبقاء لإيمان روحي بالمسيح، ورفضا لإيمان ناموسي بالشرع واللامعقول، وهو ما نجده في مؤلفات واحد من المبشرين بهذا المذهب من العرب «ندرة اليازجي»، الذي وضح أنه وجد خلاصه الروحي، وحسه الوطني معا في هذا المذهب، فيصرح دون مواربة ولا وجل بالقول: «يخطئ المسيحيون إذ يبقون على الصلة بين المسيحية واليهودية، فقد استغل اليهود نقطة الضعف هذه منذ بداية عصر التبشير المسيحي، هذه البدعة التي تقوض المسيحية وتعيد لليهودية كيانها، وإذا لم تعمل المسيحية على تخليص نفسها من اليهودية، فإن كلام بولس وتحذيراته تظل صحيحة إلى الأبد.»
64
وهكذا فإن «اليازجي»، ممثلا للثيوزوفيرية، يطلب شطب التوراة من تاريخ المسيحية ومقدساتها، وقد عمد إلى ذلك بطول كتابين بين أيدينا،
65
عامدا إبان ذلك إلى إبراز الفروق الجوهرية بين إله موسى التوراتي المرعب الدراكولي، وبين إله المحبة والسلام مسيح الأناجيل، لكن «يازجي» يؤكد، بذلك، على جانب واحد من صورة مسيح الأناجيل، وهو الجانب المتأثر بثقافة المنطقة، وتتضح صبغته الزراعية واضحة في المسيح الروحاني السماوي، وصاحب الملكوت الأخروي، مهملا في الصورة نفسها المسيح الممسوح بالصبغة البدوية والفكر اليهودي، والتي صبغته بصورة «ابن داود» صاحب الملكوت الأرضي لإسرائيل، وما كان ممكنا له كمؤمن المطالبة برفض آخر لجزء من الأناجيل؛ نظرا للتعشق التام بين الصيغتين في المقدس المسيحي الإنجيلي؛ مما اضطره إلى اللجوء إلى التفسيرات الرمزية والتأويلية للجانب المطبوع بوجهة النظر الإسرائيلية من المسيح كملك لليهود من نسل «داود»، فجاء مبتسرا ومتكلفا وغير مقنع، لا للمؤمن المسيحي ولا للباحث المحايد الموضوعي، ولا لغير المؤمنين بالمسيحية، بينما الأمر الواضح لدينا هو ما أوضحناه، أن المسيح الإنجيلي قد جمع ثقافتين متنافرتين تماما وجذريا، تم دمجها في عصر الدمج الإمبراطوري إبان السيطرة الرومانية وفي العصر الهيليني بالتحديد، ثقافة الراعي وثقافة المزارع، أو الراسب اليهودي والتراث الوطني للمنطقة، وذلك التراث الذي تمثل إبان ظهور المسيح وقبله، في مجموعة ديانات الفداء الزراعية، التي تدين جميعا في كثير من تفاصيلها لأهم العقائد المصرية القديمة، هي عقيدة الثالوث الأوزيري « أوزيريس الأب
Osiris ، إيزيس الأم
ISIS ، حوريس الابن
Horus »، التي سبق أن أفردنا لها كتابا خاصا صدر عن دار فكر مؤخرا بعنوان: «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة». وهي عقيدة تحتاج منا وقفة متعجلة، بما يتفق والمساحة المتاحة في هذه الدراسة القصيرة، وإضافة إلى هذا العرض السريع يمكن الاستعانة بالكتاب المشار إليه، مع أربعة بحوث سبق وفصلنا فيها القول عن ديانات الخصب الفدائية، ورصدنا بياناتها في الهامش.
66
وبالعودة إلى العصر الهيليني الروماني، نجد أنه قد انتشر على صفحة الخصب، شرقي المتوسط مجموعة من العقائد المتشابهة، تأسست على نتاج الخبرات القديمة للمزارع مع الطبيعة، وكونت مجموعة من المفاهيم عن آلهة للخير وأخرى للشر، وعبدت عادة ثالوثا إلهيا مثل فيه دور الأب، الإله المختص بالخصب ريا ومياها طامية، وتصوره إذ كان نهرا في البلاد التي تعتمد في ريها على الأنهار، أو في السماء الممطرة في البلاد التي تعتمد على الأمطار، كإله ذكر يخصب الأرض دوما بلقاحه المائي؛ لذلك تصوروا الأرض إلهة أنثى، تعطي مولودها زرعا، وهو بدوره «الزرع» إله يقوم بتمثيله الإله الابن في الثالوث المقدس للعائلة الإلهية، وغالبا ما اندمج الأب في الابن بحيث أصبحا أقنوما واحدا، يمثله إله واحد، هو إله الماء، وفي الوقت نفسه إله النبات.
وكما يموت الزرع، يجف ثم يعود إلى الحياة، فقد تصوروا إله الخصب تجري أموره على الوتيرة نفسها، فهو قد مات ثم قام في صيرورة خالدة أبدا، فموته مؤقت، وخلوده هو الحقيقة المطلقة، وهي تصورات تتسق وتفكير الإنسان آنذاك، وتعبر بصورة شعرية دينية عن علاقة الإنسان بالزرع الذي تتوقف عليه حياته واستقراره المجتمعي؛ لذلك كان لا بد من العمل الجاد في الأرض لمساعدة هذا الإله المحب العطوف على العودة إلى الحياة مرة أخرى، فأضفت على العمل في الأرض صبغة القداسة، وربطت المواطنة والعمل بالإيمان، بحيث يعد أي إهمال في حق الأرض ورب الزرع كفرا مبينا (ولم يزل العرف في مصر يعد تفريط المزارع في الأرض الزراعية بالذات، دون غيرها، سبة وعارا لا تمحوهما أية محاولات تكفير بديلة). وهكذا كانت العقيدة القديمة ضامنة للمجتمع سلامته واستمراره مترابطا، كناتج لارتباطه المستقر بالأرض، ما دامت تعطي، وهي لا تعطي إلا بالعمل، وبالإيمان بها وبهذا العمل.
وقد دخلت عقائد الفداء مختلف المواطن الخصيبة، بتطورات وتغيرات حذفت منها وأضافت، كناتج طبيعي للجدل الاجتماعي وما يفرزه من تغيرات على مستوى النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصراع طبقي حاضر دوما في هذا الجدل، حتى بلغت كمال نضجها في انضوائها تحت راية الإله المصري «أوزير» رب الثالوث المصري، ورمز النيل والغلة في آن واحد، بل اندمجت فيه تماما، وذلك في العصر الهيليني الروماني، الذي اصطلح المؤرخون على تسميته بما أسماه لسان حال الجماهير آنذاك: عصر الآلام، كناتج لسيطرة السلطان العسكري الروماني، وواضح لدينا أن هذا الانضواء قد بدأ تفاعلا ثوريا اندمجت فيه مختلف ديانات الفداء في منظومة واحدة، تحت راية «أوزير» المصري، كقيادة لشكل أيديولوجي موحد في مواجهة القمع الروماني، بعد أن أتيحت لهذا الإله مجموعة من العوامل جعلت منه قيادة روحية وأيديولوجيا ثورية، كما أدت إلى انتشار عالمي لعقيدته مع زوجته «إيزي» وابنه حور، حتى فرض وجوده على إيمان الرومان أنفسهم فعبدوه مع أسرته باسم «سيرابيس
Sirapis » وبينما كانت جامعة الإسكندرية مركز الإشعاع الفكري والعقدي آنها، تواصل تصديره مع كل طالب علم، مصحوبا بكثير من الإضافات التفسيرية والفلسفية.
وقد انتهينا في كتابنا المذكور إلى أن عبادة «أوزير» في مصر القديمة قد ترافقت مع ثورة عظمى ضد النبلاء والملكية والدين الرسمي القائم، وذلك قرب نهاية الدولة القديمة، وكانت هذه الديانة بمثابة الأيديولوجيا التي حددت للثورة طريقها وأهدافها، بعد أن جمعنا لذلك عددا من القرائن والبراهين، انتهت إلى حسبانه الإله الذي رمز لانتصار العدل على الظلم، وأن موته في أسطورته، على يد الظالمين، وما عاناه من آلام أثناء ذلك تعبيرا - ومشاركة - عن آلام الجماهير، ثم موته، ثم قيامته من الموت، إعلام عن عودة الوعي، أو عودة الجماهير إلى الصحو. كما كان ابنه الإلهي «حور» وهو يقود الجيوش ضد الملك الشرير الظالم «ست»، لهيبا يؤجج صدور الجماهير ويشعلها حماسة، ومن هنا كان الإيمان بأوزير يعني ضرورة القيامة والثورة والتجدد الدائم، كالزرع المتجدد دوما، الذي يكافح تحت التربة بعد الموت الظاهري، للعودة إلى الحياة مرة أخرى، فأوزير قد تعذب ومات شهيدا من أجل المتألمين، ومشاركة لهم في الآلام، وقد ساعد على انتشار هذه العقيدة في بقاع الإمبراطورية الرومانية دور الإلهة «إيزي»، التي مثلت الوفاء بأجلى معانيه لزوجها الثائر، ورفضت أي استسلام للقدر الذي قرره رب الدولة «رع» على زوجها بالموت. وقامت تجمع أشلاءه بعد مقتله، من أجل القيامة المجيدة. ومثلت دور الأنثى الثائرة، التي تقوم بدورها من أجل إقامة العدل، ودور الزوجة المخلصة الوفية، لكنها الحرة، التي يحرر حبها من يؤمن بها ويحبها. ومن هنا وجدت لها من الإناث عابدات مخلصات في كل صقع، في ضوء مقررات الاستعباد الروماني للمرأة التي أصبحت في عصر الآلام مجرد متاع رخيص مبتذل، مع وعد بعالم آخر بلا ألم ولا ظلم قرب عرش «أوزير»؛ لأن «أوزير» لم يستشهد إلا عن قصد منه ورغبة؛ لكي يثبت أن من يموت يقوم، ومن يعاني الآلام لا بد أن يعوض عنها عالما سعيدا خالدا؛ ومن هنا قرر أن يكسر حاجز الخوف عن الجماهير، فهبط من مجده السماوي، ومات، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء بعد أن التقى بروحه بحبيبته «إيزي» وهي بعد عذراء، بلا ملامسة جسدية، فأنجبت منه «حور»، وعليه كان الإيمان بأوزير هو بمثابة بنوة له؛ لأنه التقاء أرواح، ويصبح المؤمنون به أبناء له، يدخل الإيمان إلى قلوبهم مصحوبا بصفته الإلهية، فيخلدون مثله في عالمه الآخر؛ لذلك كان الإيمان بأوزير وبموته وقيامه، سبيلا إلى قيامة أخرى للمؤمنين في عالمه السعيد، ومن يمت شهيدا فسوف يقوم، ولا عجب إذا وجدنا هذا الإله يفعل فعله الأيديولوجي في عقر الدولة الرومانية، فتتخذ ثورة العمال في عصر الآلام من الديانة المصرية أيديولوجيا دافعة للثورة.
67
وبرغم كل محاولات الحكام المتتالية لتفريغ هذه الأيديولوجيا من مضمونها الثوري، سواء في مصر أم خارجها، ومع الإجهاض المتتابع من الأجهزة الحاكمة، للثورات التي كان دافعها ومحركها الأيديولوجيا الأوزيرية، وعلى مر السنين، بدأت تتكون لدى الجماهير قناعات أن النجاح الأعظم للثورة الكبرى على الظلم إنما يتحقق بعودته مرة أخرى من السماء ليخلص الناس من الآلام، بخاصة في عصر الآلام، ومن هنا بدأ الانتظار للمخلص أوزير، وبدأت الشائعات المعبرة عن رغبة الجماهير تتحول إلى لون قدسي يؤكد أن «أوزير» قبل صعوده إلى السماء أكد أنه سوف يعود مرة أخرى ليقيم دولة للعدل ومملكة المساواة والإخاء.
وكان تفريغ هذه الأيديولوجيا من محتواها الثوري مهمة أولى وأساسية جابهت الإمبراطورية في البداية، بحيث لا يبقى منها سوى جانبها السلبي المتمثل في انتظار عودة المخلص بهدوء، أو الخلاص الروحي بانتظار الموت ليذهب المؤمن إلى عالم العدل السماوي؛ ليعيش هناك إلى جوار «أوزيريس»، أو سيرابيس (التسمية الرومانية للإله المصري)، وجاء التحقيق ببساطة في اعتناق الطبقات الراقية، والمترفة، والمثقفة، ورجال الجيش، لهذه العقيدة، بعد أن كانوا يشكلون تيارا تابعا للمدرسة الفلسفية الرواقية، تلك الفلسفة التي اتضح فيها التدخل المباشر، عندما تحولت من فلسفة مادية إلى فلسفة روحية؛ لتقوم بدورها التخلفي الرجعي فتمتزج بالعقيدة الأوزيرية، وتشكلان فلسفة إشراقية صوفية، تفي بالغرض الأمثل للمؤسسة العسكرية الحاكمة، كي يعطي ما لقيصر لقصير، وما لله لله، ومن هنا دخلت على الأوزيرية مصطلحات فلسفية لا تعني الجماهير في قليل أو كثير، أو ربما لم تكن مفهومة لهم أصلا، بينما انتشر بينهم منها (مع دور الكهان وما يمثلونه من قيمة للإنسان العادي) فقط الجانب الإشراقي المتمثل في انتظار الموت خلاصا. أما الطبقة المثقفة فقد انتشرت بينها هذه العقيدة والفلسفة انتشارا هائلا، بعد أن تم إفراغها من الطبقة صاحبة المصلحة في الجانب التثويري؛ لتصبح العقيدة الجديدة ترفا روحيا لأناس أوجعهم الشبع، يبحثون عن كل الغرابة ويذهبون وراء الإغراب، في بلاد الشرق والاستشراق.
وبعد أن انتهت المدرسة الرواقية المسيسة من إنجاز المهمة الموكلة إليها، تحولت فلسفة الكلمة
Logos
التي كانت تعني من قبل قانون الوجود، إلى أن تصبح هي سر الوجود، أي أصبحت فلسفة حلولية تنادي بالوحدة العالمية (تحت راية الإمبراطورية بالطبع)، وبالإخاء الإنساني، فقادت الحركة الروحية بزعامة «بوسيديونيوس»،
68
وبعد أن تحولت جامعة الإسكندرية إلى مرتع فلسفي للرواقيين، دمجت الكلمة
Logos
بالابن الإلهي «حور»، استنادا إلى تماثيله التي تصوره واضعا سبابته على فمه، علامة على أنه الكلمة.
69
ولما كان «حور» ممثلا لأبيه على الأرض، فقد أصبح الأباطرة الرومان كذلك هم المخلصون الحقيقيون لرعاياهم، مثل «نيرون»، الذي ارتفع بعد موته جسدا حيا إلى السماء بقسم مغلظ من «نوميرواتيكس»، ومن يشك في «نوميرو»؟
70
ومثل «أوغسطس» الذي قررت لائحة مجلس الشيوخ بشأنه أنه كان صورة تجسيدية للإله على الأرض، وقام الفيلسوف «سنكا» يعطيه لقب المخلص،
71
حتى أصبحت ديانة «أوزير» بعد فلسفتها رواقيا ديانة البطالمة الرسمية،
72
ومعروف أن الإمبراطور «هادريان» كان أهم المتحمسين لجعلها ديانة رسمية للإمبراطورية،
73
ومن ثم قرر الآثاري «أدولف إرمان» أن هذه العبادة انتشرت في كل الأرجاء؛ لأنها كانت «... تقدم لأتباعها عزاء أخيرا في كافة المصائب، وكانت تمنحهم الإيمان بحياة أخرى أفضل، يقضونها في مملكة أوزيريس.»
74
حتى إن الكلمة الرواقية تحولت إلى ضلع مقدس في الثالوث، وأصبحت معبودا انتشر في حوض المتوسط يعزي المسحوقين ويرفه عن المترفين، بعد أن صارت فيما يقول «أرنولد توينبي» «... العقل الخلاق السرمدي، الذي عرف فيه المفكرون الهيلينيون الحقيقة المطلقة الكامنة وراء مظاهر الكون.»
75
ولم تكن الكلمة سوى الأب ممثلا في الابن، والابن كان «حور»، وأصبح هو الإمبراطور.
ونتيجة لكل هذا التسارع استطاع الآثاري «إرمان» أن يؤكد أنه لم يعد «... في الإمبراطورية الرومانية الواسعة الأرجاء، مقاطعة واحدة لا تعبد فيها الآلهة المصرية، حتى استطاع ترتوليان أن يقول: إن الأرض بأسرها تعقد الإيمان اليوم باسم سيرابيس.»
76
أما ما أكده المرحوم «عباس العقاد»، فهو أن أكثر هذه المقاطعات تأثرا بهذا المذهب هي بلاد الجليل، حيث ولد السيد المسيح؛
77
مما حدا باليهود الناموسيين أو المتمسكين بحرفية التوراة، إلى طرح مثل سار على ألسنتهم يقول: «إنه لا خير يأتي من الجليل».
78
المهم أن العقيدة الأوزيرية قد استقطبت كل الأساطير الأخرى مثل تلك التي كانت تنسب إلى «... السحرة الذين يجففون البحيرات بكلمة ينطقون بها، أو يجعلون الأطراف المقطوعة تقفز إلى أماكنها، أو يحيون الموتى.»
79
ومن هنا استولى «أوزير» على كل «قصص الشفاء»،
80
وابتلع «أوزير» الإله الإيراني «ميثهرا»، وأصبح بدلا منه صاحب «العشاء الرباني المصنوع على هيئة الصليب»
81
وأصبح بدلا من الإله «ديونزيوس» «صاحب القلب المقدس وابن الإله الأوحد، الذي قتله البشر فحملوا إثم خطيئة عالمية، لا يغفرها إلا الخلاص، بالإيمان به، وبالتعميد، وبتعاطي جرعات من النبيذ تمثل روح ابن العذراء»، فتسري فيه الروح الخالدة. وأصبح هو المخلص المنتظر
82
عند الجماهير المطحونة، بعد أن ابتلع عقيدة «البوذيستافي»، وأصبح هو بدلا منه «... الله الابن ... منقذا ضحى بنفسه، وراعيا أمينا للقطيع البشري الضال».
83
وتحت الاحتلال الروماني، قام اليهود بعدة ثورات فاشلة، فقسمهم الفشل فرقا، لعل أشهرها: الصدوقية والفريسية. وبرغم الفشل أمام جيوش الرومان التي بلغت حد الاكتمال، فقد ظل الصدوقيون مخلصين لتوراة «موسى» وقصص الأنبياء السوالف، بل ازدادوا سلفية وتمسكا بحرفية التقليد، إضافة لكونهم كهنة الهيكل وسدنته، مما حدا بهم إلى رفض منطق العصر وتغيرات الزمن، فظلوا يحلمون بمملكة «داود» الغابرة، ثم تصوروا أن هذه المملكة لا بد أن تقوم مرة أخرى على يد واحد من نسل «داود» ضمانا لنقاء الدم الملكي، وهذا الشخص الملك موجود، لكنه مفقود ضائع بين بيوت إسرائيل، وفي حال إعلانه عن نفسه سيقود شعبه بقوة السلاح؛ ليجتاح قلاع الرومان ويطبق شريعة «موسى». ومن هنا قاموا يفسرون بعض الآيات القديمة بمنهج التأويل، على أنها نبوءات بظهور هذا الملك العظيم عندما تشتد المحنة بالشعب، وسيأتي جبارا مثل «شاءول»، مقاتلا مثل «داود»، حكيما مثل «سليمان». وفعلا بدأ العصر يرهص بالنبوءة الصدوقية، ينتظر يهوديا يعلن أنه حفيد «داود»، وعندئذ سوف يمسحه الصدوقيون بالزيت المقدس مسيحا، حسب الشرعة التوراتية لصحة التتويج الملكي.
هذا، بينما كانت مقاطعة الجليل في واد آخر، يموج بفلسفة الإسكندرية وفلسفتها الرواقية وعقيدتها الأوزيرية، بحيث رفض أهلها منطق الصدوقيين، بعد أن انكسرت الثورات على رماح الرومان واحدة إثر أخرى، وأصبحت القناعة أنه لا يقدر على الرومان إلا الرب، ولم يعد مجديا إلا أن يهبط الرب بنفسه كما هبط لموسى من قبل، ولكن في صورة روحانية بروح قدس، تحل في بذرة بشرية في أحشاء عذراء تنجبه أو تنجب منه ابنا هو المخلص الموعود، وسيكون هو الكلمة والقانون، فكلمة الله نافذة، فلا يحارب ولا يقود جيوشا، إنما يتكلم بالسلام، ويقيم دولة المحبة التي أرادها فلاسفة الرواقية.
وحدث أن ظهر، في الجليل، وفي قرية من أعمالها هي «الناصرة»، من أعلن أنه قد توافرت فيه المواصفات المطلوبة في «المسيح» المنتظر، وهو ما سجلته الأناجيل كما سنرى:
يستهل الإنجيلي «يوحنا» - وهو واحد من تلامذة المدرسة الرواقية - إنجيله بقوله: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله» (1: 1). «وأن الله صار جسدا وحل بيننا» (1: 14). أما كيف حدث ذلك، فهو ما يشرحه الإنجيلي «لوقا» في إنجيله بالقول: «أرسل جبريل الملاك من عند الله إلى مدينة في الجليل، اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل عليها الملاك وقال: ... ها أنت تحبلين وتلدين ابنا، هذا يكون عظيما، وابن الله يدعى ... القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (1: 26-35). ومن هنا لم يراود «بولس الرسول» أي شك وهو ينادي ورجع الصدى منه يردد في أرجاء المتوسط: «إنه إلهي يسوع المسيح.» الرسالة إلى رومية (1: 18)، «إنه ربنا يسوع المسيح.» الرسالة إلى فيلبي (4: 23). أما «بطرس الرسول» فقد أخذ على عاتقه نفي أية علاقة للمسيح «ابن الله» بأي أبناء آلهة آخرين في تراث المنطقة، فقام يؤكد القول: «إننا لم نتبع خرافات مصطنعة، إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه؛ لأنه أخذ من الله كرامة ومجدا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسمى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به، ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلا من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس.» رسالة بطرس الثانية (1: 16-18). وإعمالا لذلك أكد «يوحنا» أن «... المسيح ابن الله الحي» (6: 69) ... أما سبب مجيئه عند «بولس» أن «الله بين محبته لنا ونحن بعد خطاة، مات المسيح لأجلنا، وقد صولحنا مع الله بموت ابنه. الرسالة إلى رومية» (5: 8). وأنه قد «مات من أجل خطايانا ... وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث.» الرسالة الأولى لكورنثوس (15: 3-4). وأن من يؤمن بذلك فإن يوحنا يؤكد له أنه سيصبح ابنا للمسيح خالدا مثله، «... كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الإله. أي المؤمنون باسمه» (1: 12)، وأكد المعنى نفسه «بولس» بقوله: «الله نفسه أبونا وربنا» الرسالة إلى تسالونيكي (3: 11)، وسبب هذه الأبوة عند «بطرس» هو الحصول على الطبيعة الإلهية الخالدة، أو كما قال: «... لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية.» الرسالة الثانية «1: 3-4»، وهو ما أوضحه بالقول: «والذي يؤمن بالابن له حياة أبدية» (الرسالة الثانية، 3: 35).
مع هذا الاعتقاد الجازم في ألوهية «المسيح»، أو بنوته للإله، وأنه ولد من عذراء، وأنه هبط فداء للبشر وتخليدا للمؤمنين في عالم آخر عوضا عن عالم الآلام الدنيوي، فقد تلازم مع هذا الاعتقاد اعتقاد آخر عجيب، فهذا «لوقا» بعد تأكيده عن المسيح «هذا يكون عظيما وابن الله يدعى»، يردف القول مباشرة ويعطيه الرب كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد (1: 32-33) ثم لا يني يردد أنه: «هو مسيح ملك» (23: 22)، وينادي: «تبارك الملك الآتي باسم الرب» (19: 38).
أما الإنجيلي «متى»، فيرصد «المسيح»، آخر النسل في شجرة نسب بيت الملك «داود»، وأنه الملك المنتظر للجلوس على عرش إسرائيل، فإن «مرقس» يقول: «مبارك الآتي باسم الرب، مباركة هي مملكة أبينا داود» (مرقس، 11: 9-10)، ثم هذا «يوحنا» يحكي أن: «فيليبس وجد نثنائيل وقال له: وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء: يسوع بن يوسف الذي من الناصرة» (5: 45-46). لذلك اضطر «بولس» لمحاولة شرح توفيقي يقول عن المسيح: «هو فعلا الذي سبق فوعد به في الكتب المقدسة عن ابنه، الذي صار من نسل داود من جهة الجسد، وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة، القيامة من الأموات» (الرسالة إلى رومية). (9) مقولة ختامية
ليست هناك ثقافة، أيا كانت، يمكن فرضها على شعب من خارجه، إن لم تجد لها أرضا خصبة تناسبها، فما بالنا ومنابت هذه الثقافة تضرب بجذورها في أعماق تاريخنا القديم، وأن كل ما حدث هو أن العبريين قد تمكنوا من استخدام هذه الثقافة كأداة للوعي بتاريخ المنطقة، وهم الغرباء، من أجل السيطرة عليها، بدءا بالسيطرة الروحية، وتوجيهها وفق المخططات المطلوبة، بينما نحن اليوم نرفع شعارات الثقافة القومية، والمهول في الأمر أننا لا نعني بهذه الثقافة - في الأغلب الساحق - سوى جزء من تراثنا، هو بالتحديد الجزء الذي تم تهويده وأعيد تصديره إلينا؛ مما أدى بنا إلى وعي مزيف بحقيقة تراثنا، بينما الوعي الصادق بأصالتنا يعني، في رأيي، الوعي بتاريخنا كله وعيا ناقدا، وألا يقتصر على فترة محددة من هذا التاريخ، وأن غياب الوعي الصادق بالتراث الصادق وبالتاريخ الصادق، لغياب العقلية النقدية، هو الخطر الحقيقي الذي تتعرض له هذه الأمة، وهو ما أتصور «د. جواد علي» كان يعنيه بالتعبير: «شر أنواع الاستعمار».
لوحة رقم 21: ختم أسطواني سومري، ينتمي إلى حوالي منتصف الألف الثالثة ق.م. كائن حاليا بالمتحف البريطاني بلندن، يمثل أفعى تنتصب خلف امرأة تمد يدها في شكل دعوة للرجل الجالس أمامها لتناول ثمرة من شجرة أو نخلة بينهما. ولعله من الواضح تماما أن هذا النقش الذي سبق تدوين الكتاب المقدس بقرون طويلة يمثل قصة إيعاز الحية للذكر والأنثى الأوائل بأكل الثمرة المحرمة.
لوحة رقم 22: الإلهة: المرأة الحية، فن هندي.
لوحة رقم 23: فن معاصر (الفنان فرانس براملي وارن) المرأة والحية.
لوحة رقم 24: إيزيس الأم الإلهية ترضع ولدها الإلهي حورس، فن مصري قديم.
لوحة رقم 25: الربة إيزيس وابنها الإلهي، فن مصري قديم.
لوحة رقم 26: العذراء ووليدها، فن مسيحي. لاحظ تاج الملوكية الأرضي، ومعه هالة الألوهية المستديرة.
لوحة رقم 27: العذراء والطفل بالهالة السماوية المستديرة خلف الرأس.
فن مسيحي.
لوحة رقم 28: رمز الصليب في حضارات ثلاث قديمة من اليمين إلى اليسار: مصري، رافدي، إيراني.
الملوك الأربعة
روى مجاهد عن ابن عباس قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران:
فأما المؤمنان: فسليمان وذو القرنين.
وأما الكافران: فالنمروذ بن كنعان وبخت نصر. (1) المؤمن الأول سليمان
عن «أبي هريرة»، وعن «أبي الدرداء»، وعن «محمد بن سلمة»، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال: «إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان، والله لولا دعوة أخي سليمان، لأصبح موثقا يلعب به ولدان المدينة» (رواه البخاري ومسلم والنسائي).
وأن هذه الدعوة أو الدعاء السليماني، الذي دفع النبي (محمدا
صلى الله عليه وسلم ) لترك هذا العفريت المنفلت، وحرمان ولدان المدينة - أبناء أنصار رسول الله - من اللعب بهذه اللعبة الفريدة من نوعها، فهو ما تتضمنه الآيات الكريمة:
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب * قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (ص: 34-35). فكان دعاء «سليمان» إذن لربه هو: هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، وهو الملك الذي تطالعنا به كتب التراث الإسلامية متسلطا على الكائنات جميعا بما فيها العفاريت والجن، ومن ثم أطلق النبي
صلى الله عليه وسلم
عفريته الأسير، حتى لا يتجاوز سليمان، وربما كان هذا الدعاء في تلك الآية الكريمة، وراء المأثور الإسلامي: إن سليمان واحد من بين أربعة ملكوا الأرض كلها ما بين المشرق والمغرب.
أما عن الفتنة التي تشير إليها الآيات الكريمة، والجسد الملقى على عرش سليمان (عليه السلام )، ثم توبته ومكافأته بملك لا ينبغي لأحد من بعده، فيعقب عليها «ابن كثير» في موسوعته «البداية والنهاية» بقوله: «ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين ها هنا آثارا كثيرة عن جماعة من السلف، أكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات، وفي كثير منها نكارات شديدة، وقد نبهنا على ذلك في كتابنا التفسير، واقتصرنا هنا على مجرد تلاوة الآيات.»
1
وهكذا توقف «ابن كثير» عن التفسير، واقتصر على مجرد التلاوة، لما وجده في التفسيرات من نكارات متلقاة من الإسرائيليات، وربما كانت هذه النكارة تعود بأصلها إلى ما جاء في كتاب العبريين المقدس - أصحاب القصة والمملكة ورعية «سليمان» - حول اختلاف «سليمان» مع أخيه الأكبر «أدونيا» حول العرش، وما قام بينهما من صراع استند فيه «أدونيا» إلى مبدأين شرعيين: الأول هو كونه الابن البكر صاحب الحق في الملك والميراث حسب الشريعة العبرية، والثاني أنه كان يحوز تأييدا شعبيا وجماهيريا هائلا، وتمكن «سليمان» بمعاونة أمه من اغتصاب الحكم من صاحبه الشرعي، ثم جاء الخلاف الذي قطع آخر العرى بين الأخوين، وكان حول امرأة، وانتهى بأن أمر «سليمان» بذبح أخيه الأكبر؛ ومن ثم وجب كشف الأستار عن الرواية كما جاءت بكتابها، حتى تكشف لنا النكارة، ثم نتبعها برواية القرآن الكريم، وما جاء في الأثر التراثي الإسلامي، إزالة للبس، ودحضا للنكارة.
وخبر مقتل «أدونيا» على يد أخيه «سليمان» أو بأمر منه، جاء تفصيله في سفر الملوك الأول، وهو السفر الذي يحوي أهم أخبار الملك «سليمان»، الذي سنكتفي بالإشارة إلى رقم الإصحاح فيه عند الاستشهاد بمحتوياته، ويروي السفر هذا الخبر بقوله:
وجلس سليمان على كرسي داود أبيه وتثبت ملكه جدا. ثم جاء أدونيا ابن حجيث (أمه) إلى بتشبع أم سليمان. فقالت: أللسلام جئت؟ فقال: للسلام. ثم قال: لي معك كلمة، فقالت: تكلم. فقال: أنت تعلمين أن الملك كان لي، وقد جعل جميع إسرائيل وجوههم نحوي لأملك، فدار الملك وصار لأخي؛ لأنه من قبل الرب صار له. والآن أسألك سؤالا واحدا فلا ترديني فيه، فقالت له: تكلم. فقال : قولي لسليمان الملك - لأنه لا يردك - أن يعطيني أبيشج الشونمية امرأة. فقالت بتشبع: حسنا ، أنا أتكلم عنك إلى الملك. فدخلت بتشبع إلى الملك سليمان لتكلمه عن أدونيا ... وقالت: إنما أسألك سؤالا واحدا صغيرا لا تردني. فقال لها الملك: اسألي يا أمي لأني لا أردك. فقالت: لتعط أبيشج الشونمية لأدونيا أخيك امرأة. فأجاب الملك سليمان وقال لأمه: ولماذا أنت تسألين أبيشج الشونمية لأدونيا، فاسألي له الملك لأنه أخي الأكبر مني ... وحلف سليمان الملك بالرب ... والآن هو الرب الذي ثبتني وأجلسني على كرسي داود أبي، والذي صنع لي بيتا، كما تكلم، إنه اليوم يقتل أدونيا. فأرسل الملك سليمان بيد بنايا هو بن يهويا داع، فبطش به، فمات. (ص2)
وسفر الملوك الأول الذي وردت به هذه القصة، هو السفر نفسه الذي استفاض في الحديث عن مجد «سليمان» وحكمته وعظمة ملكه؛ مما يشير إلى أنه لم يقصد للملك إساءة، بقدر ما قصد الإشادة بمحبة الله لسليمان، التي دعت لتفضيله على «أدونيا» أخيه، وتمكينه من العرش رغم فعلته. وقد دعت استفاضة هذا السفر في تمجيد المملكة السليمانية الباحث الإسلامي الموسوعي «الدكتور أحمد شلبي»، إلى الاقتباس من موسوعة «ويلز» «معالم تاريخ الإنسانية» قولا له أهميته ومغزاه، وهو «أن قصة ملك سليمان وحكمته التي أوردها الكتاب المقدس، تعرضت لحشو وإضافات على نطاق واسع، على يد كاتب متأخر شغوف بالمبالغات. وقد استطاعت هذه الرواية أن تحمل العالم المسيحي، بل والإسلامي، على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمة وأبهة، وقد أسهب سفر الملوك الأول في تصوير مجد سليمان وأبهته وفخامته، ولكن الحق أنه إذا قيست منشآت سليمان، بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهينات ... وكانت مملكة سليمان رهينة تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتها في معظم أمرها إلى ضعف مصر المؤقت ... فسليمان وهو في أوج مجده لم يكن إلا ملكا صغيرا تابعا، يحكم مدينة صغيرة، وكانت دولته من الهزال وسرعة الزوال، بحيث إنه لم تنقض بضعة أعوام على وفاته، حتى استولى شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.»
2
الملك والحكمة
ورغم مبالغات السفر المذكور، فإنه بخلاف حديث الملوك الأربعة، لم يخرج بحدود مملكة «سليمان» عن منطقة فلسطين الحالية «وكان سليمان متسلطا على جميع الممالك، من النهر إلى أرض فلسطين، وإلى تخوم مصر» (ص4). أما عن حكمته وعظمته، فيقرر الكتاب المقدس أنه أعطيهما بناء على دعائه ربه، وكان رد الرب عليه «هو ذا قد فعلت حسب كلامك، هو ذا أعطيك قلبا حكيما ومميزا، حتى إنه لم يكن مثلك قبلك، ولا يقوم بعدك نظير ... فتعاظم الملك سليمان على كل ملوك الأرض، في الغنى والحكمة ... وفاقت حكمة سليمان حكمة كل بني المشرق، وكل حكمة المصريين (لنلاحظ الأثر النفسي لذكرى أيام الاستعباد في مصر، ووجوب تفوق سليمان عليهم) فتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفا وخمسا، وتكلم عن الأشجار من الأرز التي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك، وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان، من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته» (ص3، 4، 10).
وأول ما نلاحظه حول حدود المملكة، أنه ما كان لها وقد نبتت كدويلة بالأمس، وما كان لملك ناشئ، أن يصل بسلطانها إلى النهر «الفرات» وقت السيادة الآشورية وما أدراك ما الآشوريون، أو أن تتجرأ الدويلة فتتبسط في ممارسة السلطان على تخوم مصر وما أدراك ما الفراعين، وما كان لها أن تطال لبنان. بينما يقول السفر نفسه: إن سليمان كان يدفع لحيرام ملك صور وصيدا إتاوة سنوية «وأعطى سليمان حيرام عشرين ألف كر حنطة، وطعاما لأهل بيته، وعشرين كر زيت، وهكذا كان سليمان يعطي حيرام سنة فسنة» (ص5).
والملاحظة الثانية، هي أن حكمة «سليمان» تمثلت في ثلاثة آلاف مثل، وشعر حكمي تضمن حديثا عن الشجر والطير والسمك والدبيب (أي النمل)، وتحتويه أسفار أخبار الأيام الثاني والأمثال ونشيد الإنشاد، وربما كان في الأصل العبراني للكتاب إصحاحات تحتوي على شيء يشبه كتاب «بيدبا» «كليلة ودمنة»، الذي يحوي أمثلة حكمية وضعها مؤلفها على ألسنة الحيوان والطير والهوام. أما الملحوظة الثالثة، فهي حول الأصل العبراني للكتاب المقدس، الذي كتب بلغة بدائية، بحروف غير صائتة، وساكنة، قبل تصويتها وتحريكها قياسا على اللغة الآرامية، وهو ما يمكن أن يحدث خلطا في فهم النصوص، وخاصة في الحروف، مثل حديثه «عن» الأشجار والحيوان والنمل، والتي يمكن في الحال القديمة فهمها أنها حديث «إلى» و«مع».
والكتاب المقدس في حديثه عن مجيء كل ملوك الأرض ليسمعوا من «سليمان» حكمته، نجده على غير عادته في التفصيل والتدقيق والتكرار، لا يذكر لنا سوى خبر عن ملكة منكورة، لا يعلم التاريخ من أمرها شيئا، يقول فيه: «سمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب، فأتت لتمتحنه بمسائل. فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا، بجمال حاملة أطيابا وذهبا كثيرا جدا وحجارة كريمة. وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها. فأخبرها سليمان بكل كلامها ... فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان، والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده، وموقف خدامه وملابسهم، وسقاته، ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب، لم يبق فيها روح بعد، فقالت للملك: صحيحا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي، فهو ذا الصنف الذي لم أخبر به ... فانصرفت، وذهبت إلى أرضها» (ص10).
وهنا أيضا نظر وملحوظات
الملحوظة الأولى أن النص لم يذكر اسم الملكة أصلا، والثانية أن التعبير «وكلمته بكل ما كان بقلبها»، إنما كان يعني «بكل ما كان يدور في خاطرها من استفسارات؛ لتمتحنه بمسائل»، إذ كان مظنونا آنذاك أن القلب مركز التفكير، وهو ما يشهد به الكتاب المقدس نفسه في قول الرب لسليمان: «هو ذا أعطيك قلبا حكيما ومميزا»، لكن قراءة أخرى يمكن أن تحول الأمر إلى حديث عن الحب ولوعته، وربما استدعى مركز العاشقين إنهاء حالة الوجد بزواج ملكي عظيم، والملحوظة الثالثة هي ما جاء عن اسم هذه الملكة في التراث العربي «بلقيس»، مقارنا بما جاء في قول «إسحاق الأنطاكي» في القرن الخامس الميلادي، إن العرب كانوا يعبدون إلهة تدعى «بلتيس»، وقد ذكر «بلتيس» أيضا «بر على» في معجمه على أنها المعبود الكوكبي «فينوس » أو الزهرة، وأنها هي التي مثلوها في صنم العزى؛ ومن ثم يبدو أن اسم «بلقيس» لا يعدو كونه من بقايا العبادات الأسطورية القديمة، أما آخر أباطرة الحبشة «هيلاسلاسي» فكان يزعم أنه الحفيد الأخير في سلسلة أباطرة حكموا الحبشة، وأن هذا السلسال يعود بالبنوة إلى العلاقة التي قامت بين «سليمان» و«بلقيس»، بعد أن خلبت لبه بفتنتها، ولتأكيد علاقته بسليمان ملك اليهود، فقد استساغ لنفسه لقب «أسد يهوذا»، ولا يغيب عن فطن إمكان تحول الاسم «بلقيس» إلى «بلتيس»، نتيجة الخلط اللساني، وما اشتهر في الأسطورة: أن الزهرة كانت ربة فتنة وإغواء جسدي (ارجع للمزيد حول موضوعنا: الزهرة بين الخصب والحرب).
3
أما الملحوظة الرابعة، فهي بعد الشقة ما بين مملكة سبأ اليمنية وفلسطين، مرورا بصحراء عظمى في الجزيرة العربية، وصعوبة تصور الملكة تحتمل كل هذه المشاق، لمجرد أن تمتحن «سليمان» بمسائل! إلا أن حل المسألة هنا، نجده في كشف لمدرسة الآثاري «فرتز هومل»، التي ذهبت إلى أن القبائل التي كونت دولة سبأ اليمنية، كانت قبل نزوحها إلى اليمن، تسكن شرقي خليج العقبة، أي إنها كانت تسكن على الحدود الجنوبية لفلسطين الحالية،
4
وثمة دعم وجدناه لوجهة نظر «هومل» فيما جاء بالنصوص الرافدية القديمة، حول بدو أعراب يعيشون في مملكة يحكمها النساء. وأطلقت النصوص على هذه المملكة اسم «أريبي» أو «عريبي»، وأشارت إلى أنها تقع شرقي خليج العقبة، أو بالتدقيق إلى الجنوب الغربي من بلاد العراق.
5
وغير تلك الملكة المشغولة بحل المسائل، لا يحدثنا الكتاب المقدس عن استقبال البلاط السليماني لملك آخر من ملوك الأرض، والملحوظة الخامسة، فهي حول مجد وعظمة هذه المملكة، التي وصل خبرها إلى ملكة سبأ، وهو ما يعقب عليه الدكتور «أحمد سوسة» بقوله: «أما الوصف الذي اعتاد أكثر الباحثين ترديده عن اتساع وامتداد حدود مملكة سليمان، فيعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات التي درجت عليها دويلات تلك العصور، والحقيقة أن مملكة سليمان التي تبجح اليهود بعظمتها، كانت أشبه بمحمية مصرية مرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة، الذين كان أهم ما يهدفون إليه من وراء هذا الإسناد، حماية حدودهم الشرقية من غارات الأقوام الطامعة بمصر، وفي مقدمتهم الآشوريون، وكان سليمان يريد أن يجاري الفراعنة في البذخ، والظهور بما هو فوق طاقته وإمكانياته الاقتصادية، وذلك بإغداقه في إقامة الأبنية الشاهقة والقصور الفخمة، فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب، كما أثقل خزينة الدولة بالديون المتراكمة.»
6
وحتى هذه الأبنية الشاهقة التي أثقلت كاهل الشعب بالديون - فيما يرى «سوسة» - هي بدورها مسألة فيها نظر وملحوظات.
تغنيا بهذه العظمة، يفاخر سفر الملوك الأول بجيش الملك «سليمان» الهائل، فيقول: «وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته، واثنا عشر ألف فارس ... فكان له ألف وأربعمائة مركبة» (ص4، 10)، هذا ناهيك عن منشآته المعمارية، التي تمثلت في بناءين: الأول بيت الرب أو الهيكل (واسمه مأخوذ عن الكلمة الكنعانية هيكال)، والثاني هو القصر الذي خصصه «سليمان» عليه السلام كسكن خاص له، ومقر للحكم، فأما الهيكل فهو «البيت الذي بناه سليمان للرب، وطوله ستون ذراعا، وعرضه عشرون ذراعا، وسمكه ثلاثون ذراعا ... وجميع الببت غشاه بذهب ... وعمل في المحراب كروبين ... وغشى الكروبين بذهب (الكروبين مثني كروب، وهو نصب في هيئة نسر مجنح)» (ص6). أما القصر فكان واضحا أنه أكثر ضخامة وفخامة من بيت الرب، فقد كان «طوله مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، وسمكه ثلاثون ذراعا ... كل هذا من أحجار كريمة ... وكان مؤسسا على حجارة كريمة ... وعمل البحر مسبوكا عشرة أذرع (يقصد حوض أسماك زينة)» (ص7).
أما عرش الملك فقد «غشاه بذهب من إبريز، وللكرسي ست درجات ... أسدان واقفان بجانب اليدين ... واثنا عشر أسدا واقفة هنا وهناك على الدرجات الست (يقصد تماثيل) ... وجميع آنية شرب الملك من ذهب ... وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة» (ص10). وحتى تستكمل العظمة، كان محتما أن يتمم الملك الأبهة بزوجة تليق به، ونسب يضاهيه جاها واقتدارا، ولما لم يكن وقتها من هو أعظم من فراعنة مصر أبهة وجاها واقتدارا، ورغم العداء المرير الذي تقطر مرارته في كل إصحاح من أسفار الكتاب المقدس، ضد مصر والمصريين، فقد «صاهر سليمان فرعون مصر ، وأخذ بنت فرعون» (ص3)، وقد قدم الفرعون لابنته هدية زفاف عظيمة، «وصعد فرعون ملك مصر، وأخذ جازر وأحرقها بالنار (جازر مدينة ساحلية فلسطينية)، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرا لابنته امرأة سليمان» (ص9).
وحتى يستكمل الملك بقية مظاهر الأبهة، فقد «أحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون، مؤابيات وعمونيات وآدوميات وصيدونيات وحيثيات ... وكانت له سبعمائة من النساء السيدات، وثلاثمائة من السراري» (ص11)، وكي يطيق الملك وصال هذا الحشد المهول من الأجساد، فقد منحه الله قدرة أكثر هولا، تمثلت في قول الكتاب: «وكان طعام سليمان لليوم الواحد: ثلاثين كر سميد، وستين كر دقيق، وعشرة ثيران مسمنة وعشرين ثورا من المراعي، ومائة خروف، ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن» (ص4).
والأمر إضافة إلى طرافته، فإن فيه نظرا وملحوظات: الملحوظة الأولى وتتعلق بهذا الجيش العرمرم من المركبات والفرسان، وهو ما يناله شك كبير، في ضوء نص آخر بالسفر نفسه، يشير إلى استعصاء المدينة الساحلية (جازر) على «سليمان»، حتى إن صهره الفرعون أرسل بضع كتائب احتلتها له، ثم أهدتها إياه كعربون صداق لعرس ابنة الفرعون، لكن حتى هذا الزواج بدوره يشوبه شك أكبر، خاصة مع ما نعلمه من وثائق التاريخ عن سنن الفراعين، الذين لم يدرجوا على زواج بناتهم لغير مصريين، حتى لو كانوا ملوكا، اتباعا لسنة سنت حق الملك للإناث من الأسر الحاكمة، وأن العرش كان لا يئول لوليه إلا بزواجه من الأميرة صاحبة الميراث؛ ومن ثم سوغوا - ولا غضاضة - زواج الأخت الشقيقة ليتمكن الأمير من شرعية حكمه، وإذا عز وجود ذكر من داخل الأسرة المالكة، فكان لا بد للمرشح للعرش من المرور بطقوس دينية وتطهيرية وارتقائية يطول شرحها، تنتهي أيضا بشرط زواجه من الأميرة الوارثة، فما بالنا والأمر يتعلق بملك من العبريين؟ أولئك الذين كانوا في نظر المصريين الاعتياديين وليس الملوك، وحسب نص الكتاب المقدس نفسه، رجسا ونجسا يجب على المصري تحاشيه واجتنابه، فلا يساكنه (كما يقرر إصحاح 46 من سفر التكوين)، ولا يؤاكله (كما يقرر إصحاح 43 من سفر التكوين).
وحتى لو سلمنا بصدق الرواية التوراتية حول هذا الزواج، فإن «ويلز» يعقب بالقول: «كان من الجائز أن يتنازل الفرعون، فيقبل في حريمه أميرة بابلية، ولكنه كان يرفض رفضا باتا أن يسمح لأميرة مصرية لها ما لها من قداسة، أن تصبح زوجة لعاهل بابلي، فما بالك بملك صغير كسليمان، استطاع أن يتزوج أميرة مصرية. إن هذا يدل دلالة واضحة على انحطاط مهابة مصر وتدهورها في هذه الأثناء.»
7
ثم يشير إلى أنه لولا هذا التدهور المؤقت لما قامت مملكة «سليمان»، فتدهور مصر حينذاك هو الذي أدى إلى تخفيف هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام؛ مما ساعد على قيام المملكة السليمانية، ومنح «داود» والد «سليمان» شيئا من حرية الحركة والنشاط والتبسط في ممارسة السيادة.
والملحوظة الثانية تتعلق بمنشآت «سليمان»، التي تأكد أنه قد قام بها فنيون متخصصون، أرسلهم «حيرام» ملك صور وصيدا لسليمان، إضافة إلى المهندسين المصريين والرافديين، وذلك فيما وصل إليه البحاثة «موسكاتي».
8
أما الدكتور «شلبي»، فهو كعادته يلجأ إلى «ويلز» يستنطقه فيقول: «إننا لو استخرجنا من قصة التوراة أطوال معبد سليمان، لوجدنا أن بالإمكان وضعه داخل كنيسة صغيرة من كنائس الضواحي.»
9
وربما كان مناسبا هنا إيراد تأكيد «غوستاف لوبون» لما انتهى إليه «موسكاتي»، إذ يقول: «لا ينبغي لنا أن نتحدث عن وجود شيء من فن النحت أو التصوير عند بني إسرائيل، وقل مثل هذا عن فن البناء عندهم، فانظر إلى هيكلهم المشهور، الذي نشر حوله كثير من الأبحاث المملة، تجده بناء أقيم على الطراز الآشوري المصري، من قبل بنائين من الأجانب كما تقول التوراة، ولم تكن قصور سليمان غير نسخ رديئة للقصور المصرية والآشورية.»
10
والملحوظة الثالثة هي حول كمية الأحجار الكريمة، والذهب، التي استخدمها سليمان في بناء منشآته ودلالة على عظمة الملك، تلك العظمة التي أدت به لردم أسس المنشآت بالأحجار الكريمة، وجعلت الفضة في أورشليم كالحجارة، التي يعقب عليها موسكاتي بالقول: «إن الزيادة العظيمة في سعة البلاط وفخامته ... اضطرت سليمان إلى إقامة نظام ضرائب، ألقى على شعبه عبئا ثقيلا ... فكانت البلاد رغم الرخاء تسير نحو أزمة اقتصادية.»
11
وفي رأينا أن أبرز الأدلة على تفاقم هذه الأزمة واحتدادها، هو ما جاء في سفر الملوك الأول عن أسلوب سداد «سليمان» لديونه، من أجور البنائين والمهندسين للملك «حيرام»، فيقول: «وبعد نهاية عشرين سنة، بعدما بنى سليمان البيتين: بيت الرب وبيت الملك. وكان حيرام قد ساعف سليمان بخشب أرز وخشب سرو وذهب حسب كل مسرته. أعطى حينئذ الملك سليمان حيرام عشرين مدينة في أرض الجليل» (ص9)، هذا بينما جعل «حيرام» من مملكة «سليمان» أرضا مستباحة لجيوشه، ومعبرا له إلى البحر الأحمر. وهو ما يستنتج من قول الكتاب المقدس: «وعمل الملك سليمان سفنا في عصيون جابر (ربما العقبة الحالية) التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم. فأرسل حيرام في السفن عبيده النواتي العارفين بالبحر مع عبيد سليمان، فأتوا إلى أوفير (مظنون أنها الصومال حاليا) وأخذوا من هناك ذهبا ...» (ص 9).
ولم يأت عام 923ق.م. حتى انقسمت مملكة «سليمان» على نفسها، عندما طلبت القبائل الشمالية من «رحبعام بن سليمان» إعفاءها من الضرائب، ورفض «رحبعام»، فكان أن قاموا بثورة انتهت بانفصال نصف المملكة الشمالي، وأسسوها مملكة تحمل اسم إسرائيل، أما الجنوبية فحملت اسم يهوذا.
ثنائيات التأسيس والسقوط
وانقسمت مملكة «سليمان» على نفسها بموته، عام 923ق.م.
وفي رأينا أن هذا الانقسام في المملكة الناشئة، والذي انتهى بانهيارها التام واندثارها، هو ناتج طبيعي، وإفراز منطقي، لمجموعة من الصراعات بين مجموعة من النقائض، تتمثل في أكثر من ثنائية داخل المملكة السليمانية.
ثنائية أولى يمثلها عنصران: العنصر الوطني من أهل المنطقة الأصليين، الذين كانوا يشكلون ممالك صغيرة في هيئة مدن متناثرة، قبل أن تندرج جميعا في المملكة العبرانية، والعنصر الثاني يمثله العبريون الوافدون، والذين شكلوا أمثل نماذج الاستعمار الاستيطاني. هذا إضافة إلى ما تركه العنف الذي صاحب إنشاء المملكة، وما تركه متأججا في صدور أهل البلاد، والذي دعا كاتبا إسلاميا كالدكتور «شلبي» للتعقيب عليه بقوله: «وكان عهد داود - بناء على ما جاء في العهد القديم - غارقا في دماء الضحايا، شديد القسوة.» وعقب عليه «ويلز » بقوله: «وقصة داود بما تحوي من قتل وسفك دماء واغتيالات متلاحقة، يأخذ بعضها برقاب بعض، أشبه بتاريخ أحد الرؤساء المتوحشين، منها بتاريخ ملك متمدن.»
12
وكلا الكاتبين إنما كان يعقب على ما ورد في سفر صموئيل الثاني، الذي يحكي قصة احتلال داود لمملكة عمون (المظنون أنها عمان الحالية)، فأخذ غنائمها وعلى رأسها تاج الملك، ثم قام بإبادة شاملة لكل العناصر الوطنية في المدينة المملكة، أو بنص الكتاب المقدس: «وأخرج الشعب الذي فيها، ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفئوس حديد، وأمرهم في أتون الآجر» (ص12).
وثنائية أخرى يمثلها طرفان: الطرف الأول: الأرستقراطية الحاكمة وما ينطوي في داخلها من رجال المؤسسة السياسية وإدارات الدولة، والطرف الثاني أرستقراطية كهنوتية عريقة قامت وتمكنت منذ أيام النبي «موسى»، ومثلها بيت «لاوي» أو «ليفي» من أسباط بني إسرائيل، حتى استطاع «سليمان» وأبوه «داود» ترويضها وتسييسها، بإخضاع الكاهن الأكبر «أبيثار» لسلطان الملك، وبسط حماية الدولة على الدين، وإلحاق بيت «ليفي» بإدارات الدولة، ليس كهيئة قبلية تقوم بأعمال الكهانة، وإنما بإذابتهم كموظفين تابعين في المؤسسة السياسية، لكن ذلك لم يكن يعني عدم استبطان القسمة القبلية الأولى، وتحفز بيت «ليفي» وترقبه الفرص للقفز على كرسي السلطة.
وكان تسييس الكهانة ناتجا عن تحول العبريين من حالة البداوة إلى حالة الاستقرار، في مناطق زراعية؛ مما حول بعضهم إلى العمل في فلاحة الأرض، والتوحد في كيان مركزي واحد، ربما مهد مع طول الوقت وبالتدرج الطبيعي لنضوج الأوضاع الاجتماعية، إلى تفجير الأطر القبلية، لإقامة المشاريع الكبرى التي تفرضها طبيعة الحياة في بيئة زراعية، لكن مشاريع «سليمان» لم تكن ناتج علاقة طبيعية بالأرض وطبيعتها، ولا ناتج إفراز تلقائي تطوري، كما كان في مصر والرافدين، وهو ما حدث لصالح الاستخدام الأمثل والموحد للطاقات البشرية في تلك الحضارات القديمة؛ لتنظيم الزراعة والسيطرة على المياه وإقامة المشاريع الضخمة ، حيث كانت الأنهار الكبرى (النيل، دجلة، الفرات) وما تكونه من شبكات مائية متعددة الروافد والترع والقنوات، يصعب أحيانا السيطرة عليها وقت الفيضان، بحاجة إلى توحد الشعوب لترويض هذه المياه الهائلة؛ مما أدى لإفراز تلقائي لإمبراطوريات كبرى تتمركز في قوى موحدة ومركزية سياسية، تضم ملايين الرجال للأعمال الكبرى، بينما كانت أرض فلسطين طوال تاريخها على عكس جارتيها تماما؛ ولهذا السبب لم تشهد سوى الدويلات، أو المدن الدول أو المدن الممالك، وذلك لاختلاف بيئة فلسطين الطبيعية، عن البيئة في مصر والعراق، واعتمادها في مجال الفلاحة على الأمطار والنهير (قياسا على أنهار مصر والعراق)، بينما شكل الرعي العمل الأساسي إلى جانب التجارة؛ ومن ثم كان قيام المملكة السليمانية بتفجير الأطر القبلية، ليس استجابة لحاجات طبيعية وإفرازا لمسار تاريخي وتطوري طويل، قدر ما كان استجابة لحاجات شخصية وعنصرية، بشكل قسري ومفروض من أعلى، لإقامة مشروعات ليس للناس فيها ناقة ولا جمل، كالقصور الفارهة مباهاة ومضاهاة للفراعين، وملوك آشور وبابل، ولإقامة هيكل ديني خاص بالقبيلة العبرانية؛ ليمثل الشكل الديني للدولة، ويميز القبيلة القابضة على أعنة السلطان.
هذا بالطبع مع ثنائية أخرى أساسية، ثنائية يهودية يهودية، تمثلها قبائل عبرية دخلت مصر وخرجت متأثرة بعبادات المصريين وأنظمتهم وعاداتهم، وقبائل عبرية أخرى ظلت تحتفظ ببداوتها على الحدود السينائية، حيث قام النبي موسى (عليه السلام) بإجراء عملية المزج بينهما في قادش، لكن الواضح أنه لم يكن صهرا للقبائل أبدا، قدر ما كان نوعا من الائتلاف الكونفدرالي، الذي سرعان ما أبرزت تناقضاته مستجدات الأحداث في المملكة السليمانية، وانتهى بانقسام صنفي القبائل ما بين شمال وجنوب، أو بين إسرائيل ويهوذا.
ونتيجة لقيام المملكة السليمانية على أنقاض المدن الممالك، وتفجيرها القسري للأطر القبلية، نشأت ثنائية أخرى لم تكن تعرفها البلدان الفلسطينية وممالكها الصغيرة؛ إذ لم تكن هناك هوة كبرى تفصل أفراد المجتمع عن السلطات، بينما بات واضحا أن المملكة السليمانية قد أنشأت هوة هائلة بين القبيلة العبرية في جانب، وباقي شعوب المنطقة الأصليين في جانب آخر، والذين تهاوت مدنهم، وأجبروا على الانضواء تحت سلطان الدولة. ثم كانت الأعمال الإنشائية عاملا آخر سبب ثنائية جديدة، مثلها على الطرف الأرستقراطي الطبقة الحاكمة وموظفوها وكهانتها الرسمية وإداريوها وملاكها، ومثلها على الطرف الآخر العبيد والمعدمون، سواء أكانوا عبرانيين أم كنعانيين مواطنين، حيث جمعهم معا شقاء تنطق به آيات الكتاب المقدس التي تقول في سفر الملوك الأول: «وسخر سليمان الملك من جميع إسرائيل، وكانت السخر ثلاثين ألف رجل.» و«جميع الشعب الباقين من الأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين ... الذين لم يقدر بنو إسرائيل أن يحرموهم (اصطلاح يحرم في التوراة أي يبيد)، جعل عليهم سليمان تسخير عبيد» (ص5، 9). وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور طبقة من رجال الدين غير الرسميين، ومثلهم الدراويش والأنبياء الشعبيون، الذين أسهموا بما هو أكثر من العون والمساعدة لإسقاط النظام القائم، بل والعمل على تدمير المملكة، واستعداء الإمبراطوريات الكبرى عليها، وهو ما نجده مثلا عند أنبياء مثل «عاموس» و«ميخا»، ومن بعده بشكل سافر عند «إشعياء» و«دانيال» و«أرميا» في مرحلتي السقوط والأسر.
وهكذا أدت الأوضاع إلى ظهور ثنائية أخرى تمثلت في رجال المؤسسة الدينية العاملة في جهاز الدولة الحاكم في جانب، ورجال الدين الشعبيين الذين شكلوا كوكبة الأنبياء الأساسيين في الكتاب المقدس في جانب آخر؛ مما أدى إلى تكون أيديولوجيتين مختلفتين تماما، متصارعتين حتى نهاية الدولة.
وساعد على تفاقم الصراع بين الأيديولوجيتين ثنائية صراعية، نتجت عن طبيعة البنية الاجتماعية التي شكلها هجين من شعوب زراعية أساسا، وشعب بدوي يمثله العبرانيون، مع بعض القبائل الرعوية الأخرى في المنطقة، وهي الثنائية المرتبطة أساسا بطبيعة أسلوب الإنتاج الزراعي لشعوب المنطقة، الذين اعتمدوا نوعا من الحرية المطلقة على المستوى الديني، بحيث تعددت الأرباب تعددا هائلا، وهو ما استدعاه نظام الفلاحة ومواسمه المتعددة. فكان هناك «بعل» رب المطر، و«عنات» ربة الأرض، و«مولك» رب الخصب، و«موت» رب الجفاف، و«إيل» أبو الأرباب، مع عدد كبير من الآلهة المتعلقة بالزرع والخصب كإله الفأس وإلهة الماشية وإله الحنطة ... إلخ، ويرتبط هذا التعدد بتباين التكوين الاجتماعي؛ مما أدى دوما للسماح بهذه الحريات السماوية وطقوسها المرتبطة بمواسم الزرع، بينما ظلت البداوة على الجانب الآخر تستبطن قبيلتها ومعبودها القبلي الواحد، ممثلا في سلف القبيلة وسيدها، وما يتضمنه ذلك من أن أنفة البدوي من الانقياد لدولة موحدة، ورفضه أن يحكم من خارج قبيلته ونسبه؛ ومن ثم، وحتى يتم قهر الحريات الأرضية، سمح بالحريات السماوية، فقرر الكتاب المقدس في السفر المذكور: «وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتورت إلهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيين ... بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين ... ولمولك رجس بني عمون ... فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل» (ص11).
هذا بينما على الطرف الآخر، تمسك الأنبياء الشعبيون بروح القبيلة الانفصالية المتفردة والثائرة والمتمسكة برب إسرائيل وحده، وبتحقيق الحرية على الأرض وفق شرائع البدو.
وإعمالا لكل ذلك، فقد كان كافيا أن يؤدي صراع النقائض الداخلي بين هذه الثنائيات دوره الأساسي والرئيسي؛ ليعجل بالنهاية المحتومة، والتي ساعد على حتمها عناصر التناقض الثانوي أو الخارجي، والمتمثل في علاقة غير متوازنة بين مملكتي إسرائيل ويهوذا، وبين الإمبراطوريتين اللتين كانتا تتنازعان سيادة العالم (مصر وآشور)، إضافة إلى القوة الكلدانية الطالعة، التي أحدثت اختلالا في موازين القوى، واضطراب العلاقات العبرية بينها وبين القوى الكبرى المصرية والآشورية. فكان أن انقض «شيشنق» أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم ونهبها بعد أن أثخن فيها، ولم يلبث سرجون الثاني العاهل الآشوري أن انحدر بدوره، ليقضي على مملكة إسرائيل نهائيا عام 721ق.م. ليتبعه «نبوخذ نصر» الكلداني (المعروف في التراث الإسلامي باسم بخت نصر) فينهي الوجود العبراني، بالقضاء التام على مملكة يهوذا عام 586ق.م.
وفي الأسر الآشوري، والأسر البابلي، ثم في الشتات، تحولت الدويلة، المملكة السالفة، إلى حلم عظيم وضخم، وخيال هائل، يتفق إيقاع هوله مع هول الوقعة والسقوط.
هذا ما كان عن نكارة الإسرائيليات - بتعبير «ابن كثير» - وموقفنا التحليلي منها، وهو موقف تأسس على مناقشة النص وليس على افتراض وقوع الحدث؛ لأن المشكلة الرئيسية التي يمكن أن تواجه أي باحث بشأن هذه المملكة السليمانية، هو أنه لا توجد أية معطيات آثارية أو وثائقية بشأن هذه المملكة، سواء في وثائق بابل أم آشور أم كلديا أم مصر أم فينيقيا، على كثرة ما اكتشف فيها من وثائق، كما لا توجد في أي مكان إشارة صريحة إلى سليمان أو أبيه داود، رغم ما أخبر به الكتاب المقدس عن عظمة هذه المملكة واتساع سطوتها وهيبتها، فسليمان وداود اسمان لا تعرفهما وثائق التاريخ، لا في نص ولا في نقش ولا حتى في بقايا آثارية يمكن تأويلها أو يشتم منها أو يستنتج ما يشير إلى داود وولده عليهما السلام، بينما نجد في الوقت نفسه المزعوم للمملكة المزعومة في نصوص مصر، تقارير تذكر أمورا مفصلة ودقيقة عن كافة أحوال المنطقة، والحدود السينائية، كنقل موظف، أو تحرك بعض الكتائب العسكرية، أو انتجاع قبيلة بدوية، وحتى الحفريات التي جرت في فلسطين، فإنها حتى الآن لم تفد بأي دليل مادي بوجود «سليمان» أو أبيه «داود»، ومن المشكوك فيه أن يطالعنا المستقبل القريب بمثل هذه الكشوف.
وقبل أن نغلق حديثنا حول جزئية صراع النقائض والسقوط، فإنه من الطريف إيراد عبارة جاءت في كتاب «روجيه جارودي» «فلسطين أرض الرسالات السماوية»، وهو كتاب جاء بعد إشهار إسلامه، وترجمه إلى العربية الداعية الإسلامي المعروف «الدكتور عبد الصبور شاهين»، حيث يقول «جارودي»: «أما أن سليمان كان يعدد الآلهة، فأمر لا شك فيه.» أما الأطرف فهو تعقيب المترجم الداعية وهو يبدي دهشته في الحاشية من «روجيه» المسلم بقوله: «غريب أن يذهب المؤلف مع هذا الرأي، رغم أنه يختلف عما قرره القرآن الكريم، فسليمان نبي كريم من أنبياء الله، ولا يمكن أن يخامر المسلمين شك في توحيده، ولكن لهذا الكتاب المقدس (يقصد الكتاب العبري) مواقف مهينة كاذبة من الرسل، لا تدل على حقيقتهم بقدر ما تدل على جانب الوضع والتحريف فيه.»
13
مملكة العجائب
لأننا قد شرحنا مواقف الكتاب المقدس، وصورة الملك «سليمان » في مرآته، وعقبنا بما في مكنتنا من ملحوظات، فقد وجب الآن أن نعرض لصورة «سليمان» الملك العبري، ولكن في الإسلام، كما وردت في القرآن الكريم والحديث، إضافة إلى بعض ما جاء في كتب الأخبار الإسلامية والسير والأثر، وهو ما يفصل في الأمر بيقين الوحي والتنزيل المبين، لدى الصورة النقية لسليمان كنبي كريم، مقارنة بنكارات الإسرائيليين، دونما تعقيب، فقط ربما أضفنا عبارة تحمل ملحوظة من جانبنا، أو إشارة لأمر يؤدي إغفاله إلى سوء الفهم، ونمهد فقط لتوضيح هو من واجبات المصداقية مع الوحي الكريم وأسباب التنزيل، فمن المعلوم أن أهم تفاصيل رواية القرآن الكريم ودقائقها، حول نبوة «سليمان» عليه السلام، وملكه، قد جاءت في سورتين بالتحديد، هما سورة النمل وسورة ص. ومعلوم أيضا أن كلتا السورتين من السور المكية، وفي المرحلة الزمنية السابقة على هجرة نبي الإسلام (محمد
صلى الله عليه وسلم )، من أم القرى مكة إلى يثرب أو المدينة، حيث كان لليهود فيها مكان ومكانة، وكان طبيعيا أن تسبق الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، تلك الآيات العظيمة، التي تحكي قصة المملكة اليهودية الغابرة، وموقف الإسلام ونبيه منها، والرأي الواضح بشأنها، ومع «سليمان» عليه السلام في الإسلام، نجدنا بإزاء أكبر حشد من الخوارق والمعجزات، ونعيش جوا سحريا في مملكة للعجائب، تمتلئ بالمردة والعفاريت والجن والشياطين، وهو أمر تضيق بالحديث التفصيلي فيه صفحات موضوع قصير كهذا، ومن هنا سنعمد مضطرين إلى الإيجاز، بادئين بقوله تعالى:
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص (ص: 35-37)، وهي آيات توضح لنا إلى أي مدى بلغ ملك «سليمان» وعظمته كملك نبي.
وعن الشياطين الغواصين والبنائين يحدثنا نعمة الله الجزائري فيقول: «فجمع الجن والشياطين فقسم عليهم الأعمال، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام ... ووجه الشياطين فرقة فرقة يستخرجون الذهب واليواقيت من معادنها، وفرقة يعلقون الجواهر والأحجار في أماكنها، وفرقة يأتون بالمسك والعنبر وفرقة يأتونه بالدر من البحار ... وبني سليمان المسجد (يقصد الهيكل) بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجوهر، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ، واليواقيت، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض بيت أبهى ولا أنور منه ، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ... وروي ... أنهم صوروا أسدين من أسفل كرسيه، ونسرين فوق عمود كرسيه، فكان إذا أراد أن يصعد الكرسي بسط الأسدان ذراعيهما، وإذا علا على الكرسي نشر النسران أجنحتهما فظللاه من الشمس.»
14
ويستكمل «الثعلبي» وصف أحوال هذا العرش الفريد، فيقول: «فلما توفي سليمان (عليه السلام)، بعث بخت نصر (نبوخذ نصر الكلداني) فأخذ ذلك الكرسي ... فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم بالصعود عليه ولا بأحواله، فلما وضع قدمه على الدرجة السفلى رفع الأسد يده اليمنى فضرب ساقه ضربة شديدة، دقها ورماه، فحمل بخت نصر فلم يزل يعرج ويتوجع منها حتى مات.»
15
ومع كل هذه الأبهة، فإن حكمة الله أرادت أن يكون في المملكة الفخيمة فقراء ومساكين، لكن «سليمان» - فيما يروي «الجزائري» - كان يحل هذه المشكلة الاجتماعية بحكمة نادرة المثال مشكورة، فكان «إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف، حتى يجيء إلى المساكين ويقعد معهم، ويقول: مسكين مع المساكين ... فلا يزال قائما حتى يبكي»!
16
هذا بالطبع مع قوله تعالى في كتابه الحكيم لنبيه الحكيم:
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (ص: 39).
وتبدأ سورة النمل حديثها عن «سليمان» عليه السلام بقولها:
وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (النمل: 16)، ويشرح «محمد فريد وجدي» في تفسيره، وهو واحد من أحدث التفاسير المعتمدة، والأقرب لليسر وللعصر، مع الالتزام - دون تأويلات بعيدة عن المراد الأصلي بالنص - فيقول: «وورث سليمان داود في الملك والنبوة وأخبر الناس - تحدثا بنعمة الله عليه - بأنه أوتي فهم لغة الطير، وأنه منح من جميع النعم قسطا وافرا، إن هذا لهو الفضل المبين.» ويروي الإخباريون بعض التفاصيل حول حديث «سليمان» عليه السلام مع الطير، وقدرته على فهم ألسنها ولهجاتها ، بل والتعاطي معها أخذا وردا، فيقول - مثلا - الحافظ «أبو بكر البيهقي»: «... مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي؟ قال: يخطبها إلى نفسه ويقول: زوجيني نفسك، أسكنك أي غرف دمشق شئت.»
17
أما الطبرسي فيعمد إلى إبراز رقة قلب النبي كليم الطيور في حديث يقول: «إن سليمان عليه السلام رأى عصفورا يقول لعصفورته: لم تمنعين نفسك مني، ولو شئت أخذت قبة سليمان بمنقاري فألقيها في البحر؛ فتبسم سليمان عليه السلام من كلامه، ثم دعاه وقال للعصفور: أتطيق أن تفعل ذلك؟ فقال: لا يا رسول الله، لكن المرء قد يزين لنفسه ويعظمها عند زوجته، والمحب لا يلام على ما يقول. فقال للعصفورة: لم تمنعيه من نفسك وهو يحبك؟ فقالت: يا نبي الله إنه ليس محبا لكنه مدع يحب معي غيري، فأثر كلام العصفورة في قلب سليمان، وبكى بكاء شديدا.»
18
ولم يكن النبي «سليمان» عليه السلام يحسن فقط لغة الطيور، إنما أيضا لغة دبيب الأرض من حشرات. وللأمر قصة مشهورة في سورة النمل،
19
يغني علمها عن سرد نصها، لكن ربما كان في إيراد بعض ما جاء بشأنها من شروح وتفاصيل فائدة:
يقول «الجزائري»: إن وادي النمل هو واد بالطائف، وقيل بالشام، وتلك النملة التي نبهت الأخريات كي لا يدهسهن جيش سليمان العرمرم، كانت رئيسة النمل. و«ابن كثير» يروي أنه في ذلك اليوم كان «سليمان» في قيادة جيشه العرمرم جميعه بكتائبه من الجن والإنس والطير،
20
وينقل «النيسابوري» عن «محمد بن كعب القرظي» وصف ذلك الجيش، فيقول: «إن عسكر سليمان عليه السلام مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون منها للجن، وخمسة وعشرون منها للوحوش، وخمسة وعشرون منها للطيور.»
21
وينقل «ابن كثير» عن «وهب» قوله: «إن هذه النملة كان اسمها جرسا، وكانت من قبيلة يقال لها بنو الشيطان، وكانت عرجاء، وكانت بقدر حجم الذئب»!
22
ولما كان بعض الكتاب من الإخباريين قد أفادوا أن «سليمان» وجنده يوم حديث النملة كانوا يركبون بساط الريح الذي سخره الله لسليمان حيث يشاء:
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (ص: 36)، فإن «ابن كثير» من جهته يرفض هذه المزاعم ويقول: «وفي هذا كله نظر، بل في هذا السياق دليل على أنه كان في موكبه راكبا في خيوله وفرسانه، لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط؛ لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء ... ويقول بعض الجهلة: إن الدواب كانت تنطق قبل الإسلام وتخاطب الناس، حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها، فلم تتكلم مع الناس ... ولو كان هذا هكذا، لم يكن لسليمان في فهم لغاتها مزية على غيره.»
23
أما أشهر أحاديث النبي «سليمان» وأخطرها شأنا وأكثرها أهمية، فهو الذي كان بينه وبين الهدهد، ولهذه الأهمية، وللعلاقة الحميمة بين النبي «سليمان» عليه السلام، وبين الهدهد، فقد قال النبي محمد
صلى الله عليه وسلم : «أنهاكم عن قتل الهدهد، فإنه كان دليل سليمان على الماء.» ويحكي القرآن الكريم
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (النمل: 20).
وكان واضحا أن غياب الهدهد ربما سبب عطشا شديدا للنبي، يتفق مع هذا الغضب الهائل على ذلك الطير الرقيق، ورغم أن «الثعلبي» يورد عن «عكرمة» القول: «إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد بره بوالديه.»
24
فإن الهدهد قد عاد ومعه عذره المبين، فأثناء طيرانه بحثا عن الماء إذا بهدهد قادم من بلاد اليمن، ودار بينهما حديث تاريخي خطير، وفيما يقول «النيسابوري» إنه: «كان اسم هدهد سليمان يعفور، واسم هدهد اليمن عفير.»
25
مما يشير إلى معلومة حول سنة الهداهد في التسمية، وأنها تتركز حول معنى «اليعفرة»، وربما اشتركت في الجذور مع «العفرتة»، ويبدو أن عفير اليمني تفاخر على «يعفور» العبراني، واستدرجه «يعفور» بذكائه الأريب حتى علم بأمر أصحابه من أهل اليمن، وهو ما يوضحه الله تعالى بقوله:
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله (النمل: 22-24)، ولأن النبي - حسبما يؤكد «الجزائري» - «وكان لا يسمع بملك في ناحية الأرض إلا أتاه حتى يذله ويدخله في دينه.»
26
فقد اتخذ «سليمان» عليه السلام قراره وأرسل الهدهد برسالة منه إلى القوم يستدعيهم إليه، وأتبعها بعمل إعجازي ومبهر، فقد أمر جنه وعفاريته ليأتوه بعرش ملكة اليمن؛ ليختبرها عند وصولها،
فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (النمل: 42).
ويحكي الحافظ «ابن كثير»: «وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج، وعمل في ممره ماء وجعل عليه سقفا من زجاج، وجعل فيه من السمك وغيره من دواب الماء.»
27
ويصور القرآن الكريم ما حدث عند ذاك بقوله:
قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (النمل: 44). وهكذا كان إبهار المملكة السليمانية وعظمة صاحبها لملكة سبأ، دافعا مباشرا لإعلانها الدخول في دين الإسلام! والإيمان بدين سليمان، الذي هو نفسه دين محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولا فارق أبدا بين الدينين، بين ما كان يدعو إليه محمد
صلى الله عليه وسلم
في مكة، وبين ما يؤمن به أولئك المترقبون من اليهود في يثرب.
ونعلم من الثعلبي أن ملكة سبأ كانت بنت جنية، فيروي: «أن اسمها بلقيس بنت اليشرح وهو الهدهاد ... وكان ملك أرض اليمن ... وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه بامرأة من الجن يقال لها ريحانة ... فولدت له بلعمة وهي بلقيس.»
28
ويدعم «الثعلبي» روايته بحديث عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
عن «أبي هريرة» يقول: «كان أحد أبوي بلقيس جنيا.»
29
ويرى «ابن كثير» أن هناك روايات تذهب لكون بلقيس نتاجا هجينا كثمرة لهذا الزواج، فكان لها سيقان ماعز، فلما دخلت صرح «سليمان» تصورت حوض الأسماك لجة، فكشفت عن ساقيها. و«قيل: إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان، وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها، وخشوا أن يتزوجها؛ لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه، وذكر أن حافرها كان كحافر الدابة.»
30
لكن «ابن كثير» الحافظ يدرك بحصافته أن كل ما ورد عن قصص الجن والعفاريت والنمل والهدهد صادق مصداقية التنزيل، لكنه يستبعد هذه الرواية الأخيرة ويراها غير مقبولة عقلا.
وكعادة «ابن كثير»، التي حاز بها الثقة من مختلف المؤسسات الدينية، فإنه يمحص الخبر، ويعلق على الصادق بما يليق بصدقه، ويدفع بالضعيف والمنحول والإسرائيليات ويكثر من الإشارة والتنبيه والتعليق، حتى لا يقع المؤمن في خلط بين الظن والشبهة واليقين، فهو يورد مجموعة من الأحاديث حول ما أعطيه النبي «سليمان» عليه السلام في مباضعة النساء، ويقول: «كان يطيق من التمتع بالنساء أمرا عظيما ... عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله.» لكن «ابن كثير» يشير إلى أحاديث أخرى تصل بهذه الفحولة إلى حد مباضعة تسعين امرأة، وبعضها يصل إلى مائة امرأة، وبعضها إلى ألف امرأة في ليلة واحدة، ثم يرفض هذه الأحاديث لمبالغتها في قدرة المباضعة إلى حد الإتيان على ألف في ليلة، ويثبت أن إسنادها ضعيف.
31
لكن «أبا جعفر» يؤكد الرقم التوراتي لحريم «سليمان» فيقول: «وكان لسليمان حصن بناه الشياطين له فيه ألف بيت، في كل بيت منكوحة، منهن سبعمائة أمة قبطية، وثلاثمائة حرة أمهرية، فأعطاه الله تعالى قوة أربعين رجلا في مباضعة النساء. وكان يطوف بهن جميعا ويسعفهن.»
32
ولكن ذلك لم يكن يعني أن في قلبه غلظة وقساوة، بدليل ما أوردنا من رقة قلبه العظيمة، التي دعته إلى بكاء حال العصفورة، التي أحب زوجها غيرها معها! وليس هذا العدد من الزوجات، والقدرة على المباضعة إلا من أجل أخلاف يحملون السلاح في سبيل الله.
ثم إن «ابن كثير» يعترض مرة أخرى على المبالغة الهائلة في عدد خيل «سليمان»، ويكتفي بأنها ربما كانت عشرة آلاف فرس، وربما عشرين ألف فرس، وربما كان فيها - فقط - عشرون فرسا من ذوات الأجنحة!
33
وفي الحديث عن «عائشة» رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية من الستر عن بنات لعائشة تلعب (أي إماء صغيرات) فقال: ما هذا يا عائشة، فقالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع (أي وضعوا له أجنحة مصنوعة ليلعبوا به)، فقال: ما هذا الذي أرى في وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما الذي عليه هذا؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟»
وهنا نصل إلى فصل الخطاب فيما روته عائشة عن رد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ذلك الرد الذي لم يأت كلاما، قدر ما جاء رد فعل عفويا ... قالت «عائشة»: فضحك حتى رأيت نواجذه!
34 (2) المؤمن الثاني ذو القرنين
على غير عادة أهل مكة، توجهوا هذه المرة للنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
باستفسارات من نوع جديد، اختبارا لصدق علمه اللدني، استفسارات لم يأت بشأنها ذكر في مقدسات أهل الكتاب، بعد أن اتهمت قريش النبي، أنه إنما يتلقى علمه عن نفر من أهل الكتاب، يملى عليه بكرة وأصيلا، وأن تفصيلات هذه المعارف مستقاة من التوراة والأناجيل ومجمل محتوى الكتاب المقدس، بل وحددوا بضعة نفر بالاسم يعلمون النبي
صلى الله عليه وسلم
ما ظنوه من أساطير الأولين، بالقول: إن هو إلا إفك افتراه، أعانه عليه عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي.
35
وإعمالا لهذا الشك في الكلم القرآني الكريم، فقد رشح أهل مكة لمنافرة النبي
صلى الله عليه وسلم
الفئة المثقفة من رجالاتهم، منهم من هو ربيب مدرسة جنديسابور، ومنهم من هو خريج جامعة الإسكندرية، ومنهم المتفقه في شئون مصر والشام وفارس، وعادات أهلها وعقائدهم، وهم من أرسلهم أهلوهم من ذوي الجاه لتلقي العلم في معاهد الحضارات حول الجزيرة، حيث كانت تدار هناك حلقات الدرس حول قصص الأولين، ومطارحات العلم حول سير القواد والأبطال والأنبياء والمرسلين، ومحاورات الفلاسفة وعلوم المناطقة ورياضة اليونانيين، وكانت تلك الفئة القرشية المثقفة أشد نكيرا على النبي
صلى الله عليه وسلم
من الآخرين، وأشدهم إلحافا ودأبا لكشف ما تصوروه إفكا أعانه عليه آخرون من العارفين بأحوال الغابرين، وأكثر هؤلاء بروزا في كتب الأخبار الإسلامية: «النضر بن الحارث» و«أبي بن خلف»، و«عقبة بن أبي معيط»، الذين أسر النبي منهم اثنين في بدر الكبرى، وتم قتلهما صبرا
36
جزاء ما قدمت أيديهما إبان كان الإسلام مهيضا، يسعى على مدارج بدايته ضعيفا في مكة.
وكان سؤال أولئك المثقفين - فيما رواه جلال الدين السيوطي في أسباب النزول - «عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وما كان نبؤه؟ ... فقال: أخبركم غدا بما سألتم عنه ... ومكث رسول الله لا يحدث الله في ذلك إليه وحيا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة ... ثم جاء جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف.»
37
وتروي لنا سورة الكهف الرد الإلهي بشأن «ذي القرنين»، عبر آيات تمتد ما بين الآية 83 والآية 99، وتبدأ بقوله تعالى:
ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا (الكهف: 83)، ويشرح ابن كثير «قل سأتلو عليكم منه ذكرا ... أي خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره وشرح حاله.»
38
ورغم هذا الخبر النافع الكافي الشارح، الذي أوضحه رب العالمين، فقد كان واضحا في كتبنا التراثية أن أمر «ذي القرنين» أمسى من أشد الأمور - التي وردت في كتاب الله - التباسا وغموضا، في كثير من القسمات والتفاصيل، بحيث لم تعرف هذه الكتب من تاريخ أو سير أو تفسير، شخصية تراثية اختلف حول أمرها، قدر الاختلاف حول «ذي القرنين»، اختلفوا حول اسمه، وحول سر تلقيبه بذي القرنين، وحول موطنه وأصله العرقي، وهل كان ملكا من ملوك الأمم السالفة أم كان رسولا نبيا؟ أم لا هذا ولا ذاك؟
من هو؟
هو عند نعمة الله الجزائري «عياشيا»، وأنه كان أول الملوك بعد «نوح»! وأنه ملك ما بين المشرق والمغرب! لكنه فيما ينسب للإمام علي (رضي الله عنه) كان اسمه «عياش» فقط. أما «النيسابوري» فيقول: «كان اسمه عباسا، وكان عبدا صالحا.»
39
ولعله من الواضح أن «عياشيا، وعياش، وعياشا» كلمة واحدة، وأن مرجع الاختلاف ليس اجتهاد الرواة وتمحيصهم، قدر ما هو راجع إلى الاختلاف في قراءة أصل واحد، تم تدوينه وقتما كانت اللغة العربية تكتب غير منقوطة؛ مما أحدث لبسا وخلطا؛ ومن ثم فلا مناص من التجاوز عن كثير من العبابيس الأخرى في روايات أخر.
وثمة نوع آخر من التسميات، مثلما جاء عن «الزبير» في قوله: «ذو القرنين هو عبد الله بن الضحاك بن معد.»
40
وهو ما رواه أيضا «ابن عباس».
41
بينما يرفض «السهيلي» أن يكون ذو القرنين هو «الضحاك»؛
42
لأنه هو «... إفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك.» أما «ابن هشام» فيورد في السيرة أن «اسمه مرزبي بن مرذبة ... وقيل فيه هرمس، وقيل هرديس.» لكنه يذكر تسمية أخرى مما قيل فيه، فيقول إن اسمه هو الصعب بن ذي مراثد وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع.
43
ولما كنا نعلم أن التبابعة سلسلة من ملوك اليمن القديم حملوا الاسم «تبع»، فيبدو أن ذلك قد سوغ للرواة احتساب «ذي القرنين» ثمينا؛ ومن ثم سعوا إلى اكتشاف اسم يمني له، خاصة مع وجود اللازمة «ذو» في اسم «ذي القرنين» وهي طابع ملازم للأسماء اليمنية، قياسا على «ذي نواس» و«ذي يزن» ... إلخ، مثلما ورد عند «ابن كثير» في قوله: إنه «مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عود بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان. وقد جاء في حديث أنه كان من حمير وأمه رومية، وأنه كان يقال له ابن الفيلسوف لعقله، وقد أنشد بعض الحميريين في ذلك شعرا يفتخر بكونه أحد أجداده فقال:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما
ملكا تدين له الملوك وتحشد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها
في عين ذي خلب وثأط حرمد
من بعده بلقيس كانت عمتي
ملكتهم حتى أتاها الهدهد»
44
أما «البيروني» فقد اقترح في «الآثار الباقية» اسما يمنيا آخر، فقال: هو «أبو كرب شمر بن أفريقيش الحميري.»
45
ولنلاحظ أن كتابنا التراثيين قد درجوا على احتساب أهل اليمن جميعا عبر تداول دولهم عبر التاريخ حميريين، بحكم أنهم آخر دول اليمن المعروفة قبل الإسلام؛ لذلك وافق «البيروني» - على حميرية «ذي القرنين» - كل من «ابن الكلبي»، و«ابن حبيب» في المحبر، وإن خالفاه في الاسم، فهو عند كليهما «الصعب بن قرين بن الهملل» و«ابن الهمال»،
46
وليس أبا كرب ولا صعبا. هذا ويوافق «الدارقطني» و«ابن ماكولا» على ما أورده «ابن هشام» من أقوال تسميه «هرمس» أو «هرويس»، لكنهما يزيدان في التأصيل والتنسيب لجدود الجدود، فهو «هرويس بن قيطون بن لنطي بن كشلوخين بن بوتان بن يافث بن نوح»،
47
إلا أن «السهيلي» بدا واثقا أن «ذا القرنين» كان «صعبا»، ودلل على ذلك بزعمه أن «قس بن ساعدة» خطيب قبيلة إياد. قد عد «ذا القرنين» جده لأبيه، ونسب له خطبة يقول فيها لأهله: «يا معشر إياد بن الصعب، ذو القرنين، ملك الخافقين، وأذل الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان ذلك كله كلحظة عين، وأنشد ابن هشام للأعشى:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا
بالحنو في جدث أميم مقيم
وقوله بالحنو، يريد حنو قراقر الذي مات فيه ذو القرنين بالعراق.»
48
وهناك اجتهادات أخرى ذهبت في تسمية «ذي القرنين» مذاهب مخالفة تماما لما أوردناه، وهو ما نجد له مثلا في كتاب «إكمال الدين» الذي يذهب بإسناده إلى «عبد الله بن سليمان» إلى أن «ذا القرنين» لم يكن لا «ضحاكا» ولا «عباسا» ولا «صعبا» ولا «ذا كرب»، إنما كان «... رجلا من أهل الإسكندرية يقال له: إسكندر»، ويذكر «الجزائري» أن بعض أهل السير، يذهبون إلى أنه «الإسكندر ابن فليقوس»؛ لأنه لا غيره ينطبق عليه ما جاء في القرآن الكريم وعلى اتساع ملكه، فالإسكندر - فيما يقول الرازي - قد حصد ملوك الغرب واجتاح الغرب كله، ثم اتجه شرقا ففتح بلاد الشام والعراق وفارس والهند والصين، ولما كان «الرازي» يرى ثبوت ذلك تاريخيا، فقد قطع أنه «الإسكندر المقدوني»،
49
وبأنه «ذي القرنين » نفسه في القرآن الكريم، وهو ذات عين المقصود بسؤال أهل مكة للنبي
صلى الله عليه وسلم .
وقد وافق «محمد فريد وجدي» في القرآن المفسر على رأي «الرازي» للأسباب نفسها، كما كان غير خاف ميل «المسعودي » الشديد للرأي نفسه، وإن حاول التوفيق بين ما يقوله التاريخ عن «الإسكندر» اليوناني، وبين ما ذهب إليه الإخباريون المسلمون حول يمنية «ذي القرنين»، فقال في «مروج الذهب»: «وقد ذكره تبع في شعره وافتخر به وأنه من قحطان، وقيل إن بعض التبابعة غزا مدينة رومية وأسكنها خلقا من اليمن، وأن ذا القرنين الذي هو الإسكندر، من أولئك المتخلفين بها، والله أعلم.»
50
أما «ابن هشام»، فبعد سرده لمختلف التقولات والتسميات، فقد انتهى في «السيرة» إلى أن «ذا القرنين» «من أهل مصر، وأنه الإسكندر الذي بنى الإسكندرية فعرفت به.»
51
أما «الطبري» فقد جاء واضحا دون تردد وهو يقول: «هو إسكندروس بن قليقوس، ويقال فيه ابن قليس.»
52
ومعلوم أن «الإسكندر المقدوني» هو ابن فيليب - أو بإضافة التصريف الاسمي اليوناني - ابن «فيليبس»، ولعل القول ابن «قليقوس» خطأ يعود لما أسلفناه عن الكتابة غير المنقوطة، خاصة مع ما ذكره الجزائري «ابن فليقوس».
وإضافة لهؤلاء، فقد وافق «الجزائري» في قصص الأنبياء (ممثلا للشيعة)، كما وافق أيضا «ابن تيمية» في كتابه الرد على المنطقيين (ممثلا للسنة)، على تسمية ذي القرنين «إسكندر» لكن كليهما: الشيعي، والسني، ينفيان نفيا قاطعا أن يكون هو المقدوني اليوناني. أما لماذا كان اسمه «إسكندر» بالتحديد، فهو ما لا نجد له تبريرا أو توضيحا بشأنه لديهما، لكنهما انهمكا بشدة في توضيح سبب رفض أن يكون هو المقدوني؛ لأنه لو كان هو المقدوني فسيثير ذلك إشكالا كبيرا وعويصا؛ لأن المقدوني كان تلميذا للفيلسوف اليوناني «أرسطوطاليس»، وأن تعظيم الله لذي القرنين يوجب الحكم أن مذهب «أرسطو» صدق، وهنا يقف «ابن تيمية» معلنا: «... وذلك مما لا سبيل إليه.» كما أنه يصف ذلك بقوله: «وهذا جهل.»
53
وربما للسبب نفسه يعقب «السهيلي» على «ابن هشام» بالقول: «وقول ابن هشام في السيرة أنه من أهل مصر ، وأنه الإسكندر الذي بنى الإسكندرية فعرفت به، قول بعيد ... ويحتمل أن يكون الإسكندر سمي ذا القرنين تشبيها له بالأول، لأنه ملك ما بين المشرق والمغرب فيما ذكروا أيضا.»
54
ويتابعه «الشهرستاني» في «الملل والنحل»، ويذهب إلى أن «الإسكندر» لقب فعلا بذي القرنين، لكن «ليس هو المذكور في القرآن»؛
55
لذلك جاء عن «قتادة»: «إسكندر هو ذو القرنين، أبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام، فأما ذو القرنين الثاني، فهو إسكندر بن فيلبس بن مصريم بن ... (ويظل ينسبه سلفا إلى سلف حتى يصل إلى) ... ابن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل»! وقد ذكر النسب نفسه المطول المفصل «ابن عساكر» في تاريخه.
56
أما الحافظ «ابن كثير»، فيعقب على الإشكال بالقول: إن «المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية، الذي يؤرخ بأيامه الروم، كان متأخرا عن الأول (يقصد ذا القرنين القرآني) بدهر طويل، وكان هذا قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وكان أرسطوطاليس الفيلسوف وزيره ... وإنما نبهنا عليه؛ لأن كثيرا من الناس يعتقدون أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطوطاليس وزيره، فيقع بدلك خطأ كبير وفساد عريض طويل، فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا، وأما الثاني فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا (لاحظ استهجانه الشديد أن يكون وزير المؤمن فيلسوفا، مع قرنه بالشرك)، وقد كان بين زمانيهما أزيد من ألفي سنة، فأين هذا من هذا؟ لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور.»
57
إذن؛ اختلف الرواة والمفسرون وأصحاب السير والأخبار في اسم «ذي القرنين» اختلافا كبيرا، ويمكن إجمال توجهاتهم في مذهبين: الأول يذهب إلى أن «ذا القرنين» كان عربيا قحطانيا من اليمن، بينما ذهب آخرون بالمطابقة بين رواية القرآن الكريم وبين أحداث التاريخ، إلى أن «ذا القرنين» هو «الإسكندر بن فيليب» المقدوني اليوناني. وقد اعترض على أصحاب هذا المذهب الثاني عدد من المفسرين، منهم «ابن كثير» و«ابن تيمية» «سنة» و«الجزائري» «شيعي». وكانت الإشكالية تكمن في أن «الإسكندر» كان تلميذا للفيلسوف اليوناني «أرسطوطاليس»؛ مما يوجب القطع بكفر «الإسكندر » لتتلمذه على يد فيلسوف، وعليه فلا يمكن أن يكون هو «ذا القرنين» المذكور في كتاب الله العزيز.
وإذا كان «ابن كثير» قد رأى في الخلط بين «ذي القرنين» وبين «الإسكندر» خطأ كبيرا وفسادا عريضا طويلا ، وأنهما لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور، فإن «ابن تيمية» قدم للإشكال حلا فريدا قال فيه: «إن ذا القرنين كان مقدما على أرسطو بمدة عظيمة، وكان مسلما بخلاف المقدوني، وذي القرنين بلغ أقصى المشرق والمغرب، وبنى سد يأجوج ومأجوج، والمقدوني لم يصل لهذا، ولا وصل إلى السد»!
58
و«ابن تيمية» إذ يقول ذلك «في كتابه: الرد على المنطقيين» يضعنا - ولا مناص - في موقف قسري لمناقشته منطقيا، ولما كانت مناقشته المطولة تخرج عن هدف هذا الموضوع، فسنكتفي بملحوظات ثلاث، وهذا أضعف الإيمان.
والملحوظة الأولى:
هي حول قوله إن «ذا القرنين» كان مسلما، وكان مقدما على «أرسطو» بمدة عظيمة، فإسلام «ذي القرنين» هنا، يعني أنه قد آمن بدعوة «محمد» رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل أن يدعو بها بأكثر من ألف عام إذا كان هو المقدوني، وإذا لم يكن المقدوني، وكان مقدما على «أرسطو» بمدة عظيمة، فإن ذلك يلقي بنا ألفا أخرى إلى الوراء، أو يزيد، كما أن إسلامه يعني وفق المنطق الإسلامي أن يكون «ذو القرنين» نبيا، إذ ينسحق الزمان بكل آناته في لحظة، ويستدير التاريخ عكس حركته الطبيعية ليصبح كل من سلف من أنبياء - على اختلافهم واختلاف ظروفهم واختلاف مجتمعاتهم وبنياتها، واختلاف قضية كل منهم ومنهجه وطريقته - مجرد لحظة في الزمن المحمدي، وباستدارة التاريخ دورة كاملة، تبدأ ثم تنتهي عند نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم ، يصبح جميع الأنبياء أتباعا له مؤمنين بدعوته، ويبيت هو البدء والمنتهى في عالم النبوة، كما أصبح الإله تعالى هو الأول والآخر في عالم الربوبية، وعليه فإن «ابن تيمية» يعني بذلك أن «ذا القرنين» كان واحدا من الأنبياء الكرام، عليهم جميعا الصلاة والسلام، ومثلهم فهو من أتباع نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم ، الذي سبق الجميع وكان غرة من نور في جبين «آدم»، حملتها أصلاب الطاهرين، ومن أجله، وتمهيدا لدعوته، كانت نبوات ورسالات جميع السالفين!
والملحوظة الثانية:
تتمثل في أمرين مؤكدين عند شيخ فقهاء السنة «ابن تيمية»: الأمر الأول أن «ذا القرنين» هو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، والثاني هو أن «الإسكندر» لم يصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج، ويقدم على ذلك براهين، أهمها: أنه لم يرد في الوثائق التاريخية عن «الإسكندر المقدوني» ما يفيد بوصوله إلى مكان أو سد أو أمة تحمل هذا الاسم، لكن أن يكون هناك سد أو مكان أو قوم بهذا الاسم وأن «ذا القرنين» وصلهما، فهو عند «ابن تيمية» من المسلمات التي لا ينالها شك؛ لثبوته بالدليل النقلي في كتاب الله الكريم.
أما الملحوظة الثالثة:
فهي أنه - حتى اليوم - لم يعرف بعد ماذا قصد القرآن الكريم بأمة يأجوج ومأجوج، ولا أين موضعهم، ولا أين ذلك السد على الكوكب الأرضي، والآراء في ذلك بها خلف كبير، لكن «ابن تيمية» الذي أفحم كل المناطقة بمنطقه، يجزم - اعتقادا - بكونها مواضع موجودة بل ومعلومة يقينا، لكنها معلومة في الوحي الذي يعرفها جيدا ويعرف أن «ذا القرنين» وصلها. كما أنه معلوم في علم التاريخ القاصر، الذي يجهل هذه المواضع، أن «الإسكندر المقدوني» لم يصل تلك المواضع التي يعلمها الله الذي هو فوق العالمين، لكن الذي لا يماري فيه مكابر، أن «ابن تيمية» نفسه لم يكن لديه أدنى علم بموقع هذه الأمة وسدها. واكتفى بأن يعلمها الله، وآمن بوجودها كما قرر القرآن الكريم، وأن هذه الأمة وسدها مقرونان بذي القرنين في القرآن، لكنها غير مقرونة بالمقدوني؛ لأنه لو كان وصلها لعرفها علم الجغرافيا وعلم التاريخ وكشف عن أمرها، وهو أمر يحمل دلالة قصور علم الإنسان الغر المفتون؛ ومن ثم فلا مناص - حسب منطق الرد على المنطقيين - من الاعتراف بتواضع، أن «الإسكندر المقدوني» «لم يصل لهذا ولا وصل إلى السد»، وهذا دليل كاف على محدودية رحلته ومحدودية علمه بالذات، ذلك العلم الذي تلقاه عن «أرسطو» الفيلسوف، إذا ما قارناه بعلم «ذي القرنين» الذي علمه الله وآتاه الأسباب، وأرشده إلى أماكن لا تعرفها الإنسانية على كوكبها حتى اليوم، وربما لن تعرفها أبدا وفق منطق الرد على المنطقيين.
أما لماذا لقب القرآن الكريم هذا الفاتح العظيم بلقب «ذي القرنين»، فهو أمر لم يسلم بدوره من خلاف، فيذكر «المسعودي»: «أنه سمي بذي القرنين لبلوغه أطراف الأرض، وأن الملك الموكل بجبل قاف سماه بهذا الاسم.» ثم يضيف: «... رضي الله عنه.»
59
ويشرح «ابن كثير» فيقول: «واختلفوا في السبب الذي سمي به «ذا القرنين»، فقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، قال «وهب بن منبه»: كان له قرنان من نحاس في رأسه، وهذا ضعيف، وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الفرس والروم، وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس شرقا وغربا وملك ما بينهما من الأرض ...
وهو قول الزهري، وقال «الحسن البصري»: كانت له غديرتان من شعر يطافيهما فسمي ذا القرنين ... وعن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين؛ فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فمات، فسمي ذا القرنين.»
60
وقد أجمل «الثعلبي» و«الجزائري» بقية التعلات لهذا اللقب، منها أنه أمسك في رؤياه بقرني الشمس، ومنها أنه كان ذا ضفيرتين عظيمتين، ومنها أنه كان يلبس تاجا ذا قرنين - وهو في رأينا أصح الآراء كما سيتبين لاحقا - ومنها أنه انقرض في وقته قرنان من الزمان، ومع ذلك يصر كلاهما بالإسناد إلى وهب أنه عاش خمسمائة عام!
61
أما «ابن كثير» فيذكر أنه مكث ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض ويدعو للإسلام (متجاوزا العمر القياسي للنبي نوح عليه السلام)! ونسب القول لأهل الكتاب، رغم أن كتاب أهل الكتاب لم يذكر «ذا القرنين». ثم لا يعجبه ذلك فيعترض بالقول: «وفي كل هذه المدة نظر.»
62
ثم يورد قول «ابن عساكر» «أنه عاش ستا وثلاثين سنة، أو كان عمره ثنتين وثلاثين سنة ... وكان ملكه ستة عشر سنة.» ويعترض مرة أخرى ويقول: «إن الذي ذكره «ابن عساكر» إنما ينطبق على إسكندر الثاني «المقدوني» وليس الأول «ذو القرنين»، وقد خلط (أي ابن عساكر) في أول الترجمة وآخرها بينهما».
63
ولكن الطريف والذي لا يغيب على فطن، أن من سلكوا «ذا القرنين» ضمن العرب اليمنية، قد استبطن حديثهم زلات تشير إلى يقين داخلي بأمر آخر، فهو وإن كان عند «ابن كثير» من أزد اليمن واسمه عربي قح «مصعب»، فإن هذا من جهة الأب؛ لأن أمه كانت رومية! ثم فلتة تأتي على خجل واستحياء في قوله: «وكان يقال له ابن الفيلسوف لعقله.» (وهل ثمة فيلسوف هنا غير أرسطو؟) أما السهيلي الذي أصر على اسم الصعب واستمات دونه، ووقف يتلكأ عند بيت منسوب للأعشى ورد عند «ابن هشام»، يقول: إن «الصعب ذا القرنين» مات ودفن في «حنو قراقر» بالعراق، فيبدو أن «السهيلي» لم يكن يعلم أن ذلك الموقع بالتحديد كان الموضع الذي قضى فيه «الإسكندر المقدوني» نحبه، وقت كانت العراق وإيران إمبراطورية فارسية مهزومة. أما «ابن تيمية» و«الجزائري» فقد كانا على يقين أن «ذا القرنين» ليس هو القائد اليوناني الأشهر، لكنهما أصرا على منحه ذلك الاسم الغريب على اللسان العربي، «إسكندر»!
عن النبوة والعروبة
هذا ما جاء عن اسمه، ولقبه، أما عن نبوته من عدمها، فهي قضية أثارتها الآيات الكريمة:
ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا (الكهف: 83-86). ويفسر وجدي: «ويسألونك يا محمد عن ذي القرنين، وقيل: سأله اليهود امتحانا له، وقيل: سأله مشركو مكة، فأجابه الله للتساؤل: قل سأتلو عليكم منه ذكرا.»
وهنا، يمكن تقرير ضعف احتمال أن يكون السؤال قد وجهه اليهود للرسول
صلى الله عليه وسلم
لأسباب: أولها تقرير كتب الأخبار أن السائلين هما «النضر بن الحارث»، و«عقبة ابن أبي معيط»، وقد لقيا الجزاء الوفاق، بعد تمكن الإسلام من قوته، فقتل أحدهما في نخلة، وقتل الآخر في الروحاء بعد أسرهما في وقعة بدر الكبرى. وثانيها أن الحديث كان قبل هجرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، حيث اليهود ، باعتبار سورة الكهف مكية لا مدنية، كما أن الحرب الجدالية بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وبين بهود المدينة لم تكن قد بدأت بعد. وثالثها أنه ليس في المأثور اليهودي أية قصة تشير إلى نبي أو بطل باسم «ذي القرنين»، وعليه يكون المقبول هو ما أوردناه في صدر هذه الدراسة، عن تساؤل مثقفي مكة، وما جاءت به كتب الأخبار، حيث كان النبي يحدث أهل مكة بأمور وجدوا لها صدى فيما سبق أن علموه، في رحلاتهم التجارية، أو بعثات بعضهم الدراسية، لكن التساؤل هذه المرة كان عن «ذي القرنين»، هل كان ملكا صالحا، أم نبيا مرسلا، أم مجرد شخصية تاريخية فحسب؟
وبهذا الصدد نجد عددا من الروايات تحاول الإجابة، لعل أغربها ما جاء عند «المسعودي» في قوله: «ومنهم من رأى أنه ملك من الملائكة، وهذا القول يعزى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.»
64
ويزيدنا «ابن كثير» تفصيلا فيقول: «وأغرب من قال: إنه ملك من الملائكة، وقد حكي عن أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب»، أنه سمع رجلا يقول لآخر: يا ذا القرنين، فقال: مه، ما كفاكم أن تتسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسميتم بأسماء الملائكة؟»
65
لكن «ابن كثير» الحافظ كان واثقا أن «الصحيح أنه كان ملكا من الملوك العادلين.» وهو ما يتضارب مع ما أسلفناه عن اعتقاده بنبوة «ذي القرنين»، ثم هو يورد ما قيل بشأنه «وقيل إنه كان نبيا، وقيل كان رسولا ... وعن ابن عباس قال: كان ذو القرنين ملكا صالحا رضي الله عمله وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورا، وكان وزيره الخضر، وذكر أن الخضر عليه السلام كان على مقدمة جيشه ... وقد ذكر الأزرقي وغيره أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل، وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل عليه السلام، وروي عن عبيد بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما أن ذا القرنين حج ماشيا، وأن إبراهيم لما سمع بقدومه تلقاه ودعا له ورضاه، وأن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد.»
66
ويعلل سبب تسخير السحاب لذي القرنين، مضاهاة بسليمان الذي سخرت له الريح لتحمله على بساط الريح، بقوله: «جيء له بفرس ليركبها، فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فسخر له الله السحاب، وبشره إبراهيم بذلك.»
67
ومن جهة أخرى فإن رواية الإمام «علي» تنكر تماما نبوة «ذي القرنين»، إذ أكد «أنه لا ملك ولا نبي، بل عبد أحب الله فأحبه، فمكن له في الأرض.»
68
وفي رواية أخرى عنه كرم الله وجهه قال: «إن ذا القرنين ملك مبعوث وليس رسولا ولا نبيا.» وفي الحديث أنه أسلم ودعا إلى الإسلام، وبنى مسجدا ضخما، ودعا دهقان الإسكندرية لإمامته.
69
أما من ذهبوا إلى كونه نبيا، فقد استندوا إلى ما ورد بالآيات عن تمكين الله له في الأرض ومنحه الأسباب، والكلام معه «قلنا: يا ذا القرنين ...» وكله لا يجوز إلا مع نبي.
أما الحديث النبوي فيفصل في الأمر؛ حيث يقول المصطفى
صلى الله عليه وسلم : «لا أدري أكان ذو القرنين نبيا، أم لا.»
70
ومع القول الفصل للنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
يجد الباحث لنفسه مساحة واسعة من الاجتهاد، وخاصة مع كثرة ما أسلفناه من آراء، وكانت نوعا من الاجتهاد، رغم أننا قد أوجزنا بالقدر الذي لا يخل، وأوفينا بما لا يمل، وراعينا الكثير من الحساسيات التي تفرضها الظروف، فتخطينا الكثير، وأبقينا الأهم من القليل، وبلونا أنفسنا بمشقة البحث فيا يستأهله الغرض ونبل المبتغى، والعقل من وراء القصد.
وهنا، يمكننا أن نقرر باطمئنان أن «ذا القرنين» لا يمكن - كما جاء عند الإخباريين - أن يكون أحد العبابيس، ولا الضحاكين، ولا ذوي الكرب، ولا الهمالين، ولا صعبا ومصعبا ... إلخ، لاعتبارات أشدها حسما، هو أنه لم يرد في التاريخ المدون ذكر لفاتح عظيم، طاف بين الخافقين، يحمل واحدا من هذه الأسماء، ولا جاء في التاريخ ذكر ليمني أو حميري، أو لقائد فزاري أو إيادي أو أزدي، جرد الجيوش والكتائب، واجتاح قلاع الدنيا وحصونها، كما ورد في قصة «ذي القرنين» القرآنية.
كما لا يمكن قبول ما قد يقال: إنه ربما كان أحد هؤلاء هو الفاتح «ذو القرنين »، وأن التاريخ المدون أهمله غفلة؛ لأنه كان سابقا على التدوين واكتشاف الكتابة؛ لأن هذا المذهب سيصطدم مباشرة مع أبسط المبادئ التي نعرفها في علوم الاجتماع والعمران، وتشكل ردا بدهيا يقول: وهل كان قبل التاريخ المدون دول ووحدات سياسية كبرى، يحتاج احتلالها إلى جيوش وقادة؟ خاصة مع المعلوم الثاني والبدهي بدوره، وهو أن الكتابة لم تبدأ إلا مع الاستقرار الاجتماعي، في وحدات سياسية مركزية إدارية كبرى، بعد قيام المجتمع المنظم، وقبلها لم يكن للإنسان شأن يزيد عن بقية الكائنات الابتدائية، وحتى بعض بسائط خبرات وأساطير البشر الأولى، وجدت طريقها إلى التدوين، بعد أن كانت تتوارث شفاهة من جيل إلى جيل، وليس فيها حسبما نعلم من علوم الميثولوجيا أي ذكر لملك أظل عرشه الأرض يحمل اسم الضحاك أو العباس، كما لا يمكننا في الوقت نفسه أن نأخذ مأخذ الجد العلمي، الحالة الوحيدة التي وقعت بأيدينا، وحاولت الكشف - بروح إيمانية عالية - عن «ذي القرنين»، في الملحمة الرافدية القديمة عن الملك الإله «جلجامش»، والتي دونها السومريون والبابليون من بعدهم، وعالج الباحث «محمد نجيب البهبيتي» في محاولته تلك، مصداقية القرآن الكريم، متناغمة بالتبادل مع الأحداث الأسطورية لملحمة «جلجامش»، بحسبانه «ذا القرنين»، وأنه فتح بلاد الدنيا، واكتشف أمريكا وأستراليا، ودار حول العالم، مع إرجاعه إلى أصول يمنية، وذلك في مجلدين يتسمان بالضخامة والجزالة والجهد، بعنوان «المعلقة العربية الأولى».
ولعل موقفنا - من الأستاذ الباحث رغم جهده الواضح حقا - نابع من إصرارنا على التزام البحث لأصول المنهج العلمي، بعيدا عن التلاعب بالألفاظ والابتسار، والقفز فوق الأحداث، والانتقائية، والتفسير على الهوى للتيسير في الوصول، والتعصب غير العلمي للعنصر، فجاء جهد المؤلف المشكور كالعهن المنفوش، ولأن هذا أمر يحتاج إلى قول آخر ربما في موضع آخر غير مقامنا هذا، فقد آثرنا الإشارة إليه للتنويه، حتى لا يحيلنا قارئ مجتهد إليه ويحسبنا عنه غافلين، وربما غفلنا عن القول الآخر في الموضع الآخر إن آثر المؤلف السلامة وجنبنا الملامة. وإن المعتاد على التعامل مع كتبنا التراثية، لن يرى في تنسيب «ذي القرنين » عربيا أية غرابة، حيث اعتاد كتابنا - السالفون عافاهم الله - تعريب كل ما يصادفهم، وإرجاعه عنصريا للعنصر العربي، وإن لم يتمكنوا من ذلك، ومع مبدأ أضعف الإيمان، يرجعونه طائفيا إلى عقيدة الإسلام؛ فيحال البطل إلى أي ولد من أبناء نوح حلا للإشكال، وفي ذلك ضمان ولو بعيد لإدراجه ضمن المسلمين عبر إسلام نوح عليه السلام.
ومثال لذلك أن نقرأ اسم فرعون مصر في عهد النبي «إبراهيم عليه السلام» «سنان بن الأشل بن علوان» «من عائلة علوان»! وفرعون «يوسف عليه السلام»: «الريان بن الوليد بن الليث»، أو ربما «الأقرع بن الجدع الجدعاني»، مما لا يمتنع معه أن يكون فرعون «موسى» ليس واحدا ممن أعلمنا بهم التاريخ احتمالا، مثل «تحتمس الثالث» أو «رمسيس الثاني» أو «مرنبتاح» أو «حور محب»؛ لأنه في تراثنا هو «الوليد بن مصعب بن الهلوات»،
71
ومن هنا فلا بأس إن قالوا: إن «ذا القرنين» كان «صعبا» أو «ذا كرب».
وإذ لم يكن العرب بمعزل عن الحضارات الكبرى السالفة، أو الحضارات التي عاصروها، خاصة مع صفتهم كبدو مرتحلين دوما على أطراف الوديان الخصيبة، ومع صفتهم كعمالة رخيصة في المناجم الحدودية لإمبراطوريات الأوان، ومع امتهانهم التجارة القومسيونية في قرون ما قبل الإسلام، فقد أدى ذلك بالعربي إلى الاطلاع على شئون تلك الحضارات ومعتقداتها، لكن الفارق الثقافي الهائل، أفسح مساحة أخرى هائلة للخيال العربي؛ ليسد تلك الفجوة، ويعيد الاتزان المفقود، مع الانبهار بشيء مثل حدائق بابل المعلقة، أو أمام أهرامات مصر، أو قصور فارس، أو سور الصين. فما كان للبدوي في تفرقه القبلي، أن يتصور إمكان قيام أفراد من جنس البشر بإقامة مثل تلك الإنجازات الضخمة، بالقدرات الإنسانية وحدها؛ لذلك، وحتى يتقبل الجاهليون ما شهدوه أو سمعوه، قاموا يملئون الفجوة النفسية والهوة الثقافية بردم من المعجزات؛ ومن ثم لم تكن شخصية كشخصية «الإسكندر»، بإنجازاته خلال عمر قصير وزمن قياسي، لتفلت من صياغة بدوية، فكان أن صاغوا حوله الكثير، حتى ذكر «الدميري» اعتقاد العرب أن رجلا كالإسكندر لا بد كان مؤيدا من قوة عليا ؛ لذلك قالوا: إن أمه وإن كانت آدمية، فإن أباه كان أحد كبار الملائكة المكرمين، ويبدو - فيما يزعم «الدميري» - أن هذا الأثر قد استمر إلى ما بعد الإسلام، فيقول: إن عمر بن الخطاب سمع رجلا ينادي: يا ذا القرنين، فقال: «أفرغتم من أسماء الأنبياء، حتى ارتفعتم لأسماء الملائكة؟»
72
وسنرى لاحقا إلى أي حد تأثرت كتب التراث بالمأثورات الجاهلية، لكن ما نظنه لم يعد خافيا على قارئنا، أننا نذهب تماما إلى كون «ذي القرنين»، الذي سأل عنه «النضر بن الحارث» و«عقبة بن أبي معيط»، والذي أجابهما عنه التنزيل الحكيم، ليس شخصا آخر غير «الإسكندر» المقدوني، القائد اليوناني. وهو ما سنحاول إقامة الدليل عليه، رغم ما يثيره الشيعي «الجزائري»، والسني «ابن تيمية» من غبار، مع تغاضينا بالطبع عن وصف «ابن كثير» لمثل موقفنا بالغباء وعدم معرفة حقائق الأمور.
واستبعادا لصفة الغباء، وحتى لا يدخل جهدنا ضمن ما وصفه ابن كثير بأنه «خطأ كبير، وفساد عريض طويل»، فسنتابع الأمر مع الوحي الرباني الصادق صدق رب العالمين، وما عقب به أهل السلف والصحابة وأصحاب السير والأخبار، فيما بقي عن المؤمن الثاني «ذي القرنين» من أخبار.
من المغرب إلى المشرق
يفسر «فريد وجدي» الآيات حول «ذي القرنين» بقوله: «إن الله مكنه في الأرض، وأطلق يده حرة فيها، ومنحه كل الوسائل والأسباب للوصول إلى غايته، وكانت الغاية الأولى هي الوصول إلى مغرب الشمس، ولما وصلها وجدها تغرب في عين حمئة، أي ذات طين أسود حارة.» ويتطوع «الجزائري» بجمع موجز الأمر من كتب التراث، فيقول: «إن مكان غروب الشمس هذا، هو آخر العمار من الأرض وكان في طريقه يدعو الأمم لعبادة الله ... وكان إذا مر بقرية زأر فيها كالأسد المغضب، فينبعث من قرنيه بروق ورعود وظلمات وصواعق تهلك من يخالفه ... ولما وصل إلى العين التي تغرب فيها الشمس وجدها تغرب فيها، ومعها سبعون ألف ملك يجرونها بسلاسل الحديد والكلاليب، يجرونها إلى البحر من قطر الأرض الأيمن، كما تجر السفينة على ظهر الماء! أما أين هذه العين التي تبيت فيها الشمس ليلها، ففي الأثر المنسوب للإمام علي رضي الله عنه «تغرب الشمس في عين حمئة، دون المدينة مما يلي المغرب مباشرة ...»» ويتطوع الجزائري موضحا اسم المدينة التي مما يلي المغرب، حتى تستكمل المشهدية الهائلة، بأمانة وإصرار يحسد عليهما، فيقول: «... مما يلي المغرب مباشرة، يعني جابلقا.»
73
وإذا كانت رحلة «ذي القرنين» الأولى إلى مغرب الشمس، سعيا وراء هداية الخلق الذين يسكنون دون المدينة مما يلي المغرب مباشرة أي جابلقا؛ لعبادة الله الواحد القهار، فإن رحلته الثانية - كما هو واضح لدى إخباريينا - كانت تستهدف غاية أخرى، ورغبة طالما راودت بني الإنسان هي الحصول على الحياة الدائمة الخالدة، وهو ما جاء في ذكر «السهيلي» عن «ذي القرنين» «وهو صاحب الخضر حيث طلب ماء الحياة، فوجدها الخضر ولم يجدها ذو القرنين.»
74
وقد ذكر «ابن كثير» «عن جعفر الباقر عن أبيه زين العابدين خبرا مطولا جدا، فيه أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رنقائيل، فسأله ذو القرنين: هل تعلم في الأرض عينا يقال لها عين الحياة، فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها، ولم يهتد ذو القرنين إليها.»
75
ويفصل «الثعلبي» و«الجزائري» فيما موجزه، أنه كان لذي القرنين خليل من الملائكة يدعى «رفائيل» (واضح هنا اختلاط الاسم لقراءة الكتابة غير المنقوطة في الاسمين: رنقائيل، ورفائيل) ينزل إليه من السماء يسليه بالحديث ويناجيه، وقال له يوما: يا ذا القرنين إن لله في هذه الأرض عينا تدعى عين الحياة، من شرب منها لا يموت حتى يطلب الموت، ولما علم «ذو القرنين» أن هذه العين تقع بالظلمات الواقعة خلف مطلع الشمس (طبيعي عندهما أن يكون وجه الشمس هو المضيء، وأن يكون لها وراء، وطبيعي أيضا أن يكون قفاها مظلما)، جمع جيوشه يخوض البحار ويقطع الجبال اثنتي عشرة سنة، حتى وصل إلى بداية أو طرف الظلمة، وهناك انتخب لقيادة الجيش شخصية تراثية شهيرة أخرى هي «الخضر»، المعروف بالحي الغائب، وخاض بهم فيما وراء الشمس، في الظلمة، وهناك دعا ثلاثمائة وستين من رجاله بينهم «الخضر»، ودفع إلى كل منهم سمكة، وقال لهم: اذهبوا في الظلمة فهناك ثلاثمائة وستون عينا، وليغسل كل منكم سمكته في عين منها، فذهبوا، لكن سمكة «الخضر» انزلقت منه، فسبح وراءها وعب من الماء، ولما عاد أعلم «ذا القرنين» بما حدث فقال له: كنت أنت صاحب عين الحياة، وهذا هو السبب أن «الخضر» حتى اليوم حي، لكنه غائب لأنه شرب من عين الحياة الخالدة، ولم يصلها «ذو القرنين» ليشرب، ومات صغيرا (وربما حسيرا).
أما أين تقع هذه العين العجيبة جغرافيا، فهذا ما نجده عند «الثعلبي» في باب يسميه «باب دخول ذي القرنين الظلمات مما يلي القطب الشمالي لطلب عين الحياة»، وجميل أن يحيط الثعلبي علما بظلمة القطب، وربما أبهرنا! لكنه سرعان ما يعود إلى موقعه بين زملائه الكرام من الإخباريين سالما، عندما يردف قائلا: «إن عالما من علمائنا وجد عين الحياة الخالدة، في الأرض التي على قرن الشمس.»
76
ونفهم من الآيات الكريمة (الكهف: 89-98) وما لحقها من تفاسير وشروح، أن «ذا القرنين» في رحلته المشرقية إلى مطلع الشمس، أو إلى ما وراء الشمس، قد صادف غرائب وعجائب ومغامرات عظيمة، نظيرها في ملاحم المغامرات فريد، فقد مر على قوم «لا يكادون يفقهون قولا»، استغاثوا به ليحميهم من زحف قوم آخرين على بلادهم هم قوم يأجوج ومأجوج، ويصف تراثنا يأجوج ومأجوج بأنهم قصار القامة أو طوالها جدا، حفاة عراة، لهم وبر كالإبل، لكل منهم أذنان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى لهم مخالب وأضراس وأنياب كالسباع، إذا جاعوا ساحوا في البلاد كالآفات والجراد، يأتون على كل شيء، ينجب الواحد منهم ألفا.
77
وفي شرح الشيخ «أبي زكريا النواوي» لصحيح مسلم قال: «إن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطوا بتراب الأرض، فخلقوا من ذلك.»
وعقب «ابن كثير» على ذلك الحديث بقوله: إنه «لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكر من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن.» ثم يعترض على الذين ذكروا في أطوالهم أمورا متباينة فيقول: «وهكذا من زعموا أنهم على أشكال وأطوال متباينة جدا، فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو في غاية القصر.» وكان اعتراض «ابن كثير» مؤسسا على دليل نقلي، حيث: «قال النبي
صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن، وهذا فيصل في هذا الباب.»
78
يعني أنهم أقصر من آدم بكثير.
ووصل زحف يأجوج ومأجوج إلى حدود الذين لا يكادون يفقهون قولا، فقالوا لذي القرنين: «فاجعل بيننا وبينهم سدا قال: آتوني زبر الحديد»، ودلهم على جبل الحديد والنحاس، وأعطاهم لقطعه السامور «عند الجزائري» أو الساهور «عند الثعلبي»، الذي إذا وضع على شيء أذابه، وبه قطع سليمان صخور بيت المقدس ثم صهروا الحديد والنحاس وردموا بين الجبلين، وبنى سدا عرضه ميل وطوله ثلاثة.
79
وبذلك احتمى الذين لا يكادون يفقهون قولا وراء السد أو السور العظيم، وسيظل الأمر كذلك حتى يوم القيامة، يحاول يأجوج ومأجوج كل يوم هدم السد والخروج من ورائه إلى الأمم، ويفشلون، إلى أن ينهار السد ويخرجوا منه، ولا يوقفهم عن اجتياح الدنيا والتهام البشر من أمريكا حتى الصين سوى الله عز وجل، وأن يوم خروجهم من علامات الساعة وأشراطها.
ويحدد «الطبرسي» مكان هذا السد بكل دقة، فيقول: «إنه وراء در بندر وخزر من ناحية أمرينية وأذربيجان»! أما «النيسابوري» فلا يفوته الإدلاء بالقول الأدق مع تحديد المسافة بعناية، فيقول: إن موضع السد وراء زخرد بقرب مشرق الأرض، بينه وبين الخزر مسيرة اثنين وسبعين يوما، وإمعانا في التدقيق يضيف: «وإن مطلع الشمس قريب جدا هناك، إلى حد أن الناس هناك يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس مباشرة، فينضج.»
الجذور
وبعد استعراضنا للمادة التراثية حول «ذي القرنين »، يبقى علينا البرهنة على زعمنا، الذي لم نرشح فيه «الإسكندر المقدوني» ليكون «ذا القرنين» القرآني فقط، بل واحتسبناه هو محور كل حديث التراث، بداية من سؤال المكيين الاختباري، والذي أضمر المقدوني، وأسفر عن ملمح من طرف الخيط إمعانا في الإلغاز، لاستكشاف مصداقية علم النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
اللدني، ومرورا بالرد القرآني الكريم على المتسائلين بالجواب المفحم، وانتهاء بروايات المحدثين والمفسرين وأصحاب السير والأخبار من رجالات تراثنا الأفاضل، ولكن موقفنا - في ضوء حجج «الجزائري» و«ابن تيمية» و«ابن كثير» - بحاجة إلى ما هو أكثر من التبرير، وربما كان مطلوبا منا - على الأقل - عدد من القرائن يرقى في مجمله إلى مرقى الدليل. وقد يبدو أننا في مأزق شديد، حيث لا دليل نقليا على ما زعمنا، وليس ثمة شخصية تاريخية - في المقابل - تحمل اسم «ذي القرنين»، وجلي أن المادة المتوافرة لدينا حتى الآن هي من القرآن الكريم، وما لحق آياته من شروح وتفاصيل، وهي - وإن مال بعض المفسرين لرأينا - لا يبدو أنها ستساعد في تقديم القرائن المطلوبة لترجيح مذهبنا، ناهيك عن القطع في الأمر.
لكن؛ ربما كان مناسبا هنا طرح نموذج لمنهجنا الذي سبق أن ساعفنا في دراسات عديدة منشورة. وفي إشكاليات لا تقل تعقيدا، واهتدينا بسننه سبيلا أقوم فيما عرض لنا من مشكلات، وبه كنا نجد - دوما - لآخر الحلقات، ارتباطاتها المتعشقة بأصولها على التوالي، في خط تطوري لا جدال فيه، وهو ما سنحاوله هنا أيضا، فإن أصبنا فلنا مثابة الأجر المضاعف، وإن أخطأنا فلنا إثابة الأجر الواحد، وهو يكفينا تماما، فما تجشمنا إلا مشقة البحث عن الجذور، وترتيب الأمر حسب الأصول، وهي مشقة لها من يقدرونها، وبهم نحن في غنى وكفاية، أما مثابة الأجر الواحد فهي تغنينا عن العالمين، لاتفاقها التناسبي مع كرم رب العالمين.
وحتى نسلك طريقنا إلى الجذور، فلا بأس من تنبيه للقارئ الكريم إلى أنه، إذا كان قد وجد فيما أسلفنا حتى الآن لذاذة المعرفة مع طرافة النادر في الأخبار، فربما وجد الآن بعض العناء والوعثاء ، فالدرب معقد شائك، ورغم ذلك فقد احتملنا مشقته عن القارئ، فهذبنا المتشابكات، وأعدنا شواذ الفروع والأغصان إلى مسلكها الصحيح، وقدر الإمكان غلفناه بالشائق، لكن للعلم صرامته رغم تطوع الباحث من أجل تطويع موضوعه يسرا للقارئ ؛ ومن ثم فربما جاء هذا الجزء من الدراسة نافرا بعض الشيء عن باقي العمل، وربما ارتأى فيه نشوزا بلا معنى، وربما رآه منقطع الصلة بموضوعنا؛ لذلك نطلب من القارئ الكريم إمهالنا شيئا يسيرا؛ ليتكشف له من الأمر كثير، فصبرا قليلا، وسيجد أن لكل معلومة ترد هنا مكانها، بل سيجد أن هذه الحلقة هي سدة الموضوع كله ولحمته، والله المستعان.
في كتابه «عجائب المخلوقات» يؤكد «القزويني» عن يقين، وبخلاصة ما تراكم - حتى عصره - من معارف الأولين، أنه «إذا دفن القرنان تحت شجرة بكرت بالحمل.»
80
أي إنه إذا دفن الزارع تحت الشجرة أو في الحقل قرنين من قرون الحيوانات، جاء محصوله مبكرا ووفيرا، لكن الغريب أن تخبرنا كتب التراث الإسلامية، أن أهل الجاهلية كانوا يعلقون بجدار الكعبة المشرفة قرنين.
81
وفي القديم تظهر لوحة رافدية قديمة للإله «آشور» رب الدولة الآشورية الأكبر، وهو يلبس قلنسوة ذات قرنين،
82
وكان الملك آشور بانيبال يجمع الحكماء، ويقول لهم: «الحمل ذو القرنين يحل محل رجل، رأس الحمل يعطى بدل رأس الرجل.»
83
أما أجمل رسم بارز وصل إلينا من الفن الأكدي بجنوب الرافدين، ويرجع تاريخه إلى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، فيصور لنا الملك الأكدي «نرام سين» وهو يلبس خوذة يعلوها قرنان هما رمز ملكه.
84
وأول ما يلاحظه الباحث هنا أن الملكين يحملان اسمين لهما علاقة وطيدة بالقمر في حالة الهلال، فالاسم «نرام سين» اسم ملصق من مقطعين، والمقطع الثاني منه «سين»، هو أحد الأسماء في اللغات السامية الدالة على القمر، أما الاسم «آشور بانيبال» فهو في النطق الأصدق «آشور باني بعل» ويعني «آشور خالق بعل»، وبعل بدوره كان إلها للخصب وعلامة على القمر، فكلا الاسمين يشير إلى ارتباط المملكتين، بالمعبود القديم للساميين الإله القمر، والقمر في حالة الهلال ليس في تصور الأقدمين سوى قرنين، وكان يمكن لإنسان تلك العهود أن يرسم في خياله صورة لأي حيوان ذي قرنين تحت الهلال، مثلما رسم للأفلاك «دب أكبر، حوت، جدي ... إلخ»، وربما كان أقرب التخيلات الكبش والثور، وعليه فلا شك أن هناك ارتباطا بين القمر وبين الخصوبة والحمل والميلاد، سواء في ولادة البشر أم الحيوان، أم ولادة الأرض للزرع.
وكان أهل مصر في ظل دولة الإمبراطورية يعبدون رب الدولة «آمون»، ورب الخصب والنيل «أوزيريس» أو «أوزير»، واحتسبوا أن «أوزير» هو الروح لآمون،
85
أي إن «آمون» بذلك إله زرع ولا يحيا بدوره إلا بالخصب، ثم قاموا ينحتون لآمون تمثاله في هيئة الكبش ذي القرنين، ولم يكتف المصريون بالقمر كمثل واضح للقرنين، فرسموا الشمس بدورها مزودة بقرنين؛ لدورها في نضوج المحصول، وربما لزيادة طلب الخصب ليلا ونهارا لتبكر الأرض دوما بالحمل والميلاد، كذلك كان المعبود الإيراني إله الخير أهور أمزدا أو «هرمز» يرمز له بقرنين،
86
وكان مؤسس إمبراطوريتهم يلبس ذلك التاج ذا القرنين علامة على تمثيله للإله على الأرض.
وربما كان مفهوما أن تقترن الشمس بالزرع والخصب لدورها الواضح في حياة الزرع ونضجه، وارتباط دورتها السنوية بدورة الزرع ما بين الخصب والجدب، أو بين الشتاء والصيف، لكن ربما لم يكن مفهوما لدينا دور القمر صاحب القرنين صاحبي الدور الأساسي في المعتقدات حول الخصب، لكن هذا الدور كان واضحا تماما لدى إنسان تلك العهود، الذي قدس الأرض كمفرز ومنتج للزرع واحتسبها أما كبرى لكل الأشياء، وقدس تبعا لذلك معنى الأمومة، مع ما ورثه من سيادة قديمة للأنثى في النظام الاجتماعي الأمومي، مع انبهاره الشديد أمام ظاهرة الولادة، وهو يرى الحياة تخرج من بطن الأنثى؛ لذلك، وإن انقطعت سيادة الأنثى على الأرض بالسيادة الذكرية، فإنها ظلت شوطا طويلا من الزمن تسود بين المعبودات الكبرى في كافة المجتمعات وبخاصة الزراعية، ومن أشهر سيدات السماء «إيزيس» أو «إيسة» المصرية، و«عشتار» الرافدية، و«عنات» الكنعانية، و«سيبل» الفريجية، و«استارته» الفينيقية، و«مريم» المسيحية ... إلخ. وربما لاحظنا تلك الحفرية التي احتفظت بها اللغة العربية للارتباط القديم بين القرنين والحياة والأنثى، فوصلت بين القرن والحياة في الكلمتين: قرن وقران، وما يستدعيه الميلاد من قران بين ذكر وأنثى، وبين تسمية الأنثى حواء، وتشارك الاسم مع الكلمة حياة، ثم لا ننسى حيا الأنثى أو فرجها مفرز الحياة.
وثمة ارتباط آخر ميثولوجي ولغوي بين الأنثى والحياة، فالمعلوم أن الإنسان الابتدائي كان يظن أن الحية خالدة؛ لأنها تجدد نفسها كل عام عندما يراها تسلخ ثوب الجلد القديم، ومن هنا أيضا ارتبطت الحية بالأنثيو وصبغت المرأة بطباع الحية، فكانت ذات قيمة مزدوجة، وحمل الثعبان معنى الحياة في اسم «حية» ثم في تراثنا الشعبي حتى اليوم: الحية المقتولة لا تموت موتا فعليا إلا عند ظهور القمر أو القرنين، ولا ننسى أن الحية كانت رمز إله الشمس المصري ورب الدولة الذي مثله «آمون» الكبش في الأرض والشمس في السماء. وكانت الحية حامية الملوكية، وهي لا شك من بقايا عهد سادت فيه الأنثى مانحة الحياة؛ لذلك كانت الأنثى أو رمزها «الحية» لا تموت إلا عند ظهور القمر، معبود السيادة الذكرية والبداوة المتدفقة على الأرض الزراعية، التي سيطرت في النهاية، عندما ساد البدو وقمرهم، حتى حولوا الشمس بدورها من أنثى إلى ذكر وألبسوها القرنين.
87
ثم لا تفوتنا البقرة ذات القرنين، ودورها المهم في دفن الحبوب في الحقل وتقليب التربة وحرثها، وروثها كمخصب طبيعي، والبقرة بالقلب اللغوي أو «الميتاتيز» هي «بركة» ومواليد ووفرة. أما الخروف أو «الحمل» - فلا شك - له في اللغة علاقة بالحمل والميلاد. أما دورة القمر الشهرية وتحولاته ما بين الظهور والاختفاء، فقد فطن القدماء إلى تناغم إيقاعها مع إيقاعات الدورة الشهرية للمرأة. وكان دم الحيض في ظنهم هو مصدر تكوين الجنين لاختفائه مع الحمل، فهو مصدر الحياة.
وهكذا تراكمت في الأساطير القديمة محصلة معرفية لخبرات الإنسان وتجاربه إبان صراعه مع الطبيعة، تحولت مع الزمن إلى رموز ومفاهيم يعنينا منها هنا ارتباط الخصب والخضرة والزرع والحياة عموما بالماء، وبالقمر والقرنين بحسبانهما الهلال، وبالخروف والثور وذوات القرون عموما، وبالمرأة والحية، ولعل مشهدية القمر الهائلة والجليلة، كمصدر خوف ومصدر خير، في الليالي المطيرة المرعدة المبرقة، والخير في المطر. وخوف هذا التجلي المبرق المرعد، جعل الإنسان يربط هذه الرموز أيضا بالنار، وقتما كانت الصواعق المصدر الوحيد للنار. كذلك اشتملت الصاعقة وربها ثنائية نقيضة، فالصاعقة ماء ونار أو جنة ونار. مع ملاحظة أن اكتشاف النار بقدح الزناد، وقدح الزناد عصا «ذكر» تدور في ملفاف «أنثى»، كان بداية الطريق الذي انتهى بتحول المجتمع البشري إلى التحضر ثم اكتشاف الكتابة. وبحلولها انتهى عصر سيادة الأم وساد الأب.
وقد مثل هذه الرموز مجموعة من الآلهة الذكرية - بعد سيادة الذكر - حلت كآلهة للخصب محل الأنثى الأصل في الخصب، وسلبت الإناث دورا لا يليق إلا بهن، ومن تلك الآلهة التي انتشرت في حوض المتوسط الشرقي «حداد» أو هدد إله الرعد والخصب في المناطق السورية. وعبده الآشوريون كإله برق ورعد باسم أدد، رمزوا له بالصاعقة والثور «للقرنين» - والهلال قرنان سماويان - وقد ترك له الآشوريون نقوشا عدة، وهو يمسك بيمناه فأسا (ولاحظ دور الفأس في الزرع) وبيسراه صاعقة (لاحظ ارتباط الصاعقة بالمطر)، ويقف فوق ثور (لاحظ الثور ذا القرنين) ويلبس تاجا بقرنين، وعندما كان يتجلى القمر في الليالي المرعدة المبرقة، ويتوالى ظهوره واختفاؤه وراء السحب الداكنة المظلمة مرة، والمضيئة النارية الصاعقة مرة أخرى، كانوا يطلقون عليه اسما آخر هو «رمان» وهو من الفعل «رمامو» أي يصرخ أو بالتحديد والتدقيق يزأر «كالأسد المغضب».
88
أما الفينيقيون فقد عبدوا «البعل» إله الرعد، وصفته القدسية «راكب الغيوم».
89
فالسحاب مركبته والبرق سوطه والرعد صوته، ويبدو أنه مع استئناس الخيول وأهمية هذا الحيوان القوي في جر المحراث، وقوته الهائلة في الجنس كرمز للخصب أدخلت على قصة «البعل» بعض التجديدات، فصوروه يركب عربة تجرها الخيول، ومن هنا ساغ وضع ترميز آخر للخصب مثلته حدوة الحصان كأقرب ما بالحصان من شبه للهلال وللقرنين، كذلك قدس قوس قزح للسبب نفسه، أي الشبه بالقرنين، وكانت القوى التي يملكها بعل (لاحظ أن بعل وبغل في اللغات السامية تتبادل) هي البرق والصاعقة والرعد والسحب والمطر، وهو فيما يقول «موسكاتي»: «العنصر المذكر في مجموعة إلهات الدورة النباتية.»
90
وإذا كان «د. فاضل عبد الواحد» يؤكد أيضا أن «الثور في حدود عام 4250ق.م. قد أصبح رمزا للعنصر المذكر في الطبيعة، وأصبح لقب آلهة الخصب.»
91
وهو فيما نرجح ناتج السيادة الذكرية بتمكنها من ترويض الثيران كحيوانات أقوى وأقدر لإنتاج زراعي أوفر، فإن الحصان أخذ أيضا هذا المعنى الرمزي لقدرته الجنسية ولتشابه الحدوة والهلال ولدوره كدابة قوية في أعمال الفلاحة، ولأن الخيل سريعة كالبرق (لا ننسى هنا البراق النبوي «وهو حصان مجنح»، وصلة كلمة براق بكلمة برق)، والبرق والبركة متداخلان في المفهوم اللغوي، والحديث النبوي يقول: «الخيل في نواصيها الخير»، والخيل والخير كلمتان تتبادلان في الساميات باستبدال حرف «ل» مع حرف «ر» بقانون تبادل السقف حلقيات. و«المسعودي» يقول إن الله خلق الخيل من الريح،
92
ولأن الفرس يحمل الإنسان في السفر (فرس بالقلب سفر)، فهي لا شك للفرسان وسيلة طواف. أما الإله فإنه في الميثولوجيا يتخلى عن الخيل ليركب السحاب.
وإلى الشمال من كنعان كان الإله «أدونيس» رمزا لكل ما يتعلق بالخصب والماء المقدس، ويعود بأصله إلى الإله الرافدي «تموز»، والاسم «تموز» اسم سومري يعني الابن المبعوث أو الخالد، وهو إله ذوات كل القرون من القطعان، ولقبه الراعي الطيب، ومملكته هي الخضرة والأنهار.
93
وهو - فيما يقول «جان بوتيرو» - خالد أبدا، لكنه يغيب من آن لآخر لأنه إله النبات، الذي يولد ويكبر ويثمر ثم يذبل ويموت ليعود من جديد؛ لذلك كان إله الخضرة حاضرا غائبا، يحضر في فصل الإنبات ربيعا وصيفا، ويغيب في فصل الجدب خريفا وشتاء،
94
ثم نعلم أن غيابه يكون في عالم آخر تصفه الأسطورة، عند قوم:
طعامهم هو من الطين،
غذاؤهم هو التراب،
لا يرون النور أبدا؛
فهم يسكنون بالليل.
95
ولأن البرق ثنائي القيمة، باعتباره مصدر الماء والنار، والنار في اللغات السامية هي: إيشاتو بالأكادية، وإيشا بالآرامية، وإيشوتو بالسريانية، وإيشو بالعبرية، وإيسات بالجعزية، وأنيسة بالعربية، وبالعربية أيضا أوس
96 «أوس اللات يعني نار اللات»، فهذا يأخذنا إلى وادي النيل حيث «إيسه» أو «إيزيس» إلهة الخصب المصرية زوجة «أوزير» أو «أوزيريس»، حيث عبدت كإلهة خصب إلى جوار رب الدولة الخروف «آمون»، وكانت تمثل في هيئة بقرة بقرنين عظيمين.
وحتى اليوم لم تزل في موطن الباحث (مدينة الواسطى بصعيد مصر) بقايا قائمة لتلك العبادات الزراعية، تحول أصحابها بما يلائم سيادة الدين الإسلامي ليصبحوا من الأولياء الصالحين، فمنهم «الشيخ زارع» «لاحظ الاسم وعلاقته بالزرع»، والشيخ «عويس القرني»، أو «عويس» ذو القرنين، وكلاهما مزار لأعداد هائلة وغفيرة تعود الضريحين مع بداية الربيع أو عودة الدورة النباتية. كذلك الشيخة «خضرة» في طريق مدينة الفيوم. وليست شيئا سوى شجرة فقط يجاورها مسجد تم بناؤه على شرفها عندما نزفت دما حسب سيناريو الرواية الشعبية، وعليها علق الأهلون قرنين عظيمين!
ويتميز الشيخ «القرني» بوجه خاص بسعي النساء العواقر إليه طلبا للحمل، وعلى ضريجه لا يزال القرنان معلقين، أما الذبائح المستحبة تقربا إليه فهي ذوات القرون، وكل حسب قدراته، وحبذا لو كان كبشا، أو ثورا لمن استطاع إليه سبيلا، أما الكلمة «عويس» فهي اسم شعبي واسع الانتشار في مصر. لكنه في معارف باحث مهموم بالميثولوجي ليس سوى صيغة مقلوبة من اسم تراثي ميثولوجي عريق، هو «يسوع» أو «يشوع» أو «عيسى» ويعني المنقذ أو المخلص، ويعني أيضا المبعوث والمبروك. وقد تخلف الاسم «يشوع»، و«يشع»، في العبادات العبرية بعد ذلك. فأصبح هو الإله «يهوه» المعروف أيضا في الكتاب المقدس باسم «ياه» وباسم «إهيه»، والاسم «يوشع» أو «يشع» أو «يشوع» ملصق من كلمتين هما: «ياه» + «شا»، التي أصبحت بالإدغام «ياهوه» رب القبيلة الإسرائيلية، والملصق يحمل المعنى الذي ذهبنا إليه. فالشطر «ياه» من الهواء، والشطر «شا» من كلمة شاة التي تعني في اللغات السامية كل ذوات القرون، والملصقان يعينان في النهاية الشاة الهوائية أو الشاة الطائرة، وهو أبلغ تعبير عن المعبود القمري.
وحول الأمر تفاصيل هائلة اكتفينا منها بما يعني موضوعنا ولصيق الصلة به؛ لوضع صورة سريعة لما وصل إليه الإنسان من معارف، بناها على علاقته بالطبيعة من حوله، وتحولت إلى معارف مقدسة في الحضارات القديمة بالمنطقة، وقتما كان «الإسكندر المقدوني» يطمئن على حدوة حصانه، ويركب فرسه ليسافر طوافا أو فاتحا لتلك البلدان، وهي المعارف أو المقدسات التي ستضيء لنا مساحة أوسع حول لغز «ذي القرنين».
الأصول
والآن؛ من هو «الإسكندر المقدوني»، ولماذا احتسبناه هو ذا القرنين نفسه القرآني؟ بعد أن زرعنا البذار عبر الصفحات السالفة، وحان وقت القطاف، خاصة مع ما أوردنا من مادة علمية بعنوان «الجذور» تبدو منبتة الصلة بما قبلها، كما لو كانت إيقاعا نشازا، أو قولا في غير مقامه. «الإسكندر» هو «الإسكندر الأكبر بن فيليب الثاني» من أمه «أوليمبيا أو أوليمباس»، وهو ربيب الفيلسوف اليوناني الأنشر «أرسطوطاليس» وتلميذه، وهو القائد اليوناني الفذ الذي توجهت فتوحاته - ضمن خطته لضرب الإمبراطورية الفارسية التي أسسها «قورش» صاحب تاج القرنين - نحو أرض الفراعنة، بغية الاستيلاء على بوابة الشرق القديم، وقتما كانت تدين بديانة «آمون» الخروف رب الدولة (لا يظن مشتبه أننا نقلل من شأن آمون، فالمسيح في الأناجيل أيضا كان خروفا، بل كان الخروف الأعظم)، و«آمون» في الاعتقاد هو الروح لأوزيريس صاحب العائلة المقدسة، وهي عقيدة تثليث تعبد إلها أبا هو «أوزير» وإلهة أم هي «إيسة» وإلها ابن هو «حور»، والابن «حور» يعد أصل السلالة الملكية الحاكمة وجدها البعيد، بالضبط كما كان الابن الإلهي «تموز» في العراق القديم؛ لذلك كان الفرعون يعد ابنا للإله يجري في عروقه الدم السماوي الشرعي، الذي يكتسب بموجبه شرعية الحكم. وفي حالات نادرة كان يستولي على عرش البلاد قهرا بعض الطامحين، لكن كان على من يطيق ذلك أن يرضي الكهان بالمال والأراضي والمناصب؛ ليعترفوا به ابنا للإله الأعظم «آمون»، وأنه أيضا حفيده عبر «حور» الابن الإلهي، وذلك قبل أن يتزوج الأميرة الوريثة ويصبح حكمه مشروعا.
وكان «أوزير» أو «أوزيريس» هو رب الخلود الدائم باعتباره إله النبات، وهو الإله الحي الغائب أو الرب الحي صاحب موازين الحساب في الآخرة، وقاضي الثواب بالجنة والعقاب بالنار، وكان لقبه الأشهر هو «خنتي آمنتي» أي صاحب مملكة الغرب، أي مملكة الخلود، حيث كان المصريون يعتقدون أن البشر يرحلون بعد موتهم غربا مع الشمس «آمون» في مركبها السماوي إلى عالم الخلد؛ ليعيشوا هناك في مملكة «أوزير»؛ لذلك كان الحج إلى كعبة «أوزير» في أبيدوس ، وإلى معبد «آمون» في واحة سيوة، ضرورة إيمانية للخلاص من الذنوب، حيث يغتسل المؤمن هناك أو يتعمد في عين «أوزير» وفي البحيرة المقدسة لمعبد «آمون»، أو ما كان يسمى وقتها «عين الحياة» فتلقى عنه أوزاره، ولم تزل عين «أوزير» وبحيرة «آمون» قائمتين إلى اليوم، يقصدهما العامة بغرض الاستشفاء والإخصاب، وهناك تتراءى الشمس للناظر وهي تغرب في بحيرة «آمون»، مشكلة مشهدا جلاليا، لم يزل يترك في النفوس أثره القديم.
97
ويؤكد «ه. آيدرس بل» أن الاحتلال الفارسي لمصر كان قاسيا، ولم يعامل عقائد المصريين بالاحترام الواجب، بعكس تلميذ «أرسطو»، «الإسكندر» المقدوني الذي لم يتبع في فتح أعظم بلاد الشرق سياسة البطش الفارسية، إنما استثمر ما تلقاه عن أستاذه من حكمة، واستخدم الدبلوماسية في استغلال الدين لتثبيت حكمه، فما أن وضع جنوده أقدامهم على البر المصري، حيث قرية كانوب الساحلية (وهي التي حولها إلى حاضرة كبرى هي الإسكندرية)، وبعد أن استسلم له الوالي الفارسي، حتى أعلن «الإسكندر بن فيليب الثاني» ولاءه لآلهة مصر الوطنية وخضوعه لها، كما أشاع بين الناس أنه ما قدم من بلاده إلى مصر، إلا لينقذ آلهتها من الامتهان الفارسي، ويقدم لها فروض الولاء والطاعة.
وبالاتفاق المرضي للطرفين، الإسكندر والكهنة، اعترف الكهان بالإسكندر ابنا شرعيا للإله المصري، ولكن بشرط أن يقوم بالحج إلى واحة «آمون» ماشيا حافيا يتقدم الجماهير؛ ليعلن هناك ولاءه للآلهة، ثم ليتسنى له كسب الخلود بالشرب من بحيرة الحياة، وإزاء رغبته في فتح العمق المصري سلميا دون مصادمة، قام «الإسكندر» بالرحلة القاسية في الصحراء القاحلة الساخنة من أجل الحج،
98
مدللا على استحقاقه التلمذة لعبقري زمنه «أرسطو»، ولا شك أنه يمكننا أن نرى من خلال سجف الزمن عيون الرضا ترعاه من كل الشعب المصري، وربما ابتهلت الألسن وأطلقت عليه لقب المخلص، الذي خلصها من الطغيان الفارسي «عويس». وبالفعل يحدث التاريخ أن «الإسكندر» استولى على مصر وعلى قلوب جماهيرها المؤمنة، وأعلنه الكهان حاكما شرعيا على البلاد بالحكمة الأرسطية وحدها.
وقد اتبع «الإسكندر» السياسة نفسها في فتوحه لأرض الرافدين، حيث كانت حروبه مكرسة في المقام الأول لنظام «داريوس» الفارسي، ونجح مرة أخرى في الوصول إلى اتفاق مع الكهان، إذ ألبسوه على شاطئ الفرات تاج الإمبراطورية ذا القرنين، تاج شرعية الملك والخير والخصب والبركة، ورمز الألوهية والحكم بحق السماء، وذلك التاج لم تزل اللوحات تصوره فوق رأس الإله «حداد»، أو «أدد»، والبروق والصواعق تنبعث من قرونه.
99
وبالمقارنة يمكن ملاحظة أوجه شبه كثيرة بين واقع الحقيقة التاريخية عن «الإسكندر المقدوني»، وبين ما ورد في كتبنا التراثية، وبين ما نعلمه عن ميثولوجيا المنطقة وتراثها القديم، فالإسكندر تاريخيا هو باني الإسكندرية، لكنه مع الوقت تحول في كتاب «إكمال الدين» إلى رجل من أهل الإسكندرية يقال له «إسكندر»، وخلط نتيجة ذلك بين كونه مصريا أو يونانيا. أما «الرازي» ومن ضرب في دربه، فكانوا أكثر الرواة قربا من الواقع، عندما أكدوا أن «ذا القرنين» هو باني الإسكندرية، وأن اسمه «إسكندر ابن قليقوس، أو فليقوس، أو فيليش كما عند النيسابوري».
ومسألة تلقيبه بذي القرنين لأنه أمسك بقرني الشمس، فتذكرنا بالشمس المصرية ذات القرنين، وما سجلته كتب الأخبار عن كونه حمل اسم «هرمز»، فلعلنا لم ننس بعد أن «هرمز» كان إله الخير في الديانة الزرادشتية، وأنه كان يلبس تاجا ذا قرنين، ومسألة تسخير السحاب له يحمله حيث شاء، فلا شك أنها تستدعي فورا آلهة الخصب «حداد» و«بعل» و«أدونيس» راكبي الغيوم أو السحب، والإشارة التراثية إلى أن أبا ذي القرنين كان ملاكا وأمه آدمية، تذكرنا بالقصة التي نسجها كهان مصر، ليتيسر للإسكندر مشروعية حكمها، والتي تقول: إن الإله «آمون» قد خالط أمه «أوليمباس» وأنجب منها «إسكندر»، الذي كان في الحقيقة ابن «آمون» وليس ابن «فيليب»، وربما كان ذلك بدوره عاملا أكد مصريته.
وبالمطابقة نجد لبس «الإسكندر» لتاج الملوكية الشرقي «ذي القرنين »، واحدا من التعليلات التراثية للقبه، وهو ما حدث في الواقع التاريخي، كما نجد لما جاء في الرواية التراثية عن حج «ذي القرنين» ماشيا إلى الكعبة المكية، حيث تلقاه «إبراهيم عليه السلام»، صدى في حج «الإسكندر» إلى كعبة «آمون» حيث تلقاه كبير الكهنة، والفارق الزمني بين عهد النبي «إبراهيم» وعهد «الإسكندر»، يضع الرواية التراثية موضع الروايات التلفيقية، والإسرائيليات فيها أوضح من الحاجة لبيان، فما أرجع زمان «ذي القرنين» أو «الإسكندر» إلى زمن النبي «إبراهيم»، إلا ليحكم في بئر سبع، في الرواية التوراتية المشهورة عن خلاف إبراهيم (عليه السلام) مع «أبيمالك» الفلسطيني، وكيف انتهى الأمر إلى تمكين «إبراهيم» وذريته من بئر سبع. وهو الأمر الذي يضعه الصهاينة ضمن حيثياتهم لامتلاك أرض فلسطين. وجاء إخباريونا عافاهم الله ليرجعوا بذي القرنين إلى عهد «إبراهيم عليه السلام» ليحكم للنسل العبراني بالحق في الأرض الفلسطينية.
ومن جهة أخرى نجد للأصل التاريخي أثره في الرواية التراثية، فكما ذهب «الإسكندر» إلى ما كان يعتقده المصريون مغربا للشمس، ذهب «ذو القرنين» في الرواية التراثية إلى مغرب الشمس، حيث وجدها تغرب في عين حمئة، وهو اعتقاد المصري القديم نفسه، بل إن المصورات الباقية لمركب الشمس هابطا نحو المغرب، يكاد يشبه الرواية التراثية في أن الشمس تجرها الملائكة كالمركب نحو المغرب.
ومسألة القرون أو تاج آلهة الصواعق الزراعية، قد تخلفت بدورها في الرواية التراثية، حيث قالت: إنه كان يزأر كالأسد المغضب، فتنبعث من قرنيه رعود وبروق وصواعق، ولا ننسى أن لقب الإله حين يرسل رعوده هو «رمان» أي يزأر. كذلك مسألة عين الحياة لها في الواقع جذور، حيث وصل «الإسكندر» إلى بحيرة «آمون»، بل إن مسألة الثلاثمائة وستين عينا التي طلب «ذو القرنين» من أصحابه غسل أسماكهم فيها، ليست سوى صدى للتقسيم المصري القديم لأيام السنة إلى ثلاثمائة وستين يوما، إضافة إلى خمسة أيام للنسيء سميت بأسماء أعضاء أسرة «أوزير» رب الخلود.
ومن جهة أخرى يمكننا أن نجد صدى آخر لطلب الخلود في الملحمة الرافدية «جلجامش» الذي ذهب يسعى طلبا للخلود ، ممثلا في نبتة تنمو في بلاد غريبة، سافر إليها أصقاعا وزمانا إلى أن وصل إليها، لكن «الحية» سرقت منه النبتة في بركة نزلها ليستحم، وهو ما يكاد يطابقه ما جاء عن نزول «الخضر» إلى البركة وهروب السمكة منه، لكن الذي خسر الخلود هو ذو القرنين. بينما شرب «الخضر» من ماء الخلود، فكان هو صاحب العين؛ لذلك هو حي غائب. وقد أفصحت ملحمة «جلجامش» عن اعتقاد رافدي استمر زمنا طويلا سجلته عقائده، وهو أن الآلهة احتفظت بالخلود وحرمت منه الإنسان، والحية سارقة النبتة الخالدة هي كما علمنا رمز الأنثى «حية، حواء، حيا المرأة أو فرجها مفرز المواليد ورمز النبات»، والنبات في الملحمة رمز الخلود، والنبات يموت ويحيا في دورة دائمة أبدا كل عام، أما الإنسان، إن مات فلا عودة، فقط آلهة الخضرة هي التي تمتلك ذلك الاقتدار، وهو ما أورد التراث صداه ممثلا في الشخصية التراثية المسماة بالخضر وارتباط اسمه بالخضرة، وكان إذا جلس على اليبس اخضر، وإذا جلس على صوف الخروف ذي القرنين تحول إلى خضرة زاهية،
100
كما أوردت كتبنا التراثية!
ولا ننسى أن الحية ظلت في المقدسات وراء سلب الخلود من الإنسان، وهي أيضا رمز الحياة والنبات، فهي تحمل قيمة ثنائية كالمرأة، فهي في التوراة التي أوعزت لأبوي البشر في عالم الخلد ليأكلا من نبتة المعرفة، فخسرا الخلود وطردهما الرب من جنة عدن. كذلك فإن «إبليس» في التراث الإسلامي عندما أراد إغواء أبوي البشر بالثمرة المحرمة في عالم الخلد، تلبس هيئة الحية. وانتهى الأمر هنا أيضا بخسران الخلد.
أما الرحلة إلى مطلع الشمس. فيحتمل أن المقصود بها جغرافيا بلاد الصين وسورها العظيم، وهو ما تجد له صدى في أخبار التراث، بتأكيدها وصول ذي القرنين إلى الصين، والسور العظيم هو استحكامات تمتد حوالي 240 كيلومترا، عبر شرقي الصين، بدأ تشييده الإمبراطور «شن هو أنجتي» الذي حكم ما بين سنة 246 وسنة 209ق.م. ليحمي بلاده من المتبربرين الشماليين.
101
وشيء هائل كهذا كان لا بد أن يبهر البدوي المرتحل لمجرد السماع بأمره، وكعادة العربي كان لا بد من شيء إعجازي لإقامة مثل هذا العمل العظيم، فكان محتملا أن ينسبه الجاهليون إلى من سبق أن عرفوه فاتحا مقتدرا كذي القرنين أو «الإسكندر»، حتى إن السامور الوارد في الرواية التراثية كقاطع للحديد والنحاس، ليس في أغلب ألسنة شرقي آسيا سوى الحد أو النصل أو السيف القاطع.
وإذا كان هذا الاحتمال صحيحا فستكون أمة «يأجوج ومأجوج» هم أهل شمال الصين، الذين صورتهم الرواية التراثية بالمبالغة والتهويل، والغريب أن نجد صدى لفكرة خلقهم من مني «آدم» في الرواية المصرية القديمة عن الكائنات الأولى، التي جاءت من مني الإله «آتوم» لما استمنى. أما النطق الصحيح لاسم الإله فهو «آتم»، ويعني التمام والكمال، وبتحول التاء المصرية إلى ما يقابلها في اللغات السامية يصبح الاسم «آتم» هو «آدم»!
102
وتأسيسا على هذه المجموعة من القرائن والشواهد، لا نجد مناصا من التصديق على احتسابنا «ذي القرنين» المعروف لعرب الجاهلية، وما جمعوه حوله من أساطير تغشت تراثنا، هو «ذو القرنين» القرآني نفسه، وهو «الإسكندر المقدوني» نفسه. ولا يبقى مجال للإشكال المثار لكون المقدوني تلميذا لأرسطو الفيلسوف، كمأخذ يحط من شأنه، مما لا يليق معه أن يكون هو «ذا القرنين»، بل العكس هو الصحيح تماما، فلا جدال أن تلمذة «الإسكندر» على «أرسطو» هي التي صنعت منه هذا الرجل العظيم، مصحوبا بالتهاويل، حتى يقول «نولدكه» في كتابه الآداب الشرقية: إن «الإسكندر» يعد قديسا مسيحيا عظيما في مقدسات المسيحيين الأحباش حتى اليوم.
103
ووجه الغرابة في هذا الاعتقاد المسيحي الحبشي أن قدسية المسيحي هذا كان سابقا على ظهور المسيحية والمسيح بقرون، واضح أنها ذهنية الاعتقاد والتقديس أينما كانت وأيا كان موضوعها! (3) الكافران النمروذ بن كنعان وبخت نصر
يقول تعالى في كتابه الكريم:
قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد (النحل: 26)، والآية هنا تهدد أهل مكة ترهيبا، وتذكرهم أنه مهما بلغ مكرهم، فلن يطاولوا مكر السابقين من أصحاب الحضارات السامقة، وأولئك الذين بلغوا من العتو حدا قاموا يبنون معه برجا صاعدا إلى السماء، يبغون مناوأة رب السماء ومنافرته، فرد الله عليهم مكرهم، وأبطل كيدهم بأن هدم برجهم على رءوسهم من قواعده، والقصة ترويها كتب التفسير والأخبار عن محاولة صعود ملك هؤلاء القوم إلى السماء ليقتل إله النبي «إبراهيم». ولما لم يسعفه البرج لبعد سماء الرب عن المطاولة، هداه فكره إلى الصعود بأول مركبة فضائية في تاريخ البشرية، فمن قمة البرج، جلس في صندوق تحمله أربعة نسور أشداء. وقد عقب الله تعالى على تلك المحاولة بقوله:
وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (إبراهيم: 46). ويشرح «الثعلبي» الآيات المبينة بقوله: إن الجبال قد سمعت خفقا شديدا قادما من السماء، فظنت أن أمرا جللا قد حدث في السماء، أو أن الساعة قد دنت وحان وقت القيامة، فكادت تزول أي تتزلزل فزعا وفرقا.
104
بينما كانت الحقيقة أنه كان مكر أو اختراع أولئك الكافرين، فكان الصوت المدوي هو صوت المركبة العائدة من مهمتها الاستطلاعية والقتالية. أما رائد الفضاء ذاك، فهو من سجلته لنا كتبنا التراثية كأحد أربعة ملوك حكموا الأرض كلها باسم «النمروذ بن كنعان»، وكانت عاصمته، أي عاصمة الأرض جميعا في ظل ملكه هي موطنه «بابل» بالعراق القديم. وللقصة تفاصيل مشوقة ومنمنمات مثيرة وأحداث مدهشة وعجيبة، وهي في مجملها عظة وعبرة ورعب للكافرين. أما نهايتها فسعادة غامرة للمؤمنين، لما فيها من تصوير للنهاية الفاجعة التي انتهى إليها الملك البابلي وأهله من الضالين.
الآن، وبعد وقت قضيناه مع الملكين المؤمنين: «سليمان بن داود»، و«ذي القرنين»، ومع ما جاء بشأنهما من كلم جليل بالقرآن الكريم، وما لحق الكلم من كلام الأحاديث والتفسير والأخبار والسير في تراثنا الثري بالراسب الثقافي للأمة، إضافة إلى ما عمدنا إليه - وفي العمد قصد - من سرد ما جاء بمقدسات أهل الكتاب حول الملك «سليمان» - ولم يأت فيها خبر عن «ذي القرنين» - بغرض معاينة أخبار الكتاب المقدس المعاينة النافية للجهالة، وبهدف الكشف عما بخبرهم من نكارة، وبغية هتك نكاراتهم التي لبست أردية إسلامية وتزاحمت بها مصادرنا التراثية وعجت؛ ومن ثم فلا بأس هنا، ونحن على موعد مع كافرين من العتاة، أن نستمر على دربنا واثقين، ونلتزم منهجنا غير هيابين، ولكن، لأن للنفس صبواتها الإيمانية، ولأنها تعاف الكفر، ومنه تنفر وتأف، فلا جناح إذن علينا إن قدمنا أمر الكافرين في عجالة نوجز فيها القول، وربما كان ثمة سبب آخر للإيجاز، يدفع إليه قسرا ندرة ما جاء بشأنهما في المصادر. مما جعل الاستفاضة إنشاء لم نعتده مع قارئنا، لكن ما يعزينا أنه ربما حسمنا بشأنهما أمرا، أو أفدنا القارئ من قصتهما خبرا، استجلاء لما في الخبر من عبر.
والكافر الأول «النمروذ بن كنعان» وإن تكبر وتجبر، فلا بأس في ضوء مركزيات الأمم السوالف، وفي ظل المنطق التراثي، لكن النكاية في خبر النمروذ أنه لما ملك الأرض كلها اغتر، وظن أنه لا ند له يدانيه، فتأله وادعى من الأمر ما لا يملك، وربما عذر الرجل عاذر، وهو يراه جالسا على عرش الكوكب الأرضي، ويلبس تاجا لا ينافسه آخر ولا يطاوله، لكن لو لم تأته البينة لكان العذر مقبولا، فقد أرسل إليه رب العالمين يعلمه بأمره، وبأن ملك الله أعظم، وأن النمروذ ليس في ملك الله إلا مخلوقا ضعيفا، وقد حمل الله تلك الرسالة لصفيه وخليله «إبراهيم عليه السلام»؛ ليعرف النمروذ أن هناك من هو أعظم، وأن يعترف له، بأن ينسحب من ميدان الألوهية ويسحب ادعاءه، وإلا أثبت له أيهما هو الرب حقا، وتروي آيات كتاب الله كيف واجه نبي الله «إبراهيم» ذلك الدعي وألزمه الحجة، وأفحمه بالبرهان المبين، بشجاعة تليق بخليل رب العالمين، وذلك في قوله تعالى:
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (البقرة: 258).
ورغم أن الآية قد تحدثت عن الملك غفلا من أية تسمية أو تعريف، ولم يأت القرآن الكريم باسمه صريحا في أي من آياته، فإننا قد علمنا بأمره وتعرفنا اسمه من شروح المفسرين ورواة الأحاديث، فيشرح الحافظ «ابن كثير» شيخ طبقة المفسرين الآية بقوله: «يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه السلام دليله ، وبين كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة وأوضح له طريق المحجة، قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل واسمه النمروذ بن كنعان ... وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا ... وذكروا أن النمروذ هذا قد استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغى وتجبر وآثر الحياة الدنيا.»
105
وأكد المعنى نفسه «نعمة الله الجزائري» في قوله: «إن النمروذ بن كنعان هو أول من تجبر وادعى الربوبية.»
106
وكان «النيسابوري» قد سبق كليهما إلى تأكيد تلك المعاني في قوله: «وكان نمروذ أول من وضع على رأسه تاجا وتجبر في الأرض ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء ... فأمر نمروذ بذبح كل غلام يولد في تلك الناحية.»
107
لكن الله تعالى ينجي الطفل المقصود في النبوءة، حتى يتسنى له القيام بالدور المقدور، وكان هذا الغلام هو الذي اتخذه الله صديقا وخليلا، النبي «إبراهيم عليه السلام».
بعض المنطق
والمتمعن في كلام الله - ومطلوب من المؤمن أن يتمعن - يدهشه ذلك الموقف بين رجلين: أحدهما جبار يملك ما بين الخافقين، والآخر يافع تجاوزت به صبوات الروح إلى الطموح لأمر عظيم، والآيات تضع أمامنا صورة خليقة بكليهما، وهي رغم إغفالها التعريف بالملك، مع الإهمال والاستهانة «ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم؟» فإنها توضح موقف «إبراهيم» الحازم الصارم، فإن كان الملك يستند إلى وحدانيته في ملك الأرض، فإن «إبراهيم» يستند إلى يقين بوحدانية ملك الأرض والسماء، لكن منبع الغرابة هنا، هو أن يسمح الملك المنعوت بالجبار - في تراثنا - لشاب في سن «إبراهيم» عليه السلام أن يطاوله، وأن يسمح لذاته في الوقت نفسه بالتبسط معه كل هذا التبسط، مع ما ذهب إليه «إبراهيم» في المحاجة من مدى، إذ تجرأ على ذات الملك وما لها من جلال وقداسة في تلك العصور، بل وتفهمنا الآيات الكريمة بصدق التنزيل أن «إبراهيم» كان هو صاحب الكلمة من البداية إلى النهاية، فهو الذي ابتدر الملك بالسؤال المتحدي، وهو الذي أغلق الجدل، وما بين البدء والمنتهى قام بتسفيه الملك ومركزه، بعد أن صرح له «إبراهيم عليه السلام» أنه لا يعترف بسيادته لأنه إنما يدين بالولاء لملك آخر أعظم شأنا، يمكنه أن يأتي من الأعاجيب ما لا يستطيعه النمروذ، وكان طبيعيا أن يعجب «النمروذ» وهو يعلم أنه لا ملك سواه على عرش المعمورة، لكن طبيعي أيضا أن نتعجب بدورنا للنمروذ وهو يسمح بتلك المناقشة أصلا، ويفتح أبواب قصره للمتحدي، ويعطيه من الوقت والأناة والصبر ليعبر عما يريد بلاغه. وما تخبرنا به الآيات يسمح لنا بتصور ما جبل عليه الملك من طباع، وتوضح بلا لبس شكل النظام السياسي والمدى المسموح به من حريات، في ظل دولة موصوفة بالتجبر والبطش، والديكتاتورية التي تجمع السلطان الروحي مع الزمني في مركزية صارمة. ومن جانب، فإن رواية القرآن الكريم عن «النمروذ»، وعدم استنكافها الحديث عن الرجل وموقفه من الحريات، أمر - لا مشاحة - يعبر عن النزاهة المطلقة بالتنزيل المبين، ومصداقية الكلم الكريم مع الحدث وواقعه دون تزويق.
ولا يخفى أن مثل هذه المطارحة الجدلية التي سمح بها الملك النمروذ، كانت كفيلة بزلزلة الحكم الدكتاتوري من أسسه؛ لأنه انتقص البند الأول في الدكتاتورية، وهو ما حدث بالفعل - حسبما يخبرنا الإخباريون - فانهارت المملكة وتشتت أهل الأرض وانقسموا شيعا وشعوبا متنافرة، بعد الحدث الهائل وانهيار برج بابل وتبلبل الألسن بعد أن كانت لسانا واحدا وعقيدة واحدة وحكومة واحدة، كما انتهى الملك «النمروذ» نفسه نهاية مزرية ولكن بعد عذاب أليم، حتى تطيب أنفس المؤمنين، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، لكن مشيئته قدرت غير ذلك، وما شاء قدر.
وللقصة تفاصيل، تحتاج إلى مزيد من التدقيق.
تنتشر قصة برج بابل في كتب الأخبار الإسلامية انتشارا واسعا، ولتخفيف المساحة والجرعة نقف مع «النيسابوري» وهو يوجز بشأنها القول: «إن النمروذ الجبار لما حاجه إبراهيم عليه السلام في ربه، قال: إن كان ما يقول إبراهيم حقا، فلا أنتهى حتى أعلم من في السماء؟ فبنى صرحا عظيما عاليا ببابل، ورام منه الصعود إلى السماء لينظر إلى إله إبراهيم (فيما يزعم) ... ثم عمد إلى أربعة أفراخ من النسور فعلفها اللحم والخبز حتى شبت واستفحلت، ثم قعد في تابوت ومعه غلام وقد حل قوسه ونشابه، وجعل لذلك التابوت بابا من أعلاه وبابا من أسفله، ثم ربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم على عصا فوق التابوت، ثم خلى على النسور فطارت وصعدت طمعا في اللحم، حتى أبعدت في الهواء، فقال النمروذ لفتاه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء، هل قربنا منها، ففتح الباب ونظر فإذا السماء كهيئتها، ثم قال: افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها، ففتح فقال: أرى الأرض مثل اللحية البيضاء والجبال كالدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى الريح بينها وبين الطيران، فقال لغلامه: افتح البابين، ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغي الباغي أين تريد؟ قال عكرمة: فأمر عند ذلك غلامه فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخا بالدم فقال: كفيت شغل إله السماء، واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ؟ فقال عكرمة: من سمكة في بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض، قربت نفسها إلى الله تعالى وقال بعضهم: أصاب السهم طائرا من الطير فتلطخ بدمه، ثم أمر النمروذ غلامه أن يصوب العصا وينكس اللحم، ففعل ذلك، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال خفق التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه أمر حدث في السماء، وأن الساعة قامت، فذلك قوله تعالى:
وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (إبراهيم: 46) ... ثم إن الله تعالى أرسل ريحا على صرح النمروذ فألقت برأسه في البحر، فخر عليهم الباقي وانقلبت بيوتهم، وأخذت النمروذ، رعدة، وتبلبلت ألسن الناس حين سقط صرح النمروذ من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا؛ فلذلك سميت بابل لتبلبل الألسن فيها».
108
ويبدو أن «ابن كثير» لم يعجبه أن تأخذ «النمروذ» رعدة وينتهي الأمر، أو يدق عنقه مع من دفن تحت البرج المنهار، فيورد عن «زيد بن سلمة»: «وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه ثانية فأبى عليه، ثم الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليه فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاما بالية ودخلت واحدة منها في منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة عذبه الله تعالى بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله.»
109
لكن «نعمة الله الجزائري» من جهته لا يستسيغ دخول البعوضة منخار «النمروذ» وبقاءها هناك، ثم استكثر أن تظل البعوضة أربعمائة سنة داخل المنخار النمروذي تستمتع بمشهياته، فقام يصلح من شأن رواية «ابن سلمة» بعض الشيء في قوله من باب آخر، عن طريق «ابن عباس» قوله: «إن الله سلط على نمروذ بعوضة فعضت شفته فأهوى إليها ليأخذها، فطارت في منخره، فذهب يستخرجها فطارت في دماغه، فعذبه الله بها أربعين ليلة ثم أهلكه.»
110
أما في الكتاب المقدس، فمن الواضح أنه ليس ثمة علاقة البتة ما بين «نمروذ» وبين برج بابل وبين النبي «إبراهيم»، وهو ما سنفصل فيه القول، لكن ما لا يجب أن يفوتنا، الإشارة إليه أن قصة برج بابل في هذا الكتاب قد حدثت في فجر الإنسانية على الأرض. أما «النمروذ» فبعد ذلك بزمن بعيد يعود إلى زمن أبناء «نوح»، ويبدو أن ثمة كاتبين لهذا الجزء من سفر التكوين، والذي يتحدث عن اختلاف لغات البشر، ويبدو أيضا أن الكاتبين لم يلتقيا ليصفيا ما بينهما من خلافات في التفاصيل، ربما لبعد الزمان بينهما، وأن الرواية تم جمعها بعد ذلك مع ما جمع من الكتاب في وقت متأخر، فالكاتب الأول يقول : «وهذه مواليد بني نوح: سام وحام ويافث ... من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيها، كل إنسان كلسانه حسب قبائلهم وأممهم.» وهو بذلك يرجع تفرق الألسن لزمن متأخر عن وقته بداية الخلق، إلى عهد أبناء «نوح»، ثم هو أقرب لمنطق الواقع في إرجاعه اختلاف الألسن لتفرق الأمم بين قبائل «شعوب» وجزائر «أي مواضع بيئية مختلفة».
أما الكاتب الثاني فيقول: «وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة، وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبنا ونشويه شيا، فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحمر مكان الطين، وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نبدد من على وجه الأرض، فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة؛ لذلك دعا اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض» (التكوين، 11).
ويعقب الدكتور «أنيس فريحة» على أقصوصة التوراة بقوله: «ولم يفلح كاتب سفر التكوين في تعليل اسم بابل، فوضع قصة برج بابل وتبلبل الألسن، تقول القصة: إن الله خاف من تجمع الناس أمة واحدة، فقال: هلم نهبط فنبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض، فسميت المدينة بابل، والواقع أن بابل معناها باب الله، وهذه ترجمة الاسم القديم «كاد مري»، ومعناها أيضا بوابة الله، ونحن نعلم أن الساميين الذين جاءوا بعد السومريين أخذوا عنهم الكثير في الدين والعمران، وغيروا من أسماء المدن السومرية إلى أسماء سامية عن طريق الترجمة الحرفية.»
111
هذا بينما يعقب الآثاري «صموئيل نوح كريمر» - وهو واحد من أشهر الباحثين في السومريات - على قصة التوراة بقوله: «لقد بدأت قصة تشييد برج بابل بلا ريب في محاولة لتوضيح وجود الزاقورات في بلاد ما بين النهرين.» ويقصد «كريمر» هنا أن الكاتب التوراتي عندما رأى الزاقورات المبنية ببلاد الرافدين القديمة أراد وضع تفسير لها، والزاقورات هي أبنية صاعدة لولبية أقيمت لتصل كاهن الإله بالسماء، وعلى نمطها أقيمت المآذن الإسلامية، وتكاد تكون مئذنة جامع سامراء أولى المآذن وأقربها شبها بالزاقورة السومرية، ونستكمل مع كريمر حيث يقول: «أما بالنسبة للعبرانيين فإن هذه الأبنية الشاهقة التي غالبا ما يمكن رؤيتها في حالة الخراب والدمار، أصبحت رمزا لشعور الإنسان بعدم الأمان، وما يتصل به من لهفة شديدة للحصول على السلطة، تلك اللهفة التي لا تعود عليه إلا بالذل والعذاب؛ لذلك فإنه من المستبعد جدا العثور على أية مطابقة مماثلة لهذه القصة عند السومريين، الذين كانت الزاقورة بالنسبة لهم تمثل رباطا بين السماء والأرض، أي بين الإله والإنسان.»
112
أما من جهتنا، فإن كاتب هذا الجزء من التوراة، يبدو من الكتاب المتأخرين بعض الشيء، الذين عاشوا في كنف الدولة المركزية، وربما الأسر البابلي على الأرجح، بينما كان يتوق لحياة البداوة الأصيلة في العبرانيين، التي تنفر من المركزية والاستقرار، وربما رأى أن دولة «سليمان» لم تجن للعبرانيين سوى الخراب والأسر وانعدام الحريات، فالمركزية تعني حكما واحدا بيد ملك واحد، يتمكن من إنجاز المشاريع الضخمة ومواجهات الطوارئ الملحة، وفيها يتم تقسيم العمل بالعمل الأفضل للإنجازات الكبرى، وهو ما يتضح في كلام الكاتب التوراتي «هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم العمل.» بينما كان الكاتب يحتفظ في ذاكرته بالأيام الأولى إبان البداوة ومشتركاتها البدائية، ومجالس الحكم الديمقراطية فيها، التي تسع أكثر من حاكم لأكثر من قبيلة، وكما كان لمجالس الأرض شيخ زعيم، كان لمجالس السماء رب زعيم، فكان في السماء كما كان في الأرض مجلس، يمثله اعتقاد الكاتب الحازم وهو يتحدث بلسان الرب الزعيم لأعضاء مشتركة: «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم»!
عن ابن كنعان
في بدء المنتهى لدراستنا التي طال سردها، وإن قصرت عن بلوغ كل المبتغى لإيفاء الملوك الأربعة حقهم من البحث والدرس، يحسن بنا أن نقرر للقارئ معلومة لها أهميتها حول الملك الذي لم يزل قيد بحثنا «النمروذ بن كنعان»، وهو أن «نمروذ» الكتاب المقدس يختلف إلى حد بعيد عنه في تراثنا الإسلامي، فلم يرد بشأنه في التوراة سوى نص صغير لا يقارن بما جاء حوله من زيادات ومتراكمات في كتب الأخبار الإسلامية، والنص في كلماته المعدودة بلا زيادة ولا نقصان يقول: «وكوش «ابن حام بن نوح» ولد نمروذ الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض، الذي كان جبار صيد أمام الرب؛ لذلك يقال: كنمرود جبار صيد أمام الرب. وكان ابتداء مملكته بابل وأورك وكلنه في أرض شنعار» (التكوين، 10)، ولا شيء آخر عن «نمرود» بطول الكتاب وعرضه، رغم ميل الكتاب للإطناب والإسهاب والتكرار إلى حد الإملال؛ مما قد يشير إلى أنه ليس ثمة علاقة بالمرة بين هذا «النمرود» وبين «نمروذنا» الفضائي الذي ملك العالم وقتلته بعوضة! لكن إخباريينا لا يتركون لنا فرصة هذا الاحتمال بإصرارهم المتواتر على إفهامنا أنه «النمرود» التوراتي نفسه.
ابن كنعان؟!
وضمن ذلك التقرير - وحتى نستوفيه - لا مندوحة من إحاطة قارئنا علما أنه ليس هناك علاقة البتة بين «نمرود» التوراة وبين برج بابل، كما أنه لا علاقة له البتة بالنبي «إبراهيم عليه السلام»، فرواية الكتاب المقدس تذهب بزمن برج بابل إلى عصر يبعد أجيالا عديدة عن عصر النبي «إبراهيم»، فتبلبل الألسن بعد انهيار برج باب إيل أو باب الإله، أمر حدث في فجر الإنسانية، وليس فيه أي دور يؤديه «النمرود» كبطل يمثل دور الشرير، وليس فيه دور للنبي «إبراهيم عليه السلام» كرمز للخير، وحسب شجرة النسب والسلسال الإبراهيمية الواردة بسفر التكوين، التي وافق عليها الرواة المسلمون ونسخوها بحرفيتها، نجد أنه بين عهد «نمرود بن كوش» حسب النسب التوراتي، وبين عهد خليل الله، عشرة أجيال كاملة، فإبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن أرفكشارد بن سام بن نوح، وسام هو عم كنعان؛ لأنه أخو أبيه حام، وكنعان في الإسلاميات هو والد النمرود، فأين هذا من ذاك؟ حتى إذا افترضنا جدلا صدق ذلك التنسيب، وهو افتراض غير علمي، ثم افترضنا أن كلا من هؤلاء النفر في السلسال النبوي قد أنجب ولده وله من العمر عشرون عاما، فإننا نحتاج إلى قرنين من الزمان لنصل من «نمرود» إلى «إبراهيم».
وتبقى تساؤلات تنبني على مناقشة النص، وأول ما يرد منها على الذهن هو: لماذا عقد التراث الإسلامي تلك الصلة بين «النمروذ بن كنعان» رغم أنه في التوراة ابن كوش، وبين النبي «إبراهيم عليه السلام»، رغم أن الآيات الكريمة لم تذكر أبدا اسم الملك الذي حاج «إبراهيم»؟
السؤال مهم، لكن إجابته خطيرة ونتائجها أخطر، خاصة إذا أضفنا إليه التساؤل الآخر وهو: لماذا الإشارة الدائمة للنمروذ بأنه «ابن كنعان» خاصة وبالذات؟ ذلك تأكيد المقدس العبري على أنه «ابن كوش»، ولا شك أن إخباريينا الأفاضل قد طالعوه وعاينوه تماما، بدليل ما نسخوه من الكتاب المقدس نسخا، وهذا الإصرار على أن «نمروذ بن كنعان» يلحقه فورا تساؤل آخر وربما ليس أخيرا هو: لماذا احتسب رواتنا أن صاحب برج بابل هو «ابن كنعان» بالتحديد، رغم عدم النص عليه قرآنيا، ورغم أن مصدرهم الإسرائيلي بدوره لم يقل ذلك؟ الإجابة تضيف للرصيد مزيدا من الاعتوار، فهل كان الأمر مجرد خلط لحابل بنابل في قراءة الكتاب المقدس؟ أم كان هناك قصد؟ وإذا كان ثمة قصد فإلام كان؟ سبق لنا في الدراسات المتقدمة أن أشرنا للإجابة، ولا بأس هنا من الإيضاح مرة أخرى. «ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته.» وصاحب هذا الدعاء اللعان هو النبي «نوح عليه السلام» بالتوراة، وإذا أخذنا مؤقتا بالسبب الظاهر وراء هذه اللعنة، فإننا نجده فيما حكاه الكتاب المقدس عن نوح وأولاده بعد هبوطهم من السفينة، إذ يقول: «وابتدأ نوح يكون فلاحا، وغرس كرما وشرب من الخمر، فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتفها ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيها، فلما استيقظ نوح من خمره علم بما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (التكوين، 9).
والعجيب في أمر هذا المقدس العبري، أن النبي يسكر ويتعرى ثم يلقي باللائمة على من شدهته أحواله. أما الأعجب فهو أن الذي أبصر عورته هو ولده «حام»، ومع ذلك قام يصب اللعنة فوق رأس حفيده الصغير «كنعان بن حام»، الذي لم يحضر المشاهدة، ولم يعاين الأمر كما عاينه أبوه، وربما كان أوانها طفلا لا يدرك ما يرى حتى لو رأى، وينتهز المقدس العبري الفرصة المواتية لهول الأمر وعظمته، فيصب البركات بلسان النبي «نوح» على رأس ولده «سام» أبي العبرانيين ليعدل في القسمة، فذاك نال اللعنات، وهذا نال البركات، والعدل بقدر ومقدار.
والشيخ «الصدوق القمي» أحد حجج الشيعة، يؤكد من جهته أسبابا أخرى لهذه اللعنة، إذ لم يكتف «حام» برؤية العورة إنما وقف يضحك ويعريها كلما غطاها «سام»، وهو ما جاء في قوله: «وكان يوما في السفينة نائما، فهبت ريح فكشفت عن عورته فضحك حام ويافث، فزجرهما سام عليه السلام ونهاهما عن الضحك. وكان كلما غطى شيئا تكشفه الريح، كشفه حام ويافث، فانتبه نوح عليه السلام ورآهم وهم يضحكون، فقال: ما هذا؟ فأخبره سام بما كان؛ فرفع نوح عليه السلام يده إلى السماء يدعو ويقول: اللهم غير ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان، اللهم غير ماء صلب يافث، فغير الله ماء صلبهما، فجميع السودان حيث كانوا من حام، وجميع الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج والصين من يافث حيث كانوا، وجميع البيض سواهم من سام، قال نوح (عليه السلام) لحام ويافث: جعل الله ذريتكما خولا لذرية سام إلى يوم القيامة ... وسمة البر في ذرية سام ظاهرة ما بقيت الدنيا.»
113
ويشرح «الجزائري» «وجعلت ذريتكما خولا أي خدما لذرية سام إلى يوم القيامة.»
114
هذا ما قدر الله قوله للحجة الشيعي، فماذا عن الحجة السني؟
في شرحه للآية
وجعلنا ذريته هم الباقين (الصافات: 77). يقول «ابن كثير»: «فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم، ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم سام وحام ويافث ... وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة، فولد سام العرب وفارس والروم، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حام القبط والسودان والبربر ... وقد ذكر أن حاما واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته، فولد له ولد أسود هو كنعان بن حام جد السودان، وقيل: بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه؛ فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته، وأن يكون أولاده عبيدا لإخوته.»
115
والاتفاق السني الشيعي لا شك مطلوب، لكن لماذا الاتفاق على لعن «كنعان»؟ وهو ما يوافق الكتاب المقدس نصا وروحا، ويوافق الهوى الصهيوني تمام الموافقة؛ لأن «كنعان» في التوراة والإسلاميات هو أبو الكنعانيين، سكان فلسطين الأقدمين، قبل أن يستوطنها العبرانيون، وقبل أن تستعمر استيطانيا باسم التراث القديم اليوم. أما «سام» فهو أبو كل العربان وأبو العبرانيين، أو كما أشار ابن كثير أنه أبو «العرب»، قاصدا كل من كان من أصل بدوي، ولا نغفل عن كون الكلمة عربي هي بالقلب «الميتاتيز» عبري. أما القبط بقية أبناء المغضوب عليه «حام» فاصطلاح معلول يدل على المصريين، وأرضهم أيضا مطلوبة ضمن الوعد الإلهي للنبي إبراهيم: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (التكوين، 5: 18).
وعليه نفهم لماذا أصر التراث وأهله على احتساب النمروذ ابنا لكنعان رغم المفارقة التاريخية الواضحة، يقصد الزيادة في التنفير من «كنعان» ونسبة كل الرذائل إليه، حتى لا يكون وحده ملعونا، إنما ذريته التي مثلها كأسوأ ما تكون شخص «النمروذ» أو الكافر الأول، والمقارنة التاريخية التي نقصدها تتعلق بعلم التاريخ، إنما تتعلق بما أرخه الكتاب المقدس والتراث الإسلامي، وتضارب أوله مع آخره في تلك المسألة، وفي غيرها كثير؛ لأننا قمنا بمسح شامل لما بين أيدينا من مصادر تاريخ العراق القديم، فلم نجد ملكا حكم الدنيا، ولا حكم حتى في بابل، ولا حتى في أية مدينة عراقية يحمل اسم «نمروذ»، كما لم تدونه جداول الملوك الواردة بثبتهم في المدونات المسمارية، وعليه فإن التاريخ كعلم لا يعلم شيئا عن شخص باسم النمروذ، كما كان لا يعلم شيئا عن شخص باسم «سليمان» أو باسم «ذي القرنين»، فقط وجدنا موقعا جرت فيه حفائر آثارية باسم «نمرود»، ويبدو أنه من وضع مسلمين متأخرين شاهدوا في بابل موقعا أثريا به تماثيل احتسبوها أصناما، ولم يجدوا من ينسبونها إليه تراثيا، وفي تلك المنطقة، سوى «النمروذ بن كنعان» المواطن البابلي الذي حكم ما بين المشرق والمغرب، وقتلته بعوضة.
الكافر الثاني
لم يتفق اثنان على كراهة «بخت نصر» قدر اتفاق العربي والعبري (وعربي بالميتاتيز عبري)، وكما لا يكاد سفر في الكتاب المقدس يخلو من قذف فرعون مصر، فإن «بخت نصر» بدوره نال من هذا الشرف الكثير، وعلى فرعون اتفق أيضا العربي والعبري، لكن الموقف الإسلامي غير المفهوم هو ما يطالعنا به خبر تواتر نختار منه ما جاء عند «ابن كثير» في قوله: «إن الله تعالى أوحى في ذلك الزمان إلى أرميا بن حلقيا أن اذهب إلى بخت نصر، فأعلمه أني قد سلطته على العرب، وأمر الله أرميا أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق؛ كي لا تصيبه النقمة فيهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل.»
116
وترسيخا للكراهية وأدلجتها دينيا، يذهب «النويري» إلى أن والد «بخت نصر» كان مصريا باسم «بخت بيديس» من كورة أرمنت؛
117
ليجمع من الحسنيين سوأتين، سوأته وسوأة فراعنة مصر. أما «ابن خلدون» فيصنف «بخت نصر» ضمن نسل النمروذ، بتأثير التراث والاعتقاد، رغم ما لهذا الرجل من قيمة علمية، فيقول: «إن بخت نصر من عقب النمرود بن كنعان، وهو ابن برزاد بن سنجاريف بن النمروذ».
118
أما «الأصمعي» فقد قال إن أصل اسمه «بوخت» بمعنى ابن، و«نصر» اسم صنم، وكان وجد عند الصنم ولم يعرف له أب، فقيل «بخت نصر» أي ابن الصنم،
119
ومرة أخرى يجمع «نبوخذ نصر» في تراثنا سوأتين: سوءة الأصنام وسوءة كونه زنيما ونغلا.
أما «بخت نصر» في التاريخ كعلم، فهو «نبوخذ نصر الثاني» الملك الكلداني المظفر، الذي دخلت شخصيته التاريخ من الباب الخلفي ومن أسوأ المداخل، عبر أسفار الكتاب المقدس، بعد حملتين جردهما على مملكة يهوذا، وحملهم في الثانية أسرى إلى بابل عام 586ق.م. وظلوا هناك عمالة رخيصة إلى أن فتحوا لقورش أبواب بابل، فأعادهم إلى فلسطين مع قيام الإمبراطورية الفارسية. والواضح تماما أن كل الروايات القدسية حول «نبوخذ نصر» إنما تعتمد على الأصول التوراتية التي دشنها كره أحبار يهود، مع سقوط الإمبراطورية الكلدانية عام 593ق.م. وأمر «نبوخذ نصر» ليس بحاجة لمزيد من الإفاضة، فالتأريخ التوراتي له أسبابه ودوافعه، والمسيرة التراثية الإسلامية تعمل بحديث المصطفى
صلى الله عليه وسلم : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.» خاصة إذا كان في الحديث عبر.
هذا ما كان من شأن الملوك الأربعة، وما خرجنا به من درس وبحث شأنهم بغرض إزالة النكارات، واللهم إنا قد حاولنا، اللهم فاشهد.
لوحة رقم 29: تصور فني حديث لبرج بابل (الزقورة) حسب المواصفات التوراتية.
لوحة رقم 30: مئذنة مسجد سامراء، قارن مع الزقورة القديمة، حسب المواصفات الرافدية.
النسخ في الوحي
محاولة فهم (1) تأسيس
قال الأئمة لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله تعالى، إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال علي (رضي الله عنه) لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت.
جلال الدين السيوطي
1
عن ابن عباس في قول الله عز وجل
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا (البقرة: 269)، قال المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ...
فمن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ ... وهذا القول عظيم جدا، يئول إلى الكفر.
أبو جعفر النحاس
2
وأهمية معرفة النسخ تتضح مما يأتي: أولا: أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين ... جحدوا وقوع النسخ وهو واقع ... ثانيا: إن الإلمام بالناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق، وسياسته للبشرية ... ثالثا: إن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام، وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام ... فالمنكرون لوقوع النسخ في القرآن الكريم ... يخالفون صريح النص القرآني، والسنة النبوية الصحيحة وإجماع المسلمين.
د. شعبان محمد إسماعيل، وكيل الأزهر
3
لم تعد قضيتنا اليوم هي حماية تراثنا من الضياع ... إنها ليست القضية الأولى في هذه المرحلة التي وصل فيها التهديد إلى الوجود نفسه ... حيث أصبح موقفنا اليوم هو الدفاع عن وجودنا نفسه، بعد أن أفلح العدو أو كاد في اختراق الصفوف، في محاولة نهائية لإعادة تشكيل وعينا، أو بالأحرى في محاولة لسلبنا وعينا الحقيقي، ليزودنا عبر مؤسساته الثقافية والإعلامية بوعي زائف، يضمن استسلامنا النهائي لخططه، وتبعيتنا المطلقة له على جميع المستويات.
د. نصر حامد أبو زيد
4 (2) ظاهرة النسخ في الوحي
تروي كتب التاريخ الإسلامية وكتب السير والأخبار أن النبي
صلى الله عليه وسلم
في المراحل الأولى من دعوته في مكة، وبعد أن هاجر بعض أتباعه إلى الحبشة، ورأى تجنب قريش له، وأنه في نفر قليل من أصحابه استشعر الوحشة فتمنى قائلا:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى (النجم: 19-20). كما يروى أنه قرأ سورة النجم في المسجد الحرام أمام سادات قريش، ومعه بعض أتباعه يصلون معه، ولما وصل إلى الآيات
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى (النجم: 19-20)، يروى أنه استمر يقول: «تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» مما أدى إلى صدى واسع النطاق، إذ أعلنت قريش رضاها عن محمد
صلى الله عليه وسلم
وعما تلا من آيات، وقالت: «بلى؛ لقد عرفنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، لكن هذه تشفع لنا عنده، وإذا جعلت لها نصيبا، فنحن معك» ... ويذكر «الطبري» أن «المؤمنين صدقوا نبيهم فيما جاءهم عن ربهم ... فلما انتهى إلى السجدة، سجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره، وسجد من سجد من المشركين وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا وسجد.»
5
وروى البخاري عن ابن عباس قوله: إن رجلا واحدا لم يسجد لكبر سنه ووهن عظمه، «إلا رجلا رأيته يأخذ كفا من تراب فيسجد عليه.»
6
وقد سمى الواقدي هذا الرجل بالاسم في قوله: «فسجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة، فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى وجهه.»
7
ومعلوم أن «الوليد» كان من أشد الناس على النبي
صلى الله عليه وسلم ، كما كان من ذوي الثراء بين وجهاء مكة وأشرافها، ولا شك أن موقفه هنا بحاجة إلى بعض التأمل.
وتتابع الروايات حكايتها، فتقول: إنه كان لتلك القصة المعروفة في التراث الإسلامي بحديث الغرانيق، صدى واسع، حتى إنه وصل إلى مسامع المسلمين المهاجرين لدى نجاشي الحبشة، فقفلوا من مهجرهم راجعين بعد أن انتفى سبب اغترابهم. لكن هؤلاء التقوا في طريق عودتهم بركب من كنانة، أخبروهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ذكر شفعاء قريش بخير فتابعوه، لدرجة أنهم صلوا صلاته، ثم ارتد عنها فعادوا لمعاداته، فبعد أن قال «أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» عاد يقول: إن جبريل جاءه وعاتبه قائلا: «ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به من الله عز وجل، وقلت ما لم يقل.» ثم تلا
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى (النجم: 19-22).
8
وقد عقب القدامى والمحدثون على حديث الغرانيق لنفيه، واستهجانا له، وللإيجاز يقول «د. شعبان محمد إسماعيل» من المحدثين: «وهذه القصة غير ثابتة لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل.»
9
ومن القدامى «أبو جعفر النحاس» الذي هاله أمرها، فقام يعلن أن «هذا حديث مفظع وفيه هذا الأمر العظيم.»
10
وقدم محقق كتابه لذلك بحجة منطقية تماما، وهي «أنه لو أجزنا ذلك، لذهبت الثقة بالأنبياء، ولوجد المارقون سبيلا للتشكيك في الدين.»
11
ثم أردف بما جاء عند «الواقدي» وهو يقول: حتى نزل جبريل فقرأ عليه النبي هذا، فقال له: ما جئتك به! وأنزل الله:
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (الإسراء: 74).
12
والآية المشار إليها،
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
جاءت في عتب الله تعالى على نبيه الكريم
صلى الله عليه وسلم ، في الآيات
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (الإسراء: 73، 74)، ثم نجد تبريرا قرآنيا لما حدث، لا مجال فيه لخلط أو لبس، يوضح أن الشيطان لعنه الله، انتهز فرصة تمني النبي القرب من قومه، فتدخل في الوحي إبان تلقيه، وألقى إليه بتلك الآيات الفظيعة، فنسخها تعالى بالآيات الصادقة. ويعلمنا الله تعالى أن ذلك ليس أمرا جديدا ولا غريبا، فقد كان الشيطان يفعلها مع أي نبي من الأنبياء والرسل «المكرمين» إذا تمنى أحدهم الأمنية نفسها أو مثلها، وقد جاء هذا الإيضاح المبين في قوله جل وعلا:
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته (الحج: 52).
ويعقب أبو جعفر النحاس الذي استفظع الأمر على تلك الآيات، فيؤكد أنه حتى لو كان حديث الغرانيق قد حدث، وأن الشيطان وجد الفرصة في التمني، فإن النبي لم ينطق بما ألقى الشيطان، أو كما قال: «... فيكون التقدير على هذا: ألقى الشيطان في تلاوة النبي
صلى الله عليه وسلم
إما شيطان من الجن، ومعروف في الآثار أن الشيطان كان يظهر في كثير وقت النبي
صلى الله عليه وسلم ، فألقى هذا في تلاوة النبي
صلى الله عليه وسلم
من غير أن ينطق به النبي
صلى الله عليه وسلم .»
13
ومن هنا يحتمل أن يكون مناط احتجاجه ما جاء في آيات أخرى تقول:
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (النحل: 98-100).
هذا ما كان من أمر حديث الغرانيق، وما كان من إيضاحات القرآن الكريم لما حدث، ولكن ما يعنينا ونهتم به ويدخل في إطار بحوثنا، بعيدا عن بحوث الدين نفسه، التي لها ميدانها وفرسانها، هو قراءة الواقع الذي حدثت فيه الحادثة، ومعرفة الظروف التي لابستها. لنفهم كيف كان القصد من الأمر فتنة قوم في قلوبهم مرض، وكيف قست قلوب آخرين فتم اختبارهم وفرزهم ، وبالإطلال على تلك الفترة الزمكانية نرى الواقع لم يفرز بعد عددا من الحواجز بين النبي وقومه، لكن كانت هناك حواجز قد قامت بالفعل، كانت من وجهة نظر المشركين هي الحواجز الأساسية والحاسمة. والمعلوم أن قريشا لم تكن تختلف مع المصطفى
صلى الله عليه وسلم
حول المسألة العقدية الأولى لدعوته، وهي الإيمان بإله واحد يحيي ويميت يخلق ويرزق، ومصدر علمنا بذلك من القرآن الكريم نفسه، والذي شهد لهم بذلك في عدد من الآيات المكرمة، ومن تلك الآيات
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (العنكبوت: 61)،
قل من رب السموات السبع العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون (المؤمنون: 86)، وغير تلك الآيات بالمعنى نفسه كثير. لكن وجه الخلاف، والحاجز الكبير، كان يتمثل في دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
لإسقاط شفاعة الشفعاء من أرباب قريش الممثلين في تماثيل، إذ اعتقد الجاهليون أن أسلافهم، وبالذات من كان منهم صالحا أو متميزا بفعله، قد اقترب من الله الواحد رب السموات والأرض واكتسب رضاه؛ ومن ثم يمكن أن يكون ذا قول مقبول عنده، فقاموا يبنون للأسلاف الصالحين المحاريب، وينحتون لهم التماثيل، إضافة إلى بعض التماثيل المستوردة، بغرض اتخاذهم شفعاء إلى الله مقبولي الدعاء، وبحبسان الإنسان بخطاياه بعيدا عن الله تعالى، وأن ما يحمله من أوزار يجعله بمنأى عن القرب من الإله العظيم. ومن هنا اتخذت كل قبيلة لها شفيعا من أسلافها، يقوم بنقل نجواهم ومطالبهم للإله رب الكون، وعادة ما كان ذلك الشفيع هو سيد القبيلة الراحل ورمزها وعلمها وضامن وحدتها وتضامنها، حتى ذابت فيه القبيلة، ولم تعد تقبل سواه سيدا وربا وشفيعا، وهو الأمر الذي ساعد على زيادة الفرقة القبلية، نتيجة اعتزاز كل قبيلة بنسبها إلى ذلك السيد الشفيع، وهكذا كانت دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى إسقاط الشفعاء، إنما تعني إسقاط الأطر القبلية، بل وتفجيرها تماما، من أجل توحد أكبر لكل القبائل، وهو ما كانت ترفضه الأعراف القبلية وتنفر منه.
ومن جانب آخر نجد دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
تتوافق توافقا رائعا مع ما تهيأ الواقع لإفرازه بالفعل، رغم إصرار البعض الكثير على الشكل القبلي التقليدي، فالواقع كان يسعى حثيثا لإسقاط الحواجز القبلية نتيجة لتغايرات في البنى الاجتماعية، والأشكال الاقتصادية، بعد أن تحولت قريش من مجرد محطة ترانزيت على الطريق التجاري، إلى مقر للمسيطرين على تجارة العالم، بحيث وجدنا الظروف تنبت ألونا من الأرستقراطية التجارية، خلقت وضعا جديدا لم يكن مألوفا في النظام القبلي، وهو التباين الطبقي الهائل، الذي أدى بالضرورة إلى بروز أشخاص بأنفسهم داخل كل قبيلة، يتميزون بثروتهم الكبيرة، بل والمبالغ فيها، وهو الأمر الذي أدى لانزياح الانتماء القبلي لدى هؤلاء جانبا، إزاء التقاء مصالحهم الاقتصادية مع مصالح آخرين في قبائل أخرى، وبحيث تحول الانتماء عن القبيلة وسيدها، إلى الانتماء لشريحة اجتماعية ومصالح اقتصادية، تجمع بين أثرياء القبائل على تفرقها، وهو الأمر نفسه الذي حدث على الجانب الآخر بين فقراء القبائل المختلفة، بحيث زاد النزوع لدى الطبقتين نحو التوحد تحت راية إله يضمن للتجار مصالحهم، أو تحت راية إله يدافع للمستضعفين عن قضيتهم، فكان التيار المتدفق نحو رب للجميع على مستوى التجار، ورب للجميع على مستوى المدقعين من فقراء القبائل، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور تجمعات صغيرة، من الخلعاء والصعاليك من بين الطبقة المستضعفة من قبائل مختلفة، وإلى ظهور تحالفات الكبار وتحالفات الفقراء، في الظاهرة المعلومة باسم ظاهرة الأحلاف (حلف الفضول، حلف المطيبين، لعقة الدم، حلف الأحلاف ... إلخ).
وهكذا بدأ الواقع يبتعد بناسه عن السلف، أو الرب القبلي الذي لم يعد يعني في حساب المصالح شيئا، لكن كان الإبقاء عليها في حساب التطور الاجتماعي مجرد مرحلة، إذ كان الرب الشفيع لا زال يضمن ببقائه، الوضع السيادي المستقل لكل قبيلة، وهو ما كان يحرص عليه الأرستقراطيون تحديدا حماية للمصالح الفردية، فهم وإن ائتلفوا طبقيا على اختلاف قبائلهم، فقد كانت المنافسة التجارية عاملا في استمرارية الأوضاع القبلية، منعا للسقوط في المنافسة، بالاستناد إلى قوة القبيلة كوحدة عسكرية مقاتلة. ومن هنا، ورغم دفع الواقع للأحداث في طريقها الضروري والمنطقي، فقد حرص كل فرد في الشريحة الأرستقراطية على إدامة سيادة الشفعاء ما أمكن، لما تمثله سيادة الشفيع من سيادة شخصية له، لا تؤدي إلى سقوطه في حلبة المنافسة، ولا إلى ذوبانها أمام الملكيات الأكبر لرءوس الأموال في القبائل الأخرى.
وهكذا نجد المرحلة تحمل جنين التطور الآتي، تفصح عنه الأحلاف، والتقارب في المصالح على اختلاف القبائل، لكن مع الحرص على سيادة شفيع القبيلة الذي هو ربها وسيدها ورمز قوتها وتماسكها، حتى تماهى السيد الأرستقراطي مع السيد الشفيع، بعد أن أمد الأرستقراطيون كهان الأرباب الشفعاء بعطاياهم وأموالهم؛ لينطق الأرباب بما يوافق مصالح الأغنياء؛ لتصبح كلمة الشفيع هي كلمة السيد التاجر.
وهكذا، كان معنى أن يلغي محمد
صلى الله عليه وسلم
الشفعاء، هو إلغاء الحاجز الأخير بين القبائل وبعضها، وإسقاط الرمز القوي السيادي المتماهي مع السيد الأرستقراطي. هذا ناهيك عن نظرتهم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
بحسبانه يسعى إلى إلغاء سادة القبائل من شفعاء، ليصبح هو السيد الأوحد لكل القبائل، لتنتقل له وحده الشفاعة، من حيث كونه صاحب العلاقة مع الله وليس الشفعاء ولا الكهان ولا التجار، أي صاحب القرار القاطع والنهائي الناطق باسم الله، وذلك عبر الشهادة له بأنه رسول الله، هو ما يتهدد مصالحهم التجارية جميعا بالدمار.
وفي ظل ذلك الوضع يمكن قراءة حديث الغرانيق مرة أخرى، ففي تلك الظروف، ومع مهاجرة الأتباع للحبشة، ومع قسوة الواقع ومرارته، ومع الغربة وسط الأهل، ومع الظرف النفسي الذي لا بد تركته تلك الأوضاع في النبي
صلى الله عليه وسلم ، تمنى، فتدخل الشيطان، فقال، فتبعته قريش وخاصة سادتها الذين تواجدوا تلك اللحظة بالحرم؛ لأنه هكذا لن يمس الأمر مصالحهم، فسجدوا بسجود النبي
صلى الله عليه وسلم ، وصلوا معه صلاته. وهنا كانت الفتنة المقصودة بقول الآيات
ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم (الحج: 53). والقلوب كانت آنذاك بمعنى العقول، أي الذين لا يفقهون ولا يدركون المرامي البعيدة لدعوة النبي
صلى الله عليه وسلم ، تلك المرامي التي سبق أن أدركها العقلاء منهم رغم عدم إيمانهم، وأفادوهم بها، وشرحوها لهم، وهو ما لمسناه في قول «عتبة بن ربيعة» لهم بعد أن التقى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة، «يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.»
14
ولا شك أن «عتبة بن ربيعة»، وهو أحد الأرستقراطيين الكبار، قد أدرك الأبعاد الكبرى للدعوة والتي كانت تبغي توحيدهم جميعا في دولة كبرى تناجز الروم والعجم، دون إضرار بمصالحهم التجارية، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل. بل، وبعد انتصار الدعوة تم تمكين هذه المصالح وتقويتها ودعمها، فالنبي بعد فتح مكة لم يضمن للمكيين مكانتهم بين العرب فقط، بل ضمن لقريش ولزعامتها مركزهما في الإسلام. والناظر لفتح مكة بقليل من وضوح الرؤية، يكتشف أن فتح مكة لم يكن هزيمة لقريش، وهو الأمر الذي نلاحظه في تذمر الأنصار، ثم بعد ذلك عمل النبي
صلى الله عليه وسلم
بنفسه على تكريس الوضع الاجتماعي القائم، عن طريق الأعطيات والإقطاعات. ثم دعم الوحي ذلك بتكريس الملكية الفردية
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق (النحل: 71)، بل قدم عقلنة واضحة للتفاوت الطبقي كما في قوله تعالى:
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (النحل: 75)، ناهيك عن إعادة سر التفاوت الطبقي إلى التقدير الإلهي في قوله:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم (الأنعام: 165).
لكن كان واضحا أن الأمر بهذا المعنى لم يصل إلى أذهان الأرستقراطيين المكيين في ظل دعوة الإسلام الأولى للمستضعفين، فكانت فتنتهم بحديث الغرانيق، لكن توتر بعض المسلمين نتيجة ما ألقى الشيطان، وتضعضع أحوالهم المعنوية، كان لا بد أن تتبعه العودة السريعة بإيضاح دور الشيطان فيما حدث ، والذي كان أيضا اختبارا للمسلمين المستضعفين لإظهار مقدار الطاعة، ومدى مسارعتهم إليها، مسارعة إسماعيل إلى الذبح طاعة للأمر الإلهي. وعليه فقد جاء النسخ لما ألقى الشيطان في الوحي، عملا إجرائيا كانت أطرافه الاعتبارية: القبلية في جانب والوحدة المرتقبة في جانب آخر، وأطرافه الشخوصية هي: أهل مكة في جانب، والنبي
صلى الله عليه وسلم
في جانب، بينما كانت أدوات هذا الجدل هي الشفعاء، والشيطان، وكلمات الله التي تمثلت في وحي لا كالإلهام، ولا كالخاطر، ولا كالهاجس، لكنه الوحي الصادق الذي أدى دورا غني الدلالة، ويشير بدون إبهام إلى صدوره عن فاعل واع مريد. كان الوحي هنا فعلا شعوريا يتسم بالإدراك والوعي التامين لما يحدث، ولشكل الاستجابة المطلوبة بحسب شروط الواقع وضروراته، كان وعيا بطبيعة المرحلة الآنية آنذاك، وبطبيعة المرحلة المقبلة وما سيلحقها من تحولات، لكن يثور هنا السؤال: كيف يتحول الوحي ويتبدل؟ وهل يمس ذلك قدسية كلمة الله الثابتة؟ وهذا ما دعا بعد ذلك إلى نشوء مبحث مهم وكبير من مباحث علوم القرآن، هو «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم»، وهو الظاهرة التي لحظها القرشيون حتى قالوا: «ألا ترون إلى محمد، يأتي أصحابه بأمر ثم ينهاهم ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا يرجع عنه غدا؟» وهي المقالة نفسها التي قالها اليهود اليثاربة بعد الهجرة، عندما تحول النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمسلمين في الصلاة عن بيت المقدس إلى كعبة مكة.
15
كان ذلك التحول والتبدل مدعاة لرد الآيات الكريمة:
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (النحل: 101). والمعنى أن هناك آيات تم استبدالها بأخرى، مع إشارة واضحة إلى احتساب المشركين لذلك التبديل افتراء من النبي
صلى الله عليه وسلم
على الله جل وعلا، والله منه بريء. إلا أن الآيات أوضحت بلا إبهام أن من يرفضون منطق الاستبدال والتحول «أكثرهم لا يعلمون»، وهو ما دعمته الآيات بقولها:
يمحو الله ما يشاء ويثبت (الرعد: 39). وهو ما يشير ليس فقط إلى الاستبدال، بل إلى محو آيات بعينها ، ثم بقولها
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (البقرة: 106).
وقد جاء عن ابن عباس من تفسير الآية
يمحو الله ما يشاء ويثبت (الرعد: 39) أن الله يبدل ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، وما يبدل وما يثبت إلا في كتاب. وعن «قتادة» عن عكرمة قال: «إن الله ينسخ الآيات بالآية، فترفع وعنده أم الكتاب، أي أصل الكتاب.» وعن «قتادة» أيضا في شرح الآية
منه آيات محكمات (آل عمران: 7)، قال: «المحكمات هي الآيات الناسخة التي يعمل بها.»
16
مما يشير إلى غير المحكمات التي لا يعمل بها، على ذمة «قتادة». وإزاء القول بأن الآيات، المنسوخ منها والناسخ، المعلوم لدينا أو المجهول - لنسخه أو محوه - إنما في كتاب أزلي محفوظ هو أم الكتاب، يقول د. نصر أبو زيد: «النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه، سواء أرتبط الإلغاء بمحو النص الدال على الحكم ورفعه من التلاوة، أو ظل النص موجودا دالا على الحكم المنسوخ، لكن ظاهرة النسخ تثير في وجه الفكر الديني السائد المستقر إشكاليتين يتحاشى مناقشتهما، الإشكالية الأولى: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ. والإشكالية الثانية ... هي إشكالية جمع القرآن ... ومشكلة الجمع ما يورده علماء القرآن من أمثلة قد توهم أن بعض أجزاء النص قد نسيت من الذاكرة الإنسانية ... ولم يناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة، أو حذف النصوص، سواء أبقي حكمها أم نسخ أيضا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ ... فإن نزول الآيات المثبتة في اللوح المحفوظ ثم نسخها وإزالتها من القرآن المتلو، ينفي هذه الأبدية المفترضة الموهومة ... فإذا أضفنا إلى ذلك المرويات الكثيرة عن سقوط أجزاء من القرآن ونسيانها من ذاكرة المسلمين، ازدادت حدة المشكلة ... والذي لا شك فيه أيضا، أن فهم قضية النسخ عن القدماء لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الأزلي للنص، بل يؤدي أيضا إلى القضاء على مفهوم النص نفسه.»
17
لكن رغم أهمية هذه الرؤية وعلميتها، التي تحرص على الالتزام بمنهج الدراسة العلمية وشروطه، كما تحرص في الوقت نفسه على النص ومفهومه، فقد كان واضحا أنها سقطت في شراك المنظومات القديمة وقوالبها الجاهزة، فتشابكت معها. رغم ما أبداه الأستاذ الدكتور من حذر وتحذير من سيطرة مثل تلك المنظومات والقوالب على الباحث، في مقدمة كتابه المذكور، ورغم حرصه الشديد على التعامل مع النص القرآني كنص أدبي، ورغم إشارته إلى ارتباط هذا النص بواقع جزيرة العرب زمن تواتر ذلك النص وحيا. إلا أن تلك الإشارة لم تفصح عمليا عن نفسها بشكل واضح وجلي في موضوعه عن النسخ. وإزاء تشابك تلك الرؤية مع القوالب القديمة، فإن الأستاذ الدكتور لم يمد الخيط إلى طرفه الأخير، أو بالأحرى إلى الحدود الممكنة وكانت متاحة، لولا أنه سلم مقدما بالتقسيم التقليدي لظاهرة النسخ في القرآن الكريم. أقصد اللوحة الثلاثية التي تقول: إن هناك أولا ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، بمعنى أن هناك آيات في الكتاب الكريم قائمة بلفظها، وإن بطل العمل بحكمها، بموجب آيات أخرى جاءت بحكم جديد نسخ الآيات القديمة. وثانيا ما نسخت تلاوته وبقي حكمه، بمعنى أن هناك آيات كانت معروفة في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
ويعمل بحكمها، لكن في ظروف بعينها تم نسخ تلاوتها أي لفظها أو نصها، بينما بقي حكمها معمولا به بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهي الحالة التي تجد نموذجها الأمثل في حكم الرجم على الزاني والزانية إذا ما أحصن (أي إذا كان متزوجا). أما الحالة الثالثة فهي ما نسخ حكمه وتلاوته معا، فلم يعد له وجود بين آيات القرآن الكريم، ولم يعد يعمل بحكمه أيضا. هذا بينما نجد - بنظرة مدققة - فيما جاء من أخبار، ما يفيد أن هناك أحداثا وظروفا جدت، فتفاعل معها الوحي، إضافة إلى أحداث جدت بعد الوحي، وذلك إبان عملية جمع القرآن، بحيث أدى هذا كله في النهاية إلى القرآن النهائي الموجود بين أيدينا الآن (المصحف العثماني نسبة إلى عثمان بن عفان). ولم يأخذ المجتهدون في التعامل مع ظاهرة النسخ تلك الأحداث والظروف بحساباتهم، رغم إشارتهم لها، وذلك نتيجة الإصرار على التعامل مع القرآن الكريم كنص أزلي الوجود، مما انتهى بهم إلى تقسيم اللوحة الثلاثية. ومن هنا سنحاول فهم واقع الحال مرة أخرى، مرتبطا بمراحل تواتر الوحي، ومن خلال الإشارات والشذرات والشهادات التي قدمها علماؤنا القدامى، والتي تشير إلى ما حدث خلال ثلاثة وعشرين عاما، استغرقها تواتر الوحي القرآني، وكانت كفيلة بالتعامل معه كنص تاريخي، إضافة لكونه نصا عقديا وأدبيا.
ولقد كان تواتر الوحي خلال تلك الفترة الزمنية، مفرقا ومنجما، تواصلا مستمرا مع الواقع آنذاك، وتفاعلا مع المستحدثات الظروفية، وهو ما كان معترض المشركين الأساس، والذي سجلته الآيات الكريمة في قولها:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة (الفرقان: 32). وهي حجة تتسق مع الرؤية المثالية لمفهوم الألوهية ومفهوم النبوة، إذ يتسم فيها الله بالثبات المطلق، وبحيث تثبت كلماته دفعة واحدة، فلا تتبدل ولا تتغير، بحسبان كلام الله ثابتا ثبات ذاته. وهي الرؤية نفسها التي استندت إليها قراءة السالفين من علماء المسلمين في الكتاب الكريم، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك يمكن - بالفعل - أن يدمر مفهوم النص نفسه، بحسب ما نبه إليه (د. نصر أبو زيد). هذا بينما، كانت سيولة القرآن الكريم، وتدفقه على مراحل حسب المناسبة والظروف، مطابقة مستمرة ودائمة بالمتغير الموضوعي، بحيث لم يترك النبي وبين يديه نص أولى أزلي واحد، يواجه به الواقع الذي لا يتوقف عن التغاير، ومن هنا استكملت الآيات إيضاحها في قولها:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (الفرقان: 32).
لقد تحولت النبوة عن نهج الإبهار بالإعجاز الساحر، فلم تأخذ بعصا سحرية تفعل الأعاجيب، ولا بتمتمات تحيي الموتى، وإنما أصحبت فرزا صادقا يتطابق مع واقعها الزمكاني، وهو ما جعل الوحي بالنسبة للنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
يختلف عن الوحي الإيهامي والإلهامي. لقد تحول باليقين إلى الواقع ليتفاعل معه، يقرأ الواقع، ويجيب عن أسئلته، ويسهم في حل إشكالياته، يرتبط بالأرض ومصالح ناسها ومطالبهم، بحسبان الناس، وليس السماء، هم هدفه الرئيسي؛ بحيث أصبح الناس المتغيرون بتغير أحداث الواقع عنصرا أساسيا في مجيء الوحي مفرقا
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (الإسراء: 106).
وإعمالا لما سبق، ولأن عمل «د. نصر» بحساباتنا عمل رائد حقا، فقد رأينا دفع الموقف حول اللوحة الثلاثية، ليس تسليما بها، إنما لبيان الأسباب التي أدت إلى كل حالة من حالات تلك القسمة الثلاثية. (3) ما نسخت تلاوته وبقي حكمه
عن مالك بن أنس عن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عما حدث في خلافة عمر، قال: «جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن، قام فأثنى على الله بما هو أهل له، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قائل مقالة قد قدر لي أن أقولها، ولا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت راحلته، ومن لم يعها فلا أحل له أن يكذب على الله عز وجل: بعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناه ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق، على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف، ألا إنا كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.»
18
وفي رواية عيينة عن الزهري: «وايم الله لولا أن يقول قائل: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها.» وعن يحيي عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قال: «أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتكم على الواضحة، ألا تضلوا بالناس، يمينا أو شمالا، وآية الرجم لا تضلوا عنها، فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد رجم ورجمنا، وإنها نزلت وقرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة. ولولا أن يقال: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها بيدي.» وفي رواية «زر» أن الآية كانت «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، نكالا من الله والله عزيز حكيم.»
19
وعن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: «لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا اللذة.»
20
وروى الزهري عن عبد الله بن عباس قال: «خطبنا عمر بن الخطاب قال: كنا نقرأ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة ... قال: ولولا أني أكره أن يقال زاد عمر في القرآن لزدته.»
21
لدينا هنا حالة واضحة جلية لإحدى الحالات التي تم تصنيفها ضمن المنسوخ في القرآن الكريم، وتحديدا ضمن «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه»، وقد أخذ «جلال الدين السيوطي» بتبرير لذلك الأمر يقول: «أجاب صاحب الفنون، أن ذلك ليظهر مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس، بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام.»
22
وربما ذهب الفقهاء إلى أن الحالة الموجودة هنا «الشيخ والشيخة ... إلخ» من نوع «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه»، استنادا إلى مقالة عمر بن الخطاب، وتواتر معنى الآية المنسوخة بين الرواة (وإن تبدل لفظها لقدم العهد ولعدم تدوينها في القرآن المجموع) وإلى كون حكم الرجم قد عمل به أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم
ومن بعده.
لكن لدينا بالقرآن الكريم بشأن حكم الزنى الآيات
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما (النساء: 15-16)، هذا إضافة لآية الجلد
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة (النور: 2)، ومع ذلك، فقد ذهب العلماء إلى الاتفاق على نسخ حكم الآيات
واللاتي يأتين الفاحشة ...
رغم تدوينها في القرآن الكريم، واحتسبوها مما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، بينما أبقوا على حكم آيات غير موجودة في كتاب الله المجموع بين أيدينا (الشيخ والشيخة ...) باحتسابها مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. فأثبتوا حكم الرجم استنادا إلى أحاديث نبوية، تدخل في أصول الفقه فيما يذهبون وذلك بالنسبة لمن يحصن ، مع إثبات حكم الجلد لمن لم يحصن. ويجمل أبو جعفر النحاس موقف العلماء بهذا الشأن في قوله: «فمنهم من قال: كان حكم الزاني والزانية إذا زنيا وكان ثيبين أو بكرين، أن يحبس كل واحد منهما في بيت حتى يموت، ثم نسخ هذا بالآية الأخرى وهي:
واللذان يأتيانها منكم فآذوهما (النساء: 16) فصار حكمها أن يؤذيا بالسب والتعيير، ثم نسخ ذلك فصار حكم البكر من الرجال والنساء أن يجلد مائة ويرجم حتى يموت ... والقول الثاني: إنه إذا كان حكم الزاني والزانية إذا زنيا أن يحبسا حتى يموتا، وحكم البكرين يؤذيا ... والقول الثالث، أن يكون عز وجل قال: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم، عاما لكل من زنت من ثيب وبكر، وهذا قول مجاهد، وهو مروي عن ابن عباس، وهو أصح الأقوال.»
23
وإذا كان القول الثالث عند النحاس هو أصح الأقوال، وهو بالفعل الأرجح في منطوق الآيات
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم (النساء: 15)،
واللذان يأتيانها منكم (النساء: 16)، فقد كان يعني أن الآيات جعلت للزناة من الرجال حكما يختلف عن حكم الزناة من النساء، ثم لما كانت آية الرجم، انتهى الأمر في بعض الأحيان إلى محاولة تطبيق الحدود على اختلافها، في محاولة لتحاشي الإثم في التطبيق. وربما كان ذلك ما دفع «علي بن أبي طالب رضي الله عنه» لجلد «سراحة» مائة، ثم رجمها بعد جلدها، وتعقيبه التبريري «جلدتها بكتاب الله عز وجل، ورجمتها بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ».
24
هذا بينما ذهب جماعة العلماء إلى أن حكم الثيب الزانية الرجم بلا جلد، واحتجوا بأن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم،
25
وهذا بدوره يستند إلى السنة في قول ابن عباس: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لماعز بن مالك: أحق ما بلغني أنك وقعت على جارية بني فلان؟ قال: نعم، فشهد أربع شهادات، ثم أمر به فرجم.»
26
كذلك قوله
صلى الله عليه وسلم : «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت بالزنا فارجمها.» ولم يذكر الجلد، فدل ذلك على نسخه، فيما يذهب إليه قول أبي جعفر النحاس.
27
وتبقى محاولة فهم ما فرضه واقع الحال بشأن نسخ تلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ... إلخ»، لكن مع بقاء حكم الرجم قائما، دون سند في آيات القرآن المجموع بين أيدينا، والأسباب التي دعت إلى وضع باب للنسخ عرف ب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه»، لإدراجها ضمنه. والمعلوم أنه إذا نسخت آية من الآيات الكريمة، كان لا بد من آية أخرى بديلة تحل محلها، تحمل الحكم الجديد، وذلك حسب نص الآيات
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (البقرة: 106). والمعلوم أيضا أن لدينا في آيات القرآن الكريم الحكم المذكور في الآيات «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ...» وحكمها الحبس للنساء حتى الموت، أو حتى يجعل الله للمحكوم عليه فرجا، والإيذاء بالسب والتعيير للرجال، وذلك حسب التقديرات المرجحة لقراءة الآيات. ثم لدينا الآية «الزانية والزاني ...» وحكمها الجلد مائة جلدة، لكن وضع باب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه» أبقى آية الرجم قائمة بحكمها، بحيث أصبحت ناسخة لحكم الحبس والإيذاء، واستمرت إلى جوار حكم الجلد، وانتهى الأمر إلى تصنيف آية الرجم للمحصن، وآية الجلد لغير المحصن.
وقد قدم السيوطي تفسيرا لنسخ تلاوة آية الرجم بقوله: «إن سبب التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقيا لأنه أثقل الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود.»
28
وعليه فالسيوطي يطرح تأويله لنسخ التلاوة لأن الحكم في الآية هو أشد الأحكام وحكمها أغلظ الحدود، لكن الغريب أنه يقول ما قال سلفه من العلماء وهو «أن حكمها باق»! فإذا كانت العبرة من النسخ هي غلظ الحد وقسوته أفلا يكون نسخ الحكم بدوره هو الأكثر منطقية؟
ثم شذرة أخرى تشير إلى دور الواقع فيما حدث بشأنه آية الرجم، تقول إن «أبي بن كعب » وقف يذكر «عمر بن الخطاب» بما حدث بشأن آية الرجم، التي أصر عمر على استمرار العمل بحكمها بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فيقول له: «أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله
صلى الله عليه وسلم (أي أستأذنه في كتابتها)، فدفعت في صدري وقلت: تستقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر.»
29
هذا بينما أوضح «ابن حجر» ما ليس فيه لبس بقوله: «وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.» مع ملاحظة استخدام «ابن حجر» اصطلاح «رفع» بدلا من «نسخ». أما «ابن الحصار» فقد وقف يتساءل دهشا إزاء القول بنسخها مع الاستمرار في العمل بحكمها، مع وجود آيات أخرى يمكن احتسابها ناسخة لها، لكنها لم تحتسب كذلك، فيقول: «كيف يقع النسخ إلى غير بدل، وقد قال تعالى:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (البقرة: 106).»
30
والغريب أن «عمر بن الخطاب» نفسه قد قال بشأن آية الرجم: «لما نزلت أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم
فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك! فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟» وهي ذات الحجة التي ساقها بعد ذلك «زيد بن ثابت»، الذي كتب المصحف المجموع بأمر الخليفة «عثمان بن عفان»، عندما سأله «مروان بن الحكم»: «ألا تكتبها في المصحف؟ قال: ألا ترى أن الشابين الثيبين لا يرجمان.»
31
ومن هذه الإشارات، نرى «ابن حجر» عندما يستخدم اصطلاح «رفع» بدلا من «نسخ»، يشير إلى عدم قناعته، بأن اختفاء آية الرجم من القرآن الكريم، لا يعني تصنيفها ضمن المنسوخ. فاستخدم اصطلاح «رفع»، إزاء وقائع تقول إنها لم تكتب أصلا حتى في زمن المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، فقد كره أن يسمح لعمر بكتابتها، كما في قول «عمر»، وأن «عمر» كان من أول المعترضين على تدوينها، فدفع في صدر «أبي بن كعب» مشيرا إلى تفشي التسافد بين الناس كتسافد الحمر، والمرجح أن كتابتها كانت تعني ابتعاد الناس وهم على تلك الحال عن الإسلام ، لشدة الحكم وغلظته؛ ومن ثم كان لتلك الظروف والحجج دور واضح لعدم وجود أي تدوين لآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا» في أي من الرقاع والصحف، بحيث ظلت غير مدونة حتى زمن التدوين العثماني، إذ استبعدها «زيد بن ثابت» بدوره كما في روايته مع «مروان بن الحكم»، فجاء المصحف العثماني خلوا منها. لكن الإصرار على العمل بحكمها، كان فيما يبدو، مدعاة لنشوء باب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه»، لتندرج ضمنه، وبذلك لم يعد حكم الجلد بديلا لحكمها، وبحيث بدا الأمر غير منطقي في رأي «ابن الحصار». هذا بينما وقف «د. نصر أبو زيد» يلح في التنبيه، على أن «المهم في تحديد الناسخ من المنسوخ، هو ترتيب النزول لا ترتيب التلاوة في المصحف. ومعنى ذلك أن تحديد الناسخ من المنسوخ في آيات القرآن يعتمد أساسا على معرفة تاريخية دقيقة بأسباب النزول، وبترتيب نزول الآيات.»
32
أي إن المعتبر هو تاريخية النص في علاقته الزمنية المتحركة، بحركة الواقع المتحول دوما.
وللمطالع أن يلاحظ أن «عمر بن الخطاب»، صاحب الخطاب الأشهر في الإصرار على العمل بحكم آية غير موجودة في المصحف، ولم تكتب أصلا، كان هو صاحب حجتين في عدم كتابتها: الحجة الأولى واقع الناس وهم يتسافدون تسافد الحمر، والثانية موقف الشاب المحصن والشيخ غير المحصن من تطبيق حد الزنى. أما الأمر الأوضح دلالة فهو فيما ورد بلفظ القاضي «أحمد» الشهير بابن خلكان، في كتابه وفيات الأعيان، وهي رواية مهمة توضح موقف عمر بن الخطاب بعد أن أصبح خليفة، من تطبيق حد الرجم على «المغيرة بن شعبة». في رواية القاضي أحمد، التي يلخصها لنا الإمام شرف الدين الموسوي تحت عنوان: درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة «وذلك حيث فعل المغيرة مع الإحصان، ما فعل مع أم جميل بنت عمرو، امرأة من قيس، في قضية من أشهر الوقائع التاريخية في تاريخ العرب، كانت سنة 17 للهجرة. لا يخلو منها كتاب اشتمل على حوادث تلك السنة، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة وهو معدود من فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية، ونافع بن الحارث وهو صحابي أيضا، وشبل بن معبد. وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة، بأنهم رأوا المغيرة بن شعبة يولجه في أم جميل إيلاج الميل في المكحلة، لا يكنون ولا يحتشمون، ولما جاء الرابع وهو زياد بن سمية يشهد أفهمه الخليفة رغبته في ألا يخزي المغيرة، ثم سأله عما رآه فقال: رأيت مجلسا، وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا ورأيته مستبطنها، فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، لكني رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد ما بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا، فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، فقال عمر: الله أكبر، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم، فقام يقيم الحدود على الثلاثة.»
33
وهناك مرويات أخرى، بخصوص آيات أخرى، وموضوع آخر، تجد نفسك في حيرة من أمر تصنيفها، حسب اللوحة الثلاثية، فإن اعتمدت روايات بعينها صنفتها ضمن ما نسخ تلاوته وحكمه، وإن اعتمدت روايات أخرى صنفتها ضمن ما نسخ تلاوته وبقي حكمه، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى الخبط وسوء التقدير. وهو ما يتمثل في رواية السيدة «عائشة رضي الله عنها» إذ تقول: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي الرسول
صلى الله عليه وسلم
وهي مما يقرأ في القرآن.»
34
والأمر يعني تحديدا التحريم القائم على الرضاعة بعدد الرضعات، وهو من اللون الذي يصنفه السيوطي في باب «ما نسخ حكمه وتلاوته معا». رغم أنه لو أخذنا بحديث السيدة «عائشة»، وبالتصنيفات على اللوحة الثلاثية، لأدرجناه ضمن باب «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه». ووجه الإشكال في تصنيفه أصلا ضمن «المنسوخ» أيا كان نوعه، أن النسخ كان لا بد من وقوعه في عهد الرسول نفسه، بينما السيدة «عائشة رضي الله عنها» تؤكد أن الرسول قد توفي وتلك الآية مما يقرأ في القرآن، وهو ما دفع أبا موسى الأشعري إلى اللجوء لاصطلاح «رفعت» في قوله التأويلي إنها نزلت ثم رفعت.
35
أما حال بقية العلماء فيصوره لنا أبو جعفر النحاس بقوله: «فتنازع العلماء هذا الحديث ... فمنهم من تركه، وهو مالك بن أنس ... وقال رضعة واحدة تحر، ... وممن تركه أحمد بن حنبل وأبو ثور، قالا يحرم ثلاث رضعات، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : لا تحرم المصة ولا المصتان.»
36
بينما أعلن «مكي» دهشته الكاملة في قوله: «هذا المقال فيه غير المنسوخ غير متلو، والناسخ أيضا غير متلو، ولا له أعلم نظيرا».
37
ويؤكد العلماء أن السيدة «عائشة رضي الله عنها» ظلت على موقفها ... فقالوا: «لم تزل عائشة تقول برضاع الكبير.»
38
وهو ما يتعلق بما جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (1،
آية الرجم ورضعات الكبير عشر، وكانت في ورقة تحت سرير بيتي، فلما اشتكى رسول الله
صلى الله عليه وسلم (مرض) تشاغلنا بأمره، فأكلتها ربيبة لنا (تعني الشاة) فتوفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهي مما يقرأ في القرآن.»
39
وهكذا فقد سارت تلك الآية في التحريم من الرضاعة، بين الكبير والصغير، على أنها حددت بعدد معلوم من الرضعات. وممن أخذ بإصرار السيدة عائشة «أبو موسى الأشعري» و«الليث بن سعد».
40
وهو ما إن أخذناه على ظاهره، لأدرج ضمن «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه»، أما لو نظرنا إلى ما حدث في الواقع، فيفسره قول السيدة «عائشة رضي الله عنها»: «فأكلتها ربيبة كانت لنا.» أما لو ذهبنا إلى ترك حديثها، مع تصنيف الآية ضمن «ما نسخ حكمه وتلاوته» لبقيت أسئلة حيرى: هل تم ذلك النسخ قبل أن تأكلها الشاة؟ أم بعد أن أكلتها؟ أم أنها احتسبت منسوخه لأنها لم تكن في صحف القرآن المجموع، لأن الشاة أكلتها؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد ظرف الواقع يجعل تلك الآية مستمرة في العمل بحكمها، رغم ما ألحق بها من ظروف أدت لعدم وجودها بالمصحف المجموع، فقد كانت هناك إشكاليات تحتاج إلى حل تشريعي. وهو ما جاء نموذجا في قول السيدة «عائشة رضي الله عنها»: «جاءت سهلة ابنة سهيل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقالت: إني أجد في وجه أبي حذيفة (زوجها، أي تجده مستاء) إذا دخل علي سالم، قال النبي
صلى الله عليه وسلم : فأرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ قال: ألست أعلم أنه رجل كبير؟ ثم جاءت بعد، ثم قالت: والله يا رسول الله ما أرى في وجه أبي حذيفة بعد شيئا أكرهه.» رواه مسلم وأبو داود.
41
وعليه فقد علمت السيدة عائشة بالسبيل نفسها، فقال عروة: «إن عائشة كانت تأمر أختها أم كلثوم، وبنات أخيها، أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.» رواه مالك. ويقول «د. شعبان محمد إسماعيل»: «وحجتهم حديث سهلة هذا، وهو حديث صحيح لا شك في صحته، ويدل عليه أيضا قوله تعالى:
وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة (النساء: 23). فإنه غير مقيد بوقت.»
42
والأمر بذلك يدل على ضرورة فرضها استفتاء المؤمنين لأم المؤمنين في شئون دينهم، فكان لقاؤها بالرجال مشروطا بذي محرم، وهي الإشكالية الموضوعية التي وجدت حلها في القول برضاع الكبير، والاستمرار في العمل به، وإصرار السيدة «عائشة رضي الله عنها» عليه. وهكذا يكون وضع آية رضاع الكبير هو نفسه وضع آية رجم الشيخ ولا وجود لهما في كتاب الله الكريم، ليس لأنهما نسختا، وإنما لأن الأولى أكلتها الشاة، بينما الثانية لم تكتب أصلا، والظرف الموضوعي شاهد، ويشير إلى أن وضع باب في النسخ بعنوان «ما نسخ تلاوته وبقي حكمه» من باب التأول بغير سند، اللهم إلا الخلط مرة مع السنة باحتسابها من عوامل النسخ، ومرة للعمل ببعض عمل «عمر» وليس كله، ومرة للأخذ بحديث زوجات دون زوجات من أمهات المؤمنين. أما الأساس فهو العمل وفق حوار النص نفسه، وليس حواره مع الواقع، بينما يمكن للواقع أن يكون فاصلا تماما في هذا الشأن، وهو ما نسعى إلى التنبيه إليه، ونلح في طلبه. والملاحظ في الحالتين المعروضتين هنا تعلقهما بشرائع، وبشأن الشرائع ونسخها في كتاب الله العزيز بوجه عام لاحظ الإمام الزمخشري أمرا له قيمة إذ يقول: «والله تعالى ينسخ الشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس، يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصالح ... وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا. فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق والأشق بالأشق والأهون بالأهون، لأن الغرض المصلحة ، لا الهوان والمشقة ... إن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وإن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة.»
43
وقد ذهب المذهب نفسه في التأكيد على عامل «المصلحة» في النسخ، الإمام الآلوسي، لكنه مال إلى رأي من قالوا: إن التبديل يأتي بالأهون، بعد أن قدم له المبررات، وذلك من قوله: إن الناسخ في تلك الحال «... لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا منها الحكم السابق، لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح، وتبدلها منوط بتبديلها حسب الأوقات، فيكون الناسخ خيرا منه في النفع، سواء أكان خيرا منه في الثواب أم مثلا له، أم لا ثواب فيه أصلا ... والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور، لأنه على تبديل الحكم تبتدل المصلحة، فيكون خيرا منه، وعلى تقدير عدم تبدله، فالمصلحة الأولى باقية على حالها.»
44
وإذا كنا قد قلنا من قبل إن الآيتين (الرجم، ورضاعة الكبير) ربما لم تكونا من قبيل المنسوخ، فإنما نقصد بالمنسوخ المتعارف عليه اصطلاحا بشروط بعينها، وإن كان ينسحب عليها اجتهاد الزمخشري والآلوسي، فالأولى لم تكتب والثانية أكلتها الشاة، بتقدير حساب المصالح، والمنافع، والزمن (حسب الأوقات). وإن كان ذلك لا يعني رفضنا للقول بالنسخ في القرآن الكريم، لأن مثل ذلك القول يئول إلى الكفر والعياذ بالله، ونحن على نعمة الإيمان حريصون، ولا يمكننا أن نفرط فيها. فقط نضع اجتهادا من باب محاولة الفهم، ربما أصاب وربما أخطأ، والمنوط في الأمر جميعه صدق النوايا وسلامة الإيمان وهو ما نحمد الله عليه حمدا كثيرا. (4) ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته
يقول «د. محمد علي الصغير»: إن الوحي قام يجابه الفضوليين على الرسول
صلى الله عليه وسلم «الذين كانوا يأخذون عليه راحته، ويزاحمونه وهو في رحاب بيته بين أفراد عائلته وزوجاته، فينادونه باسمه المجرد، ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق ...
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون .» وهو بذلك إنما يشير إلى تغير الواقع وتبدله، بعد أن هاجر المصطفى
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة، وبعد أن مر زمان استتبت فيه الأركان للدعوة وصاحبها، وأصبح هناك أصول يجب اتباعها في التعامل مع النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولم يعقلها ويعها أولئك الذين ظلوا يتصورون أنه بالإمكان مناداته من خارج بيته «يا محمد». ويتابع «د. الصغير» القول: «واستأثر البعض بالإمكان بوقت القائد، فكانت الثرثرة والهذر وكان التساؤل والتنطع، دون تقدير لملكية هذا الوقت، وعائدية هذه الشخصية، فحد القرآن من هذه الظاهرة ... وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذلك الخطاب، فكانت آية النجوى:
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (المجادلة: 12) ... فامتنع الأكثرون عن النجوى، وتصدق من تصدق، فسأل ووعى وعلم وانتظم المناخ العقلي ... ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ... نسخ حكمها ورفع، وخفف الله عن المسلمين بعد شدة ... في آية النسخ:
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون (المجادلة: 13).»
45
والحالة التي بين أيدينا هنا واقع حي يتحدث ويفعل، فيتفاعل معه الوحي منفعلا وفاعلا، ويتهرب المتسائلون من لقاء النبي إشفاقا من نفقات يدفعونها ضرائب للسؤال والتعلم، فيعود الوحي يجمعهم مرة أخرى، مسقطا عنهم ضريبة العلم، مبقيا على الصلاة والزكاة، مع شرط طاعة الرسول
صلى الله عليه وسلم . وهكذا نجد آية النجوى وقد نسخ حكمها بآية ناسخة، بينما بقيت التلاوة قائمة في القرآن الكريم غير منسوخة. وفي تفسير الخازن أمثلة أخرى لهذا الوجه من وجوه النسخ إذ يقول: «وهو كثير في القرآن، مثل آية الوصية للأقربين نسخت بآية الميراث عند الشافعي، وبالسنة عند غيره. وآية عدة الوفاة بالحول نسخت بآية «أربعة أشهر وعشرا». وآية القتال:
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين (الأنفال: 65)، نسخت بقوله تعالى:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا (الأنفال: 66)، ومثل هذا كثير.»
46
وقال ابن العربي: «كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم منسوخ بآية السيف ، وهي:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ، الآية نسخت مائة وأربعا وعشرين آية» (التوبة: 5)
47
لكن السيوطي يشير إلى إشكالية ضمن إشكاليات تثور في نسخ آية السيف لآيات الصفح والتولي والإعراض في قوله: «قال تعالى:
أليس الله بأحكم الحاكمين (التين: 8)، قيل إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة.»
48
والمعلوم أنه عندما جمع المصحف زمن «عثمان بن عفان رضي الله عنه»، تم جمع كثير من الآيات المنسوخة إلى جوار الآيات الناسخة، وهذا هو الواقع الذي فرض إنشاء باب في النسخ بعنوان «ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته»، وهو الواقع الذي أدى إلى ظهور كثير من الآيات بمظهر التضارب والتناقض، وليس الأمر كذلك، إنما الأمر يعود إلى واقع حدث الجمع، فالقرآن الكريم لا يحمل تناقضا ولا تضاربا، ومثالا لحالات التناقض الظاهري أمثلة نسوقها في عدة نماذج:
النموذج الأول:
الآيات المتعلقة بالكتب السماوية السابقة على كتاب الله العزيز:
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (المائدة: 43)،
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة: 44)،
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه (المائدة: 47)
الإنجيل فيه هدى ونور (المائدة: 46)
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب (المائدة: 48)، وهي الآيات التي يقابلها آيات أخرى تقول:
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه (النساء: 46)
يحرفون الكلم عن مواضعه (المائدة: 13)
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه (البقرة: 75).
النموذج الثاني:
الآيات المتعلقة بأصحاب الديانات الكتابية:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 62)،
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن (العنكبوت: 46)،
وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة (الحديد: 27)،
وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة (آل عمران: 55)، وهي الآيات التي يقابلها آيات تقول:
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19)،
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (آل عمران: 85).
النموذج الثالث:
الآيات المتعلقة بالمدى المسموح به من الحرية الدينية:
لكم دينكم ولي دين (الكافرون: 6)،
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس: 99)،
لا إكراه في الدين (البقرة: 256)، وهي الآيات التي يقابلها:
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها (آل عمران: 83).
النموذج الرابع:
الآيات المتعلقة بالموقف من المشركين:
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ (آل عمران: 20)،
إن أنت إلا نذير (فاطر: 23)،
إنما أنت نذير (هود: 12)،
فأعرض عنهم وعظهم (النساء: 63)،
فأعرض عنهم وتوكل على الله (النساء: 81)،
فاعف عنهم واصفح (المائدة: 13)،
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم (المائدة: 105)،
وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (الأنعام: 107)،
لست عليهم بمسيطر (الغاشية: 22)،
وما أرسلناك عليهم وكيلا (الإسراء: 54)،
واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (المزمل: 10)،
فاصبر صبرا جميلا (المعارج: 5)،
فاصبر على ما يقولون (طه: 130)،
فاصفح الصفح الجميل (الحجر: 85)،
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (الأعراف: 199)،
ادفع بالتي هي أحسن (فصلت: 34)،
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (الرعد: 40).
هذا بينما نجد آيات لا ترجئ الحساب ليوم القيامة، إنما تضعه بيد الجيش الإسلامي، وتأمر بقتال من لم يسلم، ونموذجا لهذه الآيات:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله (التوبة: 29)،
واقتلوهم حيث ثقفتموهم (النساء: 91)،
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق (محمد: 4)،
فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم (النساء: 89)،
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (الأنفال: 12)،
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (الأنفال: 39).
وهكذا نجد على الطرفين آيات مثل:
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ (آل عمران: 20)،
فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم (النساء: 89).
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (الأنعام: 61)،
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون (محمد : 35).
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم (البقرة: 191)،
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (التوبة: 5).
ومن ثم بات واضحا أن جمع الآيات المنسوخة إلى جوار الآيات الناسخة، أنشأ نوعا من التضارب الظاهري في الآيات، جل الله تعالى عن ذلك. وقد ذهب العلماء في تعليل ذلك إلى القول بأن بقاء المنسوخ هو من قسم المنسأ، وهو ما يقول فيه السيوطي: «فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى ... بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم، بل ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله، وقال مكي: ذكر جماعة: إن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية، مثل قوله في البقرة:
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، محكم غير منسوخ لأنه مؤجل بأجل.»
49
وهكذا، وتأسيسا على الأخذ بمبدأ أزلية الوحي، أرجع الأمر لباب جديد هو باب المنسأ، بينما الآية التي يوردها السيوطي
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره (البقرة: 109) تشير إلى الظرف الموضوعي الذي تجادل معه الوحي وتفاعل. مما أدى لتغير موقف الوحي وتبدله مع تغير وتبدل ذلك الظرف وما يطرأ فيه من تحولات. فالمعلوم أن موقف الإسلام من المسيحية كان في البداية موقفا مهادنا متسامحا يؤكد حرية الاعتقاد، وأن في الإنجيل هدى ونور، وأن القرآن جاء يصادق على ما سبق وورد فيه، وأن الله رفع أصحابه فوق الكافرين إلى يوم القيامة. لأسباب ظرفية واضحة في حاجة المسلمين إلى دار هجرة لدى نجاشي الحبشة المسيحية، وإذ رددت شفاه المسلمين هناك الآيات عن المسيح وأمه، فكان أن أحسن استقبالهم ووصلهم بالود والرحمة.
كذلك الحال في الموقف من اليهودية واليهود، فقد كانت يثرب دار هجرة للمسلمين، بينما كانت معقلا كبيرا ليهود الجزيرة، وكانت «المصلحة» والحكمة تستدعي أن تسبق المسلمين، المهاجرين إلى يثرب، آيات تردد ذكر أنبياء بني إسرائيل، وقصص العهد القديم، والقرار بأن الله فضلهم على العالمين ، وأن توراتهم فيها هدى ونور، وعليهم الحكم بما جاء فيها. وكان أول عمل سياسي مهم قام به المصطفى
صلى الله عليه وسلم
عند وصوله يثرب هو عقد الصحيفة التي كفلت حرية الاعتقاد لأهل المدينة جميعا. وكان من أهم نصوصها «هذا كتاب محمد النبي
صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ... وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ... وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ...» بل واشترع للمسلمين صوم الغفران اليهودي، بل والتوجه في الصلاة وجهة اليهود (بيت المقدس).
ولكن الظرف لم يستمر على حاله، مما أدى إلى إلغاء الصوم العبري واستبداله بصوم رمضان العربي، كما ألغيت كعبة بيت المقدس واستبدلت بكعبة مكة، ثم أخذ كل من النبي
صلى الله عليه وسلم
واليهود يكتشفون اختلاف توجهاتهم، ثم يكتشفون اختلافات عميقة، بين ما بين يدي اليهود من التوراة، وبين ما يتلوه رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وهنا اتخذ الأمر وجهة أخرى، خاصة بعد غزوة بدر الكبرى، التي مكنت المسلمين من العتاد والسلاح والقوة المادية والمعنوية. إذ يكشف لنا الوحي أن سبب اختلاف القرآن عن التوراة في كثير من التفاصيل، إنما يرجع إلى قيام اليهود بتحريف التوراة الأصلية ومن هنا حق قتالهم لتبديلهم آيات الله؛ ومن ثم نقض الصحيفة وإبطال الحرية الدينية، وجاء الأمر
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله (البقرة: 193)، بعد أن أصبح «الدين عند الله الإسلام».
وكان الموقف نفس الموقف من المسيحية اليعقوبية بعد انتفاء الحاجة للحبشة ونجاشيها، وكان لا بد أن يقول الوحي كلمته إزاء العقائد المسيحية. وهو الأمر الذي ينطبق على الموقف من أهل مكة، إذ بدأت الآيات الحكيمة في مكة زاخرة بما يلائم حال الضعف التي كان عليها المسلمون وسط أكثرية معادية، فقررت حرية الاعتقاد وأنه لا إكراه في الدين، والأمر موكول إلى الله يوم القيامة. أما بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، وبعد وقعة بدر الكبرى، والتحول من حال الضعف إلى حال القوة، أتت الآيات الناسخة تبطل حرية الاعتقاد، وتأمر بقتال غير المسلمين وقتلهم. وهو الأمر الذي لحظه الإمام السيوطي وجلة الأجلاء من العلماء، لكنهم أدرجوه في باب المنسأ وهو ما عبرت عنه الآيات بجلاء
فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره (البقرة: 108). (5) ما نسخ تلاوته وحكمه
عن «الزهري» قال: «أخبرني أبو أمامة ... أن رهطا من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
قد أخبروه أن رجلا منهم قام في جوف الليل، يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها، فلم يقدر على شيء منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم
حين أصبح، يسأل النبي عن ذلك. وجاء آخر وآخر حتى اجتمعوا، فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم، فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة، ثم أذن لهم النبي
صلى الله عليه وسلم
فأخبروه خبرهم وسألوه عن السورة، فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئا، ثم قال: نسخت البارحة.»
50
وقد عقب أبو بكر الرازي على باب «ما نسخ تلاوته وحكمه» بالقول: «إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس مع الأيام.»
51
وقد وضع ضمن هذا الباب عددا من الروايات حول عدد من الآيات التي كانت معروفة زمن النبي، لكنها لم توجد بالقرآن الكريم، لكن مع تعليلات أخرى تشير إلى أحداث في الواقع، أدت إلى اختفاء مثل تلك الآيات. ومن تلك الروايات ما جاء عن «شريك بن عاصم» عن «زر» فمن قوله: «قال لي أبي بن كعب: كيف تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: سبعين أو إحدى وسبعين آية، قال: والذي أحلف به، لقد نزلت على محمد
صلى الله عليه وسلم
وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها» (انظر التهذيب، 10، 42-44)،
52
وعن عمر قال: «ليقولن أحدكم: قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر ...» وعن عائشة قالت: «كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي حتى مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا على ما هو الآن.» وعن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. وقال حدثنا حجاج بن جريح، أخبرني أن أبي حميدة عن حميدة بنت يونس قالت: «قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى. قالت: قبل أن يغير عثمان المصحف.»
وعن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم تكتبا في المصحف فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون والذين آووه ونصروه وجادلوا عنه القوم الذين غضب عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.»
53
هذا ويورد السيوطي «عن عدي بن عدي قال عمر: كنا نقرأ ألا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم، ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال: نعم ... وقال عمر لعبد الرحمن بن عوف ألم تجد فيما أنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة، فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن.»
54
كما روى «مسلم» في إفراده عن «عائشة» رضي الله عنها أنها أملت على كاتبها: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين (بشرح النووي، 5: 129، 130).
والإشارات من جانب السيدة عائشة إلى دور الجمع في عهد الخليفة «عثمان» فيما حدث تعود بلا شك إلى كون «عثمان» قد حمل الناس على مصحف واحد، ثم حظر ما عداه، بل وحسم الأمر فحرق ما عداه من صحف قرآنية. وقد عقب «د. طه حسين» على ذلك بقوله: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف، وعثمان حين حظر ما حظر من القرآن، وحرق ما حرق من الصحف، إنما حظر نصوصا أنزلها الله وحرق صحفا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وما كان ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفا أو يحذف نصا من نصوصه. وقد كلف كتابة المصحف نفرا قليلا من أصحاب النبي، وترك جماعة القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه، وجعل إليهم كتابة المصحف، ومن هنا نفهم سر غضب ابن مسعود، فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن، وهو فيما يقول قد أخذ من فم النبي
صلى الله عليه وسلم
سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد. ولما قام ابن مسعود يعترض الأمر، رافضا تحريق صحف القرآن أخرجه عثمان من المسجد إخراجا عنيفا، وضربت به الأرض فدقت ضلعه.»
55
وبعد، فإن ما قدمناه هنا على عجالة، ليس دفاعا عن كتاب الله الكريم، فالكتاب متكامل بذاته، مستغن عن مثل ذلك الدفاع، وليس دفاعا عن عقيدة أو دعوة، فقد بلغ الإسلام تكامله واستقراره في حياة صاحب الدعوة
صلى الله عليه وسلم ، وهو الأمر الذي لا يخشى معه عرض مسألة من المسائل التي تشغل بال المسلم؛ ومن ثم فقد حاولنا إبراز شذرات قليلة في الروايات، تشير إلى ارتباط الوحي بواقعه، وكانت محاولتنا بالأساس محاولة لفهم ظاهرة النسخ، مستندة إلى اعتبار الواقع مقياسا لفهم حركة النص المرتبط به، فينفعل به، ويفعل فيه، من أجل مصالح ومنافع وغايات أعم في فضلها، وحسبي هنا إخلاصي النية في الجهد للفهم. وهو الجهد الذي ربما أصاب، وذلك غاية المراد، وربما أخطأ، ولا جناح هنا من الطموح إلى ثواب الأجر الواحد، وربما كان جهد المحاولة بين الصواب والخطأ، وربما ألمح إلى طريق حان ولوجه، بكفاءة المقتدرين عنا من متخصصين، وربما كان كل الجهد بلا طائل لسقوطه في أخطاء غابت عنا. لكن اليقين الذي نعيه تماما ونعتقده ولا نحيد عنه، هو تكامل الوحي وتفاعله التاريخي العظيم مع واقعه، فلم يدخله باطل ولا زيف، ذلك الوحي الكريم الذي جمعته صفحات القرآن الكريم ، ووصفه الله عز وجل بأنه
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (هود: 1).
قائمة مصادر استشهادات البحث
(1) المصادر العربية والمترجمة إلى العربية
الكتب الموسوعية
القرآن الكريم.
الكتاب المقدس.
مختار الصحاح.
الفيروزآبادي.
الموسوعة العربية الميسرة.
موسوعة تاريخ العالم (وليم لانجر وسبعة عشر عالما، ترجمة د. مصطفى زيادة وسبعة مترجمين)، مكتبة النهضة المصرية، د.ت.
أ (1)
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ليدن، أبريل، 1866م. (2)
إرمان (أدولف): ديانة مصر القديمة، ترجمة د. محمد عبد المنعم أبو بكر، ود. محمد أنور شكري، نشر البابي الحلبي، القاهرة، د.ت. (3)
إسماعيل (د. شعبان محمد): مقدمته لكتاب أبي جعفر النحاس: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، مكتبة عالم الفكر، القاهرة، 1986م. (4)
إيمار وإبوايه (أندريه وجانين): الشرق واليونان القديم، ترجمة فريد داغر وفؤاد أبو ريحان، دار عويدات، بيروت، 1964م.
ب (5)
بارو (أندريه): بلاد آشور، دار الرشيد للنشر، بغداد، د. ت. (6)
باقر (طه): الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1986م. (7)
بدران (د. إبراهيم)، وخماش (د. سلوى): دراسات في العقلية العربية، الخرافة، دار الحقيقة، بيروت، ط2، 1979م. (8)
برستد (جيمس هنري): انتصار الحضارة، ترجمة د. أحمد فخري، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (9)
برستد (جيمس هنري): فجر الضمير، ترجمة د. سليم حسن، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت. (10)
برستد (جيمس هنري): كتاب تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة د. حسن كمال، وزارة المعارف المصرية، القاهرة، ط1، 1929م. (11)
بل (ه. آيدرس): مصر من الإسكندرية حتى الفتح العربي، ترجمة د. عبد اللطيف حمزة، دار النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (12)
البلاذري: فتوح البلدان، د.ت، د.ن. (13)
بوتيرو (جان): الديانة عند البابليين، ترجمة وليد الجادر، جامعة بغداد، 1970م.
ت (14)
توينبي (إرنولد): تاريخ الحضارة الهيلينية، الأنجلو المصرية، القاهرة، 1963م. (15)
ابن تيمية: الرد على المنطقيين، إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، ط2، د.ت.
ج (16)
الجاحظ: رسائل في نفي التشبيه د.ت، د.ن. (17)
جاردنر (آلن هنري): مصر الفراعنة، ترجمة د. نجيب ميخائيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، 1987م . (18)
جارودي (روجيه): فلسطين أرض الرسالات الإلهية، ترجمة د. عبد الصبور شاهين، دار التراث، القاهرة، د.ت. (19)
الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، القاهرة، 1879م. (20)
الجزائري (نعمة الله): النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط8، 1978م. (21)
الجوزو (د. مصطفى): من الأساطير العربية والخرافات، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1980م. (22)
ابن الجوزي: نواسخ القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1985م.
ح (23)
ابن حبيب: المحبر، دار الآفاق، بيروت، د.ت. (24)
الحراني (أبو محمد): تحف العقول عن الرسول، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2، 1974م. (25)
حسن (د. حسن إبراهيم): تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط7، 1964م. (26)
حسين (د. طه): الفتنة الكبرى، دار المعارف، 1984م. (27)
الحموي (ياقوت): معجم البلدان، د.ت، د.ن. (28)
الحوت (محمود سليم): في طريق الميثولوجيا عند العرب، دار النهار، بيروت، ط2، 1979م.
خ (29)
خليل (د. خليل أحمد): مضمون الأسطورة في الفكر العربي، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1980م.
د (30)
دريتون وفاندييه: مصر، ترجمة عباس بيومي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (31)
دولابورت (ك): بلاد ما بين النهرين، دار الروائع الجديدة، بيروت، 1971م. (32)
الديار بكري: تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، القاهرة، 1302ه، د.ن. (33)
ديسو (رينيه): العرب في سوريا قبل الإسلام، ترجمة عبد الحميد الدواخلي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1959م. (34)
ديورانت (ول): قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، القاهرة، ط3، 1961م. (35)
رايلي (كافيين): الغرب والعالم، ترجمة د. عبد الوهاب المسيري، عالم المعرفة، الكويت، 1985م. (36)
رشيد (د. فوزي): خلق الإنسان في الملاحم السومرية والبابلية، مجلة آفاق عربية، بغداد، القاهرة، 1966م. (37)
رشيد (د. فوزي): الديانة والمعتقدات الدينية، ضمن سلسلة تاريخ العراق «مع آخرين»، دار الحرية للطباعة، بغداد، د. ت.
ز (38)
زايد (د. عبد الحميد): الشرق الخالد، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت. (39)
زايد (د. عبد الحميد): مصر الخالدة، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت. (40)
الزبيدي: تاج العروس، القاهرة، 1306ه، د.ن. (41)
الزمخشري: الفائق، طبعة محمد أبو الفضل وعلي البجاوي، القاهرة، 1947م. (42)
أبو زيد (د. نصر حامد): مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1990م. (43)
زيعور (د. علي): التحليل النفسي للذات العربية، أنماطها السلوكية والأسطورية، دار الطليعة، بيروت، 1978م. (44)
زيعور (د. علي): العقلية الصوفية ونفسانية التصوف، دار الطليعة، بيروت، د.ت.
س (45)
السقاف (أبكار): نحو آفاق أوسع، الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت. (46)
السهيلي: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، دار المعرفة، بيروت، 1978م. (47)
السواح (فراس): مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة، بيروت، 1980م. (48)
سوسة (د. أحمد): العرب واليهود في التاريخ، العربي للإعلان والطباعة والنشر، دمشق، ط2، د.ت. (49)
ابن سيد الناس: عيون الأثر، دار الآفاق العربية، بيروت، د.ت. (50)
السيوطي (جلال الدين): أسباب النزول، دار المنار للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986م. (51)
السيوطي (جلال الدين): الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، بيروت، 1973م.
ش (52)
الشريف (د. أحمد إبراهيم): مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت. (53)
شلبي (د. أحمد): مقارنة الأديان، اليهودية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط5، 1978م. (54)
الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، نشر البابي الحلبي، القاهرة، 1961م. (55)
الشوك (د. علي): اهتمامات ميثولوجية واستطرادات لغوية. الكرمل، نيقوسيا، عدد 26.
ص (56)
صالح (د. عبد العزيز): الشرق الأدنى القديم، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1967م. (57)
الصغير (د. محمد حسين): تاريخ القرآن، الدار العالمية، بيروت، 1983م.
ط (58)
الطبري: تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف، القاهرة، ط2، د.ت. (59)
الطبري: تفسير القرآن، د.ت، د.ن. (60)
طعيمة (د. صابر): التاريخ اليهودي العام، في مجلدين، دار الجيل، بيروت ط2، 1983م.
ظ (61)
ظاظا (د. حسن): الساميون ولغاتهم، مطبعة المصري، الإسكندرية، 1971م.
ع (62)
عبد الحميد (محمد حسني): أبو الأنبياء، دار سعد، القاهرة، د.ت. (63)
العظم (د. صادق جلال): نقد الفكر الديني، دار الطليعة، بيروت، د.ت. (64)
العقاد (عباس محمود): إبليس، كتاب الهلال، القاهرة، رقم 192. (65)
العقاد (عباس محمود): الله، كتاب الهلال، القاهرة، رقم 42. (66)
العقاد (عباس محمود): حياة المسيح، كتاب الهلال، القاهرة، يناير 1988م. (67)
علي (د. جواد): المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، مطبوعات المجمع العلمي العراقي ، بغداد، د.ت. (68)
علي (د. فاضل): عشتار ومأساة تموز، وزارة الإعلام العراقية، بغداد، 1973م. (69)
علي (د. فاضل): الطوفان في المراجع المسمارية، أوفست الإخلاص، بغداد، 1975م. (70)
عوض (د. لويس): مقدمة في فقه اللغة العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1980م.
غ (71)
غانم (فتحي): روز اليوسف، عدد 216، 8 ديسمبر 1969م، القاهرة.
ف (72)
فاخوري (أنيس): نسف الأضاليل مرحلة أساسية في إزالة إسرائيل، أوفست مؤسسة فاخوري، بيروت، 1974م. (73)
فرويد (سيجموند): موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1979م. (74)
فريحة (د. أنيس): دراسات في التاريخ، دار النهار، بيروت، 1980م. (75)
فريحة (د. أنيس): ملاحم وأساطير من الأدب السامي، دار النهار، بيروت، ط2، 1989م. (76)
فريزر (جيمس): أدونيس أو تموز ، وهو الجزء الأول من المجلد الرابع من مؤلفه الغصن الذهبي، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982م.
ق (77)
القزويني: عجائب المخلوقات، جوتنجن، 1849م. (78)
القمني (د. سيد): أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة، دار فكر، القاهرة، 1988م. (79)
القمني (د. سيد): النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، دار سينا، القاهرة، 1990م. (80)
القمي (الصدوق أبو جعفر): علل الشرائع، المكتبة الحيدرية، النجف، العراق، ط2، 1966م.
ك (81)
ابن كثير: البداية والنهاية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4، 1988م. (82)
كرم (يوسف): تاريخ الفلسفة اليونانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1966م. (83)
كريمر (صموئيل نوح): السومريون، تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، ترجمة د. فيصل الوائلي، وكالة المطبوعات، الكويت، د.ت. (84)
كريمر (صموئيل نوح): الأساطير السومرية، ترجمة داود عبد القادر، مطبعة المعارف، بغداد، 1971م. (85)
كريمر (صموئيل نوح): من ألواح سومر، ترجمة طه باقر، مكتبة المثنى، بغداد، 1971م. (86)
ابن الكلبي: كتاب الأصنام، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1924م.
ل (87)
لسنر (د. إيفار): الماضي الحي، ترجمة شاكر إبراهيم سعيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981م.
م (88)
مبارك (د. علي): الخطط التوفيقية، القاهرة، 1988م، د. ن. (89)
المسعودي: مروج الذهب، طبعة باريس، 1961م، والطبعة العربية تحقيق محيي الدين عبد الحميد، المكتبة الإسلامية، بيروت، د.ت. (90)
منقوش: التوحيد يمان، دار الطليعة، بيروت، 1977م. (91)
موسكاتي (سبتينو): الحضارات السامية القديمة، ترجمة د. السيد يعقوب. (92)
الموسوي (عبد الحسين ): النص والاجتهاد، مؤسسة الأعلمي، كربلاء، العراق، ط4، 1966م. (93)
ميخائيل (د. نجيب): مصر والشرق الأدنى القديم، دار المعارف، القاهرة، الأجزاء الستة الأولى، تتعدد تواريخ النشر بتعدد الأجزاء.
ن (94)
ناصف (عصام الدين حفني): المسيح في مفهوم معاصر، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1979م. (95)
الناضوري (د. رشيد): المدخل في التطور التاريخي للفكر الديني، دار مكتبة الجامعة العربية. الكتاب الثالث، بيروت، د.ت. (96)
النحاس (أبو جعفر): الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل، مكتبة عالم الفكر، القاهرة، 1986م. (97)
النشار (د. علي سامي): نشأة الفكر الإسلامي في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، ط7، 1977م. (98)
النوبري (محمد بن قاسم): الإلمام بالأعلام لما جرت به الأحكام، تحقيق د. عزيز سوريال، حيدر آباد، 1970م. (99)
نيلسن (ديتلف): الديانة العربية القديمة، في كتاب التاريخ العربي القديم، ترجمة د. فؤاد حسنين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م. (100)
ابن هشام: السيرة النبوية، ضبط وتعليق طه عبد الرءوف، شركة الطباعة الفنية المتحدة، القاهرة، 1974م.
ه (101)
الهمداني: الإكليل، بغداد، 1931م، د.ن. (102)
هومل (فرتز): التاريخ العام لبلاد العرب الجنوبية، في كتاب التاريخ العربي القديم، ترجمة د. فؤاد حسنين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م.
و (103)
وجدي (محمد فريد): المصحف المفسر، كتاب الشعب، القاهرة، د.ت.
ي (104)
اليازجي (ندرة): رد على اليهودية المسيحية، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط2، 1984م. (105)
اليازجي (ندرة): رد على التوراة، دار طلاس، دمشق، ط2، 1984م. (106)
ياسين (بوعلي): الثالوث المحرم، دار الطليعة، بيروت، ط4، 1980م. (2) المصادر الأجنبية
The Foreign Sources (هذه المصادر بكاملها ليست مصادر عامة، إنما تم الاقتباس منها حسب المقام داخل موضوعات الكتاب، وللأمانة فإن المصادر غير الإنجليزية منها، لجأنا في ترجمتها إلى مترجمين محترفين.)
Bertholet (A): A History of Hebrew Civilization London 1926.
Benzinger (L): Passover and feast of unlearened Bread Encyclopaedia Biblica Vol 3 1902.
Breasted (J. H): The Dawn of Concience.
Erman: The literature of the ancient Egyptians.
Gardiner (A. H): The A dmonition of an Egyptyian Sage Libzig 1909.
Gardiner (A. H): The journal of Egyptian archaeology vol 1.
Gunn J. E. A vol x 11 1926.
Gyidiw: Della Sede primitive dei popol simitic In: Memorie della Reale Accademia dei limcei classe die scienre Morali storiche fillologiche 3 vol 3 Roma 18.
Gordon (C. H): Ugaritic literature Roma 1949.
Hawkes (jaquetta): Pre History New York New American Libery 1963.
Viramer (S. N.): The Indus Civilization and Dilmun the Sumerien parade land Expedition vol 6 1964.
Lieblein: Le mythed’ Osiris dans la revue de L’Histoire des Religions 1x 1948.
Lods (A): Israel from its beginning to the middle of the Eight. centiory Translated by Hooke London 1932. (S. H).
Lods (A): The propherts and the Rise of yadaim.
Mead: Male and Female New York Morrow 1949.
Moalton (W. J): Passover in Hastings Dictionary of the Bible vol 3.
Moret: La passion d’Osiris dans roi set diux d’Egypt Paris, 1916.
Noldeke: ENC. Of Religion and Ethics, Vol I.
literatvres of Egypt, Palestine and Meso
X.ll-XIX.
Rest and Noldeke: wekere den gutten namen El in Monets berichte der K. Akadimie der wissenschaft ZU Belin, 1880.
Ryckmans: Le, Noms prepers sud semitiques 3 vol lauvain 1934-1936.
Ryckmans: le Reiligions Arabes pre-Islamiques, 2nd ed louvian.
Sandars (N. K): The Epic of Gilgamesh, Benguin Books.
Smith (W. R): lectures on the Religion of the semites, 3rd, ed London, 1927.
Stade (B): lerbuch der hebvais chen greammatik, libzig 1979.
Stareky (L): Paimigreniens, nabateens, et Arebes, du nord, a vont Islam dans Histoire de Religiens, 4 (Pubilesaus la direction, de Maurice Brillant-et Rene Algrian) Tohrin 1956.
Trail and Errot the Autobiography of chaim Weizmann harper and bros New York 1948.
Wats (Allan): Myth and Relation Christianity.
Wellhawasen (J): Die bibllisc Atertu Mer calw stuttgaet.
Wellhawsen: Reste Arabichene Heiden Tumbs 2nd Berlin and Libzig.
Zayed (Abd-El-Hamid): ABYOOS General Organisation for Government priting offices Cairo, 1963.
Unknown page