Urjanun Jadid
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
Genres
2
ولا يبقى ثمة إلا أمل واحد للخلاص: وهو أن نبدأ العمل العقلي كله من جديد، ولا نترك العقل لحاله وطبيعته منذ البداية، بل نرشده في كل خطوة، وننفذ العمل كما لو كان يتم بمساعدة آليات ميكانيكية، فلو أن الناس في الأمور الميكانيكية شرعوا في العمل بأيديهم وحدها دون قوة الأدوات وعونها، مثلما يفعلون بلا تردد في الأمور الفكرية؛ إذ يركنون إلى أفهامهم وحدها، لما استطاعوا أن ينجزوا شيئا مهما بذلوا من جهد ومهما تآزروا فيه، وأود أن نتوقف لحظة عند هذا المثال لنتأمل كما لو أننا ننظر في مرآة، ولنسأل : لو أن هناك مسلة هائلة الجرم دعت الحاجة إلى نقلها (لتزيين احتفال نصر أو أي أبهة من هذا القبيل)، وأن على الناس أن تشرع في العمل بأيديها العارية، ألن يراهم أي مشاهد واع مجرد مجانين؟ ولو أنهم لجئوا إلى استدعاء مزيد من الأفراد عساهم أن يقدروا على ذلك، ألن يراهم المشاهد أكثر جنونا؟ فإذا ما راحوا عندئذ ينتقون فيستغنون عن الأيدي الأضعف ويقصرون العمل على الأقوياء الأشداء، ألن يراهم المشاهد غارقين في الجنون؟ وأخيرا، إذا لم يقنعوا بذلك فقرروا الاستعانة بفن الرياضة، واشترطوا أن يأتي كل رجالهم بأيد وأذرع وعضلات مدهونة بالزيت ومدلكة وفقا لأصول فن الرياضة، ألن يصيح المشاهد متعجبا مما يتجشمونه من أجل أن يضفوا رشدا ومنهجا على الجنون؟ غير أن هذا بالضبط هو حال الذين يمضون في أمر الفكر - بنفس الصنف من الجهد المجنون والتآزر العابث - حين يأملون خيرا من العدد ومن الإجماع أو من نبوغ الأفراد وحدة ذكائهم، وحين يحاولون باستخدام المنطق (الذي هو بمثابة نوع من الفن الرياضي) تقوية عضلات الفهم، ولكن بالرغم من كل هذه الدراسة وكل هذا الجهد، فمن البين لكل ذي نظر أنهم لا يستخدمون إلا الذهن الغفل طوال الوقت، غير أن كل عمل يدوي عظيم يستحيل أداؤه بدون أدوات ومعدات، سواء لزيادة قوة كل فرد أو لتوحيد قوى الأفراد.
بعد هذه المقدمات الضافية أخلص إلى نقطتين أود أن أوجه إليهما عناية الناس فلا يغفل عنهما أحد؛ الأولى: إنه من حسن الطالع فيما أرى، والذي يزيل النقمة والامتعاض، أنني لا أمس الوقار الواجب للقدماء ولا أنتقص منه، فيما أبسط تصوراتي وفيما يسعني في الوقت نفسه أن أحصد ثمار تواضعي؛ ذلك أنني إذا قلت إن لدي شيئا أفضل مما يقدمه القدماء بينما أنا أتخذ نفس الطريق الذي اتخذوه، فمعنى ذلك أن هناك مجالا للمقارنة والمنافسة بيننا، لا مفر بأي تفنن لفظي من الإقرار به، من حيث النبوغ والذكاء، ورغم أن هذا ليس أمرا جديدا أو غير جائز (إذ لو كان ثمة أي شيء أساءوا فهمه أو أخطئوا وضعه، فما الذي يمنعني، إذ أستخدم الحرية المتاحة للجميع، من أن أنتقدهم وأبين خطأهم؟) إلا أن المنافسة، على عدالتها وجوازها، ستكون غير متكافئة نظرا لقدراتي المحدودة، ولكن ما دام هدفي هو فتح طريق جديد للفهم لم يطرقوه ولم يعرفوه، فإن الأمر يختلف: فلا تحزب في الأمر ولا منافسة، وما أنا إلا دليل يشير إلى الطريق، وهو مركز ضئيل النفوذ ويعتمد على نوع من الحظ أكثر مما يعتمد على القدرة أو النبوغ، هذه النقطة تتعلق بالأشخاص، أما النقطة الأخرى التي أود أن أذكر الناس بها فتتعلق بالموضوع نفسه.
فليكن هناك إذن مصدران للمعرفة وسبيلان لنشرها (ربما لمصلحة الاثنين)، وليكن هناك بنفس الطريقة عشيرتان أو فصيلان من طلاب الفلسفة - فصيلان غير متعاديين أو مغتربين الواحد عن الآخر، بل مرتبطان بروابط التعاون المتبادل - ليكن هناك باختصار منهج لتنمية المعرفة وآخر لاكتشافها، أما بالنسبة لأولئك الذين يفضلون المنهج الأول، سواء بدافع العجلة أو لدواعي العيش، أو بسبب قصور قدرتهم العقلية عن استيعاب المنهج الآخر والتمكن منه (وهو بالضرورة حال الأغلبية العظمى)، فأنا أتمنى لهم النجاح فيما يصبون إليه. أما إذا كان هناك من لا يقنع بالركون إلى استخدام المعرفة التي تم اكتشافها بالفعل، ويأملون في مزيد من الاختراق لكي يقهروا خصما في جدل، بل لكي يقهروا الطبيعة في عمل، وباختصار لا لكي يقدموا آراء مدبجة وجيهة، بل لكي يعرفوا معرفة يقينية برهانية، فلينضموا إلي كأبناء حقيقيين للمعرفة، حتى نعبر الأفنية الخارجية للطبيعة، تلك التي وطئتها الحشود، فنفتح منفذا في النهاية إلى غرفها الداخلية، ولكي أوضح ما أعنيه وأقربه إلى الأفهام بإعطائه اسما، فقد رأيت أن أسمي أحدهما «استباق العقل»
anticipation of the mind ، والآخر «تفسير الطبيعة»
interpretation of nature .
يبقى لدي طلب ينبغي أن أتقدم به، لقد حرصت من جانبي كل الحرص على أن تأتي اقتراحاتي التي سوف أعرضها لا صائبة فحسب بل واضحة سهلة الولوج إلى عقول الناس (تلك التي تم استهواؤها وتعويقها على نحو عجيب)، غير أني لا أشق على الناس (وبخاصة في مثل هذا التجديد الكبير للمعرفة والعلوم) إذ أسألهم فضلا من جانبهم في المقابل: أن من يرغب في إبداء رأي أو إصدار حكم بخصوص أفكاري في هذا العمل، سواء من خلال ملاحظاته الخاصة، أو من خلال حشد من الثقات، أو خلال صور البرهان (التي اكتسبت اليوم سلطة القوانين القضائية)، فلا يحسبن أن بوسعه أن يفعل ذلك بلا تدقيق، أو وهو بصدد شيء آخر، إنما عليه أن ينظر في الأمر مليا، عليه هو نفسه أن يجرب الطريق الذي أصفه وأعبده، عليه أن يتمرس بدقة الطبيعة التي تبينها الخبرة، عليه أخيرا أن يصحح، بتؤدة ومهل، العادات الفاسدة والمتجذرة للعقل، وعندئذ فقط فليستخدم (إذا شاء) حكمه الخاص، وقد شرع في أن يكون سيد نفسه.
فرنسيس بيكون
الكتاب الأول
شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان1
Unknown page