Urjanun Jadid
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
Genres
بصراحة وحكمة أن خبرات الطب تم اكتشافها أولا، ثم بنى الناس عليها فلسفاتهم بعد ذلك وسعوا في التماس العلل وتحديدها، ولم يحدث الأمر في الاتجاه العكسي: أي لم تكتشف الخبرات بواسطة الفلسفة وتستمد منها ومن معرفة العلل، لا عجب إذن في أن المصريين (الذين أسبغوا قداسة وألوهة على أصحاب الابتكارات الجديدة) كانت لديهم صور للحيوانات أكثر مما للبشر، وتفسير ذلك أن الحيوانات اجترحت الكثير من الكشوف بغريزتها الطبيعية، في حين لم يقدم البشر شيئا يذكر من خلال الجدل والاستنباط العقلي.
صحيح أن صناعة الخيميائيين قد أثمرت بضع نتائج، ولكن ذلك حدث بالمصادفة وبشكل عابر، أو من خلال تنويع تجاربهم (كما يفعل الميكانيكيون أيضا)، وليس على أساس فن مقرر أو نظرية، فالنظريات التي تخيلوها تربك التجارب أكثر مما تعينها. كذلك حال أولئك الذين انشغلوا بالسحر الطبيعي كما يسمونه، فلم يقدموا إلا نتاجا هزيلا وأقرب إلى الدجل؛ لذا فمثلما نتعلم في الدين أن نظهر إيماننا في أعمالنا فإن المبدأ نفسه ينسحب على الفلسفة، فنحكم عليها من خلال ثمارها، فإذا كانت الفلسفة عقيمة بلا نتاج فهي عبث لا نفع فيه، وهي بعد أكثر عبثا إذا كانت بدلا من ثمار العنب والزيتون تثمر قتادا وأشواكا من الجدل والمماحكة. ••• (74) ثمة علامات أخرى ينبغي أن تستفاد من تنامي وتقدم فلسفات وعلوم معينة، فتلك التي تتأسس على الطبيعة تنمو وتزداد، أما التي تقوم على الرأي فتتغير ولكنها لا تنمو؛ ولذا فلو أن هذه الفلسفات التي ذكرناها بعيدة الشبه عن نبات مقتلع من جذوره، بل متصلة دوما برحم الطبيعة آخذة غذاءها منه لما كان بالإمكان أن يحدث ما رأيناه الآن لألفين من السنوات: لألفين من السنوات والعلوم واقفة حيث هي وباقية كما هي دون تقدم ملحوظ، بل إنها بالعكس تعيش ذروة ازدهارها في ظل مؤسسها الأول ثم لا تلبث أن تنحط من بعده، بينما نرى أن العكس هو ما يحدث في حالة الفنون الميكانيكية التي تتأسس على الطبيعة وفي ضوء التجربة، فهي ما دامت رائجة فهي في ازدهار ونمو مستمر كأنها ممتلئة بنفس الحياة، تبدأ فجة ثم تصير ملائمة ثم فاخرة، وعلى الدوام في تقدم. ••• (75) ثمة - بعد - علامة أخرى يجب أن نلحظها (إن جاز تسميتها علامة، إذ إنها بالأحرى شهادة، بل هي حقا أقوى شهادة): وهي الاعتراف الفعلي للكتاب أنفسهم الذين يتبعهم الناس اليوم، فحتى هؤلاء الذين يفرضون حكمهم على الأشياء بثقة كبيرة، ما يزالون من وقت لآخر عندما يردون إلى القصد، يعمدون إلى الشكوى من ألغاز الطبيعة وغموض الأشياء وضعف الفهم البشري، فلو أنهم اقتصروا على هذا فقد يكون رادعا لغيرهم من ذوي المزاج الهياب عن المضي في البحث، وحافزا لذوي العقول الأكثر حدة وثقة إلى مزيد من التقدم، غير أنهم لا يكتفون بمناجاة أنفسهم، بل يعتبرون كل شيء لم يعرفوه ولم يلمسوه بأنفسهم - هم أو معلموهم - كشيء وراء حدود الإمكان، ويعلنون - من موقع السلطة في فنهم - أنه من المحال أن يعرف أو يعمل، ومن ثم فإنهم بكل غطرسة يحولون ضعف كشوفهم إلى افتراء على الطبيعة وتثبيط لغيرهم من الخلق. هكذا نشأت الأكاديمية الجديدة التي اعتنقت مذهب الشك وحكمت على البشر بالظلام الأبدي، وهكذا نشأ الرأي القائل بأن «الصور»
forms
أو الفروق الحقيقية بين الأشياء (التي هي في الحقيقة قوانين الفعل الخالص) مستحيلة الكشف ودون منال الإنسان، وهكذا نشأت الآراء الخاصة بالجانب النشط والعملي من العلم: أن حرارة الشمس وحرارة النار هما صنفان من الحرارة مختلفان تماما، فلا يطمعن أحد في أن يستخلص أو يكون - من خلال إعمال النار - شيئا ما شبيها بالأشياء الموجودة في الطبيعة، وهكذا نشأ الرأي القائل بأن التركيب
composition
فقط بوسع الإنسان، أما المزج
mixture
فهو فعل الطبيعة وحدها، فلا يطمعن أحد من طريق الفن أن يخلق أو يحول أجساما طبيعية، هكذا سوف يتسنى للناس أن يروا في هذه العلامة ما يزعهم أن يرهنوا مصائرهم وجهودهم بعقائد ليست يائسة فحسب، بل مكرسة لليأس. ••• (76) وهاك علامة أخرى لا ينبغي إغفالها: أنه كان هناك خلافات كثيرة جدا بين الفلاسفة وتباين بين المدارس، الأمر الذي يظهر - بوضوح - أن الطريق من الحواس إلى الفكر لم يكن ممهدا بشكل جيد ما دام الأساس الفلسفي الواحد (أي طبيعة الأشياء) قد تمزق وتشظى إلى أخطاء شديدة الاختلاف والتشعب، ورغم أن الاختلافات والتباينات حول المبادئ الأولى والمنظومات الفلسفية الكلية قد انتهت تقريبا في زمننا الحالي،
50
فما زالت هناك أسئلة وخلافات لا تحصى حول الأجزاء الفرعية للفلسفة، مما يدل على أنه لا يوجد أي شيء مؤكد أو صحيح لا في المنظومات نفسها ولا في طرائق البرهان. ••• (77) نعرض الآن للرأي الشائع القائل بأن هناك شبه إجماع على فلسفة أرسطو، حيث إنه عقب ذيوعها توارت الفلسفات الأقدم وطواها النسيان، ثم لم يكتشف في الأزمنة اللاحقة شيء أفضل منها، ومن ثم بات مؤكدا ومقررا أنها بسطت ظلها على العصرين معا، ردا على ذلك أقول: أولا: إن القول بأن الفلسفات القديمة انتهت عقب صدور فلسفة أرسطو هو قول خاطئ، فقد عاشت أعمال الفلاسفة القديمة طويلا بعد ذلك، وظلت قائمة حتى زمن شيشرون والقرون التالية له، الخطب أنه في زمن لاحق، عندما تحطمت سفينة المعرفة البشرية - إن صح التعبير - إثر طوفان البرابرة الذي غمر الإمبراطورية الرومانية، هنالك كانت فلسفة أرسطو وأفلاطون أشبه بألواح أخف وزنا وأقل صلابة، فظلت طافية فوق أمواج الزمن وكتبت لها النجاة، ثانيا: مسألة الإجماع هي أيضا خادعة ولا تصمد للتمحيص، فالإجماع الحقيقي هو ذلك الذي ينطلق من أحكام حرة تلتقي جميعا - بعد فحص المسألة - في نقطة واحدة، ولكن الغالبية العظمى من الذين قبلوا فلسفة أرسطو قد ارتهنوا أنفسهم لها من خلال الحكم المسبق وسلطة الآخرين، الأمر إذن أقرب إلى الاتباع والتحزب منه إلى الاتفاق، وحتى لو كان اتفاقا حقيقيا وعريضا فمن الخطأ الذريع أن نعده تأييدا صادقا وصلبا، ذلك الاتفاق الذي يتضمن قرينة قوية إلى العكس، فبئس الدليل الإجماع في المسائل الفكرية (باستثناء الأمور الإلهية والسياسية حيث يحق للاقتراع أن يقرر)، فلا شيء أثلج لصدور الطغام من ذلك الذي يفتن الخيال ويوثق العقل في أغلال الآراء الشائعة كما لاحظنا آنفا، وما أجدرنا إذن أن نستعير قول فوشيون
Unknown page