Urjanun Jadid
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
Genres
من هنا تأتي المعرفة التي يمكن أن تسمى «معرفة حسب الطلب»، فالإنسان أميل دائما إلى تصديق ما يفضله، ولذا فهو ينبذ الأمور الصعبة؛ لأنها تجشمه الصبر في البحث، وينبذ الاعتدال لأنه يضيق حدود أمله، وينبذ التعمق في الطبيعة؛ لأنه - أي الإنسان - مرتهن للخرافة، ويرفض نور التجربة؛ لأنه متغطرس مكابر يظن أن العقل لا يليق به أن يهدر وقته في أشياء مبذولة متغيرة، ويرفض كل ما هو غير تقليدي خوفا من رأي العامة، صفوة القول: إن العاطفة تدمغ العقل وتصبغه بطرائق لا حصر لها، وطرائق خفية تند عن الإدراك في بعض الأحيان. ••• (50) غير أن أكبر عائق للفهم البشري على الإطلاق وأكبر زيغ إنما يأتي من بلادة الحواس وقصورها وخداعها، فالأشياء التي تمس الحواس لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرة مهما علا شأنها، هذا ما يجعل التأمل يتوقف في أغلب الأحوال حيثما يتوقف البصر، بحيث لا يؤبه للأشياء غير المرئية، وبذلك يبقى كل فعل الأرواح المكنونة في الأجسام الملموسة
22
خفيا غير ملحوظ من الناس، وخفية بالمثل تلك التغيرات البنيوية
23
الأدق في أجزاء الأشياء الكثيفة (والتي تشيع تسميتها بالتغير ولكنها في حقيقة الأمر حركة جسيمات دقيقة)، ولكن ما لم يتم بحث هذين الأمرين المذكورين وإخراجهما إلى واضحة النهار فلن يمكن تحقيق نتائج ذات قيمة في الطبيعة، وكذلك الطبيعة الجوهرية للهواء المشاع ولجميع الأجسام الأقل كثافة من الهواء (وهي كثيرة جدا) فهي أيضا مجهولة تقريبا؛ ذلك أن الإحساس بحد ذاته كليل وعرضة للخطأ، ولا تفيده كثيرا الأدوات المستخدمة لتوسيعه وشحذه، أما التفسير الأصدق للطبيعة فإنما يتحقق بواسطة الشواهد وبواسطة التجارب المناسبة وذات الصلة، حيث يحكم الحس على التجربة وحدها، بينما تحكم التجربة على الطبيعة والشيء ذاته. ••• (51) الفهم البشري يميل بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرا (ثابتا) وواقعا فيما هو عابر ومتغير، غير أنه أفضل لنا أن نشرح الطبيعة إلى أجزاء من أن نجردها، وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدما أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة، إن المادة - وليست الصور - هي ما ينبغي الالتفات إليه: المادة وبنيتها وتغيرات هذه البنية والفعل المحض
24
وقانون هذا الفعل، أما الصور فما هي إلا وهم العقل البشري، إلا إذا أطلقنا اسم «الصور» على قوانين الفعل. ••• (52) هكذا هي أوهام القبيلة، التي تنشأ إما عن اطراد جبلة الروح البشرية أو عن تحيزاتها أو قصور ملكاتها أو حركتها الدائبة أو عن تأثير الانفعالات أو عن عجز الحواس أو عن شكل انطباعاتها. ••• (53) أما «أوهام الكهف»
idola specus
فتصدر عن الطبيعة الخاصة لعقل كل فرد وجسمه، وعن ثقافته أيضا وعاداته وظروفه، ورغم أن هذه الفئة متنوعة ومركبة إلا أننا سنتناول منها تلك الجوانب الأكبر خطرا وأشد إفسادا لصفاء الفهم. ••• (54) يقع الناس في غرام قطاعات معينة من المعرفة والأفكار، إما لأنهم يظنون أنفسهم مؤلفيها ومبتكريها، وإما لأنهم أنفقوا فيها جهدا كبيرا وصاروا على إلف كبير بها، إذا عمد مثل هؤلاء الناس إلى الفلسفة والتأملات ذات الصبغة الكلية فإنهم يلوون بها ويفسدونها لكي تلائم خيالاتهم المسبقة، ولدينا من أرسطو نموذج واضح لهؤلاء: لقد أخضع فلسفة الطبيعة تماما لمنطقه، فجعل منها شيئا خلافيا ولا خير فيه، ولدينا أيضا جماعة الخيميائيين، فقد شيدوا فلسفة خيالية ضيقة النطاق للغاية، قوامها بضع تجارب في الأتون، وكذلك جلبرت
Gilbert
Unknown page