فقال الرجل مفكرا: سأراها الساعة. ثم بدأ يرطن بلغته مع العجوز فاستوت العجوز حينئذ على حمارها، وقد أبرقت عيناها دهشة، وسار الجميع بخطى واسعة إلى الخيمة والعجوز تتطاول نحوها.
ولكن ما كاد الثلاثة يشرفون على الخيمة ويلقون نظرة إلى داخلها حتى صاحت العجوز صيحة أجفل لها النساء والأولاد الذي كانوا في الخيام القريبة، وهرع الرجل والعجوز نحو الفتاة الأسيرة في الخيمة يقبلانها وتقبلهما باكين جميعا.
فعلم ضرار حينئذ أن هذه الفتاة نسيبة للشيخ والعجوز.
أما القارئ فإنه ولا شك علم أن الفتاة هي أستير والرجل أبوها والعجوز أمها.
أما ضرار فإنه لما علم من الشيخ أبي أستير أن الفتاة ابنته أسقط في يده؛ لأنه كان يطمع نفسه فيها. إلا أنه صار أكثر إكراما للشيخ مما كان قبل علمه بذلك.
وقد قصت أستير على أبيها وأمها كل ما جرى لها، وكيف أنقذها شاب من مزرعة تحت جبل الزيتون، ثم فرت منها فأسرها العرب على طريق بيت لحم. إلا أنها لم تذكر لها شيئا مما حدث لها مع إيليا، وقد غصت بدمعها مرارا وهي تحكي لهما قصتها من ذكرى ذلك الشاب الكريم الذي فارقته رغما عنها.
ومنذ هذا الحين أصبحت أستير طليقة في حي العرب مع أبيها وأمها.
وكان أول شيء فكرت فيه أستير بعد إطلاق سراحها إنقاذ أرميا الذي أحسن معاملتها وأسر معها. فسأل أبوها ضرارا عنه فأخبره أنه أسير عند رجل من البادية لم يقدر أحد غيره على كبح جماحه. فسارت أستير مع أبيها وضرار إلى خيمة الرجل. فلما أطلوا عليها أبصروا في إحدى زواياها رجلا مطروحا كالجذع الممدود وهو موثق اليدين والرجلين بحبال ثخينة. فلما سمع هذا الرجل صوت حركة وراء الخيمة انتفض انتفاضا شديدا، وأخذ يصيح ملء فيه - يا قتلة الأنبياء وآسري المرسلين. أهكذا تصنعون بي؟ كفى الأرض ما فيها من الظلم فلا تزيدوا ظلما جديدا فيها. أتظنون أنها تفتح لكم بالاضطهاد والأسر والقسوة. لا لا. فإنكم إذا لم تعدلوا لم تسودوا، وإذا كانت هذه فاتحة أعمالكم فخاتمتها بلاء وعذاب. تأسرون الأنبياء وتطرحونهم على الأرض كالكلاب. تأسرون الفتيات الضعيفات وتسيئون إليهن. أخذوها أخذوها، وحرموني إياها. إيليا إيليا. أظن هذا عقابا لي لأنني خنتك، وهذه عاقبة الخائن دائما، وأنتم أيضا تخونونني فستكون عاقبتكم كذلك.
ولما ترجم الشيخ أبو أستير لضرار هذا الكلام ضحك منه حتى استلقى؛ لأنه علم من أستير وأبيها أن الرجل معتوه. ثم دخل وحده على أرميا. فلما رآه أرميا هاج كالجمل الثائر وصاح: أنت كبيرهم. أنت ظالمهم. أين الفتاة؟ أما تخافون الله ويوم الحساب؟
فدنا حينئذ ضرار منه وفي يده سيفه، فلما رأى أرميا السيف قامت قيامته، وصار يعوي عواء الكلاب والذئاب خوفا من القتل. فعلم ضرار خطأه، فدعا الشيخ أبا أستير فدخل وحده. فقال الشيخ لأرميا بعد أن أسكته إن ضرارا لا يقصد إلا قطع وثاقه بالسيف. فلم يطمئن أرميا بل عاد العواء والصراخ، وصار يدفع ضرارا رفسا برجليه وبصقا بفيه كأنه حسب البصاق حجارة مقلاع تدفع عنه، وكان ضرار في أثناء ذلك يضحك ضحكا شديدا. فلما رأى الشيخ خوف أرميا من ضرار أخذ السيف بيده ودنا من أرميا فعاد أرميا إلى العواء والصراخ والرفس والبصق . فيظهر أن أستير علمت وهي تراقب هذا المشهد من خارج الخيمة أنه لا يحل هذه المشكلة غيرها فدخلت باسمة تختال بحلل الجمال والدلال.
Unknown page