ولذلك كان الشيخ سليمان كلما شاهد إيليا بحالة التأمل والانقباض بعد نشاطه السابق يقول مع باقي أهل المزرعة: ماذا أصاب صديقنا إيليا.
وا أسفاه إن إيليا كان مريضا مرضا روحيا. إن إيليا كان ينقصه الزحام والعراك في الحياة؛ لتتنبه همته بالمقاومة، وتشتغل بتنازع البقاء والحركة إلى العلاء بدل الاشتغال في نفسها بنفسها. إن إيليا كان ينقصه الغذاء القلبي الذي يريه محاسن الحياة ويزينها له. كان ينقصه ابتسامات كابتسامات الفتاة اليهودية التي رآها على طريق يافا منذ سنوات، وكانت صورتها تتردد عليه في أحلامه المضطربة. •••
هذا هو تاريخ حياة إيليا قبل أن عرفناه، وهكذا كانت حالة نفسه لما لقيناه في بيت لحم ليلة أمس. فلنعد الآن إليه بعد مفارقته أرميا وتيوفانا أمام دير العذراء.
الفصل التاسع
عقل الشيخ ينبه ضمير الشاب
عود إلى أستير
وانحدر إيليا من أمام دير العذراء نحو المزرعة، وهو يتفكر بثلاثة أمور: الأول: حصر العرب مدينة القدس، والثاني : سجن أستير في الدير، والثالث: ما وجده من رقة البطريرك وعقله خلافا لما كان يعتقده.
ولا ريب أن إيليا كان شديد الاهتمام بحصر العرب مدينة القدس، ولكنه كان قد ألف انكسارات قومه أمام جيوشهم، وكعارف للداء الذي كان يودي بالمملكة لم يكن يدهش منه كثيرا فضلا عن أن تعدد حروب الفرس قبل ذلك عود الناس اعتبار الحرب أمرا مألوفا فيوم معهم ويوم عليهم، ولذلك كان كل اشتغال إيليا بحبيبته أستير المسجونة التي جاءته وهو في ضجر من الحياة لتلقي في نفسه شيئا من شعاع الأمل والسرور.
ولما وصل إيليا إلى المزرعة هرعت إليه كلابها تهز أذنابها، وكانت المزرعة منبسطة في سفح الجبل بين آكام وسهول على مسافة عدة أميال، وكان فيها الكرمة والتين والزيتون والحبوب والبقول المختلفة، ويظهر لكل من تأمل الأرض الجبلية القاحلة الجافة في النواحي أن صاحب المزرعة قد أتى ضروب المعجزات؛ ليجعل تلك الأرض صالحة للزراعة.
وكان أهل المزرعة في ذلك اليوم في زينة وابتهاج؛ لأنه يوم عيد الميلاد كما تقدم، فحيا إيليا الذين وجدهم في طريقه منهم، وعايدهم، ثم دخل.
Unknown page