[90_2]
وأسر القلوب أسلوبه، ومما خرج عن قانون الفطرة في كل ما خطه بنانه، وقذف به جنابه، ليس في كلامه مقال لعائب، ولا في إطنابه واقتضابه مطعن لطاعن، أثر بإبداعه في النفوس بما كتب، لأن الناس في حاجة إلى مثل كلامه، لا يستغنون عن الأخذ به، ولأنه أتاهم بما تدركه عقولهم من أيسر سبيل؛ والأمور تعظم في النفوس بقدر وقعها فيها، وشدة حاجتها إليها.
أثرت الثقافة الفارسية فيما كتب ابن المقفع أي تأثير، وقد أخذ منها ما لا تأباه السليقة العربية وأدمجه فيها؛ وربما كان حظه من التربية البيتية الأهلية أقل من حظه من الثقافة الفرعية، وفرعه على كل حال أعظم من أصله: فرعه اصطنعه بيده ورباه على أيدي عظماء، وأصله أورثته إياه بيئته وبيته؛ أتى من قديمه بالقدر الذي لا يمكن أن يتخلص منه من كان في مثل شأنه، وحمل إلى جديده أشياء فيها مسحة منقطعة القرين؛ وراعى في إبراز طريفه حالة من يكتب لهم، في زمن كانت البلاغة أقصى ما يتطال إليه الكاتب والمفكر والمصنف. وما كان لنقاد كلامه أن يحسنوه لو لم يجدوا فيه آثار إحسان، وكان من السهل عليهم أن يزيفوه لو بدا لهم فيه مغمز.
والغالب أن الناحية الضعيفة في ابن المقفع كانت فيه تخلفه في علم الكلام، أي التوحيد؛ قال الجاحظ فيه انه كان يتعاطاه ولا يحسن منه قليلا ولا كثيرا. واعترف له مع ذلك بأنه كان ضابطا لحكايات المقالات؛ قال: ولا يعرف من أين غر المغتر، ولا وثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين، فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المخل في مواطن الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصتفين من العلم، فيظن بنفسه عند ذلك، أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به.
Page 90