ويسقط جسده مرتخيا فوق الأرض، يتمدد بكل قدرته على التمدد، وتجري من تحته ذيول رفيعة من الدم، تدخل شقوق الأرض وفوق الجدران بقع سوداء كالدم، كل بقعة على شكل خمسة أصابع وكف، ملايين البقع، من كل عمر ومن كل جنس، أطفال ورجال ونساء وعجائز بيض وسود وصفر وحمر، ولكل واحد بقعة مميزة خاصة به.
نهض حميدو يستند على الجدار، وطبع بصمته فوق الأسمنت كالختم (المحكوم عليهم جميعا أمثال حميدو يختمون على محاضر البوليس بهذا الشكل) وتمتد الأصابع السوداء الملوثة بالدم تطبع ختمها فوق المحاضر، ملايين المحاضر بعضها فوق البعض، متكدسة كأجساد الموتى في يوم الحشر (قبل اكتشاف الأتوبيس) أجساد مرصوصة في خطوط أفقية مصفوفة في وضع عكسي، الرأس بجوار المؤخرة، والمؤخرة بجوار الرأس، متراصة في كل شبر من الأرض أو السقف، متلاصقة بغير مسافات ولا مساحات خالية تسمح بمرور الهواء أو امتداد الساق أو الذراع.
أغمض حميدو عينيه وفتح فمه وتأوه، تبعه الآخرون بصوت مماثل، ارتفعت ملايين الأصوات في الفضاء المظلم وصنعت صمت الليل، ضغط الصمت بكثافته وثقله على أذنيه ففتح عينيه ورأى في وجهه القدمين المشققتين، عرفهما على الفور وهمس بصوت مقلدا صوتها: حميدة، لكنها لم ترد، كانت ميتة، جسدها ممدود فوق الأرض، ووجهها ناحية السماء، يسقط عليه ضوء القمر الأبيض، فيبدو مستديرا متورما كالمثانة المنتفخة.
فتحت فمها وتأوهت (بسبب ضغط البول)، ارتفعت ملايين التأوهات في الفجر وصنعت النشيج الوطني (كانوا يسمونه النشيد الوطني).
سمع حميدو النشيد فأدرك أن النهار طلع، جر ساقيه من تحت الحزام الحديدي وسار إلى دورة المياه، المكان الوحيد من العالم حيث يشعر بالتفاؤل، ويتبادل من وراء الحائط بضع كلمات، وينبعث من نصفه الأسفل خيط البول، رفيعا ومقوسا كقامته، ونفاذ الرائحة كرائحته، فيشعر بمرح مفاجئ، ويرمق من حوله خيوط الماء الصفراء تلمع في الضوء كأقواس النصر فيضحك مقهقها.
ترتفع القهقهات من دورة المياه، قهقهات عالية، ملايين القهقهات، فالأعداد تتزايد يوما بعد يوم، وكل الأجهزة يمكن أن تتعطل في ذلك الوقت إلا الأجهزة التناسلية والأجهزة اللاسلكية بطبيعة الحال.
ويسري الصوت كما يسري أي صوت وبالسرعة نفسها (عن طريق أحد الأجهزة)، ويدخل الأذنين الكبيرتين كالحصاة المدببة، ويرتفع الأصبع النظيف ذو الظفر المشذب ويسلك الأذنين، وتسقط الحصاة المدببة في كفه السمينة المكتظة باللحم، فيرفع عينيه في عيني الموظف المختص ويقول: أيضحكون؟
يخفض الموظف عينيه - كعادة الموظفين - في حضرة سيده: لا يا مولاي، يبولون فحسب.
حميدو كان لا يزال واقفا في دورة المياه، وخيط الماء لم ينقطع بعد، حين رأى الموظف مقبلا يفتش، شعر بالخوف، والخوف كالموت كائن عضوي من لحم ودم، سحب الدم من رأسه وذراعيه وساقيه وأحشائه الداخلية، وتجمع في نقطة واحدة أسفل البطن، انتفخت وتمددت كالمثانة، وكان الموظف لا زال واقفا أمامه، فاتحا ساقيه في غطرسة، شاخصا في عينيه بشجاعة الموظفين في غيبة سيده، وفمه مفتوح، ولثته متقرحة مصابة بالبيوريا (كلثة سيده).
وشعر بألم حاد أسفل بطنه، وتلفت حوله، كانوا يضيقون الخناق عليه، والأجساد تضغط عليه من كل جانب، بغير مسافة أو مساحة خالية، ولم يجد مكانا خاليا سوى الفم المفتوح المتقرح، فصوب نحوه شريط الماء، وأفرغ الخوف كله من جسده.
Unknown page