وادعى أوديسيوس أنه يخشى أن يجوز وسط الأمراء مرة أخرى، وفضل أن يلقى الملكة فيتحدث إليها إذا جن الليل بجانب المدفأ، ووافقت الملكة وصوبت رأي الرجل، وكان الوقت أصيلا فقصد الراعي إلى تليماك واستأذنه في الانصراف إلى حظائره، فأذن له ولكن بعد أن أمره بالتزود لعشائه، ففعل يومايوس ثم مضى ليسهر على خنازيره.
أوديسيوس يتشاجر مع شحاذ
وبينما كان أوديسيوس جالسا يزرد طعامه، إذا شحاذ ضخم الجسم شائه المنظر يدخل فجأة، فيلتفت إليه جمهور العشاق، ويعرفون فيه الفقير إيروس، المشهور بنهمه الذي لا يوصف، وبإقباله الشديد على أردأ ألوان الشراب، وكانت له عليهم دالة، وليس في الجزيرة كلها من يجهله. فلما لمح أوديسيوس جالسا يتبلغ بلقماته، نظر إليه نظرات المغيظ المحنق وقال له: «انصرف عن الباب أيها العجوز القذر وإلا جررتك من عقبيك، ولو أنني أترفع عن مقارعة أمثالك!» وحدجه أوديسيوس وقال: «أيها الصديق، إني ما آذيتك، وإن في المكان متسعا لكلينا، أرجو ألا تثيرني أكثر مما فعلت وإلا فلا يغرنك هرمي وتقدم سني؛ فتالله لأرينك كيف أضربك ضربا تقول منه الهامة: اسقوني. اجنح للسلم هو خير لك وأصغ إلى نصحي وإلا فلن تدخل قصر أوديسيوس بعد اليوم.» وغيظ الشحاذ إيروس وقال: «اسمعوا ماذا يهرف هذا الشره المخرف، ألا ما شبه بزوجة حمقاء تثرثر أمام كانون، تالله ليخيل إلي أن أنقض عليه فأنفض ثناياه، هلم أيها الرجل استعد للقاء، وليشهد السادة كيف أمثل بك؟» وقهقه أنطونيوس وقال: «أيها الأصدقاء، اشهدوا أن إيروس يتحدى هذا الفقير، والفقير بدوره يتحداه فهلم نجعل حولهما حلقة لنرى هذا العراك المضحك.» وسكت أنطونيوس وقال: «اسمعا إذن، ها هنا كعكات ليس أجود منها، وإنها خالصة لمن يتفوق منكما على قرنه، ولمن فاز أجر عندنا عظيم؛ إنه سيجلس معنا في جميع ولائمنا منذ غد، ولن ندع أحدا من الشحاذين يضايقنا بعد هذا اليوم.» وتخابث أوديسيوس وقال: «يا سادة، من الظلم أن يتبارى رجل عجوز ضعيف مثلي مع هذا الهولة، ولكن الجوع يدفعني إلى البطش به مع ذاك، بيد أن لي رجاء ألا يساعده أحد علي فيلكمني مثلا أو يلكزني حينما أكون مشغولا به.» فقاسموه ألا يفعلوا، وتقدم تليماك ابنه فقال: «أيها الرجل، إذا وسعك أن تناضل هذا الزميل فلا تخش من هؤلاء رهقا ؛ إني مضيفك وليس أحب إلى أنطونيوس ويوريماخوس من أن يشهدا هذا اللقاء الفذ بينكما.» ثم إن أوديسيوس شمر عن ساعديه وفخذيه، وكشف قليلا عن صدره؛ عامدا ليظهر الأمراء على عضله المكتنز وقوته الخارقة، وقد صدق حدسه؛ فقد بهت العشاق ونظر بعضهم إلى بعض يقولون: «وا عجبا أي عضل وأي ساعدين وفخذين يخفي هذا الرجل تحت أسماله ومزقه البالية؟ مسكين إيروس ماذا يبقى منه بعد هذا اللقاء؟» أما إيروس فقد انتفض واقشعر بدنه مما عراه من الذعر، ولكن الخدم لم يتركوا له أن يفر من اللقاء الذي دعا هو إليه، بل شمروا له عن ساعديه وفخذيه كما فعل غريمه، ثم جروه إلى الحلقة برغمه، وود أوديسيوس أن يبطش بالرجل فيحطمه بأول لكمة، غير أنه آثر ألا يفعل خشية أن يكتشف العشاق من هو، فلما امتدت الأيدي تصنع الدفاع، وأقبل وأدبر، وكر وفر، ثم أهوى على أذن الرجل بضربة سحقت عظامه وطرحته على الأرض، ولبث المسكين لا يبدي حراكا من هول ما حل به، بيد أن أوديسيوس جره من عقبيه إلى ساحة القصر، ثم عرج به نحو جدار كبير حيث سنده إليه، وجعل في يده عكازه وقال: «البث هنا ولا تغش منازل الملوك بعد، وذد بعصاك الخنازير السائبة، فذلك خير من أن تصيب بها الغرباء أمثالي، فإن عدت إلى مثل حماقتك فلن يصيبك إلا شر مما رأيت!» وتركه وانثنى إلى حيث كان، فوجد العشاق يضحكون حتى كاد يقتلهم الضحك، وهتفوا له ثم قالوا: «حقق الله آمالك، وأنالك أمانيك أيها الغريب اللاجئ، بما خلصتنا من هذا الشحاذ النهم الملحاح.» وسمع أوديسيوس دعاءهم، وابتهل إلى الآلهة أن تستجيب، ثم وضع أنطونيوس بين يديه كعكة كبيرة، وزوده أمفيتوموس بخبز وخمر صبها له في كأس كبير من ذهب، ودعا له بخير، وآنس في أوديسيوس طيبة ودماثة خلق فقال له: «هيه هلم أيها العزيز أمحضك نصيحتي وأحدثك عن تجاربي؛ ألا ما أضعف الإنسان! إنه إذا ما مسه ضر دعا الله فإذا كشف عنه الضر فهو مقتصد ناء بجانبه كأن لم يمسسه ضر! فأنا مثلا لقد كنت في عنفوان صباي أعيث في الأرض مغترا بقوتي وفتوتي حتى أسقط الكبر في يدي ففئت إلى أمر السماء، ولكن بعد أن كتب علي الشقاء، وهكذا أولئك الأمراء الذين غرتهم الأماني وأضلهم جبروتهم، فأقاموا بهذا القصر غارين آمنين، لا يظنون أن له صاحبا قد يفاجئهم بعودته فيستأصل شأفتهم ويذهب بريحهم، وإني والله أيها السيد لأرى أنه عائد ليس من هذا بد، وأنه عائد قريبا، فتقبل أنت نصيحتي ولا تقم معهم، بل انطلق إلى بيتك وأهلك، ولا تستأن حتى يدهمك معهم فيحطمنكم أجمعين.» وشرب أوديسيوس، ودفع الكأس إلى الأمير الشاب الذي بدت عليه أمارات الهم مما قال الرجل، ولكن، وا أسفاه! لقد كتب عليه الشقاء، فلم يصغ لنصيحة أوديسيوس.
وبدا لبنلوب أن تذهب في بعض وصيفاتها فتخطر بين العشاق ليروها، ولترى ماذا يكون، وقبل أن تفعل ألقت عليها مينرفا نعاسا وأمنة، وبدت لها في الرؤيا كأنما تعطيها لهى عجيبة، ثم إن الربة أضفت عليها رواء كرواء الآلهة ونضرتها بنضرة الشباب والجمال فربا جسمها واستطال، وزانته لمعة عاجية وسناء، فلما هبت من نومها مرست عينيها متعجبة، وشدهتها تلك الغفوة الطارئة التي جلبت لها السعادة في دنيا من الهموم، وتمنت لو أراحها الموت من حياة اتصلت أشجانها وباعدت بينها وبين إلفها بمفاوز من الآلام والأحزان، وانطلقت في سرب من وصيفاتها، فأشرفت على العشاق وقد ضربت بخمارها الشف على وجهها المتألق الناصع، فذهل الملأ وزاغت أبصارهم، وأحسوا أن شيئا يخلع قلوبهم، فما منهم إلا من تمنى أن يكون صاحب هذا الجمال الرائع، والحسن الباهر، والفتنة المتقدة، ونهض يوريماخوس فقال يخاطبها: «يا ابنة إيكاروس بوركت، تالله لو رآك كل من في هيلاس لاجتمعت حولك قلوب غيرنا من العاشقين، ولأقبلوا من كل فج فازدحموا حولك ها هنا، في ذلك القصر العتيد.» فقالت بنلوب: «يوريماخوس، تالله لقد ذهب الآلهة بجمالي الذي تصف يوم رحل عني زوجي أوديسيوس فيمن رحل إلى طروادة، وما أنسى لا أنسى ما قال لي وهو قابض على يميني يودعني: «زوجتي، إن أكثر من ترين من هذا الجيش لن يعودوا إلى ديارهم؛ ففي طروادة محاربون صناديد، وملاعبو أسنة لا يشق لهم غبار وذادة ورماة، وإني لا أدري ماذا يكون من أمري هنالك؛ ولذا أكل إليك كل ما أودع ورائي، وإني موصيك أول ما أوصيك بأبي وأمي، فاعني بهما كأحسن ما كنت تعنين وولدهما معك، فإذا شب ولدي وترعرع فلك أن تتركي هذا القصر إن شئت وتتزوجي ممن تختارين من الأكفاء والأنداد.» هذا وإني أرى أن هذا اليوم العصيب قد حان، ولكن وا أسفاه إنكم اجتمعتم هنا لتأكلوا وتشربوا وتعيشوا بكل ما ترك صاحب القصر، وكنت أظنكم تقيمون في منازلكم وترسلون إلي هداياكم؛ لتكبروا عندي ولا تهزل مكانتكم لدي! ألا ساء ما تزرون.»
وتبسم أوديسيوس من قولها، ووثق من إخلاصها، وعجب من شدة ما سحرت ألباب العشاق ومما أخذتهم به من حزم. أما أنطونيوس فقد أجابها بقوله: «أما هدايانا يا ابنة إيكاريوس فلا أحب إلينا من تقديمها إليك، على أننا لن نريم عن هذا القصر حتى تختاري لنفسك بعلا يكون كفؤا لك.» وأيد العشاق ما قال قائلهم، فنهضوا ليحضروا هداياهم، وسرعان ما عادوا يحملونها، وتقدموا بها إلى بنلوب؛ فهذا ثوب ثمين من قاقم موشى بالذهب تزينه اثنا عشر زرارا ذهبيا، وهذا عقد حليت خرزاته بقطع من الكهرمان الحر، وتلك أساور من ذهب وشنوف كثيرة وأقراط.
1
وعادت بنلوب ومن خلفها وصيفاتها يحملن الهدايا واللهى، وأخذ العشاق كدأبهم في القصف واللهو، والعبث والغناء، حتى أقبل الليل، فقدم الندامى بمجامر من نحاس بها وقود يشتعل، وطفقن يلقين فيها من الند والرند والعود ذي العرف، وطفق البخور يعبق في أرجاء البهو الكبير ... وهنا نهض أوديسيوس وتوجه إلى البنات يقول: «أيها العذارى، أولى بكن ثم أولى بكن أن تذهبن إلى سيدتكن فتسلينها وتواسينها، وسأقوم بالنيابة عنكن على هذه النار حتى ينصرف العشاق، ولن يئودني أن أقوم عليها حتى مطلع الفجر، ولن أضيق بجمعهم مهما عبثوا بي، فأنا رجل ذو تجارب.» فتضاحكن به ، وقالت ميلانتو التي هي أجملهن وأقلهن احتشاما تعبث به: «ماذا أصابك الليلة أيهذا النازح الغريب؟ انطلق إلى حداد المدينة فنم في دكانه؛ فهو خير لك من أن تسهر ها هنا وتثرثر! هل غاب صوابك يا شيخ؛ لأنك ظفرت بالشحاذ إيروس؟ اربع عليك؛ فقد تبتليك السماء بمن يبطش بك كما بطشت به ويطردك من هنا.» ورشقها أورديسيوس بعينه وقال: اسكتي يا هناة!
2
والله لأحدثن بنا حدثت الأمير تليماك فليقطعن لسانك وليمزقن جسدك.» وذعر العذارى وولين هاربات، وقام أوديسيوس على النار وجعل يلحظ العشاق وفي قلبه ضرام، وما فتئ يفكر في ألف خطة للانتقام منهم والبطش بهم، ولم تشأ مينرفا أن تنهي هذا الشقاء الذي ضربته على أوديسيوس، بل تركته يستهزئ به العشاق، ويسخر به يوريماخوس فيضحك العشاق إذ يقول: «ما أظن إلا أن الآلهة قد أرسلت إلينا هذا الرجل ليكون حامل مشاعلنا وحامي قبسنا؛ انظروا إلى رأسه النحاسي، أليس يصلح أن يكون مشعلا يضيء لنا؟» ثم التفت إلى أوديسيوس وهو يقول: «إذا استأجرتك لتسوج مزرعة لي بعيدة من هنا وتغرس بها أشجارا، على أن أطعمك وأكسوك وأنقدك مالا فإنك ترضى؟ ولكن لا؛ إني لأظنك تنسرق منها طواعية لغرائزك وخبث جبلتك فتنطلق إلى المدينة لتستجدي وتتكفف.»
ووقف الفياشيون ملوك البحار دهشهن يسأل بعضهم بعضا من الذي أرسى الجبل مكان سفينتهم.
Unknown page