لم يكن بهذه الجهة مرفأ، ولم تكن تجوس خلالها سفن، ولقد ظل أوديسيوس يكافح ويكافح، حتى غم على قلبه، وكاد يتغشاه طائف من الخور بعد أمل وطيد.
وجاشت الوساوس في قلبه، وطفق يحدث نفسه حديث الهلك في هذه اللجة الرجراج، وكان أخوف ما يخشاه أن يدفعه الموج على نتوء الصخر فيحطمه، أو أن تلمحه أمفتريت زوج نبتيون عدوه اللدود إله البحر، فتسلط عليه من وحش الماء ما يلقفه، أو يقذف به إلى أعمق الأعماق، كرة أخرى.
وبينا هو في بحرين من ماء ومن هواجس، إذا موجة هائلة يضطرب بها اليم تدفعه في قوة وعنف إلى الشاطئ ذي النتوء والنؤى، فتكاد تدق عنقه وتذرو عظامه، لولا أن قبض بذراعيه الجبارتين على حافة صخرة بارزة، فظل معلقا ثمة حتى أقبل جبل آخر من موجة البحر، فاحتمله إلى الأعماق كأنه أحد سراطين الماء، وجاهد المسكين ثانية وثالثة حتى تدافع الموج من خلفه، فقذفه في مسيل من مسايل الماء المنتشرة الذي كاد يسلمه بدوره للمحيط؛ مما جعله يضرع لرب النهر ويبتهل، ويدعو من أعماق قلبه ويصلي حتى استجاب الرب الرحيم لصلاته فكسر حدة التيار، وفل من غرب الماء، واستطاع البائس المنهوك أن يصل إلى إحدى العدوتين واهيا متهالكا محطما، فانطرح على الثرى يقبله، ويلهث ويقول: «ويح نفسي! ماذا تبتغين يا آلام؟ لقد أقبل الليل وأنا عيي مصدع، ولا قبل لهذه البقية من حشاشتي بطل العشاة وصقيع الفجر، فلو أنني استطعت أن أتسلق هذا الحدور فألوذ بأجمة من هذه الغابة، ولكن وي أي وحش ضار يغتذي بلحمي ثمة؟»
فلكان وفينوس.
بيد أنه توغل في الجبل حتى أوشك أن يضرب في الغابة، ثم كان بين زيتونتين؛ إحداهما مثمرة والأخرى عقيم، كل منهما لفاء شجراء حتى لا تنفذ الريح بينهما، ولا تنسرق أشعة الشمس خلالهما، ولا الماء بواصل إلى من استذرى بهما.
هنا، وجد أوديسيوس مأمنه، فراح يمهد الأرض ويلملم ما استطاع من قش ويحتطب، حتى صنع لنفسه منامة تكفي اثنين غيره من الضاربين المشردين في الأرض، ودعم حفافيها بفروع الشجر، ثم أسلم عينيه لنوم هادئ عميق، سكبته مينرفا في مقلتيه.
فلله ما كان أروعه غارا في هذا السفط من القش كشعلة من زيتونة لا شرقية ولا غربية، يعتز بها ريفي شاب في قرار مكين.
16 •••
نام أوديسيوس منهوك القوى.
وذهبت مينرفا تدبر له أمرا في شيريا ، بلد السلالة ذوي المجد من أبناء فياشيا - ملوك البحر الذين فروا من وجه جيرانهم الجبابرة السيلكوبس - في العصر الخالي ونزلوا بهذا البلد فشادوا حصونه، وأقاموا أسواره، وتوزعوا أرضه المخصبة، وسكنوا الدور والقصور، وأنشئوا المعابد للآلهة عرفانا وشكرانا.
Unknown page