Udaba Carab Fi Jahiliyya Wa Sadr Islam
أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام
Genres
53
وأما بدء النهضة فما يمكن الرجوع به إلى تاريخ معروف لضياع الآثار التي وجدت قبل الشطر الأخير من القرن الخامس. ولكن الرواة يتفقون على أن عهد المهلهل وامرئ القيس هو عهد ازدهار الشعر، وظهور القصائد الطويلة، واستقرار الأسلوب التقليدي. ويعود المؤرخون من أهل عصرنا بالنهضة إلى الحروب التي حدثت، فيرى المستشرق نيكلسون أن فجر العصر الذهبي للشعر هو السنوات العشر الأولى من القرن السادس، بعد اشتداد حرب البسوس، واهتمام الشعراء بذكر أيامها!
54
ويعود جرجي زيدان إلى أبعد من ذلك، إلى استقلال عرب الحجاز عن اليمن في أواخر القرن الخامس وما تلاه من حروب وغزوات كحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، وعام الفيل، وحرب الفجار.
55
ولا ريب أن الحروب لها أثر بليغ في إذكاء القرائح، وعلى الأخص بعد انطفاء جذوتها، وسكون النفوس المضطربة؛ إذ لا يأتي عمل فني محكم، والنفس جائشة لا قرار لها. فإذا اطمأنت الخواطر ظهر الشعر فخرا ومنافسة ووصفا للمعارك يتغنى به المنتصرون، وندبا ورثاء للسادة المقتولين، وحضا على الأخذ بالثأر، تنوح به النادبات ويترنم الموتورون.
وكانت حروب العرب كثيرة، وأشدها دفعا لقول الشعر أعظمها وقعا في القبائل، كالحروب التي ذكرها زيدان وجعلها من أسباب النهضة؛ وكذلك مقتل عمرو بن هند وما أعقب من وقائع بين تغلب والمناذرة؛ ومقتل النعمان بن المنذر وما كان بعده من حرب ذي قار بين الفرس والعرب، ثم حروب الأوس والخزرج. فهذه المعارك - على اختلاف القبائل التي صلت نارها - أورثتنا شعرا غزيرا كان خير مستند لدرس الحياة البدوية قبل الإسلام، وذكر ابن سلام تأثير الحروب في نظم الشعر فقال: «والذي قلل شعر قريش أنهم لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا.»
56
على أن أسباب النهضة لم تقتصر على الحروب. فهناك هجرة اليمنيين واختلاطهم بالعدنانيين، فهذا الاختلاط في السكنى والزواج أحدث - ولا بد - تفاعلا في الأذهان، وولد منافسات حزبية لا نهاية لها، وكذلك الأسواق - وعلى رأسها عكاظ - فإنها استحثت قرائح الشعراء؛ لاحتشاد القبائل فيها للبيع والشراء، والمفاخرة والمنافرة. والشاعر عند العرب له تأثير عظيم ومقام سام، فهو محامي القبيلة وخطيبها ومؤرخها، وقد يكون كاهنها أيضا؛ لما له - في اعتقادهم - من صلة بالأرواح؛ إذ جعلوا له شيطانا أو تابعا من الجن يوحي إليه الشعر، ويلقنه الآراء والحكم والمواعظ. فهذه المنزلة الرفيعة في مجتمعه جعلته ينشط للقيام بمهمته كلما دعاه الأمر إليها. فكثر الشعر وقائلوه، وتبارت القبائل في تقريب الشعراء وإكرامهم، ولا سيما الغرباء منهم، ليمدحوهم ويشيدوا بذكرهم، وكانت قصور المناذرة والغساسنة تستقبل شعراء البادية، وتحسن لهم الصلات، فأثرت في نهضة الشعر تأثيرا بليغا.
ويتفق المؤرخون الأقدمون على أن الشعر نهض أولا في ربيعة، ويعود ذلك - ولا ريب - إلى حروبها الكثيرة، سواء بينها وبين اليمن، أو بين قبيلتيها بكر وتغلب، أو بين بكر والفرس، أو بين تغلب واللخميين. ثم تحول الشعر في قيس عيلان، وعرف شعراؤها في سوق عكاظ، وفي حرب داحس والغبراء. ثم صار زمن النبوة إلى قريش والأنصار بعامل الحروب التي حدثت بين المسلمين الأول والمشركين.
Unknown page