Udaba Carab Fi Acsur Cabbasiyya
أدباء العرب في الأعصر العباسية
Genres
وكتب الأدب حافلة بأخبار أبي نواس وأشعاره؛ لشدة اهتمام الناس برواية شعره، فإنهم كانوا يتفكهون به، ويؤثرونه على أشعار القدماء؛ فسار على الأفواه كل مسير، فروي له في مصر أشعار لم يعرفها أهل العراق، وضاعت له قصائد لم يبق منها شيء، أو بقي بيت أو بيتان، ونحل شعرا كثيرا لم ينحل مثله أحد، ذلك أنه سلك طريقا جديدا في الشعر، فإن أكثر أشعاره في اللهو والتشبيب والمجون، وكان في عصره طائفة من المجان يذهبون مذهبه، وليس لهم حظ من الشاعرية والشهرة مثله، فأصبح الناس يلحقون به كل شعر في الخمر والمجون لم يعرف صاحبه، ولم يعن الرواة بشعره.
وأضيف إليه من النوادر والأخبار كما أضيف إليه من الأشعار، فقد وضع عليه ابن الداية - وكان مشهورا بصحبته - روايات لا صحة لها، وفي «أخبار أبي نواس» لابن منظور المصري نوادر أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، مما يدل على أن أهل مصر شغفوا بالشاعر كأهل العراق، فراحوا يتفننون في اصطناع الأخبار الغريبة عنه، فحملوه أحمالا ثقيلة زادت سمعته تشويها، ونحن - وإن كنا لا يخامرنا ريب في خلاعته وحوداثه المجونية - لا يسعنا إلا أن نشك في بعض نوادره التي يظهر عليها التفنن وحب التفكهة والإغراب، وسنعتمد في درس شعره على المشهور منه الذي لا يشك في نسبته إليه. (8-2) ميزته
ما ترك أبو نواس غرضا من الشعر إلا خاض فيه ونال قسطا منه، فقد أوتي شاعرية جوادة يفيض بها الطبع السمح الطرب، ويثقفها الفن الدقيق البارع، فإذا هي تنطق بشعر كالماء سلاسة وعذوبة، وكالرياض قطعا وألوانا، تختلف باختلاف أشكالها وأنواعها، فمنها ما ينفرد به صاحبنا فما يجاريه متقدم ولا متأخر وذلك في الخمر والعبث والمجون، ومنها ما يجيده ولا يقصر به وذلك في المدح والهجو والطرد والزهد، ومنها ما يقصر به ولا يجيده وذلك في الرثاء والغزل البريء، ولا سيما المؤنث منه.
فشعر أبي نواس كما يظهر لنا على ثلاثة أقسام؛ قسم: يطبعه بطابعه الخاص، ويحتكره احتكارا لا ينازعه فيه أحد، وقسم: يشارك فيه غيره من الشعراء، وقسم: يجري به وراء المجلين فما يشق لهم غبارا، وسنحاول تحليل هذه الأقسام الثلاثة؛ لنظهر ميزتها واضحة، فيبدو ما لشاعرنا من خصائص جعلته مثالا صادقا لعصره من ناحيتي الجد والعبث، وبوأته منزلة لا يسمو إلى مثلها غير عباقرة الشعراء.
ونشرع أولا في درس خمرياته وما يتبعها من لهو ومجون وآراء وعقائد، ثم ندرس غزله فمدحه فرثاءه فهجوه فطرده فزهده، حتى نتبين ذاتيته ومنزلته، وما كان له من أثر بليغ في عصره.
الخمر والمجون
إذا أردت أن تغوص في أعماق نفس أبي نواس، وتتبين حقيقته فما تستطيع ذلك في شعره الجدي، وإنما تستطيعه في عبثه ولهوه، في خمرياته ومجونه؛ فهي مرآة صافية تنعكس عليها ذاتية الشاعر الماجن.
وأبو نواس يشرب الخمر ويتعبد لها، فإذا ذكرها افتن في وصفها، وشبب بها تشبيبه بأحب الناس إليه، وقد سنحت له معان في وصفها لم يفتضها سواه؛ فعرف بها وعرفت به، وجعلته في هذا الفن نسيج وحده.
وإذا وصف الخمرة صورها أحسن الصور، وأحاطها بألطف التشابيه والاستعارات، ووصف معها الكئوس والنديم والساقي والخمار ومجلس لهوه، وقص أخباره الفاحشة لا متكتما ولا مستحيا؛ فهو صريح يؤثر المجاهرة، ويكره التستر، ويود لو يستوعب اللذة من جميع نواحيها، لئلا يفوته طرف منها، فتسمعه يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
Unknown page