Udaba Carab Fi Acsur Cabbasiyya
أدباء العرب في الأعصر العباسية
Genres
وأما الشام فإن شعراءها بقيت لهم ملكة البلاغة، فضربوا بسهم وافر منها. ويرجع ذلك إلى إعراقهم في العروبة، وقربهم من البادية، وقلة اختلاطهم بالأعجام، فامتاز شعرهم في الجزالة والرصانة، ولم يخلص من الغريب، كما في شعر المتنبي والنامي وأبي فراس وأبي العلاء.
وأما مصر فلم تكن قدما موطنا للشعر، ولا مزارا لأهل البادية، فما نبغ فيها شاعر يذكر،
3
ولا رنت في أرجائها قافية شرود إلا لشاعر غريب يقصدها كما قصد إليها أبو نواس والمتنبي. فلما قامت الدولة الفاطمية، وتعهدت الشعر برعايتها، أقبل الشعراء على مصر ، وتكاثر عددهم، فنمت بذور الأدب في الكنانة، وتعاطى الشعر جماعة من أهلها إلا أنهم لم ينبغوا فيه نبوغ أهل الشام والعراق لقلة بضاعتهم في هذه الصناعة وقرب عهدهم بها، ثم لضعف ثقافتهم الأدبية والعلمية، فإن العلوم والآداب انتشرت في العراق والشام قبل أن تدخل مصر وتمد فيها عروقها. هذا والشعر المصري يميل إلى الصنعة اللفظية، لين التركيب لم يدعم بلغة متينة خالصة العروبة كلغة أهل الشام، فانحدر أحيانا بأصحابه إلى الضعف. وإذا تمادى اللين لا يسلم من الإسفاف. ونحن نقتصر هنا على درس اثنين من شعراء الشام، وهما المتنبي وأبو فراس. (2) المتنبي 915-965م/303-354ه (2-1) حياته
هو أحمد بن الحسين الجعفي، عربي صليبة. وبنو جعفي بطن من سعد العشيرة بن مذحج، وهي قبيلة يمانية فيها فصاحة ولسن، ينتهي نسبها إلى بني كهلان، وكنيته أبو الطيب، ولقبه المتنبي. قيل لقب به لادعائه النبوة. وكان أبو الحسين بن لنكك يحسد أبا الطيب، ويطعن عليه، ويزعم أن أباه كان سقاء بالكوفة. ورواية رجل مثله لا يصح التعويل عليها.
وكان بالكوفة محلات نزلتها أفناء اليمن، وأطلقت عليها أسماء قبائلها المشهورة، منها محلة كندة، وفيها ولد المتنبي، وإليها انتسب. وظهرت عليه النجابة وهو صغير، فحمله والده في نعومة أظفاره إلى الشام فنشأ فيها وبها تخرج، ونظم الشعر وهو في المكتب، وما إن ترعرع حتى مات أبوه وتركه يتيما.
دعوته
لبث المتنبي بعد موت أبيه يطوف بين الشام والعراق، ويتنقل في البادية مصاحبا الأعراب. وكانت الديار الإسلامية يومئذ دريئة للفتن والدعوات، فالفرق الباطنية من قرامطة وإسماعيلية وسواهم، يدعون للرضا من أبناء علي، أو يبشرون الناس بظهور المهدي ليطهر الأرض من الجور والفساد. والخوارج على السلطان يؤرثون نار الفتن في الأمصار ويستولون عليها عنوة حتى باتت الخواطر على تنظر دائم لرسول تبعثه السماء والخارجي مغامر يملك الأرض ويحتل مكان مالك آخر.
وكان أبو الطيب ينظر إلى هذه الأحوال القلقة، ويقلبها على وجوهها، ويستكشف عن الأفكار المضطربة، ويروز حصياتها، فحدثته نفسه الطموح بأن يلقي دلوه في الدلاء، ولم لا يفعل وفي قلبه جراءة واعتداد، وفي لسانه فصاحة وبيان. وكان له في الأعراب أصحاب وخلان لكثرة اختلاطه بهم، ومرافقته لهم في حل وترحال، فاعتمد عليهم في بث دعوته، فاجتمع إليه بعض القبائل الضاربة في بادية السماوة بحيال الكوفة وما يليها من مشارف الشام كبني كلب وكلاب وغيرهم. وأهل البادية؛ لجهالتهم وفقرهم، أسرع الناس لتصديق الدعوات وإثارة الفتن والخروج على السلطان. ويدلنا شعر المتنبي على أن هذه القبائل كانت قوية الشوكة، كثيرة العصيان، فمرة تشق عصا الطاعة على سيف الدولة فيوقع بها ويسبي نساءها، فيستعطفه المتنبي عليها. ومرة تخرج بالكوفة وتعيث فسادا فيأتي دلير بن لشكروز لقتالها فتنصرف إلى باديتها قبل وصوله. فأبو الطيب في اعتماده عليها قد استنصر أقواما لا يأتلون في مواقعة الكروب ومقارعة الخطوب. فلما كبر أمره، تأدى خبره إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الدولة الإخشيدية، فخرج إليه وأسره وشرد أصحابه، وحبسه طويلا حتى كاد يتلف.
أما دعوته التي دعا إليها ففيها خلاف، فمنهم من يزعم أنه ادعى النبوة. ومنهم من يقول إنه تنحل العلوية ودعا الناس إلى بيعته. ومنهم من يضيف إليه الدعوتين معا فيزعم أنه حبس في الكوفة لادعائه العلوية، ثم حبس في حمص لادعائه النبوة. غير أن أبا العلاء المعري يشك في خبر حبسه بالكوفة إذ يقول في رسالة الغفران: «وما وضح أن ذلك الرجل حبس بالعراق، فأما بالشام فحبسه مشهور.» ولكنه لا يصرح بحقيقة دعوته فيقول: «وحدثت أنه كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب (أي المتنبي) قال: «هو من النبوة.»
Unknown page