Udaba Carab Fi Acsur Cabbasiyya
أدباء العرب في الأعصر العباسية
Genres
وهو كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث والأشعار والأمثال؛ مما يدل على سعة اطلاعه وفرة روايته، ولكنه كغيره من المتقدمين لا يتحرج من إيراد الأشعار الفاحشة، والنوادر المتعهرة. وكان يرى أن الشيء إذا وقع في محله فلا سبيل إلى استنكاره، ويسخر من الذين يتأبون ذلك ويستكرهونه، ويقول فيهم: «وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم، والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع.» والجاحظ في رأيه هذا ينطق بلسان السواد الأعظم من أهل عصره، فإن أدبهم كان في كثرته ماجنا متهتكا خليعا.
وشيء آخر يميز أسلوب الجاحظ، وهو الجمع بين الأضداد، ولا يقتصر ذلك على كتبه المتناقضة في أغراضها، وإنما يكون في كتاب واحد ككتاب البخلاء مثلا، فإنه يحتج مرة للسخي، ويحتج مرة للبخيل. وليست رسالة أبي العاص إلى الثقفي في ذم البخل، ورد ابن التوأم واحتجاجه للبخلاء إلا خاصة يمتاز بها الجاحظ في أسلوبه الجدلي، فهو عالم بالكلام تلذ له المناظرات، وأغلب ظننا أن الرسالتين من وضعه؛ لأن فيهما روحه ونفسه وطرقه في التأليف والتعبير.
وإنشاء الجاحظ يسيل طبعا ورقة، بعيد من التكلف لا يلتزم له سجعا، ولا يتعمد استعارة أو تشبيها، وقلما نمق إلا في بعض رسائله ومقدمات كتبه، فهو أبعد الكتاب من المجاز والتزيين، لا يعنى إلا بإيضاح المعنى في اللفظ السهل الفصيح.
وقد يصطنع التشبيه والاستعارة إذا اقتضتهما البلاغة، وتشابيهه مادية محسوسة، قريبة المتناول، بارعة التصوير، لا إغراب فيها ولا تركيب، كقوله: «ولربما رأيت الحائط وكأن عليه مسحا
27
شديد السواد من كثرة الذبان.» أو قوله يصف قاضي البصرة: «كأنه بناء بني أو صخرة منصوبة.»
وكان على استبحاره في اللغة، وحرصه على البيان الصحيح، يحمد خطة ربما لا يوافقه عليها جمهور النحاة؛ وهي أنه إذا روى نادرة من نوادر عامة المولدين لا يتكلف لها الإعراب، بل يثبتها بكلام ملحون كما وردت على لسان صاحبها. قال في الحيوان: «إن الإعراب يفسد نوادر المولدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب.» وقال في البخلاء: «وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا، أو كلاما غير معرب، ولفظا معدولا عن جهته، فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك لأن الإعراب يبغض هذا الباب، ويخرجه من حده، إلا أن أحكي كلاما من كلام متعاقلي البخلاء وأشحاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه.» وله كلام من هذا الضرب في البيان والتبيين.
وجملة الجاحظ قصيرة على الغالب، رشيقة واضحة المعنى، مفصلة تفصيلا، يقطعها مرة ويرسلها أخرى، وقد تطول إذا تخللها جمل يتطلبها سياق الكلام، فتمتد وتتسع دون أن يعتورها غموض ولا انقطاع لائتلافها مع الجمل المتداخلة فيها، ثم لمشاركتها إياها في التنازع على الغرض الواحد. وهو كغيره من الكتاب المتقدمين يفرط في استعمال فعل القول إذا حدث عن غيره حتى لا تكاد تذهب صفحة إلا وفيها طائفة من قال وما يشتق منه، وربما وردت هذه الأفعال متتابعة متجاورة فيثقل وقعها في السمع، كقوله في البخلاء: قال: «فما قال أبو الفاتك؟» قال: «قال أبو الفاتك.»
وكغيره من المتقدمين لا يسلم إنشاؤه من التباس الضمائر حتى لتضطر أن تستوضح المعنى في شيء من الجهد، ولا تستخلصه إلا إذا نظرت إلى ما قبله، وإلى ما بعده من كلام يدل عليه. ومع ذلك فأسلوبه أوضح الأساليب القديمة، وأكثرها طلاوة، وأحسنها رواء. (2-3) منزلته
قال ابن العميد: «كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا.» وهذا قول حق لا جمجمة فيه؛ لأن الجاحظ في مباحثه العلمية، واعتماده على العقل في تعليلاته واختباراته، كان من قادة التفكير الحر في الإسلام. وما آراؤه في الاعتزال، وأقواله في الحيوان والنبات والأمصار والبلدان وغير ذلك إلا نتاج عقل صحيح، فلا بدع أن تكون غذاء لسواه من العقول.
Unknown page