وأطلقوا النار أيضا على أحد مدافع خفر السواحل، وطالت المعركة بين الوطنيين وبين الجند، واختفى المهاجمون في الظلام ولم يصب واحد منهم بأذى.
وإن عيد الفطر من تلك السنة قد سمي عيد الجهاد، ولكنه كان في الحقيقة عيد الانفجارات.
محاولة اغتيال الملك
طلع صباح 17 رمضان (12 / 6 / 1952) وكان السكون يشمل مدينة تونس والصمت يخيم عليها وما زال دوي الانفجارات الليلية يرن في الآذان، وازدحمت الشوارع بعد ساعات بالتونسيين، وجوه عابسة وعيون يبرق منها الغضب ممزوجا بحزن ونظرات مغلقة، يمرون وسط العساكر المدججة بالسلاح والبوليس المستعد للهجوم غير عابئين بتهديدهم ولا ملتفتين إليهم، وكانت تلك الوجوه مغلقة مقفلة كالأبواب والنوافذ يقرأ فيها العزم وتتراءى منها البغضاء، وانتشرت إذ ذاك شائعة تسربت مع الحيطان وسارت في الشوارع وانتقلت من دكان إلى دكان، ومن بيت إلى بيت، ثم أصبحت الشائعة خبرا يقينا لا يداخله شك، فكانت همسا وأصبحت صوتا واضحا وأضحى الصوت صراخا وصياحا والصراخ اضطرابا وهيجانا؛ نزل خبر محاولة الاستعمار تسميم جلالة الملك كالصاعقة.
ولم يستغرب شعب تونس فظاعة الحادث؛ لأن من يرتكب جريمة قتل الأطفال الرضع دوسا بالأقدام لا يتحاشى عن ارتكاب أي شنيعة أخرى، خاصة وأن جلالة الملك رفض أخيرا الإصلاحات الكاذبة المزعومة التي عرضتها فرنسا عليه، ولما وجده الاستعمار صعب المراس رغم تطاعنه في السن، مستعصي الانقياد رغم نحافة جسمه ولطف مزاجه، فليس من المستحيل أن سعى في التخلص منه بهذه الطريقة الملتوية التي تنافي الشرف وتلحق بأصحابها عارا لا يمحى.
وقد ظهر فيما بعد أنها مؤامرة دبرت بليل ويقال إنه شارك فيها كبار الموظفين العالين الفرنسيين وأفراد من الأسرة المالكة.
وكان الصادق باي أخو ولي العهد إذ ذاك عز الدين باي وهو خليفته يتقرب من الفرنسيين بجميع الوسائل، ويتصل أوثق اتصال بحاملي الفكرة الاستعمارية، ويساند الاستعمار الفرنسي بجميع قواه، يريد من وراء ذلك إرضاء طموحه في الجلوس على العرش، فكان في حركة دائمة وعمل لا يني ولا يهدأ إرضاء لنفسه المستعرة نارا المتشبثة بالحكم والسلطان، ولو كان صوريا لا حقيقة وراءه، فكان يسعى مع الحكومة الفرنسية سعيا حثيثا متواصلا للحط من جلالة الملك، صارخا بعدوانه للحركة القومية التونسية وللحزب الذي يقودها (الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد)، معلنا عدم ارتياحه لأي حق يناله شعب تونس، مناديا بوجوب بقاء الحماية الفرنسية على بلاده، فكتب رسالتين إلى رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس الوزارة الفرنسية، الأولى مؤرخة في 7 / 11 / 1951 قال فيها:
سيدي رئيس الجمهورية
إني أتوجه إليكم بهذه الرسالة بكل احترام بصفتي رئيس الأسرة الحسينية، وبوجه خاص باسم شقيقي عز الدين باي ولي العهد، وباسم ابني عمي حسين ومحمد وهما خليفتانا المنتظران حسب ما تقتضيه المبادئ التقليدية التي حددها القانون العثماني والتي أقرتها المعاهدات التي تربط فرنسا بتونس؛ لكي نشرح لكم الأخطار البالغة التي تهددنا في الحاضر وفي المستقبل نتيجة للسياسة النظرية والعملية الحاضرة التي يبدو أنها أصبحت أساس العلاقات الدبلوماسية بين حكومة الجمهورية الفرنسية والأسرة الحسينية التي يمثلها جلالة الباي صاحب المملكة التونسية.
وفعلا فإن التقاليد والعادات وكذلك القوانين المقررة المكتوبة تقضي بأن يكون تمثيل تونس عن طريق جلالة الباي أو ولي عهده، ولا يمكن بمقتضى معاهدات المساعدة والحماية المبرمة بين تونس وفرنسا أن يقوم طرف ثالث بهذه المهمة، فإذا ما أقرت فرنسا غير ذلك فإنها قد تقضي على روح تلك المعاهدات.
Unknown page