أما الأول، علي بن أبي طالب، المعروف ببعد نظره، وعلمه وفقهه وفضله وأحقيته، فقد اتضح له ما يراد بالإسلام، وما ينتج عن دخوله في التنافس على السلطة فاحتفظ بكامل رشده، لم يستفزه الحزن لوفاة الرسول (ص)، ولم يستثره الطموح إلى الزعامة، ولم يستغفله دعاة الشر والكيد للأمة، وآثر بقاء الإسلام على بقاء نفوذ آل البيت الأكرمين، والتمكين للإسلام على التمكين للعترة الطاهرة الشريفة، واشتغل بالإشراف على غسل الرسول (ص)، وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وتنظيم مراسم التعزية والمواساة؛ فلم يحضر سقيفة، ولم يجار أحدًا في حديث عن الخلافة، وفسح المجال بذلك لقيام مؤسسة الخلافة الراشدة، التي هي أمر للمسلمين كافة، والتي هي المحجة السياسية البيضاء في الكتاب والسنة. حرضه عمه العباس (١١) على أن يسأل الرسول (ص) عند احتضاره، عن الأمر فيمن تركه؟ فأبى علي وقال: " والله لا أسألها رسول الله أبدًا " وعرض عليه العباس ثانية بعد وفاة الرسول (ص) وقبل السقيفة، أن يبايعه على ملأٍ من الناس، فيقولون: " عم رسول الله بايع ابن عمه "، فلا يختلف عليه أحد، فرفض ذلك أيضًا. وعندما بويع أبو بكر أتى أبو سفيان عليًا - كرم الله وجهه - وقال له: " إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف (١٢)، فيم أبو بكر من أموركم؟، أين المستضعفان؟ أين الأذلان، علي والعباس؟ ما بال الأمر في أقل حي (١٣) من قريش؟ ". ثم قال لعلي: "ابسط يدك أبايعك، فوالله لو شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجلًا "، فأبى علي ﵁، فتمثل أبو سفيان بشعر المتلمس (١٤): ولن يقيم على خسف يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يبكي له أحد فزجره علي وقال: " والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرًا، ولا حاجة لنا في نصيحتك ". وعندما مارس أبو بكر مهامه في تسيير أمر المسلمين، وخرج شاهرًا سيفه للمشاركة عمليًا في حرب الردة، كان علي - كرم الله وجهه - أشد الصحابة حرصًا على أمنه وسلامته، لما في ذلك من أمن للإسلام وبقاء له. اعترض سبيل أبي بكر وثناه عن عزمه قائلًا: " شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام "، فرجع أبو بكر وأمضى الجيش. وعندما بايع الناس عثمان (١٥) قال له عبد الله بن عباس (١٦): " قد خدعوك حتى رضيت بخلافة عثمان "، فقال علي: " إنهم لم يخدعوني، بل إني رأيت الجميع راضون به، فلم أحب مخالفة المسلمين حتى لا تكون فتنة بين الأمة ". وبعد مقتل عثمان ﵁، اجتمع أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فأتوا عليًا فقالوا له: " إنه لابد للناس من إمام "، فقال: " لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم رضيت به "، فألحوا عليه فبالغ في الرفض وقال: " لا تفعلوا، فإني أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا "، فقالوا: " والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك "، فقال: " لا حاجة لي في البيعة، دعوني والتمسوا غيري. " ولما بالغوا في الإلحاح قال لهم: " عليكم بطلحة (١٧) والزبير (١٨) "، ثم ذهب معهم إلى طلحة وطلب منه أن يبسط يده ليبايعه الناس فرفض وعرض الأمر على الزبير فرفض، وأصر الجميع على مبايعة علي. بهذه الروح العالية، والنظرة البعيدة، والتقوى العميقة، نظر الإمام علي إلى أمر الحكم، فجنب المسلمين كوارث وفتنًا، ما لبثوا أن وقعوا فيها بإرادة من جاء بعد صفوة الصحابة ممن ملأ حب السلطة قلوبهم. وليس بغريب هذا الرشد وعلو الهمة من الإمام علي، فهو نتاج تربية النبوة، وهو الذي لم يسجد لصنم قط، وهو الصبي الذي نشأ في عبادة الله، فلم يختلط في قلبه وذهنه أبدًا جاهلية بإسلام. أما القطب الثاني، أبو بكر ﵁، فإنه بادر بالالتحاق بأهل سقيفة بني ساعدة درءًا للفتنة، ولكنه لم يدع وصية من الرسول (ص)، ولم يحتج بآية أو حديث على أحقية قريش بالأمر من دون الأمة؛ وإنما برر ذلك بالمصلحة، وضرورات العقل وتجنب النزاع؛ ثم عندما روى حديث: " لا نورث، ما تركناه صدقة " كرس مفهوم انتفاء وراثة النبي (ص) مالًا ونبوة وسلطة (١٩) . ثم عندما بويع، أكد عدم تميزه عن المسلمين بقوله: " وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؟ (٢٠) "، فكان ﵁ بحلمه ودماثة خلقه وحكمته وعلمه بطبائع الخلق وأنساب العرب وعصبياتهم، وما اقتبسه من نور النبوة، بلسمًا للمسلمين، جنبهم الفتن في أشد فترات نشأة دولتهم حرجًا، وحال دون هيمنة الأسر القوية على شؤون الحكم، وسد ذرائع تُحَوِّلُ أمره إلى نظام وراثي استبدادي. وعند وفاته لم يحاول الاستخلاف إلا خوف الفتنة، ومجاراة لرأي المسلمين الذين ألحوا عليه فيه. ومع ذلك عندما أمر عثمان بكتابة وصيته، قال له: " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين " ثم أغمي عليه لشدة مرضه، وربما لكراهيته الاستخلاف، فأضاف عثمان إلى الكتاب وأبو بكر في غيبوبة: (فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آل خيرًا) ثم أفاق أبو بكر فأقر ما كتب عثمان (٢١) . وبالرغم من أن بعض الصحابة يوم اشتد المرض برسول الله (ص) وقال لهم: " ائتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعدي أبدًا "، تنازعوا وارتفعت أصواتهم وقال عمر: " إن رسول الله (ص) قد اشتد به الوجع، وعندكم القرآن " فأمرهم الرسول (ص) بالخروج فلما ندموا ورجعوا إليه، وقد هموا بامتثال أمره، قال لهم: " دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه " (٢٢) .
1 / 4