التحفة المدنية
في العقيدة السلفية
تأليف
الشيخ العالم العلامة حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر
(١١٦٠ هـ - ١٢٢٥ هـ)
تحقيق
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
1 / 20
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما قولكم أدام الله النفع بعلوكم في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك: مثل قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، ومثل قوله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠]، وقول النبي ﷺ: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا»،
1 / 21
وقوله ﷺ: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن»، إلى غير ذلك مما ظاهره يوهم التشبيه؟!
فأفيدونا عن اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في ذلك؟ وكيف مذهبه، ومذهبكم من بعده؟ هل تمرون ما ورد من ذلك على ظاهره مع التنزيه؟ أم تئولون؟ وابسطوا الكلام على ذلك، وأجيبوا جوابا شافيا، تغنموا أجرا وافيا.
[وصلى الله على سيدنا محمد، وآله، وصحبه وسلم] .
1 / 22
الجواب
الحمد لله رب العالمين.
[مجمل الاعتقاد في الأسماء والصفات]
قولنا في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك:
- ما قاله الله ورسوله.
- وما قاله سلف الأمة، وأئمتها، من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين.
فنصف الله تعالى:
- بما وصف به نفسه في كتابه.
- وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ.
من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
1 / 23
بل نؤمن بأن الله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] .
فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. بل يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله: من غير تكييف ولا تمثيل، خلافا للمشبهة، ومن غير تحريف ولا تعطيل، خلافا للمعطلة.
فمذهبنا مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع
1 / 24
في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة ﵁، فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة:
قال الإمام أحمد ﵀: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، لا يتجاوز القرآن والحديث.
وهكذا مذهب سائرهم كما سننقل عباراتهم بألفاظها إن شاء الله تعالى. ومذهب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- هو ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة المذكورون، فإنه يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، ولا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم هذه الأمة بهذا الشأن نفيا وإثباتا، وهم أشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله.
فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يقال: هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل هي آيات بينات، دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان
1 / 25
إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك؛ فكان الباب عندهم بابا واحدا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فأنسوا من صفات كماله، ونعوت جلاله، بما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار، لعلمهم بأنه صفة من لا شبيه لذاته ولا لصفاته.
قال الإمام أحمد لما سئل عن التشبيه: هو أن يقول: يد كيدي، ووجه كوجهي، فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليسا كالأسماع والأبصار.
وهو -سبحانه- موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، وهو -سبحانه- في صفات الكمال لا يماثله شيء، فهو حي، قيوم، سميع، بصير، عليم، خبير، رءوف، رحيم.
1 / 26
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾
[الفرقان: ٥٩، والسجدة: ٤] .
وكلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا. لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته.
فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتجليه تجلي أحد.
بل نعتقد أن الله -جل اسمه- في عظمته وكبريائه، وحسن أسمائه، وعلو صفاته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته، وأن ما جاء من الصفات مما أطلقه الشرع على الخالق وعلى المخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ، والله -سبحانه- قد أخبر أن في الجنة لحما، ولبنا، وعسلا، وماء، وحريرا، وذهبا. وقد قال ابن عباس: «ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء» .
فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه الموجودة، مع
1 / 27
اتفاقهما في الأسماء فالخالق -جل وعلا- أعظم علوا ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق، وإن اتفقت الأسماء.
وأيضا فإن الله سبحانه قد سمى نفسه حيا، عليما، سميعا، بصيرا، ملكا، رءوفا، رحيما، وقد سمى بعض مخلوقاته حيا وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رءوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.
قال الله ﷾: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] .
وقال: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [آل عمران: ٢٧] .
وقال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [التحريم: ٢] .
وقال: ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات: ٢٨] .
1 / 28
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: ٥٨] .
وقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان:٢] .
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] .
وليس بين صفة الخالق والمخلوق مشابهة إلا في اتفاق الاسم.
[إثبات صفة العلو من كتاب الله]
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الله سبحانه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، والعرش وما سواه فقير إليه، وهو غني عن كل شيء، لا يحتاج إلى العرش ولا غيره، ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
1 / 29
فمن قال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام، ولا يرضى ولا يغضب ولا استوى على العرش فهو معطل ملعون.
ومن قال: علمه كعلمي، أو قدرته كقدرتي، أو كلامه مثل كلامي، أو استواؤه كاستوائي، أو نزوله كنزولي فإنه ممثل ملعون.
ومن قال هذا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل باتفاق أئمة الدين، فالممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والكتاب والسنة فيهما الهدى والسداد وطريق الرشاد، فمن اعتصم بهما هُديَ، ومن تركهما ضل.
وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وهذه سنة رسول الله ﷺ، وهذا كلام الصحابة والتابعين وسائر الأئمة - قد دل ذلك بما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه فوق العرش فوق السماوات مستو على عرشه.
ونحن نذكر من ذلك بعضه:
- قال الله ﷾: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] .
1 / 30
- وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾
[الفرقان: ٥٩، والسجدة: ٤] .
وقد أخبر سبحانه باستوائه على عرشه في ستة مواضع من كتابه، فذكر في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، و(الم تنزيل) السجدة، والحديد.
- وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران:٥٥] .
- وقال: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء:١٥٨] .
- وقال: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:١٠] .
- وقال: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك:١٦ و١٧] .
1 / 31
وأخبر عن فرعون أنه قال: ﴿يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ [غافر: ٣٦ و٣٧] .
ففرعون كذب موسى في قوله (إن الله في السماء) .
وقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر والجاثية والأحقاف] .
وقال: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢] .
وقال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: ١٠٢] .
وتأمل قوله تعالى في سورة الحديد: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
[الحديد: ٤] .
فقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾
1 / 32
يتضمن إبطال قول الملاحدة القائلين بقدم العالم وأنه لم يزل وأنه لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب جعله لازما لذاته أزلا وأبدا غير مخلوق؛ كما هو قول ابن سينا وأتباعه الملاحدة.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ يتضمن إبطال قول المعطلة الذين يقولون: ليس على العرش سوى العدم، وإن الله ليس مستويا على عرشه ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تجوز الإشارة إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار النبي ﷺ في أعظم مجامعه في حجة الوداع، وجعل يرفع إصبعه إلى السماء، وينكبها إلى الناس، ويقول: " اللهم اشهد". وسيأتي الحديث إن شاء الله تعالى؛ فأخبر في هذه الآية الكريمة أنه على عرشه، وأنه: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾، ثم قال: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
1 / 33
فأخبر أنه مع علوه على خلقه وارتفاعه ومباينته لهم معهم بعلمه أينما كانوا.
قال الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء.
وقال نعيم بن حماد لما سئل عن معنى هذه الآية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾: معناه: أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه.
وسيأتي هذا مع ما يشابهه من كلام الإمام أحمد وأبي زرعة وغيرهما.
وليس معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾: أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمه وأئمتها، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته هو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته.
وأخبر تعالى أنه ذو المعارج، تعرج الملائكه والروح إليه، وأنه
1 / 34
القاهرفوق عباده، وأن ملائكته يخافون ربهم من فوقهم، فكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق عباده على عرشه وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة.
وهو سبحانه قد أخبر أنه قريب من خلقه كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ الآية [البقرة: ١٨٦]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] .
وقال النبي ﷺ: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» .
1 / 35
وقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: ٧] .
وكل ما في الكتاب والسنة من الأدلة الدالة على قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه علي في دنوه، قريب في علوه.
وقد أجمع سلف الأمة على أن الله ﷾ فوق سماواته على عرشه، وهو مع خلقه بعلمه أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون.
قال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾؟ قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة.
وسيأتي هذا الكلام مع زيادة عليه من كلام الإمام أحمد وغيره إن شاء الله تعالى.
1 / 36
إثبات صفة العلو من السنة
وأما الأحاديث الواردة عن رسول الله ﷺ في هذا الباب فكثيرة جدا:
منها: ما رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وغيرهم «عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: لطمت جارية لي، فأخبرت رسول الله ﷺ فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: «بلى، ائتني بها»، قال: فجئت بها إلى رسول الله ﷺ، فقال لها: «أين الله؟» قالت: في السماء، فقال: «فمن أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال: «اعتقها، فإنها مؤمنة» .»
وفي هذا الحديث مسألتان:
إحداهما: قول الرجل لغيره: أين الله؟
وثانيهما: قول المسئول: في السماء.
فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على الرسول ﷺ.
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك ﵁ قال: كانت
1 / 37
زينب تفخر على أزواج النبي ﷺ وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»، وفي لفظ آخر: كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده: «إن رحمتي تغلب غضبي»، وفي لفظ: «فهو مكتوب عنده فوق العرش» .
وهذه الألفاظ كلها صحاح في صحيح البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: «قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار»
1 / 38
«وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الرب، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهو يصلون» .
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من اشتكى منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ» أخرجه أبو داود.
1 / 39