Treatise on the Prophet's ﷺ Pilgrimage Conduct and Commentary on the Valley of Muhassar - Part of 'Al-Mu'allimi's Works'
رسالة في سير النبي ﷺ في الحج والكلام على وادي محسر - ضمن «آثار المعلمي»
Investigator
محمد عزير شمس
Publisher
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٤ هـ
Genres
الرسالة السادسة عشرة
رسالة في سير النبي ﷺ في الحج
والكلام على وادي محسِّر
17 / 509
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في "الصحيحين" (^١) وغيرهما عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سُئل أسامةُ وأنا جالس: كيف كان رسول الله ﷺ يسير في حجة الوداع حينَ دَفَع؟ قال: "كان يسيرُ العَنَقَ، فإذا وجدَ فجوةً نصَّ". لفظ البخاري، وزادا في رواية: "قال هشام: والنصُّ فوق العَنَق".
المشهور أن العَنَق سيرٌ فيه إسراع، وقد يَرِدُ على ذلك أنّ في روايةٍ في "صحيح مسلم" (^٢). عن أسامة بن زيد: "فما زال يسير على هيئته (ويُروى: على هِينَتِه) حتى أتى جَمْعًا".
وفي روايةٍ في "المسند" (^٣) سندها صحيح: "فجعل يَكْبَحُ راحلتَه حتى إنّ ذِفْرَاها لتكاد تُصِيب قادمةَ الرَّحْل، وهو يقول: يا أيها الناس، عليكم بالسكينة والوقار، فإن البرَّ ليس في إيضاع الإبل".
وفي أخرى (^٤) سندها حسن: "فكان رسول الله ﷺ إذا الْتحَمَ عليه الناسُ أعنقَ، وإذا وجدَ فُرْجةً نصَّ".
وفي "المسند" و"صحيح مسلم" (^٥) في حديث جابر: "وقد شَنَقَ
_________
(^١) البخاري (١٦٦٦) ومسلم (١٢٨٦).
(^٢) رقم (١٢٨٦/ ٢٨٢).
(^٣) رقم (٢١٧٥٦، ٢١٨٠٣).
(^٤) رقم (٢١٧٦٠، ٢١٧٦١).
(^٥) "صحيح مسلم" (١٢١٨). وحديث جابر في "المسند" (١٤٤٤٠)، وليس فيه هذا اللفظ.
17 / 511
للقصواء الزِّمامَ، حتى إن رأسَها لَيصيبُ مَوْرِكَ رَحْلِه، ويقول: أيها الناس السكينةَ السكينةَ، كلَّما أتى حَبْلًا من الحِبال (^١) أرخَى لها حتى تَصعَد".
وفي معنى ذلك أخبار أخرى، فأيُّ إسراعٍ يكون لناقةٍ مُنوَّقةٍ، مشنوقٍ لها الزمامُ أشدَّ الشَّنْقِ، ملتحمٍ عليها المشاةُ والركبان؟
وقد يُجاب بأن العَنَق في الأصل كما هو في "الفائق" (^٢): "الخَطْو الفسيح"، فالسرعة فيه من جهة سعة الخطو، لا من جهة سرعة تتابُعِه، والإبلُ بطبيعة حالها واسعةُ الخطو.
وفي "فقه اللغة" للثعالبي (^٣): "فصل في ترتيب سير الإبل: عن النضر بن شُميل: أولُ سيرِ الإبل الدَّبيبُ، ثم التزيُّد، ثم الذَّمِيل، ثم الرَّسِيم ...، فصل في مثل ذلك عن الأصمعي: العَنَق من السير المُسْبَطِرّ، فإذا ارتفع عنه قليلًا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك هو الذَّميل، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الرَّسِيم". وقضيةُ هذا أن أول سير الإبل يسمَّى عَنَقًا.
وبعدُ، فقد عُرِف بالوصف حقيقةُ سيرِ ناقتِه ﷺ عند الازدحام. فأما النصُّ فهو كما قال هشام فوق ذلك، كأنه ﷺ كان إذا وجد فجوةً أي خُلوًّا عن المزاحمين أرخَى الزِّمامَ، فتُسرِع قليلًا بطبيعة حالها. ولم يُعيِّن الصحابة مواضعَ تلك الفَجَوات؛ لأنه لا دَخْلَ لخصوص المكان فيها، وإنما المدار على الخُلوِّ من المزاحمين كما مرّ.
_________
(^١) الحبل: التلّ اللطيف من الرمل الضخم. وفي "شرح السنة" (٧/ ١٦٥): الحبال ما كان دون الجبال في الارتفاع.
(^٢) (١/ ٤٢٩).
(^٣) (ص ٢٠٣).
17 / 512
وقد عُلِم مما مرَّ أنه من عرفةَ إلى مزدلفةَ لم يُسرِع النبي ﷺ فوق العادة، وأنه ليس بينهما مكانٌ يُشْرَع فيه الإبطاء أو الإسراعُ المعتاد، وإنما المدار على الزحام وعدمه.
فأما من مزدلفةَ إلى جَمْرةِ العقبة ففي "المسند" (^١) بسند صحيح عن أسامة: "لما دَفَعَ من عرفةَ ... كَفَّ رأسَ راحلته، حتى أصاب رأسُها واسطةَ الرَّحْل أو كاد يُصيبه، يشير إلى الناس بيده: السكينةَ السكينةَ، حتى أتى جَمْعًا، ثم أردف الفضلَ بن عباس ... فقال الفضل: "لم يزلْ يَسير سَيْرًا لينًا كسَيْره بالأمس حتى أتى على وادي مُحسِّر، فدَفَعَ فيه حتى استوتْ به الأرضُ".
وفي حديث جابر في "المسند" و"صحيح مسلم" (^٢) وغيرهما: "حتى أتى بطنَ محسِّر، فحرَّك قليلًا".
وفي "سنن النسائي" (^٣) من حديث أبي الزبير عن جابر: "أفاض رسول الله ﷺ وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضَعَ في وادي مُحسِّر ... ". وهو في "المسند" وبقية السنن، قال الترمذي: "حسن صحيح".
وفي بعض رواياته في "المسند" و"سنن ابن ماجه" (^٤): "وقال: لِتأخُذْ أمتي نُسكَها، فإني لا أدري لَعلِّي لا ألقاهم بعد عامي هذا".
_________
(^١) رقم (٢١٨١٢).
(^٢) مسلم (١٢١٨). وليس في "المسند" هذا اللفظ.
(^٣) (٥/ ٢٥٨). وهو في "المسند" (١٥٢٠٧)، وأخرجه أبو داود (١٩٤٤) والترمذي (٨٨٦) وابن ماجه (٣٠٢٣) أيضًا.
(^٤) "المسند" (١٤٥٥٣، ١٤٩٤٦) وابن ماجه (٣٠٢٣).
17 / 513
[ص ٢] وفي "المسند" و"سنن الترمذي" (^١) من حديث علي: " ... ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي مُحسِّر، فقَرَع ناقته، فخَبَّتْ به حتى جاوز الوادي". لفظ الترمذي، وقال: "حسن صحيح".
في هذه الأحاديث أن النبي ﷺ خصَّ واديَ مُحسِّر دون ما قبله وما بعده بأن قرعَ ناقتَه فيه لِتُسرِع فوق العادة، ولم يكن لذلك سببٌ طبيعي، ففهمَ الصحابة ﵃ أن ذلك لأمرٍ شرعي، وأن مثل ذلك الإسراع مشروع في ذلك المكان، ولذلك نَصُّوا عليه وفاءً بما أُمِروا به من التبليغ، وعَمِلوا به بعد النبي ﷺ، جاء ذلك عن عمر وابن عمر، وأخذتْ به الأمة، فهو سنة ثابتة.
وهل يُشرَع مثلُ ذلك الإسراع عند المرور بمُحسِّر في الطلوع إلى عرفةَ وعند المرور به في غير الحج؟ لم أجِدْ دليلا خاصًّا على ذلك، وقد يُستدلّ على عدمه بأنه لم يُنقَل أنه ﷺ أسرعَ فيه عند طلوعه إلى عرفة، وقد يُدفَع هذا باحتمال أنه عند الطلوع لم يكن قد أمر بالإسراع، فتركَه لأنه لم يكن مشروعًا حينئذٍ، أو لعله أسرعَ ولم يُنقَل ذلك؛ لأنهم لم يَعتنُوا ببيان سَيْرِه في طلوعه كما اعتنَوا ببيان سيره في نزوله، واكتفاءً بدلالة إسراعه به في نزوله على أن الإسراع فيه مشروعٌ مطلقًا. فما هذه الدلالة؟ مدارها على المعنى الذي لأجله شُرِع الإسراعُ، وفي ذلك أقوال:
الأول: أن ذلك الوادي مأوًى للشياطين، وكأن هذا مأخوذ من قصة الوادي الذي نام فيه النبي ﷺ وأصحابه عن صلاة الصبح، فلما استيقظوا وقد طلعت الشمسُ أمرهم بالخروج منه، وعلَّل ذلك بأن فيه شيطانًا،
_________
(^١) "المسند" (٥٦٢) والترمذي (٨٨٥).
17 / 514
فاقْتادُوا رواحلَهم حتى خرجوا منه، فصلَّى بهم (^١).
ويردُّ هذا أن الخروج إنما كان لمصلحة الصلاة، لا لكراهية الكون في الوادي، فقد باتوا فيه وناموا. وأيضًا فلم يُسرِع، ولا أمرهم بالإسراع في خروجهم.
الثاني: أن النصارى كانوا يقفون بمُحسِّر، فأوضعَ النبي ﷺ مخالفةً لهم. وكأنّ هذا مأخوذ مما رُوِي أن عمر قال وهو يُوضِعُ:
إليك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُها
مُعترِضًا في بطنِها جنينُها
مخالفًا دينَ النصارى دينُها (^٢)
ولا يخفى أن هذا لا يدلُّ على أن النصارى كانوا يقفون بمحسِّر، ويكفي في معنى البيت مخالفةُ النصارى في شركهم وعدمِ حجِّهم. وأيضًا فلو ثبت أنهم كانوا يقفون به فالمخالفةُ تحصلُ بعدم الوقوفِ، فلا تقتضي الإسراعَ.
الثالث: أن المشركين كانوا يقفون به يتفاخرون بآبائهم. وكأن هذا مبنيٌّ على الذي قبله، ولكن لما كانت دعوى وقوف النصارى لا سندَ لها أبدلوا بالمشركين، لأنه قد رُوِي ما يُشبه ذلك (^٣) في تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: ٢٠٠].
_________
(^١) أخرجه مسلم (٦٨٠) وغيره من حديث أبي هريرة.
(^٢) أخرجه الشافعي في "الأم" (٣/ ٥٥٢) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (١٥٨٨٩، ٢٦٥٦٤). والأبيات بلا نسبة في "اللسان" (قلق، وضن).
(^٣) انظر ما رُوي في هذا الباب في "الدر المنثور" (٢/ ٤٤٤ ــ ٤٤٦).
17 / 515
ويردُّه أنه إذا كانت الآية تشير إلى ذلك فإنها تشير إلى أن ذلك كافٍ عند قضاء المناسك، وأكثر الروايات توافق ذلك، وأنهم كانوا يتفاخرون بمنى، وفي بعضها: عند الجمرة، وفي بعضها: يوم النحر. وليس في الروايات ذِكرٌ لمُحسِّر. وأيضًا فمخالفتهم في ذلك لا تقتضي الإسراع.
الرابع: وهو المشهور أن وادي مُحسِّر موضعٌ نزل به عذاب، قال ابن القيم في "الهَدْي" (^١): "فلما أتى بطنَ محسِّر حرَّك ناقته وأسرعَ السير، وهذه كانت عادتَه في المواضع التي نزلَ فيها بأسُ الله بأعدائه، فإنَّ هنالك أصاب أصحابَ الفيل ما قصَّ الله علينا، ولذلك سُمِّي ذلك الوادي وادي مُحسِّر، لأن الفيل حَسُرَ فيه، أي أعيا وانقطع عن الذهاب. وكذلك فعلَ في سلوكه الحِجْرَ وديارَ ثمود، فإنه تَقنَّع بثوبه وأسرع السيرَ (^٢)، ومُحسِّر برزخ ... ". وسيأتي بقية عبارته.
وهذا القول مقبول، وشاهده ــ وهو الإسراع في أرض ثمود ــ منقول، ووَجِيهٌ أن يُكرَه الكونُ بمنازل غضب الله ﷿ فوق ما لا بدَّ منه من المرور السريع، كما يُستَحَبّ الكونُ واللبثُ بمنازل بركة الله ﷿ كمكة والمدينة. ولا يَخدِشُ في هذا الوجه الوجيه أن نجهل ما هو العذاب الذي نزلَ بمُحسِّر، فإنّ ما ذكروه من أنه عذاب أصحاب الفيل، وأن الفيل حُبِسَ هناك، متعقَّب بأن المعروف في الأخبار والأشعار والآثار أن ذلك كان بالمغمَّس (^٣) حذاءَ عرفة، [ص ٣] وأن الفيل حُبِس دون الحرم، لكن لا مانع
_________
(^١) "زاد المعاد" (٢/ ٢٣٦).
(^٢) أخرجه البخاري (٣٣٨٠) ومسلم (٢٩٨٠) من حديث ابن عمر.
(^٣) انظر "سيرة ابن هشام" (١/ ٤٧، ٤٨) و"تاريخ الطبري" (٢/ ١٣٢).
17 / 516
أن تكون طليعة من أصحاب الفيل تقدَّمت الفيلَ والجيشَ فبلغتْ مُحسِّرا. وقيل: إن العذاب هو أن رجلًا اصطادَ فيه، فنزلتْ نار فأحرقتْه. وقد علمتَ أن وجاهة القول الرابع لا يَخدِش فيها الجهلُ بتعيين العذاب.
وإذا كان ذاك المعنى هو المتجه فلا ريبَ أن اقتضاءه للإسراع في مُحسِّر كراهيةُ الكون به فوق ما لا بُدَّ منه من المرور السريع، لا يختص بالحاجّ المفيض من مزدلفة، فيُلْحَق به غيره استنباطًا، والله أعلم.
فصل
إذا ثبت أن مُحسِّرًا يُكرَه الكون به فوق ما لابدَّ منه من المرور السريع، وجب أن لا يكون من البقعة التي شُرِعت فيها البيتوتةُ لياليَ التشريق، والكون بها بقيةَ نهار الثامن وليلة التاسع ويوم النحر وأيام التشريق، وهي منى، فلا يكون مُحسِّر من منى في الحكم، فأما في الاسم فقد جاء ما يدل على أنه من مزدلفة في الاسم مع خروجه منها في الحكم، وجاء ما يدل على أنه من منى في الاسم، وجاء ما يدل على أنه ليس من منى ولا مزدلفة.
فأما الأول: فأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (^١) عن زيد بن أسلم عن النبي ﷺ قال: "عرفةُ كلها موقفٌ إلا عُرَنَة، وجَمْعٌ كلها موقف إلا مُحسِّرًا". وأخرج (^٢) عن ابن الزبير: "كلُّ مزدلفةَ موقفٌ إلا واديَ مُحسِّر". وعن عروة
_________
(^١) (٣/ ٥٢١)، وهو مرسل.
(^٢) أي ابن جرير في "تفسيره" (٣/ ٥٢١). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" (١/ ٧٩).
17 / 517
ابن الزبير (^١) مثله. وخبر عبد الله بن الزبير في "الموطأ" (^٢) عن هشام بن عروة عنه.
والأصل في الاستثناء الاتصال، فيكون محسِّر داخلًا في مزدلفةَ في الاسم خارجًا عنها في الحكم. فعلى هذا لا يكون من منى في الاسم أيضًا.
فإن قيل: قضية هذا أن تكون عُرَنَة داخلةً في اسم عرفة وإن خرجت عنها في الحكم.
قلت: لا مانعَ من هذا، بل يشهد له ما ذكره صاحب "القِرى" (^٣) وغيره بعد ذكر تحديد ابن عباس لعرفة أنه يدخل فيها عُرنة، ويوافقه حديث ابن عمر في "المسند" و"سنن أبي داود" (^٤): "غدا رسول الله ﷺ ... حتى أتى عرفةَ، فنزل بنَمِرَة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة ... ". ونَمِرة من عُرَنة.
وأما الثاني: فيدلُّ عليه ما في "المسند" و"صحيح مسلم" و"سنن النسائي" (^٥) من حديث الليث بن سعد عن أبي الزبير عن أبي مَعبد مولى ابن عباس عن ابن عباس عن أخيه الفضل ــ وكان رديفَ رسول الله ﷺ ــ أنه قال عشيةَ عرفة وغداةَ جَمْعٍ للناس حين دَفَعوا: "عليكم بالسكينة"، وهو كافٌّ
_________
(^١) "تفسير ابن جرير" (٣/ ٥٢١).
(^٢) (١/ ٣٨٨).
(^٣) "القرى لقاصد أم القرى" (ص ٣٤٦، ٣٤٧).
(^٤) "المسند" (٦١٣٠) و"سنن أبي داود" (١٩١٣). وإسناده حسن.
(^٥) "المسند" (١٧٩٦) و"صحيح مسلم" (١٢٨٢) والنسائي (٥/ ٢٥٨).
17 / 518
ناقتَه حتى دخل مُحسِّرًا ــ وهو من منى ــ قال: "عليكم بحصى الخَذْف الذي يُرمَى به الجمرة"، وقال: لم يزل رسول الله ﷺ يُلبِّي حتى رمى الجمرة. لفظ مسلم. وفي "المسند" و"سنن النسائي": "حتى إذا دخل".
ثم ساقه مسلم (^١) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير، ولم يسق المتنَ، وقد ساقه الإمام أحمد في "المسند" (^٢)، وفيه: "حتى إذا دخل منًى حين هبط محسِّرًا قال: عليك بحصى الخَذْف ... ".
ولم يكن مقصود الفضل إلا الإخبار بما كان من النبي ﷺ في مَسِيره من المزدلفة إلى جمرة العقبة، بدون نظرٍ إلى حكم البيتوتة، فغايةُ ما يُؤخذ من خبره أن مُحسِّرًا من منًى في الاسم. ومسلم أخرج هذا الحديث في "صحيحه" في أحاديث استدامة التلبية إلى رمي جمرة العقبة، ولم يُخرِجه في الموضع الذي يتعلق بحكم البيتوتة، وبين الموضعين أربعة عشر بابًا في تبويب النووي.
ولم أجد هذا الخبر عن أبي معبد إلا من رواية أبي الزبير، وقد رواه جماعة غير أبي معبد عن ابن عباس، ورواه جماعة غير ابن عباس عن الفضل، ولم أرَ في شيء من رواياتهم هذه الكلمة أو معناها أن مُحسِّرًا من منى. وأبو الزبير وثَّقه جماعة، وليَّنه آخرون. قال الشافعي: "أبو الزبير يحتاج إلى دعامة" (^٣).
_________
(^١) رقم (١٢٨٢).
(^٢) رقم (١٧٩٤).
(^٣) انظر "تهذيب التهذيب" (٩/ ٤٤١).
17 / 519
وقد لا يبعد أن تكون كلمة "وهو من منى" ــ وهي في الرواية التي اتفق على إخراج لفظها الإمام أحمد ومسلم والنسائي ــ مدرجةً من قول أبي الزبير، وأن راوي الرواية الأخرى خفي عليه الإدراجُ، وروى بالمعنى. والله أعلم.
[ص ٤] وأما الثالث: وهي أن مُحسِّرًا ليس داخلًا في اسم منى ولا اسم مزدلفة فهو المشهور، وفي "تاريخ الأزرقي" (ج ٢ ص ١٥٥) (^١): "حدثني جدّي، حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج ... قلت لعطاء: وأين المزدلفة؟ قال: المزدلفة إذا أفضْتَ من مأزِمَيْ عرفةَ فذلك إلى مُحسِّر ... ".
وفيه (ص ١٣٩) (^٢) بهذا السند عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أين منى؟ قال: من العقبة إلى محسِّر. قال عطاء: فلا أحِبُّ أن ينزل أحد إلا فيما بين العقبة إلى محسِّر. وهو خبر واحد قطعَه.
وقد روى ابن جرير في "تفسيره" (^٣) القطعة الأولى: "حدثنا هناد قال: ثنا ابن ابي زائدة قال: أنا ابن جريج قال: قلت لعطاء ... ". وسنده صحيح.
فأما سند الأزرقي ففيه مسلم بن خالد فيه لين، لكنه فقيه مكة في عصره، وهذا الحكم مما يُعنَى به فقهاء مكة. وشيخه ابن جريج إمام، وهو فقيه مكة في عصره أيضًا، وهو ممن روى حديث أبي الزبير السابق، وكأنه لم يُعوِّل على ما فيه مما يدل أن محسِّرًا من منى. وعطاء إمام، وهو فقيه مكة في
_________
(^١) "أخبار مكة" (٢/ ١٩١، ١٩٢) ط. رشدي ملحس.
(^٢) (٢/ ١٧٢).
(^٣) (٣/ ٥١٩).
17 / 520
عصره، وروى عن ابن عباس حديثَ الفضل وغيره.
ثم جاء فقيه عصره الإمام الشافعي، وهو مكي أخذ عن مسلم بن خالد وغيره، قال في "الأم" (ج ٢ ص ١٧٩) (^١): "والمزدلفة من حين يُفضِي من مأزِمَيْ عرفة ــ وليس المأزمان من مزدلفة ــ إلى أن يأتي قرنَ مُحسِّر". وقال (ص ١٨٢) (^٢): "ومِنًى ما بين العقبة ــ وليست العقبة من منى ــ إلى بطن محسِّر، وليس بطنُ مُحسِّر من منى".
وهذا القول أعني أن محسِّرًا ليس من المزدلفة ولا من منى، هو المعروف في كتب الفقه والمناسك في المذاهب الأربعة. وقال ابن حزم في "المحلَّى" (ج ٧ ص ١٨٨): المسألة ٨٥٣: "وعرفة كلها موقف إلا بطنَ عُرَنة، ومزدلفة كلها موقف إلا بطنَ مُحسِّر، لأن عرفة من الحلّ، وبطن عُرَنة من الحرم فهو غير عرفة، وأما مزدلفة فهي المشعر الحرام وهي من الحرم، وبطن محسِّر من الحلّ فهو غير مزدلفة".
ولا ريب أن منى عنده من الحرم، فهي غير محسِّر الذي هو عنده من الحلّ. وقد أغربَ في زعمه أن بطن عُرَنة من الحرم، وأغربُ من ذلك زعمُه أن محسِّرًا من الحلّ. احتجّ ابن حزم باختلاف المكانين في أن هذا من الحلّ وهذا من الحرم على تغايرهما واختلاف حكمهما، وإنها لحجةٌ لو صحَّ ذاك الاختلاف.
_________
(^١) (٣/ ٥٤٩) ط. دار الوفاء.
(^٢) (٣/ ٥٦١).
17 / 521
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مناسكه" (^١): "ومزدلفة كلها يقال لها المشعر الحرام، وهي ما بين مأزِمَيْ عرفة إلى بطن مُحسِّر، فإن بين كل مشعرينِ حدًّا ليس منهما، فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عُرَنة، وبين مزدلفة ومنًى بطن محسر".
كأنه نظر إلى عبارة ابن حزم، وأعرض عما فيها من الخطأ. وقد أوضح ابن القيم ذلك، فقال في "الهدي" (^٢): "ومُحسِّر برزخ بين مِنًى وبين مزدلفة، لا من هذه ولا من هذه، وعُرَنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرينِ برزخٌ ليس منهما، فمِنًى من الحرم وهي مشعر، ومُحسِّر من الحرم وليس بمشعر، ومزدلفة حرم ومشعر، وعُرنة ليست مشعرًا وهي من الحلّ، وعرفة حِلّ ومشعر".
ولا ريب أن الشيخين كانا عارفين بحديث أبي الزبير عن أبي معبد، ومع ذلك قطعَا بأن مُحسِّرًا ليس من مِنًى، وفي هذا سند قوي لما تقدم من الكلام فيه. والله أعلم.
_________
(^١) ضمن "مجموع الفتاوى" (٢٦/ ١٣٤).
(^٢) "زاد المعاد" (٢/ ٢٣٦، ٢٣٧).
17 / 522