Tocqueville Muqaddima Qasira
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
سأعرض أولا نبذة عن حياة توكفيل وعلاقتها بالديمقراطية؛ حيث كان سياسيا إلى جانب كونه كاتبا، وليبراليا إلى جانب كونه أرستقراطيا. ثم سأتناول أفكاره عن الحكم الذاتي الديمقراطي في أمريكا التي كانت في عصره - وما زالت حتى الآن - نموذجا للديمقراطية. وبعد ذلك، سأسرد مخاوفه بشأن الديمقراطية، التي نجدها على وجه الخصوص في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ حيث عرض المخاطر الناشئة عن النظريات الديمقراطية التي تضعف الأغلبيات الديمقراطية وتقويها في الوقت ذاته. ثم بالانتقال لكتاب توكفيل «النظام القديم والثورة»، سأعرض تصويره قوة الإدارة العقلانية التي جرد بها النظام الملكي الفرنسي الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية من سطوتها، وأعرض كشفه عن العلاقة بين شيئين يبدو أن هناك مسافة شاسعة تفصل بينهما، وهما: الديمقراطية (حكم الشعب)، والإدارة العقلانية (حكم البيروقراطية). وأخيرا، سأتناول العظمة التي كان يسعى إليها توكفيل من خلال الديمقراطية، على الرغم من أنها نادرا ما تؤدي إليها؛ فالديمقراطية تؤدي في الغالب إلى إنجازات عادية جامدة ومضطربة وسلبية، ويجب على توكفيل أن يخبرنا كيف نستطيع أن ننقذها من سلبياتها. أما بالنسبة إليه، فإن «الأصدقاء الحقيقيين» للحرية هم أيضا أصدقاء «العظمة الإنسانية».
ما أهمية توكفيل بالنسبة إلينا اليوم؟ بداية، هناك اتفاق عام على أهميته؛ فمن الصعب التفكير في محلل للسياسة والمجتمع الأمريكيين له سمعة أعلى أو أوسع نطاقا منه اليوم. في أثناء حياته، ثم خلال القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين، بدت ليبراليته رتيبة وعقيمة، وقد فاقه شهرة نقاده الراديكاليون من اليسار واليمين، لكن بعد هزيمة اليمين الراديكالي في الحرب العالمية الثانية، وفقد اليسار الراديكالي لبريقه بسبب الاستبداد الشيوعي، برز الليبراليون المعتدلون، وفي مقدمتهم توكفيل. في فرنسا، قاد هذا الاتجاه الفيلسوف ريمون آرون والمؤرخ فرانسوا فيوريه. وفي الولايات المتحدة، ومع كون توكفيل محتفى به دائما هناك بسبب كتابه عنها، فإنه عاد ليلفت الانتباه هناك بعد أن أعاد الأمريكيون النظر في اعتمادهم الفكري على أفكار ماركس ونيتشه، وبدءوا في مناقشة طبيعة «التفرد الأمريكي»، الذي يمكن على أساسه أن تكون أمريكا نموذجا لكل الإنسانية. وترتب على ذلك أنه تم اقتباس كلماته من قبل كل الرؤساء الأمريكيين؛ بدءا من أيزنهاور وحتى الآن (على الرغم من عدم دقة اقتباساتهم في معظم الأحيان!) حدث هذا أيضا على نطاق واسع في الدوائر الأكاديمية من قبل علماء الاجتماع والمؤرخين، كما أن أفكاره تستخدم لإضفاء الحيوية والموثوقية على العديد من الكتب التي يؤلفها مشاهير المؤرخين والصحفيين. كما أن كتابه «الديمقراطية في أمريكا» يستهوي على نطاق واسع كلا من اليمين واليسار، وكل منهما له فقراته المفضلة منه، وكل منهما مستعد للاعتراف بمرجعية توكفيل.
لكن توكفيل لم ينل المكانة التي يستحقها بسبب نوعية فكره؛ من أسباب ذلك براعته الشديدة، التي جعلته يبدو مجرد شخص بليغ، ورؤيته للمستقبل التي جعلته يبدو ثاقب البصيرة؛ وكأن من يكون بليغا جدا في أسلوب كتابته يجب أن تكون أفكاره سطحية، ومن تكون لديه قدرة على التنبؤ الجيد يجب أن يكون عرافا. إن رغبة توكفيل في أن يكون أسلوبه جميلا يمكن أن تكون قد شغلته بعض الشيء عن التحليل الدقيق لما يقوله، ومثال ذلك تشبيهه الانتخابات الرئاسية في أمريكا بمرور عاصفة. سبب آخر لعدم التقدير الكافي لحكمته هو قوة التجريد في المجتمعات الديمقراطية، وهي قوة حاول توكفيل معارضتها؛ فالديمقراطيون الأمريكيون يحبون تعميم أو عولمة أو توحيد الأشياء حتى تكون رؤاهم عامة ومتسامحة ومقدرة لكل الاعتبارات، والمفكرون الأمريكيون الذين يعملون مع الديمقراطيين يحبون التنظير حتى يكونوا عموميين ودقيقين ومتحررين من سطوة الماضي، وحتى مؤرخونا يرغبون في كتابة التاريخ من منظور جديد؛ فليبرالية توكفيل تجبرنا على إعادة التفكير في ممارستنا الفعلية للحكم الذاتي، بدلا من المجادلة اللانهائية على نحو مجرد فيما يتعلق بماهيتنا وحقوقنا وواجباتنا. وبالرغم من شهرة توكفيل، فإننا لم نتعلم منه بالقدر الكافي.
الفصل الأول
نظرة على حياة توكفيل
ولد ألكسي دي توكفيل بعد فترة قصيرة من قيام الثورة الفرنسية في أسرة أرستقراطية أصيلة من نورماندي، وعاش من 29 يوليو 1805 وحتى 16 أبريل 1859. وكان مرتبطا بالنظام القديم في فرنسا بسبب أسرته، وبالنظام الجديد من خلال رؤيته للحرية. وقد شهد دخول الديمقراطية إلى فرنسا، وتنبأ بأنها ستنتشر في النهاية في جميع أنحاء العالم. كان اسم أسرته في الأصل هو كليرل، وقد حارب أحد أفراد تلك الأسرة مع ويليام الفاتح في معركة هاستنجز في عام 1066. وبالتدريج، حازت الأسرة على إقطاعية توكفيل في نورماندي، وفي عام 1661 أصبح اسم الأسرة توكفيل، ولا يزال قصر الأسرة موجودا ويسكنه أحفاد شقيق ألكسي.
شكل 1-1: قصر توكفيل في نورماندي. عاش ألكسي في قصر الأسرة ولم يترك وريثا يرثه.
حافظ ألكسي على لقبه وعاش في قصره المحبوب إلى قلبه، لكن بالرغم من أنه قضى وقتا كبيرا وأنفق مالا كثيرا للمحافظة على القصر، لم يترك وريثا يرثه. من العجيب أنه لم يندم على ذلك، وقد قال ذات مرة إنه لم تكن لديه «أي رغبة حقيقية في المشاركة في يانصيب الأبوة الكبير.» إن تلك النظرة للأبوة تشي بمزيج من الازدراء الأرستقراطي للإنسان العادي وعدم الاكتراث الديمقراطي بمستقبل الأسرة، هذا إلى جانب الرصانة الفلسفية، لكن زواجه كان ببساطة أكثر ديمقراطية؛ فقد تزوج - كما اعترف هو بنفسه - من امرأة إنجليزية من طبقة أقل من طبقته الاجتماعية، ليست من طبقة النبلاء (أصر على الارتباط بها، بالرغم من اعتراضات بعض أفراد أسرته).
شكل 1-2: ماري موتلي، زوجة توكفيل المولودة نحو عام 1830. وهي إنجليزية، بروتستانتية، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وهي تعد اختيارا غير اعتيادي كزوجة بالنسبة إلى رجل أرستقراطي فرنسي، لكن توكفيل كتب يقول لها: «إنك بلا مبالغة الإنسانة الوحيدة في العالم التي تعرف خبايا روحي.»
توكفيل السياسي
Unknown page